فوّاز طرابلسي: حضور سايكس ـ بيكو فاعل في الثقافة السياسية العربية
جمال جبران
بيروت: يعد الأكاديمي والمؤرخ اللبناني فواز طرابلسي من أبرز الأصوات الفكرية الفاعلة في الوطن العربي، باحثا ومناقشا في قضاياه المفصلية، من لبنان وحتى اليمن. ولعل كتبه الأخير الصادر بالفرنسية عن اليمن Yémen: Écrire La Guerre ــ بمشاركة المستشرق الفرنسي فرانك ميرميه ــ خير دليل على ذلك. هذا الكتاب الذي تُرجمت أغلب مقالاته في أعداد متتالية نُشرت في مجلة «بدايات» الفصلية التي يرأس تحريرها طرابلسي نفسه. أضف إلى ذلك تنوع كتاباته وتشعبها، وصولا إلى الربط ما بين الفني والسياسي في شكل سوسيولوجي، يوضح في صيغة منهجه الجدلي الذى لا يحيد عنه مدى التفاعل والارتباط ما بين الثقافي والاجتماعي. عن إعادة طبع بعض أعماله، وكذا مؤلفاته الجديدة المنقبة في التاريخ السياسي للمنطقة وأثره الممتد حتى اللحظة الراهنة كان هذا الحوار ..
■ هل يمكن اعتبار عملية إعادة طباعة أعمالك السابقة، إلى كونها لم تأخذ حقها من الانتشار في زمن خروجها إلى النور؟
□ يمكنك قول ذلك، لكن بالنسبة للإصدار الثاني لترجمتي لكتاب جون ريد «10 أيام هزت العالم» يمكن النظر إلى ريد هنا بوصفه صاحب أهم تحقيق صحافي ذكي عن الثورة البلشفية وهو 10 أيام من التي ثار فيها البلاشفة على الحكم. كتاب ترجمته في السبعينات وهو من روائع الفن الصحافي. جميل أن النص لا يزال حي. والآن تتم إعادة نشره.
■ ألا نجد مقاربة بين كتابك المُعاد طبعه «إن كان بدك تعشق: كتابات بين الثقافة الشعبية» وبين كتاب «فيروز والرحابنة مسرح الغريب والكنز والأعجوبة»؟
□ نعم .. لكتاب «إن كان بدك تعشق» علاقة بكتابي السابق عن أدب الرحابنة، وهو جزء مما صدر من دراسات بناء على بحث طويل في مسرحيات الرحابنة. تتضمن قراءات مبتكرة في موضوع الثقافة الشعبية. يوجد أولا دراسة عن الحرير؛ المرأة اللبنانية واقتصاد الحرير. كان يوجد دور خاص للنساء في اقتصاد الحرير في أكثر من جانب. النساء هنا هن اللواتي يربين دود القز. كل هذا الجزء من الاقتصاد المنزلي تتولاه المرأة.
■ هذا يذكرنا بكتابك «حرير وحديد»، وقصة تفقيس دودة الحرير في صدور النساء!
□ إلى حدا هذا صحيح، فتقسيم العمل وتولي النساء هذه المهمة وليس الرجال الذين كانوا مزارعين له أسباب عدة. أولا يتطلب الأمر، مثل التربية، بذرة تتحول إلى دويدة، وتحتاج إلى إطعامها باستمرار ورق شجر التوت. وكانت المرأة تتولى هذه المهمة وإطعامها في غرف دافئة. لكن الأهم في دور النساء كان في دور الفتيات الصغار عند حل شرانق الحرير. دودة الحرير بعد 40 يوما تلف نفسها بخيوط حرير وتتحول منهم إلى شرنقة وتموت داخل الشرنقة ثم تتحول إلى فراشة، تترك الشرنقة وتبيض. هذه هي الدورة. الشرانق تخنق في الماء الساخن المغلي في أحواض لكي ينسل الخيط الحرير من الصمغ. وبالتالي هذا الدور المتعب كان للفتيات بسبب نعومة أصابعهن بما يمكنهن من التقاط طرف الخيط وسحبه. وعادة كانت الفتيات تعمل في عمر 13 و14، ثم تجمع ما يكفي من الأموال لكي تتزوج. لذلك كان يوجد نحو 12 ألف فتاة في جبل لبنان، القسم الأكبر منهن مسيحيات. هذه كلها كانت طقوس هذا الاقتصاد.
