نزيه أبو عفش.. شاعر للحرب/ راشد عيسى
لم تولد النازيةُ الألمانية فجأة، لقد صنعَها تقريباً شاعر. كذلك الأمر، لم يكن أدولف هتلر تماماً من صنع يديه، لقد ولد هو الآخر من رحم شاعر.
كانت ألمانيا في عشرينيات القرن الماضي، مع هزيمة ساحقة ومذلّة في الحرب العالمية الأولى، في أوج انحطاطها. معها باتت ميونخ مكاناً خصباً للتطرف. ومن بين النخبة اليمينية المتطرفة في المدينة برز الشاعر، ذو الخمسين عاماً حينذاك، ديتريخ ايكارت.
كتب ايكارت (والكلام دائماً بحسب سلسلة وثائقية) مقالة بعنوان “بالألمانية الفصيحة” شكّلت نصاً شرساً متعصباً مهيناً لليهود. آمنَ مع مجموعة سرية غامضة بالعرق الآري، وبأن هذا العرق هو القوة المحركة عبر التاريخ.
في قلب الهزيمة الألمانية كان لا بدّ لايكارت ورفاقه من استذكار الماضي المجيد، الصافي، غير الملوّث بالآخرين الفاسدين، بأعراق أدنى.
آمن الشاعر بأن ألمانيا “أمة الفداء”، وبأن مؤامرة عالمية تحاك حولها، حيث الأعداء عازمون على تدميرها من الداخل.
في بداية العام 1919 أطلق ايكارت ورفاقه خطّتهم، شكّلوا مجموعة صغيرة أسموها “حزب العمال الألماني” راحت تجتمع في حانات ميونخ التي باتت بيئات حاضنة للحركات السياسية.
في 12 سبتمبر 1919، في واحدة من تلك الحانات(ستيرنكيرباو) في اجتماع لـ “حزب العمال الألماني” التقى ايكارت لأول مرة بالشاب المتحمس الذي لاءمتْه على نحو مفاجئ (هو الذي جاء للتجسس) أفكار الحانة (المناهضة للشيوعية والمعادية للسامية)، وجدها مناسبة له وتُردّدُ أفكاره الخاصة، فراح يخطب بالحضور. وعلى الفور وجد الشاعر بالخطيب المفوّه المخلّص الذي بحث عنه في كتاباته، والذي بإمكانه تخطي النخبة ليصل إلى الشعب، القائد الذي يبعث الإلهام، ربما ذاك الذي بشّر به في قصيدة شهيرة واصفاً تلك الشخصية بالـ “بلا اسم”، أو “العظيم”، ذي العينين الناريتين الثاقبتين، الذي سيأتي وينقذ الشعب الألماني.
بات ايكارت بمثابة الأب والمعلم الذي عمل على صقل شخصية هتلر، إلى أن بات الأخير متحدثاً باسم الحزب. جمعوا أموالاً لشراء صحيفة رَئِسَ ايكارت تحريرها، وراح يبشر فيها بـ “المنتظر العظيم”. وهكذا إلى أن سلّم ايكارت هتلر السلطة كاملة على الحزب النازي. لكن سرعان ما سيندم على ذلك. خصوصاً عندما صار ايكارت يُدفع خارج الحلقة القريبة من الفوهرر. وجد هتلر أن ايكارت اصبح عبئاً كمستشار سياسي. لقد اعتبر هتلر ايكارت متشائماً ومدعياً وقدرياً.
من قلب الخندق
قد يبدو من غير المجدي البحث عن ايكارت ما، شاعر ما للحرب السورية، يقوم بمقام الشاعر الألماني، ذلك أن بشار الأسد ورث الحكم والحزب والبلاد والصحف والشعارات بكل سهولة، لقد صنعه أبوه. لكن مع ذلك لابدّ من شاعر كي يستمر الحزب والشعار والزعيم. ولو أردنا معادلاً سوريا لايكارت لما وجدنا غيره: نزيه أبو عفش.
أولى المقالات التي عرّفتنا على الشاعر السوري كمدافع عن النظام (وكان كثر قبل ذلك يحسبونه معارضاً فطرياً) جاءت بُعيد اغتيال رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري وثورة الاستقلال في لبنان، عندما كتب يسخر من ثورتهم، ومن مشاعر اللبنانيين الغاضبة من وجود ووصاية جيش النظام، محيلاً كل ما حدث إلى كراهية وعنصرية لبنانية، ناكراً على اللبنانيين حقهم في الغضب، مواجِهاً إياهم بعنصرية فائقة. كان النظام حينذاك قد أشعل البلاد بخطاب عنصري ضد لبنان، رسمياً عبر إعلامه، وشعبياً باختراع أكثر النكات ابتذالاً وعنصرية، فيما تطوّع الشاعر بكتابة مقاله المطوّل، ليتبرع آل طلاس (عائلة وزير دفاع النظام التاريخي مصطفى طلاس) تالياً بطباعته بكتيّب خاص وتوزيعه مجاناً على السوريين.
