إدوارد سعيد “مستعيدا” فرانز فانون/ يحيي بن الوليد
تبدو “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” (Poscolonialism)، بمقولاتها النظرية ومستنداتها التصوّرية، وفي الوقت الراهن، وبأكثر من معنى، الأنسب لبلدان العالم العربي[1] والعالم الثالث (الجديد) بصفة عامة… بالنظر لما كشفت عنه من إحكام نظري وتبصّر تحليلي على مستوى التعاطي لأشكال من الخطاب، والتمثيل في إطار التعاطي لألغام التاريخ والاجتماع على نحو ما هي متمثلة في سياسات الهويات، وعمل الذاكرة وتيارات الإيديولوجيا وصنوف القوميات… ومشكلات الهيمنة والمقاومة والاعتراف. هذا بالإضافة إلى براعتها على مستوى تعرية بربرية القرن العشرين من ناحية الثقافة ذاتها التي قادت الغرب إلى نهج سياسات “اليد الثقيلة” (الاستعمار؛ تعيينا) بدلا من “خيار الأفكار” كما كتب كل من ريتشارد كوك (R. Koch) وكريس سميت (Chris Smith) في كتابهما المشترك “انتحار الغرب”[2]. إجمالا، لقد وُسم القرن العشرون بقرن العنف والإبادات والبربريات والأصوليات… وغير ذلك من الجرائم ضد الإنسانية التي أودت بحياة ما يزيد عن 100 مليون شخص. ولقد برع الناقد الفرنسي (من أصل بلغاري) تزفتان تودوروف (Tzvetan Todorov) في تلخيص هذا المنحى التوتاليتاري والهمجي العالق بالقرن العشرين، أو “القرن المظلم” كما نعته[3]، في كتابه التحليلي والصادم “الذاكرة والأمل“.
وكان لفرانز فانون (Frantz Fanon) (1925 ــ 1961)، الطبيب النفساني والمثقف الجذري والمفكر الماريتنكي المناهض ــ بشراسة ــ للاستعمار في القارة الإفريقية والعالم الثالث بعامة، تأثيره الأعرض والمبكّـر على نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي التي أخذت في التشكّل والتبلور ابتداءً من أواخر سبعينيات القرن المنقضي إلى أن نالت مكانتها المعرفية الواسعة مقارنة مع نظريات أخرى وبخاصة من ناحية ما ميّزها من إسهام وازن لأبناء العالم الثالث في مجال التنظير الأكاديمي جنبا إلى جنبٍ مع التدريس في كبريات الجامعات الأمريكية[4].
واللافت للنظر أن فرانز فانون ارتقى إلى هذه المكانة، وفي حقل النظرية سالفة الذكر وذات التأثير غير المسبوق خارج الأوساط الأكاديمية للغرب الأورو ــ أمريكي، بأعمال محدّدة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهي كالتالي: “بشرة بيضاء، أقنعة سوداء” (1952) و”العام الخامس للثورة الجزائرية” (1959)، و”المعذبون في الأرض” (1961) الذي ظهر قبل شهور من مفارقته للحياة تحت تأثير داء اللوكيميا الخبيث، ثم كتابه “من أجل الثورة الإفريقية” (1964) الذي ظهر بعد وفاته، وأخيرا كتابه “كتابات حول الاستلاب والحرية” (2015) الذي تلا أعماله الكاملة التي نشرتها دار (La Découverte) (الفرنسية) (2011) لمناسبة مرور نصف قرن على وفاة صاحبها فرانز فانون.
