الشعب… مثقفا عاما!/ يحيى بن الوليد
عندما نتحدّث عن المثقف أو المثقفين العرب (بصيغة الجمع)، وعلى اختلاف مرجعياتهم ومواقفهم وأخلاقهم، فهذا لا يعني أيّ نوع من الاستقرار على تصوّر ثبوتي جوهراني بخصوص المثقف في العالم العربي. فـ”تعريف المثقف” غير ثابت وبخاصة في ظل الرجّات التاريخية الكبرى كما في حال الحراك الثوري الشعبي ــ في العالم العربي ــ بتداعياته المتواصلة حتى الآن وبخاصة من ناحية “العامل الجديد” ــ والمغاير ــ الذي كان في أساس تفجّـره المباغت والمربك للمثقفين؛ ابتداءً.
ومن “وجهة نظر تاريخية” فحال العرب بعد الحراك ليس هو حالهم قبل الحراك. واللافت هم المثقفون الذين ووجهوا، منذ بدايات تفجّر الحراك أواخر عام 2010، بالسؤال العريض والتالي: “أين هم المثقفون العرب؟”. وكان مفهوما أن يفرض الحراك إعادة النظر، بشكل جذري، في التعريف السائد للمثقف أو المستقرّ عليه بشكل من الأشكال. وكما كان مفهوما أن يحصل ذلك، وتعيينا، من ناحية إعادة النظر في ترتيب علاقة المثقف بالسلطة وعلى نحو مغاير لما ساد سابقا وسواء في نطاق التنافر والتنابذ والتصادم في إطار ما كان يعرف بـ”الإنتلجينسيا” التي ظلت تلقي بظلالها إلى سنوات ما بعد الغليان الإيديولوجي أو في نطاق التقارب والتنافذ والتماهي … في نطاق ما كان يعرف ــ وحتى وقت قريب ــ بـ”نخب السلطة” التي ظلت ضمن “العناصر التكوينية” للأنظمة العربية المستبدّة.
لا يبدو غريبا أن يتجدّد النقاش، في إثر الحراك الثوري العربي، حول المثقف؛ وذلك كلّه حتى يقاس أداء هذا المثقف على مستوى الإسهام في التغيير المنشود سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وحتى يضمن هذا المثقف لذاته نوعا من الحضور الذاتي الحرّ والمستقل حيث تتأكد سلطة المثقف (المعنوية) عبر الأفكار التي تحرص على الانتظام ضمن لحظات الفكر الكبرى في حرصها على “القبضة الواقعية” من خارج البرمجة الميكانيكية والحتميات المسبقة.
وعلى هذا المستوى وجد المثقف العربي نفسه مطالبا بأن لا يتجاهل “معطى الشباب” ضمن العامل الجديد الذي فجّر الحراك. وقبل ذلك، ولإحداث تغيير ــ في مجرى التاريخ ــ لا بد من شروط كما يقول الفيلسوف ميشال فوكو (M. Faucout)؛ وقد تتكشف هذه الشروط أو تصعد للسطح بشكل مباغت ثم إن “التاريخ يوجد لأن لا شيء فيه متوقّع” كما يقول المؤرّخ المفكر عبد الله العروي. وليس عبثا أن يكون وراء الحراك هؤلاء الشباب من الذين تبلغ نسبتهم ما يزيد عن 70 في المائة في العالم العربي ووسط نسبة للبطالة تزيد عن 44 في المائة في صفوفهم. وكما تفيد بعض التقديرات فإن فئة الشباب التي قامت بالثورات في العالم العربي تتراوح أعمارهم ما بين 17 و35 سنة، ما أكّد وأعطى لمطالبهم الكثير من الصدق والحماس والاندفاع. هذا بالإضافة إلى أن أغلب هؤلاء ليست لهم أية علاقة بـ”الخطاب السائد”، وعلى نحو ما أسهم المثقفون أنفسهم في تشكيله وتكريـسه. وكان هذا الخطاب، في منحاه العام، ومن ناحية علاقته بالسلطة تعيينا، مهادنا وممالئا ومسايرا. ولذلك “كان جوع هؤلاء الشباب للحريّة لا يضاهيه جوع” كما سيقول الشاعر التونسي محمد الغزّي في مقال (دال بدءا من عنوانه) “المثقفون التونسيّون لم يشاركوا في الثورة بل كانوا شهوداً”. تونس التي عدّها الشاعر أدونيس “جناح فراشة ولَّد إعصارا عربيا”. فهؤلاء الشباب، وتبعا للقاموس السياسي الذي سيتم تداوله في الحراك، هم من “الأنونيموس” (Anonymos) وفي الوقت نفسه هم من “الساخطين” (Indignados).
