سياسات الذاكرة/ شيرين أبو النجا
-1-
في عام 1995، أتيحت لي فرصة حضور مؤتمر الأمم المتحدة العالمي للمرأة الذي عقد في بكين بالصين حيث عُقدت جلسة الاستماع العالمية عن جرائم العنف ضد النساء. وقد حكت فيها الشاهدات ذكرياتهن المريرة عن العنف في الحروب والعنف العرقي والعنف الناتج عن التطرف الديني وعن الختان والهجرة وقتل الطفلات الصغيرات والاتجار بالبشر. جاءت هؤلاء النساء من كل أرجاء العالم لإثبات أهمية الذاكرة. وكان برنامج هذا الاجتماع مطبوعا على ورق البردي وحاملا على صفحته الأولى صورة ’ماعت‘ إلهة العدل عند قدماء المصريين. كما كشفت رؤية وموقف الجهة المنظمة لهذا اللقاء عن وعي بأهمية الذاكرة وسط علاقات القوى، وهي الرؤية التي تم التعبير عنها كالتالي: “إننا في حاجة إلى الإنصات إلى أصوات هؤلاء الذين لا يشاركون في تلك السلطة، وأن نرى تلك الانتهاكات عبر أعين عديمي السلطة، ومن يحتلون الأطراف … مع العلم بأن العالم يبدو مختلفا عند النظر إليه من أطراف السلطة، فالهوامش تطرح إحساسا جديدا بالأمل وأسلوبا مختلفا للحياة. إن جلسات الاستماع العام تسعى إلى أن تكون صوتا آتيا من أطراف تلك السلطة، من الهامش الذي يسعى للكلام عن ذلك العنف الهائل. إنه صوت يأتي من صمت غامر. إنه صمت يتكلم عن استعادة الذاكرة من النسيان“.
وقد كان القصد من استعادة حكايات الشاهدات هنا هو منح صوت لمن لا صوت لهم ولهن. والقول بأن العالم يبدو دوما مختلفا عند النظر إليه من الأطراف هو قول حق، ولكن الحقيقة أيضا هي أن العالم يبدو دوما مختلفا من منظور النساء. ففي سياق جلسات الاستماع العامة، تم تمكين الهوامش، كما تم تقويض علاقات القوى الثابتة بواسطة المطالبة بالمحاسبية. أي أنه تم تقويض وخلخلة الحكاية الأحادية الخطية التي تطرحها ذاكرة السلطة بثقة. بهذا الإطار المعرفي يُمكن- على سبيل المثال- فهم الكيفية التي وظفتها النساء المصرية لتحويل الذاكرة إلى درع يحميهن من القمع ويمنح أصواتهن مساحة لا بأس بها. بدأت سياسات الذاكرة والتذكر والنسيان تكتسب دفعة إلى الأمام في مصر في عقد تسعينيات القرن العشرين، حيث أدت الجهود المبذولة لمناهضة تهميش النساء في كافة المجالات إلى تصاعد الاهتمام باستعادة وتضمين أعمال النساء وحكاياتهن وما تصنعه أيديهن. وفي نفس الوقت صار منح الصوت لمن لا صوت لهن – وخاصة النساء الفقيرات والمعدمات – بمثابة العمود الفقري للمشروعات البحثية التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية المصرية. وفي الدوائر الأكاديمية، أصبحت السير الذاتية والمذكرات النسائية، مع غيرها من أشكال الكتابة، ضمن المصادر الأولية لعديد من الرسائل العلمية. وعلى الساحة الأدبية، لاقت الكاتبات التشجيع لكتابة شهاداتهن عن حياتهن الأدبية مع التركيز على صعوبة وضع المرأة الكاتبة، ولن ينسى أبدا المنخرطون في النقد الأدبي، رجالا ونساء، كيف كانت عملية إنقاذ اسم أليفة رفعت من الزوال خطوة كبيرة إلى الأمام.
