إدلب: درّة آستانة/ عمر قدور
حشود الميليشيات الشيعية وميليشيات الأسد، على تخوم المنطقة منزوعة السلاح في إدلب، ليست استعراضاً للقوة، كذلك هو القصف المتواصل لبلدات في تلك المنطقة وبلدات في ريف حماة الشمالي. ما يكمل مهمة الحشد أن موسكو لم ترَ طوال الأيام الأخيرة خرقاً للتفاهم حول إدلب سوى من الجهة الأخرى، متجاهلة على نحو متعمد الإعلان التركي “الخجول” عن تسجيل انتهاكات قوات الأسد وإيصالها إلى الضامن الروسي. السلوك الروسي كان قد اختُبر في كافة مناطق خفض التصعيد السابقة، حتى عندما كان الطيران الروسي يبادر إلى قصفها بوحشية، ثم يتهم الفصائل الموجودة فيها بانتهاك الاتفاق.
لإدلب وضع مختلف عن بقية المناطق التي تمت التضحية بها على مذبح آستانة، هي درّة هذا المسار بمعنى أن الانقضاض عليها سيكون انقضاضاً على المسار كله. هي الثمن المقدَّم لأنقرة لقاء انخراطها في مسار آستانة، ولقاء تغليبها إياه على المسار الذي يُفترض أن يكون برعاية أممية. إرضاء أنقرة يصبّ أيضاً في إبعادها عن الغرب، عطفاً على علاقاتها به المتوترة أصلاً، وعلى المخاوف التركية المتعلقة بالملف الكردي في سوريا.
لإدلب مهمة أخرى، فهي قد استوعبت آلافاً من مهجّري مناطق خفض التصعيد الأخرى التي تم الانقضاض عليها، لذا وفّرت “مع عفرين” على الجار التركي ومن بعده أوروبا موجات نزوح ضخمة. هذا ما جعل التفاهم حول إدلب يحظى بدعم أوروبي وأممي، بخلاف المناطق الأخرى، وهو الأمر الذي يجعل من استهدافها مجدداً بمثابة رسالة ثأرية من الغرب الذي لا يحابي موسكو في كل ما تشتهيه في الملف السوري.
السبب المباشر للتصعيد الأخير يكمن في التصريحات الأخيرة لجيمس جيفري المبعوث الأمريكي للملف السوري، حيث أصرّ فيها على استكمال تشكيل اللجنة الدستورية قبل نهاية العام الحالي، محملاً الأسد مسؤولية التأخير. قبل ذلك بأيام قليلة كان جيفري كان قد أعلن يأس إدارته من مسار آستانة، واعتبره منتهياً بلا نتائج سوى تضييع الوقت أو كسبه لصالح الأسد وحلفائه. جملة المواقف الأمريكية الأخيرة تشير إلى أن إدارة ترامب لن تعرقل المسار الروسي في سوريا، طالما بقي بعيداً عن أماكن تواجدها، ولن تنخرط في التسوية التي تريدها موسكو وتعتقد أنها باتت قادرة على فرضها بشروطها.
كما هو معلوم لم توفد إدارة ترامب ممثلاً عنها إلى اجتماعات آستانة الأخيرة، حيث درجت العادة أن يحضر مندوب أمريكي بصفة مراقب. في قراءة الموقف الأمريكي نستطيع القول أن واشنطن قدّمت كل التسهيلات التي يمكن تقديمها لموسكو مجاناً، فهي تخلت نهائياً عن الخيار العسكري، لا لإسقاط الأسد فحسب وإنما كخيار للضغط عليه من الدخول في تسوية، وكانت أوضح خطوة على هذا الصعيد تسليم الجبهة الجنوبية التي بقيت تحت إشرافها لسنوات. الثمن الذي تريده واشنطن للمضي أبعد يتلخص في الوصول إلى تسوية تحفظ القليل من ماء الوجه لها وللمجتمع الدولي، بحيث تنص على نوع من المشاركة في الحكم داخلياً، وتنص على إبعاد إيران نهائياً عن مفاصل القرار لصالح موسكو.
رد فعل المسؤولين الروس على التصريحات الأمريكية لم يخفِ الاستياء والتشنج، وحمل اتهامات مباشرة من نوع العمل على تقسيم سوريا وتهديد الأمن والسلم في المنطقة! الترجمة العملية للتصريحات أتت بتصريحات أخرى تعكس عدم الرضا عن الوضع في إدلب، مع تنويه “من مقتضيات اللباقة الدبلوماسية” بأن أنقرة فعلت ما في وسعها، بحيث تحتمل قراءة التصريحات الدلالة على عجر الأخيرة عن فعل المطلوب منها. هنا يجوز التكهن بأن الدور التركي لم يؤدِّ المأمول منه روسياً في مكان آخر، أي في الجهة الشرقية من خلال الضغط على واشنطن بحجة الملف الكردي، مثلما لن يكون لهذا الدور الأهمية ذاتها في حال أطلقت إدارة ترامب الرصاصة الأخيرة على مسار آستانة.
ما يحمي إدلب نظرياً تلك العلاقة الجيدة التي نشأت بين أردوغان وبوتين، إثر محاولة الانقلاب على الأول واتهامه الغرب بتشجيعها وربما الضلوع فيها. لكن لا يصعب ملاحظة التموضع التركي الضعيف ضمن التحالف الجديد، فجزء معتبر من قوة تركيا تقليدياً مستمد من وجودها في حلف الناتو وتحالفاتها الغربية عموماً، ويمكن القول أن علاقة أنقرة بالغرب في أسوأ مستوياتها، وربما كانت ستصل إلى أسوأ مما هي حالياً على الصعيد الأوروبي لو لم تستخدم أنقرة سلاح اللاجئين للضغط على دول الاتحاد. لا يُستغرب أن تشجع هذه الوضعية طامحاً مثل بوتين على استهداف منطقة النفوذ التركي في إدلب من دون تحسب لأية عواقب، تاركاً لأنقرة تنفيث غضبها أوروبياً بسلاح اللاجئين، وأمريكياً بالتركيز على الملف الكردي واعتباره الوحيد الذي يمس بأمنها القومي.
الخشية من كارثة إنسانية في إدلب تشتد كلما اشتدت حاجة بوتين، وربما الحاجة المشتركة مع النظام الإيراني، إلى تسجيل انتصار جديد يعوّض عن الخسارة في مكان آخر. يعلم بوتين أن سقف انتصاراته سيقف في النهاية عند حائط الوجود الأمريكي شرقاً، إلا أنه رغم التوقف الإجباري هناك سيظهر كمن أدى مهمته كاملة وأثبت صدق مزاعمه حول حماية وحدة واستقلال سوريا بخلاف الأمريكيين الذين يريدون التقسيم بحسب المزاعم ذاتها. إذا حدث هذا السيناريو يكون مسار آستانة قد أدى ما كان مطلوباً منه بالكامل، الأمر الذي ينطبق على الدور التركي أيضاً. المسار الأممي لن يكون أفضل حالاً في المدى المنظور مع العناد الروسي، وفي الانسداد القائم ربما لا أحد سيكون مرتاحاً مثل بشار الأسد الذي يجد متسعاً من الوقت والجغرافيا لممارسة هوايته في التنكيل بالسوريين.
المدن