والظاهر أن أهمية فرانز فانون تمضي إلى تعضيد السياق القرائي/ التأويلي، المعرفي/ الثقافي، لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي وفي الوقت نفسه، تشحذ النظرية بلغة مفاهيمية سلسة ومنسابة في التحليل والكتابة، ولا تخلو من تفجّر نظري وعنف أخلاقي… وقبل ذلك لا مجال فيها للزوائد البلاغية والسوائل الإيديولوجية. هذا بالإضافة إلى أن فرانز فانون كان على وعي تام بمنظّري الاستعمار ودارسيه؛ ولذلك انتقدهم بصرامة، منذ أوّل كتاب له، مثلما انتقد الاستعمار بشكل سافر بعد أن كشف عن بنياته وقشّر أقنعته وبخاصة في كتابه “معذبو الأرض” الذي دعا فيه إلى اعتماد “العنف الشرعي” في مواجهة الاستعمار المباشر والاستيطاني والدموي الذي خبره في الجزائر التي ذاب في ثورتها بعد أن أمضى ثلاث سنوات في مستشفى البليدة ــ جونفيل (Blida-Joinville) الأشهر للأمراض النفسية والعصبية، وليقدم استقالته من مزاولة المهنة ورئاسة المستشفى العام 1956. وهذا في الوقت الذي اتسم فيه كتابه الأوّل “بشرة بيضاء وأقنعة سوداء”، والمرتبط بـ”المرحلة الفرنسية” لفرانز فانون، بتحليل مغاير قوامه الإحالات النظرية المتعددة في سياق تحليل تداخل العنصرية والعرقية في مجموع أو “كلية” (Totalité) فرنسا، وهو التداخل الذي سيتواصل في الاستعمار الفرنسي من حيث هو “ممارسة مكانية“.
وعلى هذا المستوى النظري/ المعرفي بالذات، تكمن أهمية قراءة الأكاديمي الأمريكي والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (E. Said) (1935 ــ 2003) للمنجز الفانوني وموضعة المنجز ضمن نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي؛ وذلك كلّه حتى لا يتمّ اختزال صاحب “معذبو الأرض” في مجرد مناهض شرس للاستعمار وحليفه الكولون الملوَّن، وفي مجرد متشكّك في البورجوازيات الوطنية المتقاعسة عن الثورة والمتربّصة باستقلال بلدانها أو سرقة الثورة لحظة إعلان النصر. ومن جهته، صار فرانز فانون مرجعا من المراجع الأساسية للنظرية سالفة الذكر، بعد أن برع في التحرّر من الانغلاق في مربع الدراسات التقليدية للاستعمار التي لم يعد للكثير من عناوينها من ذكر في نطاق ما يعرف بـ”الكتاب الأسود للاستعمار”، مثلما صار علامة على فرع معرفي متفرّد ومستقل تحت عنوان: “الفانونية” (Fanonisme) أو “الدراسات الفانونية” (Etudes Fanoniennes)، مثلما أسهم في الانتقال من فك الاستعمار إلى النقد ما بعد الكولونيالي. وفي هذا الانتقال، يخوض الباحث ماتيو رونو (Matthieu Renault) في كتابه “فرانز فانون: من مناهضة الاستعمار إلى النقد ما بعد الكولونيالي” (2011)[5]، إضافة إلى المكانة التي يشغلها فرانز فانون في الدراسات ما بعد الكولونيالية في الولايات المتحدّة الأمريكية وفرنسا.
وكان إدوارد سعيد لامعا على مستوى “استرجاع فانون” وعلى مستوى التصدي لـ”خيانة فانون”، وقبل ذلك كلّه عدَّ سوء قراءة فانون “خيانة”[6]. وهذا بعد أن كانت كتاباته المبكرة، ذات الصلة بجبهة “نقد الاستشراق”(وبصفة خاصة كتابه المرجعي والإشكالي “الاستشراق” (1978)، تخلو من اسم فرانز فانون. وتسجّل إحدى المشتغلات بالنقد ما بعد الكولونيالي في العالم العربي، ومنذ وقت مبكّر، الكاتبة والروائية المصرية رضوى عاشور، وفي مقال متميّز ويصل ما بين فرانز فانون نفسه وإقبال أحمد وإدوارد سعيد[7]، أن إشارات إدوارد سعيد لفرانز فانون أخذت في التعدّد بدءًا من الثمانينيات من القرن المنصرم…وإلى أن نال فرانز فانون مكانته البارزة في كتاب إدوارد سعيد المدهش “الثقافة والإمبريالية” (1993) من منظور تتبّع المقاومة وتحليل أبعادها الثقافية، خاصة وأن “فكرة المقاومة بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد رد فعل على الإمبريالية، فهي نهج بديل في تصوّر التاريخ”[8]. وستتواصل الإشارات إلى فرانز فانون إلى العام الذي فارق فيه إدوارد سعيد الحياة (2003)، وذلك كلّه في المدار الذي جعل هذا الأخير يعارض فلاسفة أوروبيّين كبار، مثل ميشال فوكو وسيغموند فرويد… بفرانز فانون.
