إدارة التنوّع مقياسٌ للتطور/ سلام الكواكبي
يُعتبر الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك (1995 ـ 2007)، بالإضافة إلى حنكته السياسية ولباقته الإنسانية، من محبّي الثقافات المتنوعة. كما يُعتبر من أهم الضالعين علماً بالحضارات القديمة في أفريقيا وآسيا. كما أنه ما فتئ يتحدث بإيجابية بالغة عن ثقافات الشعوب المختلفة، كما عن التعدّدية الثقافية في الوطن الواحد. وبالتشديد على أهمية التنوع، وحسن إدارته، قائلاً إنه “عندما يتم رفض ثقافة ما، وبالتالي رفضُ إثرائها الكوني، فإن العنف لا يكون بعيداً”.
إدارة التنوّع إذاً من أهم مقاييس النجاح في عملية الدمقرطة في أي مجتمع، والتحول الديمقراطي في أي دولة في مرحلة الانتقال السياسي. كما يمكن اعتبار مقياس نجاح هذه العملية مؤشرا أساسيا لتحديد مستوى الديمقراطية، وممارسة الحريات في دولةٍ تجاوزت مسألة الانتقال، وصار لزاماً مراقبة التزامها بالعملية السياسية الديمقراطية. ونرى عموماً أن الدول المستبدة لطالما وأدت التنوع في المهد، عبر حظر اللغات المختلفة، لمكوناتها المتنوعة، كما قامت بتقييد التعبير الثقافي على مختلف أشكاله. دولٌ وأنظمة آثرت، في هذا الإطار، تغليب ثقافة ولغة واحدة هي المُهيمنة على باقي اللغات والثقافات، لمختلف مكوّناتها.
لقد تبيّن أن التنوّع عدوٌ لدود للحكّام المستبدين، كما لبعض المجموعات العقائدية التي تم تأسيسها بالاسترشاد على عقائد بدايات القرن الماضي، الفاشية والنازية. حيث جرى التعامل إذاً مع اللغة العربية كأنها لغة المستعمر المفروضة، وليست لغةً جامعةً تُمارسها، ضمن إطار ثقافي متنوع ومنفتح، مجموعات بشرية، ربما قد لا تكون عربية. وعوضاً عن تغليب البعد الثقافي للغة، جرى التركيز على بعدها الإقصائي والفرداني والانغلاقي، فالقاعدة التي كان يُعمل بها بتشدّد، تقول إنه لا يمكن لمن ليس عربياً في البلاد العربية أن يُمارس حريته في التعبير بلغته الأصلية إلا لماماً وبقيود مشدّدة. ومع السنوات الأخيرة، بدأت بعض الدول بإصلاحات خجولة نسبياً في هذا المجال، كما يدلُّ عليه النموذج المغربي.
من جهتها، تعتبر منظمة اليونيسكو أن التنوّع “ليس بين الثقافات، بل هو شأن متأصّل في فكرة الثقافة ذاتها. فالتنوّع مسألة تأسيسية للثقافات”، كما أن التنوّع الثقافي، بحسب المنظمة الأممية المعنية بالتربية وبالثقافة وبالعلوم، “قوّة محرّكة للتنمية”، كما هو “ميزة لا يمكن الاستغناء عنها للتخفيف من مستوى الفقر والوصول إلى تنمية مستدامة”. ويدلُّ هذا كله على العلاقة التشابكية لمسألة التنوّع وحسن إدارتها، ببقية مشارب الحياة الاجتماعية، السياسية والثقافية وحتى الاقتصادية.
مسألة التنوّع الثقافي هذه تتمظهر إذاً عبر الاعتراف بمختلف اللغات، والسرديّات التاريخية، والأديان، والمذاهب، والتقاليد، وطرائق العيش، كما كل الأمور الخاصة بكل ثقافة. وعلى الرغم من أن الدول المتقدمة تُسجّل عموماً تقدّماً ملحوظاً يبتعد بسنوات ضوئية عن دول الاستبداد والعقيدة الجامدة، إلا أنه تجدر الإشارة إلى أن دولة فرنسا، وهي ذات نظام ديمقراطي متطور، وتحترم حقوق مكوناتها، وتدعو عالمياً إلى احترام التنوع الثقافي، ما زالت مستنكفةً عن التصديق على الميثاق الأوروبي للغات الإقليمية، أو لغات الأقليات الصادر عن مجلس أوروبا سنة 1992، على الرغم من إعلانها الالتزام بذلك منذ 1999، وحيث إنها تعتبر اللغات الإقليمية جزءا من التنوع والغنى الثقافي الفرنسي، وتسمح بممارستها وتدريسها في مختلف المقاطعات.
وربّ من يسأل، وخصوصاً من عاش في ظل النظم العقائدية التي ركّزت على هيمنة الثقافة العربية، عن كيفية الاعتراف بتنوّع الثقافات، من دون أن يشكل هذا الأمر تهديداً لوحدة المجتمع والدولة التي توجد ضمنهما؟
وفي صيغة إجابةٍ غير مباشرة، يقول الفيلسوف الفرنسي، إدغار موران، إن “البشر يجب أن
يجدوا أنفسهم في إنسانيتهم المشتركة، وفي الوقت نفسه، عليهم الاعتراف بتنوّعاتهم الفردية، كما الثقافية”. فوحدة المجتمع، كما التنوّع الإنساني، يُفترض أن يكونا مرتبطين. وعند الحديث عن هذه الوحدة، يجب ألا يتم إغفال العوامل التي تحافظ على الاختلاف. وعند الحديث عن التنوّع، يجب أيضاً ألا يتم إغفال ما هو جامع بين مختلف المكونات. فالوحدة والتنوع شريكان أساسيان يسمحان للمجتمعات الحديثة بالعيش من دون نزاعات، ومن دون عنفٍ، نبّه من وقوعه الرئيس شيراك، إن تجاوزنا المسألة، وتجاهلنا خطورتها وحساسيتها، فما يجمع يسمح للأفراد بالوجود المشترك، وما يُميّز يسمح للأفراد بالتعبير عن فردانيتهم وخصوصيتهم. فالثقافات تعتبر تراثاً إنسانياً، ما يستوجب المحافظة عليها، كما هي حال البيئة والتراث العمراني، فالدفاع عن التنوّع الثقافي يُعتبر دفاعاً عن مبادئ الديمقراطية الكونية، وليس المحلية فحسب.
تعرفت، قبل أيام، وللمرة الأولى في حياتي علنيا، وليس سراً في غرفٍ مغلقة، وبفضل لقاء ثقافي مهجري، إلى الغناء الكردي والآشوري والسرياني والآرامي من سورية. ووجدت أنني، كما جُلّ السوريين، حرمنا من ثقافاتنا الغنية تحت مسميات ودوافع أيديولوجية متحجّرة. كما شعرت بثقل هذا الحرمان في تكوّن، وبالأحرى في تفتّت، المجتمع السوري. وكانت أجمل رسالة وطنية هي غناء نشيد موطني باللغة السريانية. فإن لم يكن الوطن لجميع المكوّنات، مع الاعتراف واحترام خصوصياتها وثقافاتها ولغاتها، فهو لن يكون وطناً بالمعنى المعرفي للكلمة.
العربي الجديد