كان هذا الاهتمام في حد ذاته ما يزال في بداياته في العالم كله، حيث أن الجهود الرامية إلى التنظير للذاكرة من منظور نسوي في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال بدأت في ثمانينيات القرن العشرين. وفي هذا الصدد تشير ماريان هيرش وفاليري سميث إلى أن المحاولات الأولى ظهرت في مؤتمر عقد عام 1986 في جامعة ميشيجان، والتي نشرت في عدد خاص من مجلة ميشيجان الدورية وقد استخدمت المحررات والكاتبات مفهوم “الذاكرة” لتعريف مجال الدراسات النسائية كشكل من “الذاكرة المضادة” وباعتبار البحث والأدب والفن النسوي كوسائل لمواجهة “النسيان” الرسمي لتواريخ النساء. وفي مصر أيضا اتجهت جهود الناشطات السياسيات والنسويات تجاه تكوين ذاكرة مضادة، أو بالأحرى تقويض السردية السائد التي تم فيها تهميش النساء في أسوأ الظروف وتنحيتهن جانبا في أفضلها. ومع دخول الألفية الجديدة صار من المألوف وجود مشروعات تعمل على استعادة النساء من الماضي وكشف العمليات التي أدت إلى تغييبهن. وقد كانت نقطة الانطلاق الأساسية لتلك المشروعات تقع في علم الدراسات التاريخية ثم انتشر في العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام. فبدأت العديد من الباحثات البارزات في إعادة كتابة التاريخ من مدخل جندري يعمل على إدراج النساء في الأرشيفات بغرض تغيير الخطاب السائد. وفي هذا الإطار نشأ “ملتقى المرأة والذاكرة في عام 1995. وكان هدفه هو إنتاج معرفة بديلة عبر البحث الأكاديمي في التاريخ الإسلامي والحديث، وإعادة قراءة الأرشيفات، وإعادة طباعة السير الذاتية، والبحث في التاريخ الشفاهي، وإعادة كتابة الحكايات الشعبية، وتقديم العروض المسرحية، والأعمال المترجمة. وقد ساهمت تلك الجهود المبكرة في إثارة وعي القراء والمشاهدين، رجالا ونساء، بل وتعريف المؤسسات بقضايا الجندر.
لم يكن هذا بالأمر السهل، فقد جاء رد فعل دوائر المثقفين والسلطة إما معاديا أو لامباليا. فبينما اعتاد المثقفون على تسفيه المقاربات النسوية والتقليل من شأنها، فإن نسوية الدولة لم تكن على استعداد لتقبل أي إحياء للذاكرة أو إعادة صياغة للذاكرة الجماعية خارج حيز السلطة. هذا وقد قامت الدولة بالطبع بالاستحواذ جزئيا على الذاكرة المضادة، فبما أن نسوية الدولة قامت بتعزيز الصلة بين قضية المرأة والقضية الوطنية، كان هدفها استخدام الذاكرة المستعادة لخدمة أغراضها. فمن خلال إنكار التعددية والتعامل مع النساء باعتبارهن العلامات الثقافية الدالة على الوطن، قدمت الدولة نفسها بوصفها المصدر الأساسي المدوّن للتاريخ الرسمي (الصحيح) الذي لا يجب أن تشوبه مرويات أخرى، ومنها بالطبع تاريخ النساء. بل ويمكننا القول بوجود صراع غير معلن بين التاريخ الرسمي وتاريخ الذاكرة الجمعية المجتمعية.
فعلى سبيل المثال، بينما كانت صيغة الدولة الرسمية تبدأ دوما بدور النساء في ثورة 1919، نجد المؤرخين والباحثين، نساء ورجالا، يرجعون إلى أبعد من ذلك لتسليط الضوء على تأثير الحملة الفرنسية التي بدأت عام 1798 على سياسات الهوية الجندرية في مصر، أي بينما كانت الدولة تركز دائما على شخصيات نسائية فردية من التاريخ الحديث، نجد ميل الباحثات إلى إعادة قراءة التاريخ لإدراج عاملي الاستعمار والطبقة باعتبارهما عاملين جوهريين يساهمان في صياغة السياسات الجندرية منذ بدايات القرن التاسع عشر فصاعدا. يؤكد هذه المثال أنه هناك آلية لمقاومة احتكار كتابة وتدوين التاريخ: الذاكرة الممنهجة.