ولعل أهم ما يمكن حدسه في كتابات فرانز فانون، وبالحدّة التي طبعتها، ومع الإفادة من تصوّرات إدوارد سعيد، هو في مدى استعداد الشعوب للانتقال من التحرّر الوطني/ القومي نحو التحرّر الاجتماعي/ الداخلي في الدولة المستقلّة أو دولة ما بعد الاستعمار، وبكل ما يستلزمه هذا النوع من التحرّر من ثقافة ــ وطنية ــ مضادة ومتينة تنحو نحو بناء “مجتمع جديد” يولي أهمية للشعوب وللشرعية الشعبية؛ وفي مقابل ذلك يقطع مع ثقافة الفلكلرة (Folklorisation) (من الفلكلور) والتسلية التي ارتكز عليها المستعمِر في تنميط المستعمَر أو الأهالي (Indigènes) بعامة. فـ”فك الاستعمار” (Décolonisation) مطلوب أيضا على صعيد الثقافة ما دام أن الاستعمار ليس مجرد نهب اقتصادي واستيلاء مكاني، بكلام آخر: الاستعمار هو خطاب (Discours) أيضا وليس مجرد هضم جغرافي أو ممارسة مكانية فقط. ولذلك، لا يمكن تلخيص نهاية الاستعمار في مجرد “خروج من الأرض” بالنظر لتداعيات الثقافة التي غرسها الاستعمار في بنيان المستعمرات، ولذلك أيضا فـ”الاستقلال لا يختصر بعلم يُرَفْرَفُ” كما سيقول صاحب كتاب “تقليد وثورة” (1991) رضا مالك[9] رئيس الحكومة الجزائرية على مدار الفترة الممتدة من 1992 إلى 1994؛ أي في أحلك الفترات الدموية التي تلت انتفاضة خريف 1988.
ثم إنّ ما خمّن فيه فرانز فانون، من ناحية تداعيات “مزالق الثقافة الوطنية” ومن حيث هي تداعيات قاتلة، هو ما تحقّق بالفعل على أرض الواقع وبدءًا من الجزائر نفسها إلى أغلب بلدان العالم العربي، حيث الانفجار الاجتماعي والتصحّر الثقافي وعياء القيادات وخواء الزعامات. ولذلك، يتصوّر إدوارد سعيد لو أن ــ المفكّر ــ فرانز فانون عايش السنوات الأولى للدولة الجزائرية، لكان موقفه سيبدو شديد التعقيد، ولا يظن أنه كان سيبقى هناك. ولربما، كما يواصل إدوارد سعيد، كان سيغادر إلى مكان آخر… فما حدث للكثير من مناضلي جبهة التحرير الوطني الجزائرية أنهم أصبحوا موظفين في جهاز الدولة الذي لم تطلع منه، بعامة، طبقة من المثقفين تحافظ على مسافة نقدية مع الدولة[10].
ويقدّم الثائر المغربي المهدي بن بركة (1920 ــ 1965) نموذج المثقف الوطني الذي اصطدم، ومنذ السنوات الأولى من الاستقلال، بالدولة (الوطنية) التي ناضل من أجل استقلالها؛ هذا المثقف دخل في سنوات الاستعمار السجن من أجلها، وبالقدر نفسه اصطدم بـ”قادتها” من الذين “شكلتهم الكولونيالية” بعبارة إدوارد سعيد[11]. لقد صمّم صاحب “الاختيار الثوري” (تبعا لعنوان كتابه الشهير)، وفي حال بلده المغرب، ومنذ سنوات الاستقلال الأولى، على التحدّي لنوع من “تصدّع الوحدة” التي لم يحدسها فانون كما ورد في نص التقديم الذي خصَّ به جيرار شاهاند (Gérard Chahand) “معذبو الأرض”[12]. وزاد على ذلك أن انخرط المهدي بن بركة، وباعتباره واحدا من المثقفين المغامرين ــ الثوريين، في الخط الأمامي من “المواجهة العالمثالثية الراديكالية” للإمبريالية العالمية؛ ما أفضى به إلى “قبر تبخّر في الهواء” (بتعبير أحد شعراء أمريكا اللاتينية) ضمن مصير مأساوي ومشؤوم وفي واحدة من أبشع جرائم القرن العشرين السياسية.