■ هذا عن الجانب الاقتصادي الاجتماعي، فماذا عن الشق الشعبي والطربي؟
□ هي دراسة أيضا طويلة عن الحكم والأمثال الشعبية، بما فيها حكمة الناس والأقدمين وتراكم الخبرات. أعددت قاموسا صغيرا لكن ليس حسب الأبجدية بل حسب العناوين. يعني أقوال في الزهد، أقوال في تربية الحيوانات، أقوال في نقل التجارب، أقوال في الزراعة، أقوال في الحياة…إلخ. كل ما له علاقة في الفلسفة الشعبية، ثم يوجد دراسة عن أم كلثوم وهي بمناسبة وفاتها. المرأة المتسلطنة على الرجال، بصفتها الدواء الذي يخدر الناس من أمراضهم، وختمت الدراسة بأنها تسمح لنا بأن نحتمل الهزائم وأسميتها «العاشقة الصوفية»، وفي نفس الوقت ختمتها بأن ليس هذا هو الغناء الذي يقودنا إلى المستقبل، واستشهدت بأغنية لأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام. كتبت هذه الدراسة تحت وطأة الوفاة، وكتبتها في مجلة الحرية مع جوزيف سماحة ومحمد كشلي الذي كان زميلنا في المجلة. ثم هناك دراسة أنا أحبها كثيرا اسمها «عيد البربارة والصراع الطبقي». البربارة هو عيد شهيدة مسيحية هي شفيعة الذين يقومون بأعمال قاسية وخطرة في المناجم. بمناسبتها في 6 كانون الأول/ديسمبر، يوجد طقس قديم منذ القرن التاسع عشر، الفقراء يسودون وجوههم ويدورون يتسولون في الأحياء الغنية ليس فقط في مناطق مسيحية. الطقس في لبنان مسيحي لكنه أصبح مشتركا في مدينة بيروت تحديدا. في القرى الشيعية لم تكن تمارس هذا الطقس. لكن في بيروت صار طقسا مشتركا. يدورون مع طبل وأغاني. وعادة ربة البيت تمنحهم إما طعام أو أموال. وبناء على ما تمنحهم إياه إما يمدحونها أو يذمونها. في الأخير تحول إلى طقس مشترك علماني يتم في شارع الحمرا منذ الستينات عندما كان شارع الحمرا بوصفه ذلك المكان الفخم، منطقة السهر والرفاه والأغنياء والأجانب. تحول الطقس بطريقة غربية بحيث أصبح يمارس في ليلة رأس السنة. الشباب يأتون من جميع المناطق، يضعون الطرابيش ويصطحبون المزامير. أوقات يسودون وجوههم وأوقات أخرى لا يقومون بذلك، لكن كان هناك ضجيج كبير. جموع من الشباب معظمهم من مناطق الأطراف والأحياء الشعبية يجتاحون شارع الحمرا ويفرضون ضجيجهم على الناس وأحيانا يتحرشون بهم.
■ وماذا عن حواراتك المطولة مع القيادي الشيوعي جورج البطل، وكان يفترض أن تصدر في كتاب في معرض بيروت الماضي؟
□ سيصدر الكتاب خلال أيام بعنوان «جورج البطل: أنا الشيوعي الوحيد» . وقد نُشرت أجزاء منه في «بدايات». وهي مذكرات قائد شيوعي مخضرم. لقد استغرق العمل على الكتاب 7 سنوات. كل حياتي أحفزه على كتابة مذكراته وبعدها أديت دور تحفيزه على الكلام، وقال لي خلال تسجيل الحوارات إنه في نهايتها يجب أن نجري حوارا مشتركا حول الحركة الشيوعية اللبنانية والعربية. أنا مسؤول في هذا الكتاب عن الأمور التي قلتها وهي أسئلة أو مداخلات. وجهت إليه أسئلة بشأن بعض القضايا الغامضة. نجحت في استنطاقه وكان لديه الاستعداد لذلك. المشكلة أنه كان مريضا وبالتالي تقطع العمل كثيرا، صحح 6 من الفصول الـ 12 قبل أن يتوفى في 2016. فالكتاب سجالي تحديدا على رفاقه.