فجميع ثورات العالم العربي، ومن وجهة نظر سوسيولوجية، ثورات جماهيرية شعبية. وأهم ما ميـَّزها، في بداياتها الأولى، سياسيا وثقافيا في الآن نفسه، أنها لم ترفع شعارات طبقية أو دينية أو إثنية أو قبلية أو جهوية. ومن ناحية العامل، وبعد أن ارتقى الحراك إلى مستوى الواقع التاريخي والملموس، لم يتمّ التمييز فيها بين النساء والرجال والشباب والعمال والأطفال. الكلّ أسهم فيها من موقعه ودون تمييز بين المواقع والجبهات والأدوات. ومن ثم مفهوم “الذوات الفاعلة” (Agencies) بوصفها قاعدة أيّ “تغيير سياسي واجتماعي”. إضافة إلى أن شعارات الثورات كانت “عامّة جامعة” (كما تـمَّ توصيفها) وبعيدة عن الإقصاء والانتقام. ولعل أهمّ ما أنتجته الثورات، وقتذاك، “الثورة على مفهوم الثورة ذاته”. وأما اللجوء إلى حمل السلاح، كما في حال ليبيا ثم سورية وفي حالات متفرقة في بلدان أخرى، فهو من تحصيل الحاصل بسبب “الخيار الدموي” الذي انتهجته أنظمة مثل هذه البلدان في التعاطي مع الحراك منذ بداياته الأولى السلمية وبسبب الديكتاتور الذي يبدو له كل شيء على ما يرام إلى حدّ الربع الأخير من الساعة الأخيرة كما تتصوّر الفيلسوفة ــ ودارسة الثورات ــ حنة أرندت.
وفي هذا السياق، الذي هو سياق العامل الجديد والمغاير، تتبدى أهمية المنظِّر الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي (A. Gramsci) (1891 ــ 1937). وتبرز أهميته من ناحية ما يوفّره من مفاهيم إشكالية وأدوات استشكالية ورؤى وتصوّرات… إلخ. وليس غريبا أن يتمّ التشديد على هذا الفيلسوف، وأن يتمّ عدّه “بطلا للدراسات الثقافية”. وكما أنه ليس غريبا أن تتجدّد الإحالة عليه، في سياق ما بعد الحراك العربي، لا سيما من ناحية تصوّره لـ”الكتلة التاريخية” في سياق تدبير ما ترتّب عن الحراك الثوري من مشكلات الطائفية والعشائرية والقبلية… وغير ذلك من العوائق الهيكلية على طريق التداول وإمكانات العيش المشترك في سياقات ما بعد الحراك، ولا سيما أيضا من ناحية تصوّره للتاريخ في التباسه بـ”عامل الجغرافيا” أو الأرض… تفاديّا للتجريد والتعميم الماركسيين. وفي هذا السياق يمكن اعتماد تصوّره للتاريخ الذي يتحقق عن طريق الشعوب لا المثقفين… وذلك كلّه في المدار الذي ارتقى بأداء هذه الشعوب إلى مرتبة “المثقف العام” أو “المثقف العام الميداني” الذي يصعد من “المجتمع الموازي” حيث التمدين المنفلت والتفتّت الاجتماعي والسخط اليومي… كما في حال العالم العربي.
فمفردة الشعب، بدورها، انتفضت ضد المدلول التبخيسي الذي لازمها لعقود بأكملها؛ ومن ثم اكتمل المدلول المضاد والممتلئ، والممتـد والجارف، للمفردة. يقول المفكر اللبناني علي حرب في كتابه “ثورات القوة الناعمة في العالم العربي”: “والوجه الآخر لتغيُّـر معنى الثورة هو تجدّد مفهوم “الشعب”. هذا المصطلح كان يُفهـم، في الحقبة الإيديولوجية الآفلة، خاصة مع التجارب العقيمة والكاريكاتورية لمجالس الشعب والمؤتمرات الشعبية، على سبيل السلب والقدح والابتذال، بإحالته إلى ما هو شعبوي، غوغائي أو استبدادي، وكما ترمز إلى ذلك مصطلحات العوام والدهماء والجماهير العمياء والقطعان البشرية. ولكنه أصبح بعد اندلاع الثورات يرمز إلى ما يجسد القوة والحيوية، بقدر ما يرمز إلى المصلحة العامة والمشروعية العمومية أو إلى المرجعية العليا والنهائية”(ص190).
