ترجمات عارية/ الصحبي العلاني
(1)
منذ تسع سنوات خَلَتْ، أو أكثر من ذلك بقليل، شرّفتني إحدى الهيئات الثقافية العربية بعضويّة لجنة من لجان التحكيم في إحدى جوائزها المخصّصة للترجمة. وبالنظر إلى قيمة الجائزة وإلى مكانتها الرفيعة، لا أخفيكم أنّني استغربتُ في البداية أن يقع الاختيار على شخصي المتواضع. فلست ممّن يدّعي أنّه من المترجمين الفطاحل ولا ممّن يزعم أنّه أضاف إلى المكتبة العربيّة نصوصاً لا يمكن لقرّاء لغة الضاد الاستغناء عنها. فقصارى ما أنجزتُه في مجال الترجمة أنّني ظللت أُدرِّسُها لطلبتي في الجامعة أكثر من ربع قرن، بالإضافة إلى إصداري كتاباً يتيماً مُعرّباً تحت عنوان “حواضر المتوسّط: مدن الوصل، مدن الحدّ” ألّفه الفرنسيّ جون فرونسوا ترون وأصدرْته دار أليف للنشر في تونس سنة 1999. ولم أكن أحسَبُ أنّ جهداً متواضعاً مثل هذا يشفع لي بأن أكون عضواً في لجنة تحكيم جائزة كتلك التي ألمحتُ إليها! ومع ذلك، فقد حصل معي ما لم أتوقّع حصوله!
(2)
لن أبوح لكم بجميع ما جرى، ولن أسرد عليكم كلّ ما وقع؛ ولكنّني سأكتفي بالقليل القليل.
(3)
ليس الأمر من باب التشويق ولا من قبيل الإثارة؛ ولكنّ للجان التحكيم أسراراً لا يمكن أن تُذاع وخفايا يستحيل البوح بها. فالمجالس بالأمانات ولا يمكن لمن حضرها وكان شريكاً فيها أن يُطلع عليها أحداً، كما أنّ الواجبات الأخلاقيّة والأعراف المهنيّة تقتضي من أعضاء لجان التحكيم أن يحتفظوا لأنفسهم بما كانوا شهوداً عليه إلى أن يوضعوا في القبر ويُهال عليهم تراب الذكرى أو يُسدل من ورائهم ستار النسيان.
(4)
وممّا يمكن أن أبوح به اليوم بعد انقضاء زهاء عشر سنوات على ما حدث، أنّ المشرفين على الجائزة وجّهوا إليّ خطاباً وعيّنوا لي موعداً بل إنّهم دفعوا تذكرة سفر من تونس إلى مكان اللّقاء وتكفّلوا بمعاليم الإقامة من دون أن يكونوا متأكّدين تماماً من موافقتي على عضويّة اللّجنة.
كان لقاؤنا الأوّل وديّاً، بل في منتهى الودّ؛ صريحاً، بل في غاية الصراحة؛ شفّافاً، بل في غاية الشفافيّة. ولأنّني بطبعي لا أتردّد في طرح السؤال حيث يجب أن يُطرح ولا في إبداء الرأي حين ينبغي أن يُبْدى، فقد طلبتُ من المشرفين على الجائزة أن يوضّحوا لي السبب الذي دفعهم إلى الاتّصال بي وشجّعهم على اقتراح اسمي في عضويّة لجنة التحكيم. ولا أخفيكم أنّني فوجئت بالإجابة تماماً مثلما أخمِّنُ أنّكم ستُفاجَؤون!
(5)
لم يشفع لي ربع قرن من تدريس مادة “الترجمة” في الجامعة التونسيّة، ولا تدريس موادّ قريبة منها أو شبيهة بها مثل مادّة “دراسة أثر أجنبي في لغته الأصليّة” (والمقصود بها في المقرّرات الدراسيّة عندنا اللّغة الفرنسيّة واللّغة الإنكليزيّة)، ولم يشفع لي ذلك الكتاب الذي نشرتُه مُعرّباً (وهو على أيّة حالٍ كتابٌ يتيم!)، ولكنّ ما قاد الهيئة المشرفة على الجائزة إليّ، وما لفت أنظارها وحثّها على التفكير فيّ، تلك المقالات الصحافيّة التي لم أنقطع عن كتابتها ونشرها، والتي كنت أقدّم فيها آخر ما تُصدره دور النشر الغربيّة. وممّا صارحني به أحد المشرفين على الجائزة سببٌ آخر وجدْتُه وجيهاً تماماً فلم أتردّد بعده في الموافقة على الإسهام ببعض ما لديّ بل إنّ هذا السبب الأخير الذي يتجاوز شخصي زادني إكباراً للجائزة وتقديراً للقائمين عليها.