■ وماذا عن كتابك الأخير «سايكس- پيكو- بلفور: ما وراء الخرائط»؟
□ يروي الكتاب قصة عقد من الزمن خلال الحرب العالمية الاولى وبعيدها افضى الى انتاج المشرق العربي الحديث ابتداء بالعام 1920، العام الذي أسماه عرب ذلك الزمان «عام النكبة». الحافز إلى الكتابة هو الذكرى المئوية لاتفاقية سايكس- پيكو وإعلان بلفور، وقد صادفت قيام الخلافة الإسلامية في سوريا والعراق وإعلانها كسر حدود سايكس- پيكو في المنطقة. أطلقت المناسبات سيولا من التحليلات والتأويلات والتفسيرات والتوقعات تكاد تجمع على نهاية الاتفاقية الملعونة، وتحميلها تخريب المنطقة، مع توقّع بداية رسم خرائط جديدة للمنطقة. لقد صادرت الخرائط المسار التاريخي. لذا، ترمي هذه الدراسة الى إعادة تركيب هذا المسار بالنظر في ما وراء الخرائط. اي دراسة لحظة تاريخية لا تتجاوز العقد من الزمن تقرر خلالها مصير المشرق العربي في غمرة الصراع، على خلفية الحرب العالمية الاولى، على توازع مغانم الحرب بين قوتين منتصرتين تحكمتا بمصير الولايات العربية من السلطنة العثمانية وبنت سيطرتها عليها بواسطة نمط جديد من النفوذ والسيطرة الاستعماريين. اثار الموضوع فضولي خصوصا وان فترة الحرب العالمية الاولى وما بعدها تشكل تتمة للفترة التي انتهت إليها أبحاث كتاب «حرير وحديد. من جبل لبنان الى قناة السويس» (2012). استولت اتفاقية سايكس- پيكو وخريطتها (ومعها تعهد مكاماهون واعلان بلفور) على مداركنا عن تلك الفترة التأسيسية للمشرق العربي. صارت هي الجريمة التأسيسية، والمشهد الأول، والخطيئة الأصلية، والجرح الرمزي، واللعنة الأبدية، والخريطة التي خرطت المنطقة أشلاء، طالما أن لها وظيفة وحيدة لا تني تتكرّر: تقسيم المنطقة وتقسيم تقسيمها في انتهاك مستمر لوحدتها المقدسة. نسجت حول الاتفاقية-اللعنة شبكة من التعميمات وأنصاف الحقائق والتهويمات والبديهيات التي ليست هي بالبديهيات، تفسّر كل ما يبدو أنه عصيّ على الفهم أو يتكاسل الفكر المتكاسل عن السعي لفهمه. ولا يقتصر الأمر على هذا: سايكس- پيكو هي مبتدى المؤامرات و«المشاريع» وخبرها. وهي المشجب الذي تعلّق عليه الأخطاءُ والسلوكيات ليجري تحميلها للغير او بنائها على مجهول. وهي، ربما في وظيفتها الأخطر، عملية تنصّل استثنائية من المسؤولية، تبريء الذات، وتبيّض صفحة الحكام خصوصا، فهم تارة مخدوعون وتارة ضحايا مؤامرات و«مشاريع»، هي بالتعريف قدر ٌ مقدّر لا قبل لأحد ان يتوقعها او يتّقيها، ناهيك عن مجابهتها. واعلان بلفور، وقد تأبطته الاتفاقية التقسيمية، بات الوعد الغادر، وصار، بشيء من الشلف، النص الذي أنتج دولة إسرائيل قبل أن يعود بدوره ليشكل عنصرا في تقسيم التقسيم. وأدهى ما في هذا كله حضور سايكس-پيكو الفاعل في الثقافة السياسية الشفوية والإعلامية لبلادنا. يسمح للكل، ولمن يشاء، بالتفسير والتوقّع بل الاستباق من موقع العليم على اعتبار ان الامور واضحة والنوايا المبيتة من باب البداهة والمتوقّع لا يحتاج الى توقّع. هكذا دخلت سايكس-پيكو واخواتها حومة الخرافة والاسطورة وبات لها صلابة المعتقدات الايمانية الراسخة. فليس من المستغرب كثيرا أن الموضوع، على معايشتنا اليومية له ومأسوية اثره على حياتنا عبر قرن من الزمن، لا يحظى الا بقلة قليلة جدا من الدراسات العربية أو من أبحاث من انتاج كتاب عرب.
بدأ البحث من تفاصيل: اللورد جيمس بلفور وقّع رسالة «وعد بلفور»، حسب التسمية الدارجة، ولم يكتبها، ومن يقرأ «الوعد» بعناية يكتشف ان فيه ما هو اكثر من الوعد وأفدح. مارك سايكس وجورج پيكو وقّعا خريطة اتفاقية سايكس-پيكو، وسواهما وقّع على النص، وقد سمّيت على اسميهما مع ان اسمها الرسمي «اتفاقية آسيا الصغرى». يجري الحديث باستمرار عن «اتفاقية سايكس-پيكو السرّية»: الى أي متى ظلّت سرّية، وعلى مَن؟ وهل اتفاقية فيصل-وايزمان، حقيقية ام مزوّرة؟ ثم تكبر الاسئلة: هل احتلّ البريطانيون والفرنسيون المنطقة لتقسيمها ام قسّموها ليسيطروا عليها؟ وكيف قسّموها ولاي اعتبارات؟ وهل يقتصر الامر على التقسيم، أصلا؟ هل الرئيس الأميركي وودرو ولسن هو صاحب مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، ام سبقه أحدهم اليه؟ والبريطانيون، هل قرروا احتلال فلسطين لتقديمها موطنا قوميا لليهود ام استخدموا الوعد بالموطن القومي لشرعنة الاحتلال؟ ولماذا الحدود الحالية لدول المشرق العربي لا تتطابق مع خريطة سايكس-پيكو في معظم أوجهها مع انها منسوبة اليها؟ الخ. هي تفاصيل وخيوط واسئلة تحوّل البحث التاريخي الى ما يشبه التحقيق البوليسي.
القدس العربي