القاهرة: المرء إذ تبتلعه جماهير “مملكة الطوابق”/ إيمان عادل
منطقة الطوابق المتفرّعة من شارع فيصل في محافظة الجيزة تشبه مدخلاً طويلاً لا يعلم أحد إلى أين ينتهي، ولا إلى ماذا يفضي في نهايته، عند الطريق الدائري الذي يشهد حوادث سير وتهشّم سيارات مسرعة بشكل يومي.
ما يمكن الحديث عنه بحسم أنها منطقة الطوابق، مدخل يفضي كلّما توغلنا فيه إلى معانٍ أكثر من كونها معالم. على المستوى التخطيطي للمنطقة، فهي عبارة عن ثلاثة طرق طويلة متجاورة تكاد تكون ملتصقة، تسمّى الطابق الأول والثاني والثالث، تتجاور في تشكيلٍ أشبه بالأوردة المفتوحة.
يتفنّن بائع العصائر الطازجة على مدخل الطابق الثاني بتزيين اللّافتة الكبيرة للمحل بالثمار التي تتدلّى داخل شباك بلاستيكية، تفوح منها رائحة البرتقال والمانغو. أحياناً، تتحوّل الرائحة الجذابة للفواكه الطازجة إلى رائحة تقارب عفونة السمك، حينما توشك الفاكهة الذابلة داخل شباكها على التعفّن. في كلتا الحالتين، لا يفقد المحل الإقبال الجماهيري، كأنّما هناك قناعة ضمنية بأن الذبول والطزاجة مفهومان متقاربان، طالما لم يهتك الدود القشرة الخارجية.
محل العصائر هذا سمّاه صاحبه بكل ثقة “مملكة الطوابق”. اللافتة تلحّ على أعين المارة كي يلتقطوا الإشارة المجانية التي يحملها هذا الاسم ومدى تعبيره الفذ والموجز عن المنطقة، فـ”الطوابق” تظهر كمملكة مستقلّة وسط شارع فيصل، مملكة نشأت بخصوصية متشابكة، لا تغلق عينيها من فرط تحفّزها الدائم، سواء التحفّز للمشاجرات والصدامات، أو التحفّز عبر الأصوات التي تكاد تمزّق المجال الصوتي -إن صح التعبير- أو الصوت البشري المتشابك مع أصوات الكلاب، الشريكة الدائمة في حكم المنطقة.
المشاجرات تحدث بمعدّلات متكرّرة على مدار اليوم حتى أصبحت من السمات المميّزة للمنطقة، والتي من السهل على البعض تصنيفها بسلوكيات البلطجة والتهجّم على سكّانها ووصفهم بـ”الغوغاء”، “الدهماء”، العوام “العالة” على المرحلة “الثورية”، أو حتى كما يميل البعض لوصفهم بالمنبطحين المنهمكين في تلبية احتياجاتهم، العائشين في فقاعة أو في غيبوبة!
على مدار عام ونصف العام، كنت أرى يومياً في مخيّلتي كما لو أن الفيلسوف الهولندي “سورين كيركيغارد” ينظر إلى سكّان الطوابق باندهاش شديد، كمن يرى أمامه مادة مجتمعية ثرية صالحة لنظرياته وتحليلاته عن الفردانية. أتخيّله يومياً وهو يجلس على كرسي بين بائع الجرائد وعربة سلع الجيش التي تبيع منتجات الجنود المصريين من لحوم مجمّدة وزبد وأجبان. يتحسّر على إهمال هذا المعمل المفتوح في الفضاء العام والجاهز لاستقبال علماء الاجتماع والباحثين الجادين وربما الروائيين، وبالطبع ليس لاستقبال أولئك المتحفّزين لإطلاق الأحكام على علّاتها، هذه الأحكام التي زحزحت حتى غالبية سكّان العشوائيات من مرحلة المهمّشين إلى مرحلة المنبطحين.
يتواصل الحديث عن مملكة الطوابق كجزء من الحديث عن الجموع والجماهير في سياقات مختلفة، فإن نجحت مثلاً ثورة في هذا البلد، يتم التعامل معهم باعتبارهم الجماهير الحرّة النزيهة الواعية بحق، فيتم الالتفات إلى سيكولوجياتهم بشكل حماسي وجدّي مع استعادة كل ما دوّنه التاريخ من بطولات هذه الجموع، طبعاً مع إلباسها هوية مهندمة تليق بالفرسان، وإن فشلت هذه الجماهير في التماهي مع الخطاب الثوري لرسم المسار الديموقراطي، الذي يكون عادةً ضبابياً وعنترياً، يتم دفعهم في اتجاه الجماهير الخانعة البراغماتية غير الواعية سليلة التاريخ الطويل من الاستسلام والارتكان للعبودية.
