في فضيلة الحكمة وضبط النفس/ برهان غليون
مع النكسة التي أصابت أحلام يقظة نظام الأسد، بعد اتفاق إدلب الذي حرمه مما كان يعتقد أنه النصر الأخير على المعارضة، يعود جيشه الإلكتروني الذي جهد، في السنوات السبع، لتحويل الكارثة/ الجريمة التي ارتكبها بحق سورية وشعبها إلى نصر مؤزر وهزيمة للمعارضة، يعود إلى الخطوط الأمامية. وهو يحاول البناء على مشاعر القلق واليأس والإحباط التي أصابت بالفعل قطاعات واسعة من الشباب الذي شارك في الثورة. ومن خلال تسريب ما يشاء من المعلومات الصحيحة والمليئة بالدسائس والاختلاقات في الوقت نفسه، لتغذية حملة تشهيرٍ وتخوينٍ متبادلة داخل صفوف المعارضة، أول من يتلقّفها تلك العناصر المحبطة التي بقيت تشعر بأنها لم تأخذ نصيبها من “عوائد” الثورة المادية أو المعنوية، أو لم يسمح لها بأن تلعب فيها الدور القيادي الذي كانت تطمح إليه. يحصل هذا في وقتٍ فتح اتفاق إدلب، واستعادة التظاهرات الشعبية حيويتها على نطاق واسع في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتبدل الملحوظ في المقاربة الأميركية للأوضاع السورية، خصوصا في ما يتعلق بالوجود العسكري الطاغي لطهران التي كانت الموجه الفعلي للأحداث المأساوية التي عرفتها سورية، آفاقا جديدة أمام المعارضة التي بقيت مغلقة سنوات طويلة سابقة.
يجب أن نعرف أن ما تسرّبه أجهزة الحرب النفسية لدفع المعارضة إلى تهشيم نفسها، حتى لا تستعيد أنفاسها، وحتى يحسم الأمر لصالح الأسد، فيه وقائع صحيحة، لكنّ فيه أيضا وأساسا
دسائس وسموما تريد أن تستفيد من مناخ الخسارة الذي بعثته استعادة مليشيات النظام المتعدّدة الجنسيات معظم الأراضي المحرّرة لسلطتها، أو لسلطة الانتداب الروسي، من أجل تحويله إلى شعور عميق بالانكسار، ودفع المناضلين والجمهور السوري الواسع الذي سار في مسيرات الثورة ومظاهراتها، وضحّى بالأبناء والأشقاء أو الأصدقاء، وخسر الكثير، واضطر أكثره للجوء إلى البلدان الأجنبية، أو النزوح داخل البلاد والعيش تحت الخيام، إلى التسليم النهائي بالهزيمة والاستسلام للأمر الواقع.
وليس الهدف من ذلك إقناع هذا الجمهور بعدم عدالة قضيته، أو دفعه إلى الاعتراف بعدم صواب مشاركته في الثورة، فمن المستحيل للمرء الذي أظهر من الشجاعة والإقدام ما أظهره الشباب السوري في السنوات الماضية، وقدّم أغلى التضحيات، وغامر بحياته، أنه لم يكن على حقّ، أو أن الثورة كانت بالفعل مؤامرة خارجية، أو تمرّدا إرهابيا، أو خرافةً خدع بها نتيجة الدعاية الأجنبية. ما يريده النظام من تسريباته المدروسة هو نقل الحرب من ميدانها الحقيقي، أي ميدان الصراع بين شعب حر ونظام جائر وظالم وعديم الإنسانية، إلى ميدان الصراع داخل صفوف قوى الثورة والمعارضة على تبادل الاتهامات بالمسؤولية عن الخسارة، وتوجيههم نحو البحث عن كبش فداءٍ من داخلهم يوجهون إليه سهامهم، بدل الاستمرار في تنظيم المقاومة ضد سياسة فرض الأمر الواقع التي يسعى إليها الروس، ومن ورائهم المجتمع الدولي الذي يريد هو أيضا أن يغطّي فشله في الوفاء بالتزاماته السياسية والقانونية، وتركه الشعب السوري يصارع الموت وحده، كما فعل في بدايات القرن الماضي مع ضحايا المحارق النازية، قبل أن يعلن ندمه عليها.
