من شيخ الإسلام إلى شيخ المخفر: عمائمُ السلطان/ مصطفى الفقي
باستقراء التاريخ العام لأنساق التدين السابقة على الديانات الإبراهيمية التوحيدية التي سادات في الشرق الأدنى، والتي تنتمي إلى أنطولوجيا ثنائية تفرّق بين الذات التي تتدين والإله ككائن مفارق يمكن إدراكه، نلمس الحضور القويّ لفكرة الكهانة المنظمة التي لعبت دوراً مزدوجاً باعتبارها آلية الوساطة بين البشر والإله، والمنوط بها القيام بالخدمات الطقسانية، بالإضافة إلى الدور السياسي المهم الذي اضطلعت به هذه الطبقة باشتباكها المباشر مع السلطة السياسية ممثلة بالملوك والقادة، الذين كانوا يستطلعون رأي السماء دائماً قبل الشروع في اتخاذ القرارات المصيرية المهمة كقرار خوض الحروب وغيرها، فضلاً عن الانسجام التام بين السلطتين في حالة ما إذا كان يُنظر إلى الملك بوصفه نائباً للإله.
ورثَ نسقُ التدين العبري من خلال احتكاكه المباشر بأنساق التدين التي سادت في الشرق القديم فكرةَ المؤسسة الدينية الرسمية، ثم أسندها بأثر رجعي إلى الله كونه نصَّ على وجود تلك المؤسسة التي نشأت بحسب الرواية التوراتية في عهد النبي موسى؛ نقرأ في الإصحاح الثامن عشر من سِفْر العدد –المنسوب مباشرة إلى موسى- في خطاب الربّ لهارون: «ها أنا ذا قد أخذت إخوتكم اللاويين من بين بني إسرائيل عطية لكم معطين للرب ليخدموا خدمة خيمة الاجتماع 7. وأمّا أنت وبنوك معك فتحفظون كهنوتكم مع ما للمذبح وما هو داخل الحجاب وتخدمون خدمة. عطية أعطيت كهنوتكم والأجنبي الذي يقترب يُقتل». وفي المسيحية، تبلورَ دور الكنيسة الكاثوليكية كمؤسسة دينية ذات صبغة أكثر دوجمائية، بحيث لم تولِ أهمية للطقوس المتعقلة بالممارسات العملية للمتدينين فحسب، بل تبنّت دوراً إنشائياً امتدَّ إلى صياغة اللاهوت وفرض قانون الإيمان.
أما الإسلام آخر الديانات الإبراهيمية ظهوراً، فلم يتبنَّ على نحو قاطع فكرة المؤسسة الدينية منذ البداية على الإطلاق، وذلك لأسباب ليس هنا مقام تفصيلها، ورفضَ بوضوح مسألة الوساطة الوثنية التي سادت في الجزيرة العربية. وأوعز نصُّهُ التأسيسي بأن العلاقة بين الإله المعبود والمتعبِّد علاقة مباشرة ليست بحاجة إلى وساطة من نوع مخصوص. لأسباب تاريخية لاحقة، سوف يسند الفقهاء إلى الدولة السنيّة دور «حراسة الدين» عن طريق حالة من الاعتراف المتبادَل بحسب نوح فيلدمان، بحيث يؤكد الحاكم واجبه والتزامه تجاه الشريعة وإنفاذ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيما تقوم الشريعة في المقابل ممثلة بطبقة العلماء بالاعتراف بشرعية الحاكم؛ لأنه من وجهة نظر هؤلاء العلماء، فإن الشرع نفسه هو الذي منحهم الحق في تعيين الخليفة وتنحيته. ومن ثمّ، طوّرَ الفقهُ أدواته التاريخية الخاصة في تعيين وعزل الولاة، وصارت المنظومة الفقهية ذات صلاحيات معنوية موسّعة تكاد توازي صلاحيات المؤسسة، بيدَ أنها لم تكن كذلك.
