حرب مابعد الحرب/ مهى يحيَ، مارك لينش
في وقت لم يبلغ فشل الدول أو الحروب المدمّرة التي تلت انتفاضات الربيع العربي في العام 2011 خواتيمها بعد، ينصبّ الاهتمام الدولي واهتمام الخبراء أكثر فأكثر على تحديات وشيكة ألا وهي: إعادة الإعمار والعودة والمصالحة.
في كانون الثاني/يناير من العام 2018، نظّم مركز كارنيغي للشرق الأوسط و”Project on Middle East Political Science ” (POMEPS) (مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط) ورشة عمل في بيروت لمناقشة هذه المسائل من زاوية مقارِنة ومتعددة الحقول المعرفية. واليوم، تُنشر أوراق البحث هذه في سلسلة دراسات POMEPS وتحمل عنوان “The Politics of Post-Conflict Reconstruction” (سياسات إعادة الإعمار في مرحلة مابعد النزاع).
ليس من المبالغة بشيء التبحّر في الحديث عن الدمار الذي خلفته حروب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فملايين الناس خسروا ممتلكاتهم، وطردوا وحُملوا على النزوح في الداخل، أو على طَرْق دروب المنفى إلى الخارج. البنى التحتية دُمّرت، ومنها عدد كبير من المدن والبلدات، وتحوّل الاقتصاد الوطني إلى اقتصاد حروب أهلية. وأُعيد تشكيل مؤسسات الدولة والمؤسسات المحلية بشكل جذري، ورجحت كفة الاستقطاب الطائفي حول الهويات المذهبية أو السياسية إلى مستويات شاهقة، وأصاب الفقر المدقع فئات برّمتها مع انهيار التقديمات الصحية والتعليمية. وعانى عشرات الملايين صدمات فردية بسبب النزاع والعنف، ستخلف مضاعفات طويلة الأمد على كل من النمو والأوضاع النفسية للأفراد.
يقدّر المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، كلفة إعادة إعمار البلاد بـ250 مليار دولار، في وقت تشير بعض التقديرات إلى أرقام أعلى تصل إلى تريليون دولار. وفي اليمن، أودت الحرب المتواصلة بأكثر من ثلث السكان إلى شفير الجوع، في وقت قدّر البنك الدولي كلفة إعادة الإعمار المادية وحسب بـحوالى 40 مليار دولار. ثمّ أن عدد الأطراف الدولية القادرة على تقديم مثل هذه المساعدات المادية والراغبة في ذلك، ضئيل، وفي ذهن من سيُقدم على ذلك، أهداف سياسية لا إعادة إعمار فحسب.
وهذا متوقع. فعملية إعادة الإعمار، يتعذّر كلياً فصلها عن السياسة، والخيارات لن تكون مدفوعةً بالحاجات الإنسانية أو الاقتصادية. سترسم أشكال إعادة الإعمار ونوعيته طبيعة الأمر الواقع السياسي الجديد، مع تبعات طويلة الأمد. سيجني الفاعلون المحليون والخارجيون الثروات أو سيُقصون؛ وسيراكمون النفوذ الاجتماعي أو يتعرضون إلى التهميش. وقد تعيد عمليات العفو العام مجرمي الحرب إلى مراكز القوة، أو قد تقصيهم مؤسسات العدالة الإنتقالية سياسياً.
“إعادة الإعمار” هو بحد ذاته مصطلح مُثقل بمعان كثيرة، وقد يوحي بمروحة واسعة من الإفتراضات المقنّعة. قد يرى بعضهم أن إعادة الإعمار هي عودة إلى الوضع السابق، وهذا قد يكون غير محبّذ أخلاقياً أو متعذر على الصعيد السياسي. في بعض الأحوال، السياسات المُسماة إعادة إعمار هي فعلاً وسيلة للإبقاء على بنى الهيمنة وديمومتها. على سبيل المثال، قد تُعتبر المساعدات الإنسانية السعودية والإماراتية في اليمن، مجرد مساعٍ لدعم جهودهما العسكرية الأوسع في ذلك البلد.
