درجُ العودة إلى الأسد/ عمر قدور
لا تمرّ بلا ثمار الجهود التي يبذلها بعض القوى الدولية والإقليمية، بما فيها قوى كانت أو ما تزال تُحسب صديقة للثورة، من أجل التطبيع مع فكرة بقاء الأسد. الشرائح المستهدفة ليست تلك التي لا تملك حق تقرير العودة، فالذين يعيشون في قسم من مخيمات دول الجوار، في ما يشبه الإقامة الجبرية، قد لا يُتاح لهم رفض الإعادة إلى الداخل رغم كل ما يُقال عن عودتهم بلا إكراه. كذلك هو الأمر بالنسبة لمعارضين صامتين في الداخل، حيث يتراوح بقاؤهم بين الإكراه على الأقل لجهة العيش تحت سلطة لا يطيقونها، وبين عدم الرغبة في الخروج الذي قد يعني خروجاً بلا عودة.
المستهدف، ضمن حملة متكاملة لها جانبها الإعلامي، هم أولئك الذين يملكون خيار البقاء في الخارج، ويعودون بملء إرادتهم حقاً، لأن عودة هذا الصنف تمنح فكرة التطبيع مع الأسد زخماً لا تمنحها إياه العودة الإجبارية للشرائح الأكثر ضعفاً. الشريحة المستهدفة متنوعة، من سياسيين يتراجعون عن مواقف سابقة “راديكالية” إزاء الأسد، إلى فنانين أو كتّاب أو ممثلين، وصولاً إلى شرائح أوسع من الحاصلين على اللجوء وليسوا أصحاب مهن تقتضي التواجد في الفضاء العام. ففي المحصلة سيساهم العائدون جميعاً في التطبيع مع بقاء تنظيم الأسد، سواء من خلال أسماء لها وقعها الإعلامي أو من خلال أعداد وأرقام تؤدي حصيلتها الغرض ذاته.
بالتأكيد يجب ألا نغفل سياقاً من تعميم اليأس، بدأ منذ ثلاث سنوات مع التدخل العسكري الروسي لصالح الأسد، فضمن السياق ذاته كان وضع المعارضة يتردى أكثر فأكثر على جميع المستويات، بالتزامن مع هرولة الدول الإقليمية الداعمة لها للتطبيع مع الجار الروسي الجديد. القبول الغربي العام بالتدخل الروسي مع القبول الإسرائيلي ببقاء بشار يصبّان في المنحى نفسه، بمعنى تعميم الانطباع بأن فكرة رحيل الأخير باتت من الماضي، وعلى كلٍّ من السوريين مراجعة حساباته على ضوء هذه الخلاصة.
لقد رأينا تأثير هذا المناخ في العديد من الحالات العسكرية التي استطاع فيها الأسد أو حلفاؤه استقطاب مقاتلين سابقين لدى المعارضة، وهذه الظاهرة تفاقمت منذ تبين أن الكلام عن الصمود في وجه سياسة الأرض المحروقة لا يكفي في غياب الإمداد والدعم الخارجيين النوعيين، وبالطبع منذ انكشاف ارتباط هذا العامل بالتفاهمات الخارجية على مناطق النفوذ. على الصعيد المدني لم تحدث حتى الآن حالات اختراق مشابهة، فلم يعد إلى حظيرة الأسد من سوريي الشتات أسماء ذات وزن سياسي أو فني أو ثقافي، إلا أن عدم حدوثه مرتبط على الأرجح بعدم وضوح أفق التسوية القادمة، لا بمواقف مبدئية راسخة يتبناها الجميع.
على درج العودة إلى الأسد هناك كثر، إنما في انتظار اللحظة التي يُعلن فيها انتهاء الوضع الحالي وإعادة تطويبه دولياً. ثمة إشارات يفهمها السوري عندما تصدر عن سوري آخر، فلا يحتاج إلى شروحات، وربما مردّ هذه المواربة إلى عقود من ممارسة التقية السياسية، من دون أن نستثني الحرج الذي يشعر به أولئك الراغبون في العودة، فيُضطرون إلى التحايل لتبرير نزولهم ذلك الدرج.