وكما قلنا في مختتم دراسة كنـَّا قد كرَّسناها لفكر المهدي بن بركة، بعنوان “من المثقف الوطني إلى المثقف العالمثالثي”[13]، سيكون من الصعب القول بأن المهدي بن بركة كان منظرا لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي، أو حتى أحد الممهدين لها، غير أنه سيكون من الصعب تناسيه في هذا الموضوع بالذات وبالتالي عدم حشره ضمن قائمة “الأصوات الكثيرة التي يضيق عن ذكرها المقام” تبعا للعبارة المسكوكة. وإذا كان البعض يتصوّر أن إدوارد سعيد حزمة أو دوامة من الأصوات: صوت مانديلا، وصوت غاندي، وصوت غيفارا، وصوت مارتن لوثر كينج، وصوت فانون… فألا يمكن لنا، ولو بشكل أوّلي، موضعة المهدي بن بركة ــ الذي اغتيل قبل الأوان ــ ضمن هذه الحزمة أو الدوامة؟
ولعل فيما سلف ما يفرض علينا موضوع “ترسيم الاستعمار الداخلي” (أو المحلي بتسمية آخرين) وعلى نحو ما تأكد من خلال الحفاظ على “الهياكل الاستعمارية القديمة للاستغلال والاضطهاد” في البلدان التي حصلت على استقلالها أو بالأحرى “الاستقلال المضحك” كما ينعته إدوارد سعيد أو “المصادر” بتعبير الزعيم الجزائري فرحات عباس. وكان هذا الترسيم نتيجة ثقافة محدّدة أسهمت فيها النخب والقيادات التي ارتهنت ــ بالكلية ــ لـ”أمراض السلطة” تبعا للتوصيف الذي اشتهر به أحد أهم المناهضين للإمبريالية في آسيا وإفريقيا. وكان هذا الأخير قد سافر من الولايات المتحدة الأمريكية، في الخمسينيات، من أجل المشاركة في الثورة الجزائرية؛ ما جعله يلتقي بفرانز فانون أيضا. والمقصود، هنا، إقبال أحمد الذي أهداه إدوارد سعيد كتابه “الثقافة والإمبريالية” (1993) “كجزء أساس من حديثه عن الثقافة والإمبريالية، واعتراف ضمني أيضا بالنموذج النادر الذي يقدّمه أحمد من موقع المقاومة” كما تستخلص رضوى عاشور في مقالها سالف الذكر.
ليس موضوعنا هو “النص الفانوني” في العالم العربي، وعلى ما لازم التعامل مع هذا النص من توظيف واستعمال وانزياح وترميق، غير أن ذلك لا يحول دون الإشارة إلى “محدودية” تداول فانون في هذا العالم مقارنة مع الغرب الذي وجد فيه متخصّصين من المكرّسين في منجزه وشخصه معا. هذا وتجدر الملاحظة، هنا، إلى فرنسا التي قاتل فرانز فانون في صفوف جيشها (على عهد الجنرال شارل ديغول) قبل أن يأخذ في الكتابة بلغتها أو بالأحرى الثورة عليها بلغتها. فرنسا التي لم تأخذ في الانفتاح على “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” ــ ككل ــ إلا لاحقا وبشكل لا يرقى إلى المكانة التي حظيت بها النظرية في الأوساط الأكاديمية بالولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا؛ ومرد ذلك إلى ميراثها الكولونيالي الثقيل وبما نجم عنه من حروب ذاكراتية (Mémorialle) ومن نوع الحروب/ الأفكار التي تتأطر ضمن “معارك التاريخ التي لا تنتهي” تبعا لفكرة المؤرّخ الفرنسي جاك لوجوف (Jacques Le Goff) في كتابه “التاريخ والذاكرة”. و”التاريخ يظل دائما معاصرا” تبعا لقولة كروس (Grose) التي يحيل عليها جاك لوجوف نفسه (Jacques Le Goff) في الكتاب نفسه[14].