قبل أن تتعالى النداءات لتشكيل “محاكم التفتيش”، والبحث في ضمير كل فرد، وفي سبب انتمائه للثورة، والإعداد لمحاسبة المقصرين أو الفاسدين الذين ساهموا بالفعل، وهم كثر أيضا، في تقويض جهود السوريين للتحرّر من نظام العبودية، أود أن أقول لثوار وسائط التواصل الاجتماعي التي يخطئ من يستهين بتأثيرها اليوم إن الصراع في سورية والمنطقة العربية بأكملها لم ينته، ولا يزال مبكرا جدا الانتقال إلى مرحلة تصفية الحسابات الداخلية، كما يريد الروس والنظام منا، حتى يدمّروا كل ما أنتجه الكفاح المشترك للثائرين من رصيد معنوي وتفاهم وثقة بالنفس، ويقضوا على أي احتمالٍ لتشكيل معارضة ديمقراطية قوية في المستقبل، وينجحوا في مشروعهم الهزيل لإعادة ترتيب أوراق النظام الهالك، وتأهيله من جديد، قبل السعي إلى إقناع الدول المتردّدة بالمشاركة في إعادة الإعمار وتقاسم الغنائم والمنافع في ما بينها. وهي تحتاج اليوم أكثر من أي فترة سابقة لتشويه صورة الثورة والمعارضة، ولذريعة انعدام البديل.
لن ننجح في إعادة بناء معارضة ديمقراطية قوية ومتماسكة ومتضامنة، من دون مراجعة عميقة ومؤلمة لتجربتنا السابقة. هذا أمر لا ينبغي تجاهله، وهو يشكل، في نظري، أولوية، والمدخل لأي إعادة إعمار سياسي ومعنوي مطلوب، وسابق على أي إعمار مادي. ولا يمكن أن ننجح في القيام بهذه المراجعة، إذا أسسناها على الأهواء وروح الغل والانتقام من الأشخاص، مهما كانت أخطاؤهم بل خطاياهم كبيرة وفاقعة. بالعكس، ذلك يهدّدنا بأن لا نرى من جبل الجليد إلا قمته الظاهرة، ونهرب، في البحث عن الحل، إلى آلية اختلاق أكباش الفداء التقليدية والعتيقة، بدل أن نجتهد لندخل في عمق المشكلات التي يطرحها الواقع الموضوعي، وننجح في فهمها وتحليلها ومعالجتها. في هذه المراجعة، أقل ما يفيدنا هو الرهان على مشاعرنا الشخصية تجاه الآخرين، والاستسلام باسم الصراحة للتعبير عن مشاعر الكراهية، وتغذية الأحقاد الشخصية. باختصار، لا تستدعي المراجعة تهشيم الأفراد والكشف عن مثالبهم. واختلاق القصص والروايات لتشويه سمعتهم أو الحكم عليهم، وإدانتهم على الشبهة، وإنما التحقق من الأخطاء التي ارتكبوها في أفعالهم وممارساتهم، والتدقيق فيها ومعرفة أسبابها، إذا ما كانت راجعةً إلى عوامل شخصية أو موضوعية، وإذا ما كان مرتكبها فعل ذلك خدمةً لمصالح شخصية، على حساب المصلحة العامة، أو لسوء تقدير وجهل بالمسائل، أو لنقص في الخبرة السياسية. ولا يكفي في ذلك النقل عن فلان أو فلان، أو الأخذ بمقالاتٍ أو منشوراتٍ ذاتية، غالبا ما يكون الغرض منها تصفية حسابات شخصية.
