سيرة الحب/ مصطفى تاج الدين الموسى
مهما تحدثنا عن الحب، وقرأنا الكتب التي غاصت في معناه، وعشنا تجاربه نظرياً وعملياً، نظل غير قادرين على معرفة وفهم وإدراك كل شطآنه، بوصفه بحراً واسعاً وعميقاً، يكتفي منه الإنسان في حياته بشاطئ واحد غالباً.
وعندما نفتح سيرة الحب، لا يمكن أن نخرج منها في وقتٍ قصير، لأنها سيرة طويلة، قد تكون بحجم حياة. والحديث عن الحب لا ينتهي، حتى ولو انتهت أغنية أم كلثوم المعروفة سيرة الحب.
ثمّة دراسات وأبحاث كثيرة حول الحب، قديمة وحديثة، بحثت في أنواع الحب ومعناه وأشكاله ودرجاته، عند العرب وبقية الشعوب، يضاف إليها الكثير من الإبداعات الإنسانية في مجالات الأدب والفنون، التي أبحرت في الحب وتجلياته.
بإمكاننا أن نعتبر الحب هو تلك العلاقة الحميمة، التي تربط بين طرفين، حتماً أحد الطرفين إنسان، أما الطرف الآخر قد يكون إنساناً أو فكرة..إلخ. وليس بالضرورة أن تكون هذه العلاقة إيجابية دائماً، أحياناً قد تكون سلبية.. نعرف الكثير من قصص الحب التي أخذت أبطالها إلى مصائر غير جيدة.
الحب علمياً، هو تلك الكيمياء التي يتم تبادلها في العلاقة بين اثنين، ففي الحب يفرز الدماغ هرموناً يدعى الأوكستيوسن وهو المسؤول عن عاطفة الحب، وعادة يفرز الدماغ هذا الهرمون في حالات الولادة لتسهيلها، وأثناء عملية الإرضاع الطبيعي لدى الأم.
ولكن بالرغم من وجود هذا الهرمون عند كل إنسان، لكن شكل الحب ونوعه يختلف حكماً من إنسان إلى آخر، باختلاف الجنس والعادات والتقاليد والثقافة..إلخ. و الحب يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة، فدونما معرفة لا يمكن أن يتم الحب، حتى ولو كانت معرفة جزئية غير علمية، عبارة عن خيالات، فالخيال هنا بالنسبة لصاحبه، يكون جزءاً من معرفته.
تعددت المدارس الفكرية التي بحثت في الحب على مهل، وتعددت تعريفات الحب منذ العصور القديمة حتى الآن، بكل الأحوال، الحب هو تلك الطاقة التي تدفع الإنسان لأجل حياة أفضل له، يسودها الشعور بالهدوء والطمأنينة والأمان.
لأنه بشكلٍ طبيعي، لا يمكن للحياة أن تكون جيدة دونما حب، عملي أو حتى نظري، فالحياة دونما حب تبقى مقفرة وموحشة مثل صحراء، لا ينمو فيها أيّ نبات، تماماً، كما تقول الأغنية المعروفة “عيشة ٌلا حب فيها، جدولٌ لا ماء فيه”.
يسعى الإنسان من خلال الحب، إلى إشباع رغباته المادية والروحية في حياته، ليظل متزناً وقادراً على الحياة، والحب غالباً يبدأ بالرغبة، وهذه الرغبة تتطور مع الوقت لتصير حباً، يحمل البصمة الخاصة بإنسانه.
طالما تساءلت في نفسي مثل أيّ بشري، لماذا نقع في الحب؟. لماذا شكل الحب عند هذا يختلف عن شكل الحب عند ذلك؟. لماذا نختار شخصاً ما دون الآخر؟. رغم تشابه هذا الآخر مع أيّ شخص بمحيطنا. لماذا هذا سعيد في الحب، وذاك تعيس في الحب؟.. لماذا أحدنا محظوظ في الحب، وجاره غير محظوظ في الحب؟..
هناك أسئلة عديدة عن الحب، وإجابات كثيرة عن كل سؤال, في الطب، والفلسفة، والأدب، والدين، وعلم الاجتماع، و حتى الفيزياء . يعجبني تحليل أفلاطون الذي تخيل أن الإنسان كان في قديم الزمان مخلوقاً له رأسان، وأربعة أذرع و أرجل. ذات يوم، أغضب الإنسان الآلهة فعاقبه زعيم الآلهة زوس بإرسال صاعقة شطرت كل إنسان إلى نصفين . من هنا ولد الحب ، في سعي الإنسان إلى إيجاد نصفه الآخر.
