“سحر البورجوازية الخفي”: عبقرية المزج بين الحلم والواقع/ أمير العمري
يعتبر فيلم “سحر البورجوازية الخفي” من كلاسيكيات السينما السريالية الحديثة، وواحدا من أفضل أفلام مخرجه الإسباني المرموق لويس بونويل. وهو أفضل ما يعبّر عن رؤية لويس بونويل المغرم بالسخرية من الجيش والكنيسة والشرطة ومن رموز الطبقة الحاكمة.
كتب بونويل فيلم “سحر البورجوازية الخفي” The Discreet Charm of the Bourgeoisie، مع رفيق عمره الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير، وأخرجه في فرنسا عام 1972. كانت أوروبا في ذلك الوقت ما زالت تتعافى من آثار انتفاضة مايو 1968 التي بدأت كمشروع “ثورة ثقافية”. وكانت الأفكار الثورية اليسارية والفوضوية تعمّ القارة العجوز. وكانت الطبقة الحاكمة (البورجوازية) تحاول القبض على الأمور واستعادة زمام السلطة مجددا، وكانت تلجأ في سبيل ذلك إلى أقصى درجات العنف انتقاما من أولئك الذين بثّوا أقصى درجات الرعب في قلوبها.
يعتبر لويس بونويل من أعلام السينما في العالم. وقد عاش حياة مليئة بالتقلبات والتجارب، وعمل في بلدان وظروف مختلفة وعاصر كبار الفنانين والسينمائيين والمفكرين والشعراء في القرن العشرين، وخلال 50 سنة من العمل، كتب وأخرج 35 فيلما.
التحق بونويل مبكرا بالحركة السريالية التي ظهرت في الفن كرد فعل غاضب تجاه الواقع في أوائل العشرينات من القرن الماضي، واشترك مع صديقه سلفادور دالي في كتابة سيناريو فيلم “كلب أندلسي” (1928) وهو فيلم روائي قصير (مدته 26 دقيقة) يصوّر بشكل خارج كثيرا عن المألوف وصادم للعين، رؤية كابوسية للعلاقة بين الرجل والمرأة.
فيلم “سحر البورجوازية الخفي” أبطاله ستة أشخاص، ثلاثة رجال وثلاث نساء: سينيشال وزوجته أليس، وثيفينو وزوجته سيمون وشقيقة سيمون “إنيس”، ورافاييل، وهو سفير دولة وهمية تحكمها الدكتاتورية العسكرية تدعى “ميراندا” يفترض أنها تقع في أميركا اللاتينية. ورافاييل عشيق مدام ثيفينو، وهو يستخدم الحقيبة الدبلوماسية لسفارته في تهريب الكوكايين الذي يزوّده به كل من سينيشال وثيفينو. والبورجوازيون الستة الذين يتمتعون بالسكن في أرقى المنازل في ضواحي باريس، يرغبون طوال الفيلم في قضاء أمسية يتناولون خلالها طعام العشاء، لكنهم يفشلون مرة تلو الأخرى، لأسباب مختلفة.
لا يعتمد بناء الفيلم على حبكة أو قصة محكمة، فهو يتكوّن من مشاهد ومواقف متفرقة، يربط بينها مشهد واحد يتكرر ظهوره لأفراد المجموعة وهم يذرعون طريقا ريفيا على غير هدي، في إشارة إلى رغبة في الوصول إلى شيء لن يصلون إليه أبدا. وفي كل مرة عندما يوشكون على تناول الطعام يحدث شيء ما، كأن يكتشفون أن صاحب المطعم توفي لتوّه وأن جثمانه ممدد في غرفة داخلية، أو يأتي أحد الأشخاص فجأة، أو يستدعي شخص ما حلما من أحلامه يرويها لهم ومعظمها أحلام مفزعة تعكس ما يدور في العقل الباطن. وهي أيضا أحلام متداخلة، أي أنها سلسلة من الأحلام التي تمتد بين الرجال الثلاثة. ومع وقوع تداعيات كثيرة يفشل البورجوازيون الستة في تحقيق المتعة الأساسية لدى البورجوازية، أي تناول الطعام والثرثرة حول المائدة في أمور تافهة عادة.
