سوريا: جراحة موضعية أمريكية وغضب تركي وقلاقل شعبية كردية/ براء صبري
ما زال الملف السوري والحرب المستعرة في البلاد يفرضان حالا من القلق السياسي في المنطقة رغم مرور وقت طويل على بدء الثورة الجماهيرية ضد النظام الحاكم وما آلت إليه أحوالها اليوم. ولا تعرف تلك القلاقل حدودا تصدها وتثبطها في موقع معين حتى أن البعض يظنها مسبحة تكر حباتها مع الوقت، وتسقط تباعاً، فمنطقة كوباني وكل شرق الفرات مرت بمخاض “داعش” الموجع وتخلصت منه بعد معاناة، ورغم ان الشمال السوري الخاضع لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية وبالأخص الجزء الأوسط والشمالي تتمتع بهدوء وحركة اقتصادية وعمرانية مقبولة، إلا أن التحركات التركية والهجمات التي شنتها مطلع الشهر الحالي على حدود مقاطعة كوباني (عين العرب) ومقتل البعض أيقظت لدى الأهالي هناك، وفي كل الشمال السوري الذي تديره الإدارة الذاتية، مخاوف من مصير يشبه مصير أهالي عفرين من تهجير السكان الأصليين وتوطين جدد غرباء عن المنطقة بدلاً عنهم، ومن سيطرة لرجال الجماعات المذهبية الراديكالية بدل القوات المحلية. الهجوم الذي أيقظ أيضاً لدى الساسة والمتابعين للشأن الكردي في سوريا تساؤلات تخص طبيعة العلاقة بين قوات سوريا الديمقراطية التي تخوض معاركها حالياً في معاقل تنظيم “داعش” الأخيرة شرق دير الزور وبين الولايات المتحدة. وزاد من مخاوف هؤلاء بشأن مدى صلابة تلك العلاقة، غضب “قسد” والذي أدى بتلك القوات إلى وقف عملياتها ضد “داعش” ريثما تستطيع إيقاف التحرشات التركية على حدود نفوذها الشمالية.
هذه التضاربات في المنطقة الهادئة نسبيا والمتداخلة اجتماعياً زادت الضغوط على واشنطن لوضع حد للتدخلات التركية، ولإيجاد طريقة لإرضاء جميع الأطراف، سيما وأن واشنطن ما زالت تحاول عدم السماح لتركيا الذهاب بعيداً في الحضن الروسي الذي باتت تركيا قريبة منه أكثر بكثير من واشنطن في الملف السوري تحديداً في وقت تحاول ترسيخ وجودها وتحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية التي أثبتت نجاعتها في محاربة الإرهاب (حسب قول المسؤولين الأمريكيين) في شرق وشمال سوريا.
غضب تركي وتحرشات
في اليوم الأخير من تشرين الأول/اكتوبر قصفت تركيا منطقة كوباني الحدودية، وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان حينها أن الضربات استهدفت قريتي كور علي وسليم، ما تسبب في أضرار مادية، كما أدى القصف إلى وقوع عدد من الجرحى من مقاتلي “قوات الدفاع الذاتي”. ونقل المرصد عن مصادر عدة أن قوات سوريا الديمقراطية ردت باستهداف القوات التركية على الحدود، حيث دمرت عربة مدرعة تابعة لها. تبع ذلك إعلان قوات سوريا الديمقراطية وقف عملياتها العسكرية “مؤقتا” ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في آخر جيب يسيطر عليه في محافظة دير الزور قرب الحدود العراقية. ولكن، وبعد جهود من قوات التحالف لتهدئة مخاوف الأكراد وحلفائهم العرب في شرق الفرات من الهجمات التركية أوضحت قوات سوريا الديمقراطية في بيان إنه “نتيجة الاتصالات المكثفة بين القيادة العامة لقواتنا وقادة التحالف الدولي (بقيادة واشنطن) وكذلك الحركة الدبلوماسيّة النشطة التي استهدفت نزع فتيل الأزمة على الحدود، فقد ارتأت القيادة العامة لقوات سوريا الديمقراطية استئناف عملياتها العسكرية ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية”. وأوضح مدير المرصد السوري رامي عبد الرحمن حينها أنه “خلال اجتماع عُقد قبل يومين، بلغت قيادات من التحالف، وتحديدا أمريكيين وفرنسيين، قوات سوريا الديمقراطية أنها تلقت وعودا من تركيا بأنها لن تشن هجوما ضد المنطقة الواقعة قرب حدودها”.