غياب الشعور بالمسؤولية عند كثيرين ممن عمل في صفوفها، وتغليبهم الأهواء الشخصية على التفكير في التحدّيات العملية، كانا السبب الأول في فشل المعارضة السورية، فلا تجعلوا من
غياب الشعور بالمسؤولية في نقد تجربة السوريين الفذّة في الثورة والمعارضة سببا في قتل روح المقاومة والصمود التي نحن أكثر ما نحتاج إليها اليوم، للوقوف على أقدامنا والاستمرار في مقارعة الهمجية. من حق أي سوري وعربي أن يسأل ويستفهم، ويتحقق من الوقائع والأحداث، لكن لا أن يكيل الاتهامات والشتائم المسبقة، ويقرّر وحده، وبمعاييره الخاصة، من دون دلائل ولا براهين، في تقييم جهد الآخرين ومعنى أعمالهم. وفي المقابل، من واجب الذين احتلوا مواقع المسؤولية أن يوضحوا للجمهور برامجهم، وخططهم، وحيثيات اختياراتهم، ومغزى أفعالهم ودوافعها، حتى تسود الشفافية ونرتقي بمستوى المساءلة والمحاسبة إلى حد أدنى من الموضوعية. لقد أظهرت المعارضة السورية، أعني قياداتها، السياسية والعسكرية، فشلا كبيرا، وبالكاد تستحق هذه التسمية أصلا، لأنها ولدت جميعا في الحراك الثوري تقريبا، أو ركبت عليه، ولا تملك أكثرها أي خبرةٍ أو معرفةٍ نظرية أو عملية. لكن هذا لا يعني أن كل من احتل منصبا في قيادة المعارضة كان فاسدا. لا ينبغي أن نسمح لأهوائنا، ولا لغضبنا المشروع، أن يشوّش على هدفنا النبيل، ويشوّه غاية نضال شعبنا الذي فقد الكثير، وضحّى بكل شيء لتغيير الواقع المر والبربري الذي يعيشه. ولنحذر من أن نصب الماء في طواحين أعدائنا. لو بذلنا واحدا بالمائة من الجهد الذي كرّسناه داخل المعارضة، لتشويه صورة كلٍّ منا للآخر وإفشاله، في الاجتهاد لتفهم عمل بعضنا بعضا، والتفاهم بيننا، ونزع فتيل المشاحنة والبغضاء والشك والكراهية المتبادلة، ما كنا وصلنا إلى ما نحن عليه. ولو قبل الآخرون الذين وقفوا ضد الثورة والمعارضة، تكريس النسبة نفسها من جهدهم لملاقاة شعبهم والتفاهم معه، ما كان أصابهم والبلاد ما أصابها من كارثة. ليس هناك مرشد أسوأ من الاستسلام لمشاعر الضغينة والكراهية في تفتيت وحدة الشعوب، وتقويض مصيرها ومستقبلها.
يخطئ من يعتقد أن الأسد ربح الحرب. نهاية الحرب التي اتخذ وحده قرار شنّها على الشعب لحرمانه من حقوقه وحرياته، لن تفتح آمامه آفاقا جديدة، ولن تكتب له مستقبلا ثانيا، كما يتصوّر بعض الحمقى من أنصاره، بالعكس، إنها تحرّر الشعب من قيوده ومخاوفه، بعد أن حرّره عنف النظام الأعمى من أوهامه. سيجد النظام نفسه من جديد، ودفعة واحدة، أمام الخيار الصعب الذي شنّ الحرب لتجنب مواجهته: حقوق الشعب وحرياته. لذلك لا يجد النظام مخرجا آخر للهرب من استحقاقات الوضع الجديد سوى السعي إلى الاستيطان في الحرب وتأبيدها،
وهو يُراهن في ذلك على “داعش” وحلفائه الإيرانيين الذين علقوا مصيرهم بمصيره. وسوف يبحث باستمرار عن الذرائع الجديدة التي يحتاجها، يوما بعد يوم، ليدخل المجتمع السوري في دوامة الصراعات الداخلية، على الهوية والجنسية والتوازنات الطائفية والديمغرافية، وعلى حقوق الملكية العقارية والحقوق الفردية والجماعية والبحث عن لقمة العيش والمأوى والملبس. وهذا هو المغزى العميق لجميع القرارات والمراسيم التي يسنّها في الوقت الحاضر. لكنه لم يعد وحدَه، لم يعد قيصر زمانه. الفارق الوحيد أنه خرج من الحرب التي دمر فيها “بلده” وقتل “شعبه” عاريا من دون أقنعة ولا أصباغ: عصابة قتل فحسب، وما من سوري إلا لديه دين عليه، ويتطلع إلى قصاصه.
أبقوا هدف التغيير ومواجهة نظام الجريمة والحقد دائما أمامكم ومرشدكم، ولا تعتقدوا أن المعركة انتهت، وأن النظام انتصر ولم يبق إلا أن نفتح دفاتر الحسابات، وننقل المعركة إلى داخل صفوفنا. لم يكن النظام في أي فترة سابقة أكثر إشرافا على الهلاك مما هو عليه اليوم، ولم يعد لديه، ولا لدى حماته الروس، الكثير مما يمكن أن يفعلوه من أجل التمديد في أجله. لن يستمر ويمد في عمره إلا إذا قرّرنا نحن بالفعل ذلك، ونقلنا المعركة إلى داخل صفوفنا، وهشّمنا بعضنا بعضا، وشوّهنا صورة كل من عارض أو شارك في المعارضة، بدل أن نركّز الجهد على إعادة بناء صفوفنا للاستمرار في مواجهته، فلن تكون نتيجة ذلك إلا تيئيس الشعب وتكفيره بأي مقاومة قائمة أو قادمة. هذه هي أيضا مسؤولية من يريد الانتقاد والإصلاح، حتى لا يقتل المريض بدل المساعدة على شفائه.
العربي الجديد