من الخارج، ومن حيث المظهر العام، تبدو ثقتهم شديدة في أنفسهم. وهناك سحر خاص غامض يجذبنا إليهم، في طريقتهم في الحديث، في أزيائهم، أي في صورتهم الخارجية لكن ما يزيح عنه بونويل الستار، يصيبنا بالفزع والنفور. إنه يعرّيهم ويهتك أسرارهم من خلال عالم الأحلام الذي يصوّره بكل تفاصيله. في البداية يحل أربعة منهم، بينهم رافاييل، ضيوفا على الثنائي سينيشال: لكن الزوجين يرغبان في ممارسة الحب. تطرق الخادمة باب الغرفة لكي تعلن وصول الضيوف الأربعة. يطلبان منها تقديم المشروبات إلى حين نزولهما لاستقبال الضيوف. يقرّر الرجل تحت إلحاح الرغبة والخشية من أن تصدر زوجته صوتا يلفت النظر، أن يهربا، ويتسللان عبر النافذة إلى حديقة المنزل، لاستكمال ما بدآه.
يشعر الضيوف بالسأم من الانتظار الطويل. وعندما تخبرهم الخادمة بأن مخدوميها هربا، يخشى السفير وزميله أن تكون الشرطة على وشك مداهمة المنزل فيهرب الجميع. أجواء بداية السبعينات واضحة في الفيلم: التمرّد والحروب الشعبية المسلحة في غابات أميركا اللاتينية انتقلت إلى شوارع باريس. هناك فتاة ثورية من جمهورية “ميراندا” تطارد
سفير بلادها، تريد أن تغتاله بسبب دوره القذر في تمويل العمليات العسكرية التي تشنّها الحكومة ضد الثوار، لكنه يتمكّن من اصطيادها داخل بيته، حيث يجردها من سلاحها، ثم يغازلها ثم يتركها تذهب، ولكنه يشير عبر النافذة إلى حارسين مسلحين يختطفان الفتاة ويدفعان بها داخل سيارة تسرع بالسير.
الجنس لا يتحقق في لقاء رافاييل ومدام ثيفينو التي يحضر زوجها إلى منزل رافاييل ويجدها في غرفة نومه دون أن تقع أي مشكلة. فالتقاليد البورجوازية الرفيعة تقضي بالتحكم في مشاعر الغضب.
وفي محاولة للاجتماع على مائدة العشاء في قصر سينيشال مجددا يحضر ضابط ومجموعة من الجنود. يعتذر الضابط للجميع، ويقول إن مناورات عسكرية على وشك أن تبدأ قرب القصر. تلحّ عليه سيدة القصر أن ينضم للمجموعة على العشاء. يقبل الضابط أن يتناول كأسا من الشراب فقط. يجلس مع جنوده الذين يدخنون الحشيش. يدور حوار حول الحشيش. يقول أحد البورجوازيين إن الجنود الأميركيين أدمنوا تدخين الحشيش في فيتنام، لذلك كانوا يقصفون مواقع قواتهم بدلا من مواقع العدوّ.
فيلم “سحر البورجوازية الخفي” يكشف عن سطحية الطبقة التي تتشبث بقيم ظاهرها الوفاء والإخلاص والتضحيةفيلم “سحر البورجوازية الخفي” يكشف عن سطحية الطبقة التي تتشبث بقيم ظاهرها الوفاء والإخلاص والتضحية
الضابط يدعو المجموعة إلى تناول طعام العشاء في منزله في الأسبوع التالي. وفي الموعد المحدد نراهم وقد التفوا حول مائدة الطعام. يقدّم لهم جندي دجاجا بلاستيكيا ثم ينزاح ستار فجأة ليكتشفوا أنهم يجلسون فوق خشبة مسرح أمام جمهور يسخر منهم بسبب عدم حفظهم لأدوارهم، فيتسللون مذعورين إلى الخارج واحدا بعد الآخر. إنه حلم سينيشال الذي يستيقظ لنرى المجموعة فعلا في منزل الضابط يعبثون بقبعة تشبه قبعة نابليون، ثم يتعمّد الجميع إبداء الازدراء لرافاييل “الأجنبي” ويوجّه إليه الضابط إهانة مباشرة على إثرها يطلق عليه رافاييل الرصاص، لنكتشف أنه كان حلما آخر من وجهة نظر ثيفينو الذي يستيقظ ليقول لزوجته إنه رأى سينيشال يحلم بأنهم فوق خشبة مسرح، ثم حلم أنهم ذهبوا إلى حفل في منزل الضابط وهناك أطلق رافاييل الرصاص عليه.