عبر تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة، سادت من بين البُنى المعرفية المتنوعة في الإسلام المنظومة المعرفية الفقهية المؤسَّسةُ على سلطة القرآن والسنة والإجماع والقياس، باعتبار أن الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية. واستغرقَ الفقه في التفاصيل والفتاوى والأحكام الفرعية لصيقةِ الصلة بالممارسات اليومية؛ فما كان من الفقيه إلا أن أخذ على عاتقه مسؤولية مجتمعية إضافة إلى مكانته الشرعية. وبحسب وائل حلّاق: «خضعت فتاوى الفقهاء عادة إلى عملية تحريرية كبيرة ومهمة، حيث كان يُحذف منها الوقائع والحقائق والبيانات الشخصية غير ذات الصلة بالفقه، مثل: الأسماء، وأسماء الأماكن، والتواريخ، وغيرها. وعلاوة على هذا، كانت هذه الفتاوى تُختصر وتوجز محتوياتها وفحواها؛ لتكون في صيغة قواعد فقهية صارمة… وبمجرد تحريرها وتلخيصها، أصبحت هذه الفتاوى لاحقاً جزءاً لا يتجزأ من الكتابات الفقهية المرجعية، التي يتم الرجوع إليها وتطبيقها بحسب ما تمليه الأوضاع». نلاحظ هنا أننا حيال ممارسة تدوينية خطيرة، تنزع الجذور الاجتماعية والثقافية ذات الأهمية الحاسمة في عملية إنتاج الفتوى، لإلحاقها ببنية نصية تجريدية صارمة لها صفة الإطلاق، سوف يتم استحضارها دائماً في سياقات مغايرة تماماً بوصفها «شريعة».
على سبيل المثال، وبحسب الباحثة الفرنسية أودري دريدا، إبّان الفتح/الغزو الإسلامي لمصر، كانت الغالبية العظمى من المصريين مسيحيين يعيشون على الضفة اليمنى لنهر النيل حيث اختار الفاتحون/الغزاة بناء عاصمتهم الجديدة، الفسطاط، وكان هناك العديد من الكنائس والأديرة في محيط ما يسمى بقصر الشمع، حصن بابليون الروماني، وهو ما تسبب في عدد من الإشكالات من أهمها مسألة بناء الكنائس وترميمها، ويرجع ذلك إلى عدم وجود إطار معياري ثابت متعلق بتنظيم الجماعات غير المسلمة في ذلك الوقت. ومن المحتمل أن يكون الموقف الفقهي حيال أهل الكتاب، كما يرد في الأدبيات الفقهية لا سيما في بنود «الشروط العمرية» قد صيغ فقط أيام الخلفاء العباسيين. حينئذ، اعتمدت عملية بناء وترميم الكنائس على العلاقة بين الوالي وقيادات الكنيسة، وتقدّمُ الأدبياتُ العديد من الأمثلة على ذلك، يمكن العثور على معظمها في كتاب تاريخ بطاركة الإسكندرية. ومن ثمّ، «لا تدعم الحقائق التاريخية الوضع الفقهي للكنائس والمعابد اليهودية كما تمّ النصُّ عليها في النصوص التشريعية الإسلامية» تقول دريدا. لاحقاً، وبعد تشكّل المذاهب الفقهية الإسلامية، سيصير هناك موقفٌ «رسميٌّ» من عملية بناء وترميم الكنائس، فبحسب مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، يُسمح لأهل الذمّة بترميم الكنائس والمعابد المدمَّرة. فقط كان ابن حنبل مع عدد قليل من فقهاء الشافعية يعارضون أي نوع من الترميم، وهو ما لم يكن يأبه له الولاة في كثير من الأحيان.