اعتبرتُ تخيّل ظهور كيركيغارد ضرورة، كأن يكون معادلاً موضوعياً وعيناً ثالثة بين عين الصحافة التي قد لا تعتبر مملكة الطوابق سوى نقطة ضئيلة تكاد لا تُرى بالعين المجرّدة على خريطة مصر الواسعة، وعين الجيش الذي يحكم نظرياً الدولة برمتها، لكنه عملياً لا يحكم مملكة الطوابق، فهذه المملكة تحكم نفسها ذاتياً، بدءاً من تسعيرة المواصلات الداخلية وبخاصة التكاتك، والخضراوات، والتخطيط العمراني العبثي مروراً بكيفيّة إدارة منطق الفرد ومنطق الجماعة وهو الأهم داخل سياق الحياة الاجتماعية اليومية لسكّان المملكة.
أتذكر جيداً الفترة التي عشت فيها بمملكة الطوابق طيلة عام ونصف العام، وكيف كانت تنفجر البنية التحتية لتبقى المنطقة أسابيع بلا قطرة ماء، فيما تغرق الشوارع بمياه الصرف الصحي، وكيف كانت تدار الأزمة داخلياً بعدما تصبح الاستغاثة بشركة المياه أو المحليات ضرباً من هلوسة درويش ينادي على أشباح تمرّ من أمامه، فيضطر الأهالي لتجميع الأموال وحفر الشوارع لتغيير مواسير المياه، بل ومراضاة شركة المياه لمعاودة ضخ المياه، بعدما أنهى السكّان المحليين بأنفسهم المهمة.
حتى على المستوى الأمني أتذكّر كيف كانت تُضاء الخرابات المظلمة بعد منتصف الليل، ليجتمع فيها أطراف المشاجرات التي تحدث نهاراً، وغالباً ما يكونون من أصحاب التكاتك، وكيف تتعالى الأصوات بتنغيماتها وتتوالى الصيحات على مدار زمني قد يمتد ساعات، فتتحول الخرابة ساحة تجمع الأسود، حيث يزأر كل أسد في وجه الآخر بكل قوته حتى يستنفد طاقته، وتأتي النهاية بأن يربت كل طرف على كتف الآخر، إذا تمّت عملية المصالحة بنجاح، أو قد ينتهي الاجتماع بحادثة قتل !
من الجيد أن كيركيغارد كان مهووساً بالاحتكاك بمن نطلق عليهم اليوم المتنمّرين، وكان يجذبه أن يمضي للتعرّف إلى كل من يتجاوز حقّه بالاحتكاك البدني أو المعنوي، لذا من المؤكّد أنه وداخل مملكة الطوابق سيبدو منجذباً لهذا الإفراط في التعابير اللفظية وتنغيماتها التي تصدر من الباعة وسائقي التكاتك والسكان، وقد يسجّل المشاجرات ويفزع من حجم مقاومة سكان مملكة الطوابق للحفاظ على الفردية في ظل سيناريوهات يومية تعتصرها داخل معصرة الجماعة التي تشبه بطريقة ما محل “مملكة الطوابق للعصائر”، واجهة المنطقة.
أظن أنه من السهل أن يخلص كيركيغارد إلى حقيقة أن الذات الفردية في هذه المنطقة قلقة ومسحوقة، والأدهى أن سحق هذه الذات لا يجعلها تموت وينتهي أمرها، بل يجعلها أكثر انزعاجاً وصخباً، كأنها تتحول إلى النقيض تماماً تتضخم وتبرز وتنفجر بشكل يومي.
خلال فترة الستينات كانت منطقة فيصل خضراء شاسعة، فيها مسطّحات مائية يطلق عليها اسم ترع، يمكن أن ترى على مد البصر الأهرامات وتتابع مساءً مشروع الصوت والضوء. كانت هناك بيوت تتعرّش بشجر العنب وأشجار الجهنمية، لم تكن الجنّة بالطبع، لكنها على نحو ما كانت صورة مختلفة تماماً عما هي عليه اليوم.
جاءت فترة الثمانينات والتسعينات، الفترة الأبرز في تغيّر ديموغرافيا المنطقة، بعدما توجّه إليها العائدون من رحلة الانفتاح الاقتصادي لدول الخليج، وبدت فيصل حلماً يراود المثقّفين، للحصول على شقّة بسعر معتدل في هذه منطقة، وذلك قبل أن ينزحوا بغالبيتهم اليوم إلى المقطم والمدن الجديدة، بعدما صارت فيصل برمتها مثل مدينة من صفيح المعلّبات المهشم يوحي أن ما بداخله منتج منتهي الصلاحية!