تعذيب الثوار
خلال أمسية أخرى يأتي ضابط شرطة ويعتقل مع مساعديه أفراد المجموعة بتهمة حيازة المخدرات. في قسم الشرطة يروي ضابط لزميله قصة الضابط الذي كان يقوم بتعذيب ضحاياه بوحشية إلى أن بدأ يشعر بتأنيب الضمير فانتحر، لكن شبحه وهو ينزف دما يتبدى -كما نرى- كل عام، في ليلة الرابع عشر من يونيو.
تتبدى سريالية بونويل كأفضل ما يكون في مشهد نرى فيه الضابط المنتحر أمام بيانو، يفتح غطاءه، تظهر الأسلاك، يضع الجنود شابا من الفوضويين متهما بتفجير قنبلة في عمل من أعمال الإرهاب الثوري، فوق أسلاك البيانو البيضاوي. يدير الضابط ذراعا آليا، تنتشر الكهرباء في الأسلاك ويرتفع الدخان، ويتلوى الشاب من شدة الألم ويصرخ بينما الضابط يعزف، ومن بين أصابع البيانو تخرج عشرات الصراصير. وفي المشهد التالي نكتشف أن أحدهم كان يحلم مرة أخرى، وأن الضابط الدموي الذي يمارس التعذيب مازال يعمل في قسم الشرطة.
وفي مشهد ساخر تأتي مكالمة هاتفية لمفتش الشرطة الذي اعتقل السفير وأفراد المجموعة. المتحدث على الطرف الآخر هو وزير الداخلية نفسه (يقوم بالدور ميشيل بيكولي). يأمر الوزير بإطلاق سراح الجميع فورا لما في اعتقالهم من إضرار بمصالح الدولة العليا. يحاول المفتش أن يتيقن مما يقوله الوزير، لكن صوت طائرة تعبر المجال فوق المنطقة تشوش على كلام الوزير.. ويتكرّر السؤال، وفي كل مرة يتكرّر صوت الطائرة، ولا يسمع المفتش ما يقوله الوزير على الطرف الآخر. وأخيرا يستسلم المفتش ويأمر بإطلاق سراح المجموعة.
يحضر أسقف المنطقة الريفية إلى منزل سينيشال بعد أن يرتدي ملابس منسق الزهور. يقول لهما إنه قس ويرغب في العمل لديهما في تنسيق حديقة قصرهما لكي يمر بتجربة روحية في التقشف والشعور بمعاناة الفقراء. صاحب المنزل لا يصدق القصة فيطرده. يعود القس بعد قليل وهو يرتدي ملابسه الرسمية فيلقى استقبالا مختلفا ثم يستجيب صاحب القصر لرغبته.
انتقام القس
ذات يوم يمرض رجل مسنّ في القرية المجاورة ويصبح مشرفا على الموت. تأتي زوجة الرجل إلى القصر البورجوازي، تسأل عن القس. تقول لها سيدة القصر إن زوجها في حاجة إلى طبيب لا إلى قس، لكن المرأة تؤكد لها إنه في حاجة إلى قس لكي يعترف، فهو يحتضر. يقول القس (في زي منسق الزهور)، إنه يصلح للقيام بالمهمة. يقوم بتبديل ثيابه ويصحب المرأة إلى الخارج. يعترف له الرجل الموشك على الموت بأنه كان يعمل بستانيا في منزل أسرة بورجوازية وأنه اضطر لقتل مخدوميه السابقين لأنهما كانا يسيئان معاملته ويقومان بتعذيبه. يطلعه على صورة لمخدوميه السابقين وبينهما يقف ولدهما الطفل. يتعرف القس في الصورة على والديه وعلى نفسه صغيرا. يكظم غيظه. يبارك الرجل قبل وفاته. وفي طريقه إلى الخارج يلمح بندقية معلقة على الجدار. يتناولها ويطلق النار على الرجل فيقتله.
هذا المشهد هو أحد المشاهد القليلة في الفيلم الذي لا يتداخل فيه الواقع بعالم الأحلام، فهو يدور على مستوى الواقع بينما معظم مشاهد الفيلم تبدأ في الواقع لترتدّ إلى عالم الأحلام، وإلى أشكال أقرب إلى الكوابيس السريالية المرعبة المليئة بالدماء، غير أن أسلوب بونويل في السخرية يجعله يتمكّن من تحويلها إلى مشاهد كوميدية تفجّر ضحكاتنا أيضا.