كان لقب «شيخ الإسلام» يُطلق على كبار الفقهاء والمجتهدين من علماء الإسلام من بين ألقاب أخرى معنية (حجة الإسلام، عماد الإسلام… إلخ)، وربما يرجع ظهوره إلى النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، وهو لقب أدبي يحمل نوعاً من التبجيل المعنوي في ذلك الوقت. غير أنني هنا أعني به منصب «شيخ الإسلام» الذي ظهر في الدولة العثمانية عندما خصّ به محمد الثاني (1451-1481) المفتي الأكبر صاحب أعلى مرتبة دينية في الدولة، في مقابل الصدر الأعظم صاحب أعلى مرتبة سياسية بعد السلطان، في حين يجمع السلطان بين السلطتين معاً. ويُرجِعُ بعض المؤرخين -كالمؤرخ التركي علي أميري- نشوء مشيخة الإسلام إلى الأمير عثمان مؤسس الدولة العثمانية، عندما أوكل وظيفة الفتوى إلى والد زوجته الشيخ إدبالي.
كانت مكانة شيخ الإسلام الوظيفية تكمن في تبرير السياسات السلطانية عبر فتاويه، والتعبير عن الإرادة الفردية السلطانية من داخل آليات الاجتهاد الفردي في المدارس الفقهية، وإدماج التشريع في الفضاء السياسي والتأكيد على الشرعية السياسية للسلطان، بالإضافة إلى تأمين الموارد المالية للدولة. بل وامتدت لتشمل اشتراكه في الحملات العسكرية للدولة، وهي ممارسات مغايرة لما كانت عليه المؤسسة الدينية بالمعنى الضيق آنف الذكر. ترأّسَ شيخ الإسلام مؤسسة إدارية كبيرة مؤلفة من فئات مختلفة ممن أُطلق عليهم طبقة العلماء، مثل القضاة (المنقسمين إلى فئات خمسة متغلغلة في أركان الدولة) والمفتين والأشراف (الأمراء) والدراويش وخدّام بيوت العبادة من الخطباء والأئمة والمؤذنين والقيّميين. بمرور الوقت، صارت طبقة العلماء، التي كانت مدفوعة سابقاً بالتدين والرغبة في تحصيل العلم، طبقة اجتماعية تسعى لحصد رأس المال السياسي والاجتماعي، بل وتورّث هذه «المهنة» إلى أبنائها. يقول أكرم كيدو، العميد السابق لكلية العلوم الدينية بجامعة سمسون بتركيا: «حتى منتصف القرن السادس عشر، كان تعيين المدرّسين يقع تحت تأثير قاضي العسكر. بعد ذلك ظلّ لقاضي العسكر حق تعيين المدرسين الذين لا يتجاوز مرتّبهم اليومي أربعين بارة، بينما أصبح تعيين المدرّسين الأعلى مرتبة من صلاحيات شيخ الإسلام بعد موافقة الصدر الأعظم. غير أنه لم يكن يراعي في التعيين العدالة المطلقة، فأبناء العلماء الكبار كانوا عند تخرجهم يُلحقون للتدريس بمدارس عالية وذات أجر أكبر، مثل المفتاح، قرقلي، خارج أو داخل. ولم يكن هذا على سبيل الرشوة أو الواسطة، وإنما كان امتيازاً مُعترفاً به قانونياً فيما يخصّ أبناء العلماء».
أيضاً كان تأمين الموارد المالية للدولة من صميم عمل المؤسسة، فبالإضافة إلى أموال الوقف الضخمة، يقول وائل حلاق: «ربما للمرة الأولى في التاريخ الإسلامي، كان يُحظر على القضاة الاستماع إلى المرافعات التي لم يُقدَّم فيها التماس رسمي إلى المحكمة، والقصد من هذا يرجع إلى أن يتم سداد الرسوم أولاً، ويتم حفظ سجل رسمي بالقضية… كان يلزم تسجيل جميع عقود الزواج في المحكمة وفرض رسوم نظير ذلك».
