السوريّات والهوامش الضيّقة/ هوازن خداج
لا تقتصر الحرب في سوريا على فعلها الميداني والعسكري فما خلّفته من مشكلات اقتصادية وانقسامات اجتماعية ساهمت في خلخلة المفاهيم السائدة في المجتمع ككلّ، وأدخلت “نصف المجتمع” في دوّامة العنف والعوز المادي والاستغلال بكافة الأساليب، والتي مثلما يغيب عنها التوثيق الدقيق لأحوال النساء تغيب دراسة النتائج المترتّبة عليها وانعكاسها على المجتمع ككلّ.
مشكلات النساء ومعاناتهنّ كضحايا لشرائع الحرب، ومعطياتها المختلفة والمتباينة التي توارت خلف أحداث القتل اليومي ومشاهد الدماء، وتحويلهنّ ثكالى وأرامل، ونساء تنتظرنَ أبناء وأزواج وآباء غُيّبوا في السجون وعلى جبهات القتال، أو وجودهنّ كأرقام على قوائم الموت التي حصدت مايقارب 25000 أنثى، حسب تقرير شبكة حقوق الإنسان بتاريخ 25/11/ 2017، والتي صارت تبدو أقلّ المصائب حدّة، فما شَرْعَنته الحرب أشدّ وحشية، بدءاً من إضافتهنّ على قوائم التجارة الساخنة والمربحة في البغاء القسريّ والاتّجار بالبشر أو بأحسن حالاتها الزواج القسريّ طلباً للسترة إذ شكّلت طفلات سوريا عرائس ثمينات تتاجر بهنّ أسرهنّ. انتقالاً لتعرّضهنّ للاعتقال التعسفيّ ولكافة أساليب العنف بعد أن تحوّلت أجسادهنّ جزءاً من الصراع، وصارت النساء لقمة سائغة للانتهاك من قِبل كافة الأطراف التي فتحت مع نيران بنادقها أبواب الجحيم على المرأة السورية، حيث وثّقت الشبكة نحو 40 ألف حالة اعتقال تعسّفي تعرّضت لها المرأة السورية منذ بدء الثورة، وقد تمّ توثيق أكثر من 12 ألف حالة اغتصاب حتى منتصف 2016 من الطرفين في أماكن الاحتجاز النظامية وغير النظامية، وصولاً لحملهنّ السلاح أو قيامهنّ بعمليات انتحارية وانخراطهنّ بأعمال القتل.
المرأة السورية لم تعفِها الأخلاق والشرائع والمحرّمات من الاعتداء الجنسي والتحرّش والتعذيب، فصرخات “الاغتصاب” الذي استخدم في كافة الحروب كتكتيك عسكري متعمّد لتحقيق أهداف سياسية، وترهيب المجتمع وحمله على الخضوع، خرجت للعلن بعد نشر العديد من الشهادات المروّعة عن الاغتصاب الذي تعرّضت له النساء في سجون النظام ومن قِبل الميليشيات التابعة له، ومن قبلها ما تعرّضت له النساء على يد داعش والتنظيمات المتطرّفة، وقد رصدت الكثير من التقارير حالات الاستغلال الجنسي للنساء وآخرها تقرير لصحيفة صنداي تايمز نشر بتاريخ 3/6/ 2018 تحت عنوان “أرامل سوريّات أجبرنَ على إعطاء صور عارية لهنّ إلى عامل في مجال المساعدات الإنسانية”، هذا التقرير رغم عدم إضافته جديداً في استغلال أوضاع النساء وظروف الحاجة لأبسط مقوّمات الحياة، لإرضاء شهوات غريزية مريضة، تأتي صدمته في تسليطه الضوء على ما يمارَس من قِبل أفراد هذه المنظمات التي ترفع لواء الإغاثة والإنسانية، والتي بدل أن تكون عوناً للسوريّين والسوريّات لاحقتها سلاسل العار في الفساد والسرقات لتصل مؤخّراً نحو استغلال بعض أفرادها الفاجر للنساء.
الاغتصاب والتحرّش وغيرها من العناوين التي تخيف معظم السوريّات في الداخل ومخيّمات اللجوء لم تكن مجرّد هواجس أنتجها الشعور بغياب الإحساس بالأمن، بل كانت الجزء المؤلم من مسيرة الحرب التي تركت بصمتها على أجساد النساء، والتي على الرغم مما شكّلته من صدمة أخلاقية لمجتمعات محافظة، لم تلغِ الآثار المترتّبة عليها في اعتبار الضحية وصمة عار يعرّضها للتهديد والقتل لردّ الشرف، أو الطلاق والعزل والزواج القسريّ لمنع الكارثة والذي أوصل بعضهنّ للانتحار. وهذه المعالجات العقيمة لمشاكل النساء كانت قيداً آخر يسلبهنّ أمل التغيير لمنهجية مجتمع يزداد غرقاً، ولا تقتصر على الحالات الخاصة من ضحايا العنف الجنسي، بل برزت في حلول مشكلة “العنوسة”، فارتفاع معدَّل تأخّر الزواج ووجود فئة كبيرة من الفتيات دون زواج، وضع النساء في مواجهة الأحكام المسبقة لمجتمعات مازالت محكومة بقالبها التقليدي إضافة إلى أحكام المحاكم الشرعية والتي تعيد صياغة واقع النساء “العازبات والأرامل” وتفرض قوانينها عليهنّ، فالصورة السلبية في العقل الجمعي “لمرأة بلا وصاية رجل” أدّت إلى تدافع هذه المحاكم في سورية لجعل “تعدّد الزوجات” هو الحلّ المناسب لحماية النساء.