(6)
ومن بين ما ذكره لي هذا القائم على الجائزة (ولا يسعني إلّا أن أتحفّظ عن ذكر اسمه، ولكنّه سيعرف أنّه هو المقصود إن قُيِّضَ له أن يقرأ هذا المقال) أنّ العالم العربيّ ما زال يَجُرُّ في مجال الترجمة أذيال الوضعيّة الاستعماريّة الموروثة. فالغالب على أهل المشرق أنّهم يُقبِلون على تعريب النصوص الإنكليزيّة، أمّا أهل المغرب فالشائع لديهم الانكباب على تعريب النصوص الفرنسيّة. وربّما حصلت استثناءات مُربكةٌ مُحيِّرةٌ حين يُقدم أصحابُ هذا الفريق أو ذاك على ترجمة نصوص من غير اللّغة الأصليّة التي كُتبت بها كأن تُترجم روايةٌ للفرنسيّ ألبير كامي (1913-1960) اعتماداً على نسخة من نُسخها المنقولة إلى اللّغة الإنكليزية أو أن يُترجم ديوان من دواوين الأميركيّ عزرا باوند (1885-1972) انطلاقاً من عمل له حُوِّل إلى اللغة الفرنسيّة… وقِسْ عليه! وممّا يزيد الأمر تعقيداً وإرباكاً أنّ مجال الترجمة، هذا الذي يُفترَضُ – في الأصل – أن تُساس فيه الجهود بشيء من الرويّة، وبخطى دقيقة واثقة منهجيّة، وأن يُراعى فيه الحدّ الأدنى من اعتبارات الأهميّة والأولويّة قد صار مع مرّ الأيّام مجالاً سِمتُه الفوضى وعنوانُه الارتجال.
(7)
ولعلّ من أهمّ ما قادنا إليه هذا الحوار الطريف ظاهرة ما انفكّت تتكرّر في حقل الترجمة عندنا، ونعني بذلك صدور أكثر من نسخة مُعرَّبَة للكتاب الأجنبيّ الواحد. والشواهد على مثل هذا الوضع الغريب عديدة، لعلّ من أشهرها ما يعود إلى أواسط سنوات الثمانين من القرن الماضي. فقد ظهرت في تلك الفترة وبُعَيْدها بقليل أربع ترجمات عربيّة لكتاب شهير هو كتاب (Cours de linguistique générale) الذي خلّفه عالم اللّغة ومؤسّس اللّسانيّات الحديثة فردينان دي سوسير (1857-1913).
(8)
عشر سنوات أو أقلّ من ذلك بقليل تفصلني عن هذه الوقائع. وها أنا أستحضرها وكأنّها حدثت بالأمس القريب. وما كنت لأعود إليها وأبسط شيئاً منها في هذا المقال لولا شعور مُحبِطٌ ألمَّ بي وأنا أفرغ للتوّ من قراءة ترجمة ثالثة لكتاب سبق أن عُرِّبَ مرَّتَيْن سابقتيْن وأعني بذلك كتاب “الاستشراق” لإدوارد سعيد (1935-2003). أمّا المرّة الأولى التي عُرّب فيها الكتاب فقد كانت سنة 1981 على يد الناقد السوريّ كمال أبو ديب (وُلد في 1942). وممّا يُحسب لهذه الترجمة أنّها “ترجمة فوريّة” (إن صحّت العبارة)، لأنّ الفاصل الزمانيّ بين ظهورها وبين نشر الكتاب في لغته الإنكليزيّة الأصليّة لا يتجاوز السنتَيْن. وأمّا الترجمة الثانية فقد ظهرت ربع قرن بعد سابقتها أي عام 2006 وهي من إنجاز المصريّ محمّد عناني (وُلد في 1939). وهي مثلما يقول صاحبُها ترجمة “كاملة” (ص. 10)، لأنّها انكبّت على نصّ الطبعة الثانية المزيدة والمنقّحة التي أصدرها إدوارد سعيد لكتابه سنة 1995. وأمّا الترجمة الأخيرة فهي تلك التي أصدرها سنة 2016 السوريّ نذير جزماتي (وُلد في 1934) وفي مطلعها تنصيص على أنّ العمل المُعرّب يشمل “النصّ كاملاً مع آخر مقدّمة لكتاب الاستشراق خصّها المؤلّف لطبعة شركة بنغوين/ 2003” (من الصفحة الداخليّة للغلاف).
