العلاقات العربية الأوروبية بعد الثورات العربية/ برهان غليون
(1)
في هذه اللحظة التي تبدو أوروبا أكثر ضياعا، بعد أن تخلّت عنها الولايات المتحدة، والعالم العربي في حالة من الانهيار الشامل، جاء افتتاح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرعه الفرنسي في الوقت المناسب لإعادة الحوار بين “قارّتين”، أو عالمين، كان كل شيء، الجغرافيا، والتكامل الاقتصادي، والتاريخ المشترك، والمصاهرة الثقافية والفكرية، يحثّهما على التقارب والتعاون، لتكوين منطقة مزدهرة حول المتوسط، أو إعادة مجد هذه المنطقة التقليدي، لكنهما عملا العكس، وتحولا أكثر فأكثر إلى عدوّين معلنين وخصمين، ليس لأي منهما ثقة بالآخر.
هكذا سعى باحثون من العالمين، في ندوة عقدت في قاعة محاضرات متحف الفنون والحرف في باريس، (28/11/2018) إلى مراجعة نظرية وسياسية لهذا المسار الطويل من الفشل في بناء علاقاتٍ مثمرة وإيجابية بين الطرفين، والأسباب التي دفعت إليه. ركز باحثون على السياسات الاستعمارية التي حكمت على بلدان المشرق، مصر خصوصا، بأن تبقي على علاقات التبعية، وحرمتها من وسائل التنمية المستقلة، في مقابل ما ركّز عليه الباحثون الأوروبيون، وهم من أصحاب النظرة النقدية، من المخاوف المتزايدة التي تسكن الرأي العام الاوروبي، وتدفع حكوماته، بشكل أكبر، إلى التثبت على أولوية الأجندة الأمنية، وضمان أقصى ما يمكن من الأمان في علاقاتها مع الدول العربية.
وعلى الرغم من الخطابات الدبلوماسية المتبادلة، لا يوجد شك في أن العلاقات بين ضفتي المتوسط تسير من سيء إلى أسوأ. يشهد على ذلك غياب أي سياسةٍ موحدةٍ ونشطة للحكومات الاوروبية تجاه جنوب المتوسط، وغياب التفاعل مع ما يجري فيها من تطوّرات، والابتعاد النفسي بشكل متزايد عن مشكلاتها والاهتمام بمستقبلها. كما يشهد عليه، بشكل أكبر، التطور المتزايد لمشاعر العداء للمهاجرين والمواطنين من أصولٍ عربية، وتنامي قوة اليمين العنصري في معظم الأقطار الأوروبية، وتصاعد لهجة خطابه العدواني. ولا شك عندي في أننا نسير إلى قطيعةٍ متزايدة بين الضفتين، وهو ما يحمل بذور مخاطر كبيرة للجانبين.
عرفت العلاقات العربية الأوروبية لحظات حماسية كثيرة في الماضي، خصوصا بعد حرب
تشرين (أكتوبر) 1973، حيث ظهر العرب كتلة قادرة على التعاون والعمل المشترك. وحاول الأوروبيون أن يطوّروا سياسات إيجابية تجاه جيرانهم، مثل اتفاقيات الشراكة الأوروبية والمتوسطية، والحوار العربي الأوروبي، وسياسات الجوار. وعقدت قمم عربية أوروبية، وندوات عديدة، للارتقاء بالتعاون بين الطرفين، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، بما في ذلك الإعلان عن الاتحاد من أجل المتوسط. لكن كل الآمال تحطمت على صخرة التبعية الأوروبية للسياسات الأطلسية، و “تابو” أو محرّم المسألة اليهودية الجديدة، المتمثلة بالالتزام بعدم المساس بأطماع إسرائيل ومخططاتها الاستيطانية، وتنامي المخاوف من صعود الحركات الإسلامية، السلمية والمتطرّفة معا. ولا تكاد العواصم الأوروبية تُظهر أي اهتمام بمصير الشعوب العربية ومستقبلها، اللهم إلا من زاوية ما يمكن أن يلحقها من مخاطر أمنية وديمغرافية. وسواء شكلت أوروبا فاعلا موحدا أم تصرّفت دولا مستقلة سيدة، يكاد تأثيرها على تطور الأحداث يتضاءل إلى حد الغياب، حتى أن مليشيات طائفية عراقية أو إيرانية تنافسها بمسافات بعيدة في صنع الأحداث في أكثر من بلد من بلدان المشرق، وعلى مستوى المشرق بأكمله.