على نقيض اليونان، و بعصر أكثر حداثة، ابتعد الألمان عن الرومانسية و الخيال إلى العملية في تحليل الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور , شوبنهاور ادعى أن الحب هو حيلة النفس كي يتزاوج البشر, و ينتجوا الأطفال الذين يؤمّنون استمرارية البشر ، وذلك لاستمرار النسل، وبقاء الحياة، وعدم انقراض الإنسان، قد نتفق مع شوبنهاور وقد نختلف، وهو لطالما وصف بأنه متشائم ومعادي للمرأة والزواج ولديه علاقات مضطربة مع النساء ، وقد وصف بأنه الفيلسوف الذي يكره النساء، يقول أيضاً: إن المرأة هو فخ نصبته الطبيعة للإيقاع بالرجل، وسلبه قدراته وطاقاته في سبيل ضمان استمرار النوع، وإن كان ذلك يتم على حساب معاناة و عذاب أفراد النوع، العالم لا يحتاج إلى المزيد من الضحايا.
إذن، بالنسبة للمحبين، لن يروق لهم ولا حرف واحد من كلمات شوبنهاور.
وعند العرب قديماً كان للحب مراتب ودرجات، يصعد وينزل فيها، وقد صنفها وشرحها الثعالبي في كتابه المعروف فقه اللغة.
في قاموس الحب يوجد مئات الأقوال الجميلة، وقد انتخبتُ بعضها.
الشاعر المصري كامل الشناوي قال عن الحب: الحب جحيم لا يطاق، والحياة دونما حب نعيم لا يطاق. بينما جان جاك روسو حاول أن يميز بين طبيعة الحب عند الرجل عن طبيعة الحب عند المرأة، عندما قال: الرجل يحب ليسعد بالحياة، المرأة تحيا لتسعد بالحب.
الفيلسوف البريطاني برتراند رسل، الحائز على جائزة نوبل، ادعى بأن الحب هو وسيلة يتغلب بها الإنسان على وحدته، و الخوف من الوحدة هو ما يأخذه إلى الحب.
على عكس بوذا، عرّفت الفيلسوفة الفرنسية سيمون دو بوفوار الحب على أنه الرغبة بالتواصل مع آخر، مما يمنح المعنى و الغنى للحياة، وكانت دو بوفوار قد ارتبطت بقصة حب طويلة، مع المفكر الفرنسي الوجودي جان بول سارتر في باريس، سارتر اعتبر أن الحب مجازفة وصراع مؤلم.
هذا الملخص اللطيف حصلتُ عليه بعد مشاهدة برنامجاً تعليمياً جميلاً, يتحدث عن تعريفات الحب عند الفلاسفة والمفكرين والمبدعين، إضافة لقراءاتي هنا وهناك حول الحب.
أما فعلياً، في الحياة العملية، ثمّة أشكال قد تكون غرائبية للحب، ولعل أغرب أشكال الحب تكون في البلدان غير الديمقراطية.
بالنسبة لي على الأقل، أشعر أن الحب في المجتمعات ذات الأنظمة الديمقراطية، يكون أنضج وأكثر جمالاً عن الحب في المجتمعات التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية، على ما أعتقد.
في مجتمعات الأنظمة الديكتاتورية، يتعرض الحب في مسيرته للكثير من العثرات، والنكبات والتشويه أيضاً، بما لا يتناسب مع معانيه وغاياته.
مثلاً، أتذكر أنه خلال العقود الأخيرة من القرن الماضي، وعلى الإعلام السوري الرسمي في الإذاعة والتلفاز والصحف، كان الحب موجّهاً بالدرجة الأولى لشخص القائد.
كنا دائماً نتابع على شاشة التلفاز، لقاءات قصيرة أو طويلة، مع أناس ناجحين و قد حققوا تميزاً ما، على صعيد الدراسة أو العمل أو الرياضة أو أيّ مجال آخر.
نهاية كل لقاء مع مثل هذا النوع من المواطنين، كان المحتفى به يختم اللقاء معه بإهداء إنجازه للسيد القائد بالدرجة الأولى، ومن ثم لديه مجموعة خيارات لإهداء إنجازه بالدرجة الثانية والثالثة و…إلخ، والداه، زوجته، حبيبته، مكان عمله، أصدقاء، زملاء، جيران…إلخ، المهم بالدرجة الأولى، إهداء الإنجاز يجب أن يكون للحبيب الأول في القطر العربي السوري، وهو السيد القائد.
ثمّ جاءت ثورات الربيع العربي، لتكنس هذه العادة من ضمن العادات السخيفة التي كنستها.
لكن، وهذا ما يثير استغرابي، ما زال بعضهم حتى الآن يحب أينما حب، القائد، بعد كل جرائمه ومجازره، وقد يكون هذا البعض ممن عانى من هذا القائد، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهذا البعض يعيش خارج حدود البلد، فالتعجب هنا عن سر هذا الحب غير المفهوم!.. حب مشوه بأكمله.
مثل هذا الحب للقائد الطاغية، أعتقد أنه ليس من السهل على المدارس الفكرية، فهمه بشكلٍ جيد.. والله أعلم.
تلفزيون سوريا