(9)
ليس هدفنا في هذا المقال أن نُقارن بين الترجمات الثلاث، ولا أن نُشيد بمواضع إصابتها في نقل المعنى من الإنكليزيّة إلى العربيّة ولا أن نتقصّى ما يمكن أن يُعدّ من مظاهر تقصيرها في أدائه؛ ولكنّنا نودّ أن نلفت الانتباه إلى أمر آخر نعتقد أنّه أعمق من “التفاصيل التقنيّة” رغم أهميّتها التي لا تُنكر وخطورة الآثار التي يمكن أن تترتّب عليها بالنسبة إلى قيمة النصّ المعرَّب وجدوى اعتماده في البحوث العلميّة على وجه الخصوص. ويتعلّق هذا الأمر الذي نودّ أن نتوقّف عنده بما يمكن أن نُسمِّيَه “روح الترجمة”، وهي تهمّ بشكل أساسيّ العمليْن اللّذيْن أنجزهما كلّ من محمّد عناني ونذير جزماتي.
أمّا ترجمة عناني، هذه التي وضع لها صاحبها تصديراً في أكثر من عشرين صفحة (صص. 10-34) فإنّ أغرب ما فيها خلوّها تماماً من أيّة إشارة إلى جهود كمال أبو ديب، وهي جهود لا يمكن لأحد أن يُنكرها، ولا سيما أنّ أبو ديب كان سبّاقاً إلى التعامل مع نصّ لم تكن عربيّة سنوات الثمانين قادرةً على استيعابه بيسر أو التعبير عن مضامينه بسهولة. وأمّا ترجمة جزماتي، وهي الأخيرة زمانيّاً، فأمرُها أشدّ غرابة من سابقتها لأنّها لم تتضمّن لا تصديراً ولا حتى مجرّد إشارة بسيطة يعترف لنا المترجم فيها بأنّ ثمّة من سبقه إلى تعريب الكتاب ويُعلِّلُ لنا سبب إقدامه على إخراجه في لغة الضاد مرّةً أخرى.
(10)
إنّها الترجمات العارية! ترجماتٌ لا نكاد نتبيّن مع مرور الزمن الغاية من تكرارها، ولا سيما أن اللاحق منها يُنكر فضل السابق، بل يُقصيه ويتعمّد السكوت عنه كأن لم يكن!
إنّها الترجمات العارية! ترجماتٌ تَظهر مثل نبات النجم وتتكاثر، يُنفق فيها أصحابُها شهوراً وربّما سنوات يُكابدون خلالها نصوصاً أجنبيّة بعضها سهل العبارة واضح الصياغة وبعضها الآخر منغلق الأسلوب صعب المراس؛ ولكنّهم يستكثرون علينا بعد هذا كلّه صفحة أو صفحتَيْن يوضّحون لنا من خلالها الإشكال الأهمّ: لماذا أقدموا على ترجمة الكتاب، نفس الكتاب مرّة ثانية أو ثالثة أو رابعة… إلى ما لا نهاية؟!!
إنّها الترجمات العارية! ترجماتٌ تدّعي “الكمال” -صراحةً أو ضِمْناً – ولكنّ حصيلة مُنجزها لا تتخطّى – في واقع الأمر – درجة “الاستكمال”، استكمال ما لم يتسنَّ للسابقين ترجمتُه لأنّهم بكلّ بساطة لم يطّلعوا عليه وقد نُشر في زمن غير زمنهم.
إنّها الترجمات العارية! ترجماتٌ مأخوذة بهاجس الكمّ وقليلاً ما تلتفت إلى القضايا النوعيّة، قضايا المعرفة في تراكمها وتأصيلها. وكيف لها أن تلتفت إلى مثل هذه القضايا وجلُّها لا يرى في الترجمة إلّا فعل تحويل بسيط للنصّ من لغة إلى أخرى والحال أنّه في العمق فعل تأويل رهانه الصراع على المعنى وفكّ اشتباكات الدلالة التي لا تنتهي ولن تنتهي؟
ضفة ثالثة