ففي مناطق سيطرة النظام التي تسير أمورها حسب القانون السوري وشروطه في تعدّد الزوجات، اقترح القاضي الشرعي الأول في دمشق “محمود معراوي” ، بحسب ما ذكرت صحيفة “تشرين” الحكومية في 5/2/ 2017 “الزواج الثاني كأحد الحلول المقترحة للقضاء على ظاهرة العنوسة” وضرورة العمل به بعد تزايد أعداد الإناث على حساب الذكور -واللاتي بلغت نسبتهنّ حوالي 75% من إجمالي السكان حسب إحصائيات 2016- وتسهيل شروطه الشرعية كالأهلية المادية والجسدية، كما حدّدت خطبة صلاة الجمعة في جوامع دمشق بتاريخ 17/2/ 2017 للحديث عن الزواج الثاني باعتباره “حاجة ملحّة” لحماية نساء “مجبرات” على الانحراف عن الدين والعادات، وللحدّ من مشكلة العنوسة ومن الانحلال الأخلاقي بين النساء. وذلك وسط تجاهل متعمّد لمشكلات أكبر حجماً سيعانيها المجتمع لاحقاً، أقلّها دمار أسر قائمة لا تقبل فيها المرأة وجود أخرى.
أمّا المناطق الخارجة عن سيطرة النظام والخاضعة لأحكام المحاكم الشرعية التي تحكم بمقتضيات الدين الإسلامي الذي يسمح بتعدّد الزوجات، ومع انتشار تدريس الفقه والشرع الإسلامي، فتح الباب لقبول فكرة التعدّد لدى الكثير من النساء، وتجدر الإشارة أن معظم الزيجات في هذه المحاكم لا يتمّ الاعتراف بها بالقانون السوري، وتخلّف أرامل بلا أزواج وأجيالاً من الأطفال بلا آباء في حال وفاة الزوج. وتكمن شدّة المأساة في تبنّي المرأة لأسباب خضوعها الذي كانت أبرز صوره في الحملة الإعلامية التي انتشرت في آب 2017 تحت عنوان “زوّجي زوجك” والتي تبنّتها مجموعة نسائية في الشمال السوري، بدأتها من مدينة “كفرنبّل” في ريف معرّة النعمان لمحاربة “العنوسة والترمّل” في المجتمع، عن حملة مماثلة أطلقتها “رانيا هاشم” مدرّبة التنمية البشرية في مصر لتشجيع الزوجات على قبول زوجة أخرى لزوجها.
واقع المرأة السورية المأساوي الذي يحاول البعض تجميل صورته بتسليط الضوء على تحمّلهنّ لأدوار لم يعتدنَ القيام بها، إن كان لجهة مواجهة أعباء حياة زادت الحرب من قسوتها في قلّة دخل الأسر ككلّ، وزيادة حضورهنّ كقوى عاملة، وفتح المجال أمامهنّ لفرص كانت متاحة سابقاً للرجال فقط، أو لجهة وجودهنّ على جبهات القتال وحملهنّ السلاح، وفي كلا التوجّهين رغم اختلافهما الكبير هناك العديد من الإشكاليات التي تخرج عن مسار المساواة للرجل كما يحلو للبعض الترويج لها، فكلاهما نتاج انغماس النساء في الحرب ومعطياتها إمّا لسدّ الفراغ الحاصل عن غياب المعيل أو للتعبير عن الشحن الديني والإثني، وليس نتاج قناعات تأسّست على شعور المرأة بوجودها وحقوقها وقدرتها على الفعل، ولم تقترن مع زيادة استقلالية المرأة ومسؤولياتها.
خلف أخبار الموت والمعارك تضيق الهوامش المحكومة بسلسلة طويلة من المعايير الأيديولوجية الذكورية المفروضة من قِبل النظام الاجتماعي وتجرّ السوريات سلاسل قيود أكثر تعقيداً من أعراف الحروب التي شلّت قدرة المرأة على الفعل، وجعلت نصف المجتمع أكثر تمزّقاً وبعداً عن تحقيق ذاته.
صور