كذلك، قد يرى بعضهم أن الإنشغال بإعادة الإعمار، هي طريقة لتفادي التعامل مع مسائل عسيرة وشائكة مثل المسؤولية، خصوصاً في سياق مثل سورية حيث يُتهم أطراف أساسيون في النزاع بترحيل السكان قسرياً وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وقد يعتبر آخرون أن الدعوة إلى التفكير في إعادة الإعمار هي مسعى سياسي للثني عن أي دعم للنزاع. مثلاً، قد تكون مناقشة الأميركيين والأوروبيين حول من قد “يفوز” بإعادة إعمار سورية، طريقة لحفظ ماء الوجه وتجاوز أكثر من نصف عقد من مساعي تحقيق النصر بواسطة الحرب. ولا شك في أن نظام الأسد يرى أن الدعوات إلى إعادة الإعمار، هي إشارة إلى نهاية النزاع وبدء عملية إعادة تأهيله دولياً.
إعادة الإعمار في بلدان مثل سورية هي عملية معقّدة على نحو استثنائي، وتقتضي أولاً الإجابة عن تساؤلات حول كيفية مساعدة نظام كان، إلى حدّ بعيد، مسؤولاً عن دمار البلاد وضالعاً في جرائم حرب. ويجبه اللاعبون الدوليون اليوم مسائل حول ماإذا وكيف يدعمون إعادة الإعمار، وفي الوقت نفسه يضمنون ألا ينتهي ذلك بمنح الأنصار السياسيين للنظام المزايا والامتيازات. وقد تُجنّبهم عدم المشاركة في إعادة الإعمار دعم نظام الأسد، لكن ثمن هذا الموقف هو دوام معاناة السوريين، والتنازل عن نفوذ مابعد الحرب إلى فاعلين آخرين.
تُعتبر إعادة اللاجئين والنازحين في الداخل إلى ديارهم تحدٍ رئيس في مشاريع إعادة الإعمار في مرحلة مابعد النزاع. ويقتضي أي مشروع سلام مستدام احتساب حاجات السكان النازحين واللاجئين، ومنها ضمانات دولية بسلامتهم الجسدية والحصول على الخدمات الأساسية. وتعتمد عودة اللاجئين على الظروف في مسقط رأسهم وطبيعة الصفقة السياسية التي تُنهي النزاع، إضافةً إلى مدى استعداد النخب الحاكمة للسماح لسكان تعتبرهم معادين سياسياً بالعودة إلى البلاد أو إلى مناطق مفيدة. قد تعني العودة اقتلاعاً ثانياً، مع عجز اللاجئين عن العودة إلى منازلهم المدمّرة أو تعذّر إثبات ملكياتهم المُصادرة. وكما حصل في العراق، حيث تعثّرت المساعي الفعلية لتلبية حاجات مابعد النزاع، يُرجّح ألا يعود السوريون قريباً إلى مسقط رأسهم.
علاوةً على ذلك، مايثير القلق في النقاش السياسي حول إعادة الإعمار اليوم، هو غياب آليات العدالة الانتقالية أو المحاسبة السياسية. وتفترض إعادة الإعمار المادية في مثل هذا السياق أن آليات العدالة، على أنواعها ومنها العدالة الانتقالية أو بلورة ذكريات مشتركة، ستحتل مرتبة ثانوية أمام الفرص الاقتصادية والمناورات السياسية التي ستحدّد معالم مرحلة مابعد النزاع. وفي حين يدعو سوريون كثر إلى “إعادة إعمار شاملة وعادلة”، يرجّح أن يكون الواقع بعيداً كل البعد عن هذه الحال. ففي مطلع الأمر، أشعل غياب آليات المحاسبة والعدالة فتيل الانتفاضة. وفي مرحلة مابعد النزاع، يثير غياب آليات المحاسبة والعدالة على وجه الخصوص القلق. فعلى الأمد القصير، قد يُشجّع الأفراد على الانتقام، وعلى الأمد الطويل، سيقوّض على الأرجح ديمومة التسوية، أياً كان شكلها.
في بلدان الشرق الأوسط، لاسوابق تاريخية يُعتدّ بها توحي بأن العدالة آتية. وقلّة من الدول العربية، فيما خلا تونس التي تنحو نحو الديمقراطية وإلى حدّ ما المغرب، استساغت العدالة الانتقالية. وسرعان ما تدهورت مساعي العراق إلى مساءلة مسؤولي النظام، إثر سقوط صدام حسين، بعدما تحوّلت إلى ثأر مذهبي. وتشير تجارب بلدان مثل لبنان والجزائر إلى ترجيح كفة النسيان والإفلات من العقاب عوض العدالة والذاكرة. غير أن الجهود الواسعة النطاق المبذولة في السنوات السبع الماضية للحفاظ على أدلة جرائم الحرب في سورية، تشير إلى أن مثل هذا النسيان والتغاضي قد لايكون ممكناً.
مركز كارينغي