وليس غريبا أن تكون أكثر الكتب عن فرانز فانون ــ سيرة وتحليلا ــ بالإنجليزية وليس بالفرنسية، بل وأن يكون أهم من كتبوا عنه باللغة الإنجليزية كما في حال الأكاديمي والناشط البريطاني نايجل سي. غبسون (Nigel C. Gibson) الذي يعدّ من بين أهم المنظّرين لفانون والدارسين لانتشاره وعلى وجه الخصوص، في جنوب إفريقيا. وكان إدوارد سعيد قد وصف عمل ــ صديقه ــ غيبسون بأنه أحد أهم المراجعات الدقيقة والصارمة لعمل صاحب كتاب “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء”. وقد ألف غيبسون كتبا عديدة حول فرانز فانون فلسفة وحوارا وفضاءً وتاريخا… ومن منظور قرائي يبحث في “محايثة” (Immanence) فانون للحاضر وقبل ذلك يعي بأهم المقاربات التي عنيت بفرانز فانون في إفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، بل كرّس كتابا مستقلا لهذه المقاربات بعنوان (Living Fanon: Global Perspectives) (2011). وتحظى المكتبة العربية بكتاب مترجم للباحث نفسه بعنوان “فانون المخيّلة بعد ــ الكولونيالية” (2003)وقام بترجمته المترجم خالد عايد أبو هديب (2013)[15].
وفي السياق نفسه، لا يمكن التغافل عن البيوغرافيا (الدسمة) التي أعدّها المترجم الإنجليزي ومؤرّخ اليسار الفرنسي (كما تقدّمه موسوعة “ويكيبديا”) دافيد ماصي (David Macey) بعنوان (Frantz Fanon: A Biography) (2001). وقد تمّ تقريض العمل على نطاق واسع في الولايات المتحدة الأمريكية، وارتقى إلى “حجر الزاوية” للدراسات الفانونية؛ مثلما تمّت ترجمته للغة الفرنسية العام 2011[16] وضمن منشورات (La Découverte) التي نشرت في العام نفسه أعمال فرانز فانون الكاملة. وأهمية العمل نابعة من تعامله مع فانون من خارج اختزاله في مجرد أيقونة رومانسية أو في هكذا “منظّر للعنف”… وهذا في مقابل التأكيد على فرادة “فانون ــ الإنسان” وارتقائه لمستوى النموذج الدال على حدّة نادرة بلورها صاحبها (فانون) بأدوات مفهومية قيّمة تسعف على فهم الحاضر وعلى مخاطبة الأجيال القادمة. وكما أن عمل فانون يظل إشكاليا، وبخاصة لما يستدرج إلى المطبخ الأكاديمي. وإذا كانت أهم الجامعات الأنجلوساكسونية تتعامل مع فرانز فانون كأهم مفكر في نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي… فإن اللافت، في الكتاب، هجوم صاحبه، ومن خلال صفحات، على الدراسات ما بعد الكولونيالية التي بقدر ما طوّرت عمل فانون بقدر ما أضعفته. فـ”فانون ما بعد الكولونيالي”، من منظوره، صورة معكوسة لفانون المفكّر الثوري للستينيات من القرن المنصرم[17].
غير أن تركيزنا، هنا، على كتابات إنجليزية لا ينفي كتابات فرنسية عن فانون وبخاصة كتاب (Frantz Fanon: portrait) لصاحبته الطبيبة النفسانية أليس شركي (Alice Cherki). وقد ولدت هذه الأخيرة بالجزائر وفي أسرة يهودية ساهمت في حرب التحرير الجزائرية، وعرفت فانون عن قرب واشتغلت معه في تونس أيضاً. والعناوين الفرنسية بدورها كثيرة، لكن الرهان يظل على التعاطي مع فانون من خارج البيوغرافيا التي سقطت فيها قراءات لأسماء وازنة وضمنها قراءة الناقد الهندي هامي بهابها (Homi K. Bhabha) لفانون في كتابه “موقع الثقافة” (1994) وعلى نحو ما يسجّل ذلك إدوارد سعيد[18]. وكان هذا الأخير قد خصّ الترجمة الإنجليزية لـ”معذبو الأرض” بمقدمة أطول من مقدمة سارتر.