الهجمة التركية وتفاصيلها السالفة الذكر عنوان لمدى التوتر التركي من ما يحدث شمال وشرق سوريا حسب المتابعين. تركيا التي تهاجم المناطق الكردية الآمنة على حدودها بدون حجج تسكت على سطوة جبة النصرة “هيئة تحرير الشام” في منطقة هي تحت نفوذها شبه المباشر كما هو الحال في إدلب. الهجمات التركية على شرق الفرات وملف منبج الذي لا يموت في أنقرة متعلق بالحركات السياسية الداخلية التركية أكثر منه في شأن أمني على الحدود. وكلما بدأت الحكومة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية بالتحالف مع الحركة القومية اليمينية العمل على زيادة خزائنها من الحشد الشعبي تقوم بفتح ملف الإرهاب، وملف التآمر الغربي على تركيا من خلال الأكراد، وآخر ضرورات هذا الحشد التركي على الحدود وهذا الانتهاك الجديد هو نتيجة لبداية حديث الصحافة عن ظهور نقاط الضعف في التحالف بين الحزبين اللذين يقودان الحكومة وخوف العدالة والتنمية من طلاق مقبل من قبل ما تبقى من حزب الحركة القومية، فهذا الأخير الذي يحتاج لضمان قاعدته الحزبية المتآكلة إلى رفع المنسوب القومي العدائي في الخطاب الحزبي الخاص به يتلقى الرشوة من الحكومة التركية بفتح جبهات على طول الحدود ولو شكلياً ضد ما يسمونه (الإرهابيين الانفصاليين)! فتشمل تلك الرشاوى زيادة في الضربات الجوية التركية على معاقل حزب العمال الكردستاني في المثلث الحدودي التركي العراقي الإيراني بالإضافة إلى المناوشات الحدودية مع قوات سوريا الديمقراطية وزيادة الانتهاكات في عفرين، وهي كلها ملفات تعتبرها واشنطن قد تجاوزت الحدود المقبولة من ناحية العلاقات التركية مع الجوار.
ومع الوقت يدرك المتابعون للوضع في شمال وشرق سوريا ان العمليات التركية المحدودة، وملف تصعيد الخطاب التهديدي للإدارات الكردية هناك لن يتوقف بين ليلة وضحاها ما دامت العلاقة السياسية الداخلية للأحزاب التركية على هذا المنوال. بقي من يمني النفس بعودة ملف المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني والحكومة التركية بالظهور على الطاولة مجددا لتفادي الحدود التركية السورية المزيد من التحرشات التركية، أو من يمني النفس بالتدخل الأمريكي الرسمي والعسكري لترسيم الحدود ووقف الانتهاكات التركية ضد حليفتها الأصغر في الشمال السوري “قسد” ولحماية المدنيين هناك، وهو ما بدأت تظهر ملامحه في مؤخرا.
جراحة موضعية وملامح حل أمريكي
كانت الولايات المتحدة الأمريكية تحاول النأي بنفسها في الدخول المباشر في الحرب السورية المستعرة حتى ظهرت “داعش” وبقوة على السطح. الالتقاء الأولي بين وحدات حماية الشعب الكردية وواشنطن كان في معركة كوباني الشهيرة، حيث تأسست فيما بين الطرفين بعدها علاقة تعاون عسكري، وبعد مرور ثلاث سنوات من المعارك المشتركة بدأت ملامح علاقات سياسية من نوع جديد بين الطرفين تطفو على السطح مما يزيد من الغضب التركي العام. العلاقات التي تبنيها أمريكا في شرق الفرات تتوالد مع التجربة والعمل المشترك وليست جزءا من أجندة سابقة لحدث معركة كوباني كما يتحدث أطراف نظرية المؤامرة. العلاقة التي تحتم تغيير السلوكيات الداخلية للإدارة الذاتية في مناطق شمال سوريا تتحول مع الأيام إلى واقع سياسي يتبلور إلى جزء يبحث عن مكانه ضمن ملف المفاوضات السورية النهائية غير القريبة طبعاً. وتحاول أمريكا بين الحين والآخر تقديم حلول تطمينية لتركيا كما حدث في ملف الدوريات غير المشتركة ومن ثم المشتركة في منبج، وكذلك من خلال عدم التدخل الفعلي في معركة عفرين حينها، وكذلك قيامها بتسيير دوريات مشتركة مع قوات سوريا الديمقراطية على الحدود مع تركيا. والحلول الموضعية التي تحاول أمريكا تليين الموقف التركي من خلالها لم تعد تجدي نفعاً، لذا بدأت أمريكا الحديث ومن خلال وزير دفاعها جيمس ماتيس الأربعاء 21 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بأن الجيش الأمريكي، الذي يحتفظ بنحو ألفي جندي في المنطقة، سيقيم نقاط مراقبة على الحدود الشمالية لسوريا لتجنب التوتر بين تركيا وقوات سوريا الديمقراطية، التي تشكل وحدات حماية الشعب الكردية قوامها الرئيسي.