موقف أكده الشاعر مراراً ويومياً منذ اندلاع ثورة السوريين العام 2011. ففي وقت اكتفى كثيرون بإنكار الثورة واحتسابها جزءاً من مؤامرة، من دون أن يعلنوا ولاءهم للنظام، ذهب أبو عفش أبعد بإعلان انتمائه الصريح:
“رئيسُ بلاديَ الآن، وإلى نهاية هذا “الآن”، إسمُهُ: بشار الأسد.
وإذا أمكنَ لهذا “الآن” أن يرجع إلى الوراء عشرين سنة فسأختارُ رئيساً لها: حافظ الأسد.
وإذا كان بمقدور الحياةِ إعادتي إلى ما قبل نصف قرن، فهو حتماً: جمال عبد الناصر.
وإنْ كان بالمستطاعِ العودة إلى أربعينيّات القرن الفائت (قرن العظماء).. فبالتأكيد جوزيف ستالين الـمُعَظَّم”.
أبو عفش صريح في اختياراته، ربما بطريقة لا يقدر عليها الألماني ايكارت، وهو قد تعدى تلك الأسماء الآنفة الذكر ليضيف إليها بوتين:
“أجمل قصيدة…
مسامحة القتلة مسؤولية الله، أما إرسالهم إلى الله… فتلك مسؤوليتي”.
ثم يوقع قصيدته باسم “فلاديمير بوتين أبو عفش”.
يبدو الشاعر السوري كما لو أنه على رأس عمل حربي يومي. فلقد كتب بعد مجازر النظام في دوما: “الآن، الجيش السوري لا يخوض حرباً، إنه يقوم بمحاكمة مجرمين ودول مجرمة. الجيش السوري الآن هو المرجع”، وتابع: “للجيش السوري العظيم، الآن ودائماً، قيامة مجيدة”.
ثم وصل أخيراً إلى مهمة التشكيك بمنظمة “الخوذ البيضاء” المنظمة الإغاثية التي يشن النظام عليها حرب تشكيك لا ترحم باعتبارها الشاهد الأساسي اليومي على مجازره المتنقلة. يقول “تحت كل خوذةٍ بيضاء: صندوقٌ أسود”، ومرة أخرى: “أستغرب، لماذا لا يخطر على بال قديسي”القبعات البيضاء” أن يذهبوا إلى غزة !”. وقد كان واضحاً أن تلك المنظمة نشأت وتشكلت من أبناء كل منطقة، بعد أن دمر النظام كل إمكانية للإغاثة، المشافي وسيارات الإسعاف، وبات مستحيلاً وصول الصليب والهلال الأحمر إلى المناطق التي يرتكب فيها مجازره، نعرف جميعاً كيف إعتُقل أطباء وممرضون وقتلوا تحت التعذيب، وكيف قصفت المشافي الميدانية.
ثم انظروا كيف يتهم معارضي النظام خارج البلاد جملةً بالقول: “أليس من حقنا الآن (الآن؟. بعد سبع سنوات من الجحيم) أن نُشكِّك في أنٌ جميع أصدقائنا “الثوار” الذين يتسوّلون في بيوت الدعارة الأوروبية. هم من أصحاب “الخوذ البيضاء” والضمائر الكالحة؟ سامحوني!. أخطأت وقلت “الجميع”. لأنني، في الحقيقة، لا أقصد
شاعرنا السوري تفوّق على نظيره الألماني، لقد بدا أنه يكتب من قلب الخندق، محارباً شرساً يتمنى الموت والخراب لكل ما حوله: “يا ربَّ الأرضْ! إنْ لم تستطعْ إصلاحَها اِجعلْها خراباً!”.
النظام لا ينسى فضل شاعره، لقد كوفئ أخيراً مرتين، واحدة بإقامة معرض تشكيلي له في “مركز الفنون البصرية” الذي يديره عمّ أسماء الأسد، وكان واضحاً أنه معرض تكريمي، إستحق نقداً لاذعاً من فنان تشكيلي حقيقي يعيش في دمشق.
كما كوفئ مرة ثانية أخيراً بـ “جائزة الدولة التقديرية” لعام 2018 وقيمتها ميدالية ذهبية ومبلغ مالي قدره مليون ليرة سورية. جائزة نعرف أنه، وإن كان أكبر منها كشاعر، إلا أنها لم تمنح لكفاءته الشعرية.
لقد منح الجائزة عرفاناً بدوره كـ ديتريخ ايكارت، الشاعر الذي قضى بعد أسابيع فقط من انقلاب النازيين الفاشل في العشرينيات، وكانت كلماته الأخيرة: “اتبعوا هتلر، فهو سيرقص لكني أنا من ضبط الإيقاع”.
المدن