في حقبة التسعينات، بدأت تتهيّأ مملكة الثلاثة طوابق لتكون على ما هي عليه اليوم مغرية للبحث الاجتماعي والتأمل، كانت الكنيسة قد أرشدت شعبها لشراء الأراضي والبيوت في منطقة الطوابق الرخيصة، فيما فعل ذلك أيضاً المصريون حديثو التديّن العائدون من السعودية، ولحقهم أهالي الريف ممن انكمشت عنهم معظم الخدمات وانحسرت مهنة الزراعة في مقابل حياة مدنية لأهل الحضر تزداد انفتاحاً.
تجمع هؤلاء جميعها من دون تهيئة أو تنظيم في طبقات من البشر والأيديولوجيات التي تراصت فوق بعضها بعضاً، لتتشابه مع الأبراج العالية التي طاولت الــ12 طابقاً وأكثر. طبقات وطوابق جعلت من الحيز الفاصل بين العمارات، والنفس يكاد يكون معدوماً، صدقاً تخيلت هذه العمائر التي تطاول السماء تتشاجر هي الأخرى وتحدث صخبها الخاص.
حالة من المؤكد أنها غايرت تماماً حلم من جاؤوا في البداية إما للراحة من سنوات الغربة بتأمين شقة أو مبنى كامل لراحتهم وراحة أبنائهم، أو من جاؤوا هاربين بهويات مضطهدة، أو من رغبوا في بناء مملكتهم الفاضلة، ليصبح صراعهم اليومي، يتجسد في الصراع من أجل الحفاظ على الحيز الضيق والخيط الرفيع الذي يفصل بين تشبثهم بالفردية وأمانها الشخصي وبين سحقها تماماً ليمتلئ الحيز الصوتي في غالبية الوقت بعبارات من قبيل “هتقدرني هقدرك” “مش شايفني ليه؟” “لا تدوسلي على طرف” إلخ.
إيمان سورين كيركيغارد بعودة الأموات في أجيال لاحقة سيسهل علينا مهمة تخيّل وجوده، وكيف سيدرك الكيفيّة التي عاش بها هؤلاء المغتربون جميعاً بعدما جرفهم النهر داخل مصب مملكة الطوابق. سيرى التمرد بشكل يومي، ليس التمرّد بمعناه السياسي وهو المعنى الوحيد للتمرد الذي تعترف به النخبة السياسية والثقافية في مصر، بل التمرد على كل ما قد يزيد من انتهاك الفردية المتألمة والمتضخمة في آن واحد.
البنية الاجتماعية لمملكة الطوابق وما تضمّه من طوائف دينية واجتماعية وثقافية متنوعة، يوهمان أنها منطقة تعيش في حال من التناغم الوسطي الجميل، وأن هذا التجاور والتلاصق في المختلف الثقافي يعطيها وجاهة ما، لكن هذا ما يبرز على السطح، هناك اعتزاز واضح بالهويّات هذا صحيح، لكنه اعتزاز قد يكون مزيفاً ومبالغاً فيه، فقط لأن كل طرف عليه أن يظهر هويته ويبالغ في ذلك أمام نقيضه خوفاً من أن ينتهكه هذا النقيض أو يجور عليه، وفي قلب هذا الاعتزاز يعيش الخوف بعينين لامعتين وقلب مرتجف.
يقول كيركيغارد: “في حال أثبت الفرد نفسه يقع في موقع المواجهة مع الكلي. في هذه اللّحظة تُرتكب الخطيئة. لن يكون هناك تصالح بين الفرد الجزئي والكلي إلا بإدراك هذه الحقيقة، إذا كانت علاقة الفرد الجزئي مع الكلي هي تعبير الجزئي عن نفسه باستمرار في الكلي ويجد فيها غايته، سيكون من التناقض أن يكون هناك تعليق غائي للكلي. سيكون في ذلك خسارة هائلة ومرعبة”.
لا أعلم هل توقّف كيركيغارد أمام الأرجوحة التي تقع في منتصف مملكة الطوابق، فعلى رغم ما تبدو عليه من حالة رثة، إلا أن الحياة تدب فيها حينما يستقلها طفل، ويحرك أحد مقاعدها الذي يشبه القارب. لتتحرك متاريسها بصوت صاخب، فتولد طاقة الطفل الضئيل قوة هائلة تحرك قاربه في الهواء في حركة تشبه حركة البندول المتحفز والغاضب من أجل التحرر والرغبة في إثبات القدرة على التحليق لأعلى مسافة ممكنة، كمسافة تقارب رأساً ثلاثة طوابق.
صحافية مصرية
درج