التصريح الرسمي الأمريكي عنوان لخطة علاج دائمة تظهر يأس واشنطن من الموقف التركي الرافض للترضيات السابقة. وهذا الحل الجراحي في جزء منه رسالة للعاملين على الملف السوري على ان الوجود الأمريكي وتحالفها مع قوات سوريا الديمقراطية يسير نحو الترسيخ أكثر من كونه تحالفا آنيا يزول مع زوال “داعش” الرسمي في شرق سوريا، وهو في جزء منه رسالة تطمين للداخل المدني القلق في روج آفا أيضا، وهو أيضا رسالة إلى الروس، والنظام، وإيران، وتركيا على الدور الأمريكي الهام في تحديد مصير سوريا السياسي المقبل.
مخاوف في مناطق قسد
مع كل حدث جديد من نوع الهجوم التركي تزيد القلاقل في مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا ويبدأ الحديث لدى الأهالي عن مصير المنطقة في مقبل الأيام مع التهديد التركي المستمر، ويصعب على الإدارات هناك طمأنة الناس على افتراض ان الوعود السابقة بحماية المنطقة قوبلت بطعنة عفرين، وباعتبار ان أهالي عفرين مع تعرضهم المستمر للانتهاكات المتواصلة من قبل الميليشيات المعارضة هناك وتحت رعاية تركية يزيدون من فقدان الثقة بالمستقبل لدى المشككين، وما زال الزائرون إلى المناطق الكردية في سوريا من اللاجئين السوريين في إقليم كردستان يتحدثون بعد عودتهم عن حركة اقتصادية نشطة هناك وعن قلق عام من مصير المنطقة بعد التوغلات التركية هنا وهناك. الطمأنة التي تركز على الوجود الأمريكي هناك تفشل في فاعليتها مع كل قتيل يسقط على الحدود بيد الأتراك حيث يصعب على ساسة السلطة هناك إقناع الأهالي بالحماية الأمريكية، ولكن، مع بروز خبر تشكيل الولايات المتحدة الأمريكية لنقاط الرقابة على الحدود تخف تلك المخاوف، وإن كانت ديمومة تلك النقاط، وتحولها إلى نقاط دائمة لفض الاشتباك هي الهدف المنشود للأهالي فيما يبدو. العامل الذي يثير الريبة لدى الأهالي أيضاً هو التقارب الروسي التركي وتبعات ان تتحول تلك العلاقات إلى مصد في وجه تقديم الأكراد لممثلين لهم في المحافل السياسية عند بدء ساعة الحل الحاسم، وإن هي تبدو بعيدة. مع العلم ان بعض المتابعين يعتبرون التقارب التركي الروسي في الملف السوري يقابله تقارب كردي أمريكي، وهو ما يزيد من المخاوف على عفرين ويزيد من الثقة بالمستقبل الهادئ لشرق الفرات في وقت معاً.
الحديث عن الانتهاكات التركية للحدود الشمالية لمناطق “قسد” مستمر ما دامت خريطة العلاقات السياسية كما هي حاليا سواء العلاقات السياسية في الداخل التركي، أو العلاقات الدولية المرتبطة بملفات عديدة بين تركيا وأمريكا وبين أمريكا وروسيا وبين تركيا وروسيا، مع عدم نسيان الزاوية التي بدأت تظهر بها العلاقة الأمريكية الكردية في سوريا حيث بدأت تشق طريقا خاصا بين كل تلك القوى الكبرى والإقليمية في المنطقة وتحاول ان تشكل لها وجودا لتحمي مستقبلها ولتمنح نفسها مكافأة على جهودها الماضية في قتال التطرف والإرهاب ورفض البعث.
القدس العربي