-2-
بشكل سلس تتحول مواقع الذاكرة التي تصنعها أجهزة الدولة وتحتفي بها إلى علامات في التاريخ الرسمي. ويوضح المؤرخ الفرنسي، بيير نورا، أن مواقع الذاكرة هذه “ترجع أصولها إلى الإحساس بعدم وجود ذاكرة تلقائية، وأن علينا أن نقوم بشكل عمدي بإيجاد الأرشيفات، والحفاظ على الجماعات، وتنظيم الاحتفالات، وقراءة المدائح، والتصديق على الأوراق، لأن تلك الأمور لم تعد تحدث بشكل طبيعي”، وبمعنى آخر، “بدون الحرص على الاحتفاء بالتذكر سرعان ما سيكسحهم التاريخ بعيدا”. وهكذا يصبح الاحتفاء بتذكر أحداث معينة أو أشخاص بمثابة فعل لحماية الهوية وترسيخها. تكمن المشكلة في أن السلطة تنتقي ما تتذكره وتمجده، ومن هذا المنهج الانتقائي (الجذري أيضا) ينطلق الصراع، وتكون النتيجة أن مواقع الذاكرة المنتقاة تصبح “لحظات من التاريخ تتنزع من حركة التاريخ ثم تعود إليه، فتكون قد فقدت شيئا من الحياة دون أن يصيبها الموت بعد، كالأصداف الملقاة على الشاطئ بعد تراجع بحر الذاكرة الحية”. وعليه، فإن انتزاع بعض الأشخاص والأحداث من التاريخ من أجل خلق حكاية خطية مستقيمة عن النساء كان وما زال يقع في صميم سياسة الدولة.
إن الذاكرة الجماعية التي يتم التعبير عنها تلقائيا بواسطة مجموعة من البشر، والتي قامت مجموعات نسائية وباحثات نسويات بإعادة إحيائها، تختلف عن مواقع الذاكرة التي صنعتها الدولة وعن السجلات التاريخية التي يدعمها المؤرخون الرسميون، أي أولئك الذين تعترف بهم الدولة. وهي السجلات الرسمية التي تظهر في الكتب المدرسية والاحتفال السنوي بيوم المرأة العالمي وفي الإعلام الرسمي للدولة، وكافة الأجهزة الأخرى التي تعزز صورة الوطن. أما الذاكرة الجماعية فهي مختلفة عن ذلك شكلا ومضمونا، ويُعرف موريس هالبواش الذاكرة الجماعية باعتبارها “تياراً من الفكر المتصل ولا يكون تواصله على الإطلاق مصطنعاً، إذ يحتفظ فقط من الماضي بما هو حي أو قادر على الحياة في وعي الجماعات والحفاظ على الذاكرة حية. وطبقاً لهذا التعريف فإنه لا يتجاوز حدود تلك الجماعة“.
إن نظرة سريعة إلى كتب التاريخ الدراسية الحالية تكشف عن أن تقسيم المراحل والعصور تقسيما منهجيا سلسا هو المدخل الرسمي لتأمل التاريخ. وفي هذا الإطار، تبدو المروية عن النساء كما تطرحها وتنشرها الدولة دوما مبهرة بسبب الوحدة المتماسكة والبنية الخطية في المقاربة المتبعة، فقد تعاملت الكتب المدرسية والدعاية التلفزيونية والحكايات الصحفية مع تاريخ النساء على أنه يمضي من نقطة إلى أخرى في مسار تراكمي. فمن وجهة نظر التاريخ الرسمي، كانت حكاية النساء تدور دوما حول الحقوق العالمية الأساسية الحديثة: الحق في الانتخاب، الحق في العمل، الحق في التعليم، الحق في الصحة.