لم يتراجع الدور الأوروبي، على جميع المستويات، بسبب قصرها تعاونها وعلاقاتها على النخب الحاكمة فحسب، كما ذكرت الباحثة السورية، مانون نور طنوس، بحق، في بحثها القيم عن دور أوروبا وسياستها تجاه سورية، وإنما أكثر من ذلك لأنها تبنّت دعم النظم الديكتاتورية والعسكرية، وجعلت منها الأداة الطيعة لتنفيذ أجندتها الأمنية في الجنوب، والعمل خندق حراسة لها، مع غضّها النظر عن فسادها وسياساتها القمعية والدموية.
خطأ أوروبا لم يكن سياسيا ناجما عن سوء فهمها لتطلعات الشعوب، وضيق أفقها، وحساباتها القصيرة المدى والنظر، وإنما كان استراتيجيا. لقد وضعت رهانها بأكمله على التحالف الأطلسي، وأدارت ظهرها خلال قرن كامل للمتوسط القريب منها، وشريكها التاريخي. وهي تجد نفسها الآن، بعد أن ساهمت في الإخفاق التاريخي للعالم العربي، أمام كتلة من أربعمئة مليون إنسان، فشلت مجتمعاتها جميعا في التحوّل نحو مجتمعات صناعية، منتجة للخيرات وفرص العمل لشبابها، وفي بناء الدولة الحديثة، وحكم القانون والمواطنة، وفي التجدّد الثقافي والروحي، منذورة لعهد طويل من الانتفاضات والنزاعات والهجرات التي لن يقف في وجهها أي إجراء قانوني أو موقف عنصري.
ليست أوروبا المسؤولة الوحيدة عن هذه الكارثة، ولكن كان لسياساتها، منذ العهد الاستعماري
الأول، وحتى تدخلاتها المتعددة لإجهاض أي مشروع نهضة أو تقدّم صناعي أو تقني عربي، وآخرها في العراق، مرورا بوضع إسرائيل وسياساتها الاستيطانية والعدوانية فوق القانون، على حساب أمن المنطقة وسلامها واستقرارها، كان لهذا كله دور رئيسي في وصول المنطقة إلى الوضع الذي تعرفه اليوم. وجاء موقفها اللاأخلاقي، والغرب عموما، من ثورات الربيع العربي، ليكرّس علاقةً تميزت دائما بالخوف من شعوب المنطقة، من تحرّرها وتقدّمها ووحدتها. لقد لعبت أوروبا دور شد المنطقة إلى الوراء وإلى الأسفل، وإغلاق سبل التقدّم على المجتمعات العربية من وراء خطابات جوفاء ومساعدات هزيلة لتغطي بها على جوهر سياستها الرامية إلى عزل العالم العربي، وتهميشه وإضعافه، لتحييده، والتمكّن من التحكم بمصيره.
(2)
لكن العالم العربي ليس ضحية السياسة الأوروبية الاستعمارية وشبه الاستعمارية فحسب. إنهشريك أساسي أيضا في تفجير أزمته الوجودية، وهو مسؤول عن سوء خياراته وفشله في انتزاع حقه في تقرير مصيره بنفسه أو بمشاركة شعوبه. فلم ينجح في أي فترة في تجاوز نزاعاته وصراعاته الداخلية، والتفريط في الفرص الكثيرة التي قدّمها له التاريخ والجغرافيا، سواء بما يتمع به من وحدة فكرية وثقافية، أو ما يملكه من طاقات، وما يتمتع به من مواقع استراتيجية. ولا تكاد نخبه تبرع بأمر أكثر من براعتها في هدر موارده، وتحطيم مستقبل أجياله.
الأهم من ذلك أنه لم ينجح في التغلب على بقايا الحقبة الاستعمارية، ويتجاوز مشاعر الغبن والخديعة التي تكبله، وتبقيه يعيش في الماضي، بدل أن يتقدّم إلى الأمام، ويواجه أوروبا بروح الندّية، ويجبرها على احترام حقوقه في التقدّم والتنمية والاتحاد. ولن تخدم سياسة الخوف على الهوية والرد على العداء الغربي بعداء مماثل سوى في الوقوع في الفخ ذاته الذي نصبته أوروبا له، كيما يهدر موارده ووقته في الصراعات والحروب الداخلية والخارجية، ويخسر رهان التقدّم والاندراج في ثقافة العصر وحضارته.