في هذا السياق اللاهب برهنت الشعوب العربية، من خلال الحراك الثوري الشعبي، على التطلّع المحموم نحو الانتقال “من القابلية للاستعمار” (الداخلي) إلى “القابلية للثورة”. وكان ذلك استجابة لشروط متداخلة وعسيرة وهي علامة على انتفاض على مرحلة بأكملها أنهكها الاستبداد العفن والتسلط المقيت. لقد ظلت عوامل الثورات تعمل في الخفاء إلى أن فعلها البوعزيزي (غير المتآمر، طبعا) من خلال النار التي أضرمها في جسده (النحيف) وفي الوقت ذاته في العالم العربي ككل، وعلى النحو الذي جعل العالم الأخير يتحسـَّس، بعد عقود بأكملها، أولى خطواته على طريق “الاستقلال الثاني”. وكما قال كارل ماركس “يصنع الرجال تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه كما يشتهون؛ لا يصنعونه في ظروف يختارونها بأنفسهم، بل في ظروف تنشأ مباشرة عن الماضي وتنبثق منه“.
كان من تحصيل الحاصل، والمفاجئ في الوقت نفسه، أن تخرج الشعوب العربية إلى الشارع واللافت بهذا الحماس غير المسبوق… طالما أنها فقدت، وبالمطلق، ثقتها في “معامل السياسة الخربة” التي تحوَّلت إلى معامل للثراء الشخصي والعائلي موازاة ــ وهذا هو الأخطر ــ مع “صناعة الإذعان” التي أدخلت إنسان العالم العربي، على مدار يقرب من نصف قرن، في “غيبوبة سياسية” كادت أن تفقد هذا الأخير آخر خيط يربطه بالتاريخ في مصائره المختلفة التي من المفترض أن تنحو نحو الأفضل وليس نحو الأسوأ حيث تكريس الوضع ذاته الذي هو قرين تمكين الطاغية من مواصلة “النزيف السياسي” الذي هو، بدوره، قرين الحطّ من الإنسان والزّج به، بالتالي، في ذلك النفق الذي لا يمكن أن يدرسه إلا “علم نفس المسحوقين” الذي مارسه، وضدا على “ذل الاستعمار”، أمثال المناضل والطبيب فرانز فانون… ومن أجل فهم ما نعته فانون نفسه، في كتابه “معذبو الأرض”، بـ”الاختلالات” (Troubles) التي كانت تعتصر “الإنسان ــ المستعمـَر“.
جاء الحراك/ التغيير بعد عقود من الاستبداد والتحقير، وجاءت به الشعوب وليس المثقفون. وهذا بعد أن وجدوا في “الإعلام الجديد” (الميديا)، أو “شبكات الغضب والأمل”، ما سهّل لهم تنظيم النزول للميادين. وهذا بعد أن اعتمدوا المساجد في التهييء للنزول للميادين بعد أن عطّل الديكتاتور أداء وسائل الميديا أو “المرور عبر الشاشة”. ومن هذه الناحية بالذات، والتي هي ناحية التحرُّر من أيّ مرجعية أو وصاية، وفي إطار من اضطلاع الشعوب بأداء المثقف العام، ضحـّى المئات من الأفراد بأرواحهم… وبما كان قد تبقـَّى لهم في مثل هذه الدنيا التي لا يمكن للمواطن العربي أن يندم، بأي شكل من الأشكال، على مفارقتها. وكما قيل “الموت ولا المذلة” تبعا للشعار الذي تمّ رفعه في بلدان التغوِّل والاستبداد.
ولعل في اضطلاع الشعب، على مستوى مطمح “التغيير”، بأداء المثقف العام… ما يشكل أحد أهمّ التحديّات السافرة التي تطاول المثقف العربي على مستوى التشابك ــ ولو عبر خيوط العنكبوت ــ مع واقع صعب وصلب ومع مجتمع معقّد ومتداخل ويسير في أكثر من اتجاه.
ضفة ثالثة