إجمالا ليس غريبا أن نقرأ، في السياق الغربي، عن أنماط قرائية جعلت من أعمال فانون موضوعا لها مثل القراءة ما بعد الكولونيالية والقراءة الماركسية والعالمثالثية والنسوية والسيميائية والتفكيكية والنقد الثقافي… وعلى نحو يكشف عن أسماء دالة، بل كانت وراء التدشين لتيارات ونظريات وتوجّهات في مجال المعرفة والثقافة، وبدءا من سارتر الذي صدر عن الوجودية ومعارضة جانب في الماركسية[19] حتى لا يتمّ التعامل معه كمجرد “مقدّم” (Préfacier) لكتاب فانون “معذبو الأرض” أو “صور المستعمَر” (1957) للكاتب التونسي اليهودي ألبير ميمي (Alber Mimi) ثم إدوارد سعيد وهومي بهابها (المنظّرين البارزين لنظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي) وجوديت باتلر (Judith Butler) (إحدى أهم دارسات “الجندر”) وتشارلز تايلور (Charles Taylor) (في مجال “التعددية الثقافية”)… إلخ. وهذا كلّه في مقابل الحضور الشاحب لفانون في الفكر العربي بثابته ومتحوّله.
ومن منظور إدوارد سعيد “فصلاحية فانون لعصرنا مدهشة”؛ غير أن السؤال الذي يفرض ذاته، وحتى لا يتم تلخيص فكر فرانز فانون في العنف أو “في شرعية العنف”[20]، هو في مدى اشتقاق نظرية حول التحرّر على طريق هذه الصلاحية. وهو ما يظل وقفا على قراءة لفانون كمفكر متجانس، وهي القراءة لم تجر بعد حسب صاحب “الاستشراق”[21]. وفي الوقت نفسه هي دعوة لكي نفكّر “مع” و”ضد” فانون كما كتب إيريك أيشمان (Eric Aeschimann) لمناسبة مرور نصف قرن على وفاة فانون[22].
ومثل إدوارد سعيد، ففرانز فانون نتاج أدوات الغرب المعرفية في مجال تخصصّه المتمثّل في التحليل النفسي القائم على التشخيص الاجتماعي والسياسي وفي مجال الفكر الفلسفي بصفة عامة الذي أفاد منه في مناهضة الاستعمار وفي الدفاع عن المسحوقين. لكنه أدرك كيف ينقلب على الغرب وبأدوات هذا الأخير… بالمفاهيم الثورية الأوروبية نفسها كما ختم دافيد كوت (David Caute) كتابه “فانون”[23]. وذلك كلّه حتى لا نجعل من فانون مفكرا “يقطع” مع أوروبا بالكلية.
ويمكن أن نخلص إلى صنوف من فانون: فانون المفكر أو الكاتب أو الثائر الإنسي أو المثقف الراديكالي أو المنظّر للاستعمار أو المناهض للاستعمار… إلخ. ولذلك فقراءة إدوارد سعيد له تتأطر ضمن مرجعية “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي”، بأفقها المعرفي وثرائها التاريخي، وهي نظرية بدورها لا تخلو من اختلاف على مستوى التعاطي لفرانز فانون، وليس بين الصنوف سالفة الذكر، وإنما داخل النظرية ذاتها وإلا لما كان هومي بهابها قد مال لـ”بشرة سوداء وأقنعة بيضاء” مقارنة مع إدوارد سعيد الذي اعتمد “معذبو الأرض” في تفكيك خطاطات “الثقافة والإمبريالية“.
قيمة النص الفانوني من تجدّد القيمة نفسها؛ وذلك كلّه يظل وقفا على نوع من الاستجابة النقدية الرصينة بدلا من الاستعادة الآنية والزائلة في الوقت نفسه. وهذا هو درس إدوارد سعيد، وسواء في حال النص الفانوني أو غيره من النصوص الكبرى والتأسيسية، حيث المعرفة من منظور الثقافة في تشابكها مع علاقات القوة، والقوة العارية، ونقيضها المتمثل في جدار النزعة الإنسانية.