بحلول القرن التاسع عشر، كانت النخبة التحديثية في اسطنبول قد اتخذت، تحت ضغوط استعمارية بريطانية وفرنسية، وبعد أن أثقلتها الديون وكبّلتها المعاهدات وتكررت الهزائم العسكرية التي تعرض لها «رجل أوروبا المريض»، خطوات «إصلاحية» كبيرة متلاحقة نحو مزيد من المركزية السياسية، بما ساعد بالضرورة على تفكيك المؤسسة التقليدية لشيخ الإسلام لما شكّلته من عقبة مالية وقانونية، لتنحصر اختصاصاته في مسائل الأحوال الشخصية.
في القرن العشرين، مع إعلان نهاية «الخلافة»، واستجلاب الحداثة الشكلانية في الدول القومية التي خلفت الإمبراطورية العثمانية، كانت طبقة العلماء التقليدية بصلاحياتها الموسّعة، والتي نشأت ابتداءً بشكل تلقائي وبوازع ديني فردي تمت مأسسته لاحقاً، واكتسبت هويتها من الحفاظ على الشرع، أقول كانت هذه الطبقة قد تحللت إلى طبقات مختلفة اضطلعت بصلاحياتها، كرجال القانون والقضاة المدنيين ورجال السياسة والاقتصاد، بالإضافة إلى الفقهاء البيروقراطيين ذوي الهوية الوطنية الذين انتظموا في جهاز إداري تابع للدولة.
استولت الدولة القومية البوليسية على القانون واحتكرت التشريع وهيمنت على المجتمع بكامله، وتم تقنين مجال الأحوال الشخصية ذي الصلة في مواد جامدة تهدف بحكم طبيعتها القانونية إلى تأكيد سيادة الدولة ومنطقها السياسي فحسب، ولكن ظلت المكانة المركزية للفقه قائمة في الوعي والثقافة الإسلامية، ومن ثمّ، استلحقت الدولةُ الفقهاءَ الرسميين في مؤسساتها وأصدرت القوانين التي تنظم عمل هذه المؤسسات. لم تكتف الدولة البوليسية بتقنين مجال الأحوال الشخصية وقصر سلطة الفقهاء عليه فحسب، بل تدخلت بتوجيه الفقهاء نحو مزيد من الدولتية في مجال الأحوال الشخصية ذاته.
في مخالفة واضحة لما استقرّ عليه الفقه الإسلامي في مسائل النكاح، طالب السيسي، بدعوى الحفاظ على «الأمّة»، شيخ الأزهر بإلغاء «الطلاق الشفهي» وألّا يقع الطلاق إلا أمام المسؤول عن إتمام إجراءات عقود الزواج والطلاق لدى الدولة. رفضت هيئة كبار العلماء برئاسة شيخ الأزهر هذا التعدي على اختصاصها، وأقرّت بوقوع الطلاق الشفهي دون توثيق، وإن كانت طالبت بالمبادرة إلى توثيق الطلاق في نهاية الأمر، فأثار نوّاب من البرلمان المصري جدالاً حول طريقة اختيار وتعيين هيئة كبار العلماء التي تقوم باختيار شيخ الأزهر. من ناحية أخرى، استجاب المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف لدعاوى الدولتية تلك، وأصدر خالد الجندي، عضو المجلس، فتوى «تحرّم» الزواج من غير الوثيقة الحكومية كي تكون «الدولة شاهدةً على عقد النكاح»، مُدّعياً أن «الناس لن تفهم إلّا هذه اللغة، وأن كتب الفقه والتيارات السلفية لا تعلم شيئاً عن ختم النسر (شعار الدولة)».
وها نحن إذن أمام فصل جديد من النزاع يبدأ بين الدولة والفقهاء الذين أنتجتهم هي، في تعبير واضح عن مفارقة بنيوية أنتجتها الدولة الحديثة.
موقع الجمهورية