قد يصحو فجأة واحد من الواقفين في أعلى الدرج ليكتشف مثلاً أن إبراهيم القاشوش، مغنّي الثورة الشعبي الذي زُعم أنه قُتل واقتُلعت حنجرته في بداية الثورة، هو شخصية غير حقيقية وأنه تالياً لم يُقتل، وأن جثة المقتول هي لعميل مخابرات. هذا الكشف المتأخر الباهر لمعلومات قديمة سرعان ما يقود صاحبه إلى استنتاج أن الثورة برمتها بُنيت على الأكاذيب التي خُدع بها، ومن ثم من الذي يضمن أن أرقام قتلى المجازر التي كان يعلنها النشطاء الإعلاميون هي أرقام صحيحة؟ ومن الذي يضمن أنها حدثت؟ أو على الأقل من الذي يضمن أنها ليست سوى حوادث عنف صغيرة جرى اختلاقها وتضخيمها لحثّ الغرب على التدخل العسكري؟
هذا مدخل جيد لنزول درجتين إضافيتين والبدء بالتصويب على المعارضة، ومن المستحسن التركيز على أكثر أفرادها ركاكة، واعتبارها بأكاذيبها واستجرارها الدعم الخارجي المسلح قد أعطت ذريعة للأسد ليستخدم العنف المفرط، وكي تتاجر بالضحايا لاحقاً. عند هذا النقطة ينبغي أن تزول الفوارق بين حقوق السوريين وهذه المعارضة، وإذا كان لا بد من الحديث عن ثورة فمن الأفضل القول أنها انتهت مع إطلاق أول رصاصة من قبل المعارضة، أو القول أن الأخيرة هي التي سرقت الثورة منذ ذلك الحين، وعليه لماذا يُلام الأسد على جريمة لم يكن إلا شريكاً فيها؟
على أية حال، عند الوصول إلى هذه النقطة، غالباً ما يتوقف أصحاب هذا التحليل عن انتقاد الأسد، وفي حال مواجهتهم بجرائمه سيكون الرد بأننا جميعاً نعرف طبيعته ولا داعي لتكرار الحديث عنها، أما الحديث عن المعارضة “وجرائمها” فهو في حكم الضرورة لأنها غير مكشوفة مثله. بالطبع ثمة استثناءات أيضاً، فلدى أصحاب هذا الرأي قناعة بوجود معارضين شرفاء، لكنهم مع الأسف اعتُقلوا وأغلب الظن تمت تصفيتهم في السجون، أو أنهم قد قُتلوا برصاص الشبيحة والمخابرات منذ بداية الثورة. المهم أن لا أحد من الأحياء يصلح ليكون معارضاً، وعلى منوال التساؤل الخبيث في بدء الثورة عن البديل ستحضر الخلاصة هنا بأن لا بديل عن الأسد رغم كل شيء.
بعد المقدمات السابقة أو ما يشبهها سيأتي الحديث عن أن العودة هي حق للجميع، وأن سوريا ليست لبيت الأسد، بل إن الأصل هو البقاء فيها والمقاومة ضمن الممكن لمن يريد التغيير. ولن يندر إيراد حجج عاطفية محقة أيضاً من نوع الحنين إلى البلد، أو الخوف من الموت في الغربة فضلاً عن صعوبات التأقلم معها. في غضون ذلك لا بأس من التذكير بأن الجميع قد عاشوا طويلاً تحت القمع، والعودة إليه أفضل من مذلة اللجوء، فضلاً عن أن البقاء في الخارج يحقق مصلحة للأسد في ما تزعمه المعارضة عن قيامه بتغيير ديموغرافي. ولا بأس في التذكير بأن الجميع سوريون، معارضة وموالاة، لذا لا يجوز قطع الجسور مع أولئك الموالين حتى إذا لم يغيّروا مواقفهم أدنى تغيير، لأن العيش المشترك يتطلب القبول بالآخر.
مراقبة هذه الأطوار كلها، من أعلى الدرج إلى أسفله، لا تحتاج نباهة من نوع خاص. لكن الدليل إليها قد يحتاج أشخاصاً من نوع خاص، كأولئك الذين يتنقلون بين الداخل والخارج “الأوروبي خاصة” ويحاولون إقناع بعض من في الخارج بالعودة إلى البلد، بل لا يتوانون عند اللزوم عن تقديم ضمانات بأن العائد لن يتعرض سوى لاستجواب بسيط من قبل المخابرات ثم يُترك طليقاً وحراً بعده. عدم نجاح أولئك الرسل حتى الآن لا يعني حكماً بالفشل، إذ ثمة واقفون على الدرج، منهم من ينتابهم حنين حقيقي إلى القعر، ومنهم من يتحين الفرصة المناسبة، وربما منهم أيضاً من سيعزّ عليه الهبوط إلى النهاية بعد أن قطع شوطاً في التطبيع مع الجريمة.
المدن