[1] من أجل الاطلاع على حجم تداول “نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” في النقد الأدبي بالعالم العربي/ انظر:
ــ رامي أبو شهاب: الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر النظرية والتطبيق، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2013
[2] ريتشارد كوك وكريس سميت: انتحار الغرب، ترجمة: محمد محمود التوبة، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (مشروع كلمة)، 2009، ص 282
[3] تزيفيتان تودوروف: الأمل والذاكرة ــ خلاصة القرن العشرين، ترجمة: نرمين العمري، مكتبة العبيكات، الرياض، 2006، ص 12
[4] بخصوص الأسّس النظرية والمستندات التصوّرية لـ”نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي” انظر: القسم النظري المطوّل من: يحيى بن الوليد: الوعي المحلق ــ إدوارد سعيد وحال العرب، دار رؤيا، القاهرة، 2010، ص ص 25 ــ 122
[5] Matthieu Renault: Frantz Fanon: De l’anticolonialisme à la critique postcoloniale, Editions Amsterdam, 2011
[6] إدوارد سعيد: تأملات في المنفى، ترجمة: ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 2004، ص 216
[7] رضوى عاشور: الصوت/ فرانز فانون، إقبال أحمد، إدوارد سعيد/ الفلسطينيون والأدب المقارن (جماعي)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2000 (متداول في شبكة الاتصال الدولي).
[8] الثقافة والإمبريالية، ترجمة: كمال أبو ديب، دار الآداب، بيروت، 1997، ص 274
[9] رضا مالك: تقليد وثورة ــ الرهان الحقيقي، ترجمة جوزف أبو رزق، دار الفارابي، بيروت، لبنان، 2003، ص 119
[10] إدوارد سعيد: عن العالم والنص والناقد (حوار)/ مجلة الكرمل، العدد: 78، شتاء 2004، ص 120
[11] إدوارد سعيد: تأملات في المنفى، ص 229
[12] Franz Fanon: Les Damnés De La Terre, Gallimard, 1991, P35
[13] انظر نص البحث في: يحيى بن الوليد: صور المثقف ــ قراءة في الفكر السياسي عند المهدي بن بركة، منشورات دفاتر، وجهة نظر، العدد: 27، الرباط، 2013
[14] Jacques Le Goff: Histoire et mémoire, Gallimard, Paris, 1988, P105
[15] نايجل سي. غبسون: فانون: المخيلة بعد ــ الكولونيالية، ترجمة: خالد عايد أبو هديب، الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة ــ بيروت، 2013
[16] David Macey: Frantz Fanon: A Biography, London, Picador Editions, 2001.
– David Macey Frantz Fanon, une vie, Traduit de l’anglais (Etats-Unis) par Christophe Jaquet et Marc Saint-Upéry, La Découverte, Paris, 2011
[17] انظر:
– Eddy Banaré: David Macey, Frantz Fanon, une vie.
https://journals.openedition.org/lectures/6648
[18] إدوارد سعيد: الهويات تعددية والمنفى حقل كريم (حوار)/ الكرمل، العدد 78، شتاء 2004، ص 118
[19] انظر: حنّة أرندت: في العنف، ترجمة: إبراهيم العريس، دار الساقي، 1992
[20] انظر: يحيى بن الوليد: في شرعية العنف؟ عن فانون وحال العرب المأزوم/ ملف العنف: قضايا وإشكالات، مؤسسة مؤمنون بلا حدود: 29 مارس 2018، على الموقع التالي:
http://www.mominoun.com/pdf1/2018-03/3onnf.pdf
[21] إدوارد سعيد: عن العالم والنص والناقد (حوار)/ الكرمل (مرجع سابق)، ص 120
[22] Eric Aeschimann: Il faut donc réfléchir aujourd’hui à la fois «avec» et «contre» Fanon/ Le Nouvel Observateur: 1er décembre 2011
http://frantz-fanon.blogspot.com/2011
[23] دافيد كوت، فرانز فانون، ترجمة عدنان كياني، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، طبعة ثانية 1952، ص 168