يلعب الحوار الساخر دورا بارزا في تجسيد التناقضات. ولا يستخدم بونويل وسيلة للانتقال بين المشاهد واللقطات سوى “القطع” لأنه لا يريد أن يفصل بين عالمي الحلم والواقع، فهو يرى كلاهما امتدادا للآخر. وفي الفيلم الكثير من الحوارات حول كوكتيل المارتيني الشراب المفضل لبونويل نفسه الذي كان يصنعه بنفسه، وهو يروي في مذكراته الكثير عنه في فصل خاص.
ويجسد المشهد الأخير خلاصة أسلوب بونويل: أثناء حفل العشاء يقتحم عدد من الثوريين من ميراندا القصر ويطلقون الرصاص على البورجوازيين الستة لكن السفير رافاييل يختبئ تحت المائدة. وفجأة تمتد يده من تحت المائدة ليلتقط قطعة من اللحم، إن معدته تفضحه. وعلى الفور يطلق زعيم الثوريين النار عليه.
هناك علاقة واضحة في الفيلم بين السلطة السياسية والعسكرية والبوليسية (الوزير ورجل الشرطة وقائد الجيش) وبين السلطة الدينية (الأسقف) والسلطة الاجتماعية (الطبقة البورجوازية ورموزها). ويكشف الفيلم من خلال عالم الأحلام، عن عجز وسطحية وتفاهة الطبقة التي تتشبث بقيم ظاهرها الوفاء والإخلاص والتضحية: في محيط العمل والعلاقات الزوجية والصداقة، في حين أنها تخون كل ذلك بانتظام: هناك خيانات زوجية، وقسوة وتعال بل وعنصرية في النظر إلى الآخر والتعامل معه، وتذبذب وسطحية بل ونكران أيضا في المفهوم الديني عن التسامح.
ويوجه بونويل كعادته، نقده الساخر إلى الكنيسة، وإلى السلطة الغاشمة التي تستخدم الدين ستارا، كما تستخدم أقصى درجات القمع ضد معارضيها، وتتستر على مخالفات “السادة” من أعيان الطبقة. وهو يجعل رموز البورجوازية تبدو عاجزة معظم الوقت عن ممارسة متعتها في تناول الطعام، كما يستخدم مشهد الرغبة الملحّة في ممارسة الجنس ولو في زاوية مظلمة وسط أحراش الغابة، تعبيرا عن غياب الحب، وسخرية من ادعاءات الطبقة عن التمسك بـ”التقاليد” الرفيعة المتحضرة، فهم يمارسون الجنس كالحيوانات.
يسبق هذا المشهد مباشرة مشهد الضيوف وهم يتناولون الشراب. ويقوم السفير بإعداد كوكتيل خاص ويدعو سائقه إلى تناول كأس معهم قبل أن ينصرف. السائق يتناول الشراب على جرعة واحدة ثم يغادر. هنا ينتقد أحد أفراد المجموعة طريقة السائق (لأنه من طبقة أدنى بالطبع) في تناول الشراب.
ويرقى مستوى التمثيل في الفيلم إلى أعلى الدرجات، دون افتعال أو مبالغات لفظية أو حركات جسدية زائدة. هناك تلميحات واضحة إلى علاقة فرنسا ببلدان العالم الثالث، وإشارات إلى العنصرية الفرنسية تجاه أبناء الشعوب الأخرى، فالحوار يكشف عن احتقار البورجوازية الفرنسية للسفير لكونه من دولة يعتبرونها “أدنى”. لكنهم لا يمانعون من استخدامه لتحقيق مآربهم، في حين يستخدمهم هو لتسهيل عملياته في تصفية المعارضين من بلاده الذين لجأوا إلى فرنسا.
تعدّد المستويات في “سحر البورجوازية الخفي” هو ما يجعل منه تحفة سينمائية من الطراز الأول، سواء على مستوى السرد وحيله المتعددة، أو على مستوى المخيلة البصرية والأداء التمثيلي المنسجم مع السيطرة المدهشة على كل خيوط وتفاصيل وشخصيات الفيلم وطابعه البصري.
كاتب وناقد سينمائي مصري
العرب