كلما تفاقمت القطيعة مع أوروبا، والغرب عموما، تعمّق الحلف البنيوي بين حكوماتها والنظم الاستبدادية في المنطقة العربية، وانعكس تفكّكا أكبر على العالم العربي، داخل دوله وفيما بينها، حتى أصبح من المشروع التساؤل عمّا إذا كان هناك معنى للحديث عن عالم عربي منظم، يصلح للتعامل معه كوحدة، أو يملك مشروعا مشتركا، كما بدا في عقودٍ سابقة، أم أن الأمر خرج من أيدي الشعوب، وتحولت الدول إلى إمارات حربٍ ومزارع شبه عبودية. وحتى القضية الفلسطينية، التي كانت تشكل موضع إجماع لشعوبه ودوله، تبدو اليوم مصدرا للاختلاف والانقسام والتباعد. وفي الوقت الذي حطمت انتفاضات الربيع العربي عقد المهادنة والإذعان الذي قام عليه الاستقرار في الأقطار العربية، وفتحت طريق الحرية، تكاد الثورات المضادة المدعومة من أوروبا والغرب تفجّر هياكل الدولة فيها، وتعطّل مؤسساتها، إن لم يفجر المجتمعات ويمزق نسيجها الاجتماعي، ويدخلها في نزاعاتٍ أهلية، يصعب التنبؤ بنهايتها. وفيما وراء ذلك تكاد قضايا الصراعات الجيوستراتيجية المرتبطة باندلاع الصراع على السيطرة على الشرق الأوسط تحول المنطقة إلى ساحة حربٍ لا تترك أمل لأي طرف، حكومي أو شعبي، بالبقاء بعيدا عنها، أو تجنب الانخراط فيها.
لن يقود تجاهل أوروبا العالم العربي الذي رسمت هي، أكثر من أي قوة عالمية أو داخلية
أخرى، معالمه وشروط تطوّره ومصيره، إلا إلى تفاقم القطيعة بين العالمين، وفي موازاتهما الكراهية من طرف والعنصرية من الطرف الآخر. ولن يحل ذلك مشكلة الأمن في الدول الأوروبية، ولا مشكلات التنمية الاقتصادية والاستقرار السياسي في البلاد العربية، لكنه سيصب النار عليها ويفجرها كما لم يحصل من قبل.
ليس لأوروبا خيار آخر، إذا رغبت في ضمان مزيد من الأمن والأمان والاستقرار على أراضيها من العناية بتطوير محيطها وتحويله من عبءٍ وعالةٍ ومنبع مخاطر وتهديدات من كل الأنواع إلى شريك اقتصادي واستراتيجي وثقافي بكل معنى الكلمة. وفي المقابل، ليس للعالم العربي مخرج من الأزمة الشاملة التي تطحنه على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والأمنية سوى التحرّر من موقف المستعمَر (بفتح الميم) المسكون بأشباح الماضي وذاكرته السلبية، والانخراط في شراكةٍ تاريخية، للعودة إلى مسار التقدم والبناء والتمدن، بالتفاهم مع القارة ذاتها التي تسببت في خرابه.
الخيار الآخر أن تترك أوروبا المنطقة، التي كانت دائما شريكها التاريخي وجارها القريب، للروس والأميركيين والصينيين، الذين لن يتردّدوا في استخدامها قاعدة لا تقدّر بثمن لتطويق أوروبا وتهديدها.
يستحق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات التحية على مبادرته التي جاءت في وقتها لفتح الحوار بين ضفتي المتوسط، وتجنيب مجتمعاتهما مخاطر وإغراءات إعادة تأهيل الاستراتيجية القديمة والمدمرة القائمة على دعم النظم الدموية والقمعية ضد شعوبها، والتي سيكون الخاسر الأكبر منها أوروبا نفسها. … فلا تُبنى سياسة على الأحقاد، ولا يقوم تعاون على الخوف والازدراء.
العربي الجديد