إلا أن حكاية النساء، كأية حكاية أخرى، تتضمن بالتأكيد أشكالا من التعددية بل والتناقض، ولكن المرأة التي تحتفي أجهزة الدولة بصورتها تعكس تصورا واحدا، فهي المرأة التي تحقق إرادتها وفاعليتها عبر رجل وسيط، أي أنها تكون امرأة مضحية بنفسها إما في سبيل ابنها أو زوجها أو وطنها. فعلى سبيل المثال، يتم دائما تقديم هدى شعراوي، وهي من زعيمات الحركة النسوية في مصر في بدايات القرن العشرين، بوصفها المرأة التي تحدت الضباط الإنكليز عندما كانت مصر تحت الاحتلال البريطاني، دون الإشارة إلى السلطة التي اكتسبتها من كونها ابنة الطبقة الأرستقراطية. كما يغيب ذكر أوليات النساء اللاتي سقطن شهيدات خلال ثورة 1919. ففي يوم 16 مارس/آذار 1919، خرجت حوالي ثلاثمائة امرأة إلى الشارع في مظاهرة ضد الاحتلال البريطاني، وهو اليوم الذي سقطت فيه أول شهيدة في الكفاح ضد الاستعمار، وهي حميدة خليل (أم صابر) التي سقطت برصاصة أمام مسجد الحسين في مواجهة بين المتظاهرين والمتظاهرات والشرطة. حتى أن النساء المصريات اللاتي شاركن في مسيرات احتفالا بحصولهن على حقوقهن السياسية في عام 1956 حملن لافتات تحمل صور هدى شعراوي وحميدة خليل، إلا أن اسم حميدة خليل اختفى لاحقا بينما ظل اسم هدى شعراوي. فقد كانت الطبقة الاجتماعية من المحددات الأساسية لمن يتم تضمينها ومن يتم إقصاؤها، أو بالأحرى نسيانها وإهمالها. وتكاد الكتب المدرسية لا تشير إلى أية امرأة أخرى من المشاركات في ثورة 1919، وهو ما يمكننا فهمه حين نتذكر أنهن كن نساء تحدين السلطات البريطانية والوطنية على حد سواء، كما تغاضى البرلمان المصري حينذاك عن الكثير من مطالبهن. وبمعنى آخر، فإن تذكّر خطاب التحدي الذي استخدمته هؤلاء النساء يعمل على تقويض ما تسعى الدولة إلى ترسيخه.
مؤخرا، سعت الذاكرة الثقافية (وهي جماعية وإن كانت تعمل أيضا على المستوى الثقافي) إلى الاهتمام بهؤلاء النساء عبر إعادة نشر كتاباتهن ومقالاتهن مع إعادة سرد حكاياتهن. وبالتالي يتحول هذا الاهتمام إلى فعل تذكر تقوم من خلاله المجموعات بتكوين “هوياتها باستدعاء ماضٍ مشترك على أساس من الأعراف والتقاليد والممارسات الشائعة والخلافية في كثير من الأحيان”. ومع ذلك، فمن المهم القول إنها ذاكرة مجموعة بعينها، ولذلك فإن “كل ذاكرة جماعية تتطلب دعما من جماعة محددة في الزمان والمكان”. وكأن هناك تعددية في الذاكرة الجماعية ولكن يوجد تاريخ واحد. هناك أكثر من ذاكرة جماعية وثقافية وفردية، تحتاج كل منها إلى جماعة تنتشلها من النسيان، لكن المشكلة أن التاريخ دائما ما يضع الذاكرة في محل التساؤل، الذاكرة محل اشتباه دائم، بل متهم يسعى التاريخ إلى القضاء عليه.
ضفة ثالثة