راتب شعبو: يُمكن للثورة أن تموت؛ تتعثّر وتفشل ولكنها لا تُخطف. الإسلاميون لم يخطفوا الثورة؛ بل خنقوها
حاوره علي نمر
النظام تحوّل إلى حكومة أمر واقع، يقف عارياً أمام السوريين، بما يشبه قوة احتلال.
حوارنا اليوم مع معارض سوري، ولد بعد وصول حزب البعث إلى السلطة في سوريا بقليل. دفع دائماً ثمناً لنفوره من القطيعية والقول الموحّد وصولاً إلى الاعتقال الماراثوني بعد عشرين عاماً وخمسة أيام من ولادته. بعد عشر سنوات من اعتقاله، وجدتْ محكمة استثنائية حريصة على الوحدة والحرية والاشتراكية أنه معادٍ لهذه الكلمات الثلاث، فرمته قذيفة من عيار 15 عاماً مع أشغال شاقّة، ولكنه «تجاوز حدّه» هنا أيضاً، فقضى 16 عاماً وثلاثة أيام. أكمل دراسته بعد السجن وتابع الاختصاص الذي أراده، زاول مهنة الطب في عيادته محروماً من العمل في المشافي العامة، كما حرمانه من الحقوق المدنية كافة. حين بدا له أن اعتقاله أضحى كالتاريخ الذي يعيد نفسه، وبات دمار أسرته وشيكاً، بسبب كتاباته ومواقفه، خرج من سوريا «مرغماً»، صيف 2014، وما يزال يحلم بالعودة لذاك الوطن الخالي من الفساد والاستبداد… أنه المعارض الدكتور راتب شعبو.
نود أن تسمح لنا قبل الدخول في شجون الفكر والسياسة، وما آلت إليه الأوضاع في سوريا، أن تحدّثنا عن السنوات القاسية والطويلة التي قضيتها في السجن، والتي بحدّ ذاتها تُعتبر عُمْراً كاملاً لمعتقل سياسي في مقتبل العمر؟
هي بالفعل عمر كامل يصعب أن تستوعبه اللغة. بقيت سنوات أكتب عن هذا العمر المسروق، ثم جمعت ما كتبته في كتاب صدر في 2015 عن دار الآداب بعنوان «ماذا وراء هذه الجدران». أن تكون في العشرين من عمرك، وتجد الدولة بكل طاقاتها وثقلها تعاملك كعدوّ لمجرّد أنك خارج عن «التجانس»، وتجعلك لذلك دريئة لمخزون لا ينضب من الحقد والعنف والكراهية؛ أن تجد كل ذلك العداء في قلب من له السلطة والقدرة على سحقك؛ هذا هو لون اللوحة التي يمكن أن تعبّر عن ذلك المعبر غير المعقول، عن ذلك العمر المسروق. وهذا هو اللون الذي ينبغي أن نعمل معاً كي يزول فلا يلطّخ أعمار أجيالنا القادمة.
من خلال تجربة الاعتقال؛ ومع وجود مئات الآلاف من المعتقلين والمخطوفين والمفقودين في سجون النظام بعهد الأسد الابن، هل ترى اختلافاً بين المرحلتين، خاصة وأن معظم المعتقلين في ثمانينات القرن الماضي كانوا من رابطة العمل الشيوعي؟
الفارق كبير بين المرحلتين، ولكن بذور اليوم جاءت من الأمس. إذا كان ما لقيناه نحن سجناء مرحلة «الاستقرار والأمان»، كان بتلك الصورة الرهيبة، لك أن تتخيّل حالة معتقلي اليوم. كان يكفي أن يوزّع الحزب (حزب العمل الشيوعي) بياناً في الخارج مثلاً، كي يدفع المعتقلون على اسم الحزب الثمن. لك إذاً أن تتخيّل الوحشية الإضافية (إن كان ثمّة مجال للإضافة) التي تنزل على رؤوس المعتقلين اليوم مع تطوّرات الأحداث. ولا يختلف الأمر فيما يخصّ المعتقلين لدى الفصائل الإسلامية.
خرجت من السجن عام 1999، وبعدها بسنة استلم بشار الأسد الرئاسة في سوريا عام 2000 بعد وفاة أبيه، كيف تقيّم الأوضاع السياسية والاقتصادية من هذا التاريخ وصولاً لبداية انطلاقة الاحتجاجات عام 2011 في سوريا؟
حافظ الأسد بنى النظام السوري الحالي، بآلياته وأولوياته ونمط عمله، بشار الأسد هو ابن النظام وخاضع لآلياته، فضلاً عن أنه لم يمتلك فكراً أو توجّهاً إصلاحياً يسخّر له سلطته الموروثة، كما تصوّر كثيرون. الانفتاح الذي تحقّق في بداية عهده، الفترة التي سمّيت ربيع دمشق، كانت من لزوم الشغل على إحكام السيطرة أكثر ممّا هي ميل إصلاحيّ، تماماً كما كانت حرب تشرين بالنسبة لأبيه. كما أن الأب لم يكن محرّراً، كذلك الابن لم يكن مصلِحاً.
الرتوش «الغربية» التي أدخلت في عهده، مثل الانتباه إلى المعاقين، إلى موضوع اللباس المدرسي، إلى التخفيف من بهرج الاحتفالات الرسمية ..الخ، على لزومها، لا علاقة لها بالإصلاح. الإصلاح يبدأ بوضع الأجهزة الأمنية تحت سلطة قانون ينظّم حياة الجميع، فلا يكون السوري مشروع ضحية في أيّة لحظة. وهذا يحتاج إلى إرساء آلية لإنتاج الشرعية السياسية، غير أن الرئيس الشاب «الواعد» صاحب خطاب القسم الإصلاحي، لن يمضي في هذا الطريق، لأنه يفضي إلى سقوط طغمة الامتيازات والنهب والفساد، وإلى سقوط سلطة الوريث نفسه.
إحدى عشرة سنة كانت أكثر من كافية لرؤية «استمرارية» النظام وإدراك اليأس من تغييره. الإصرار في 2011 على التظاهر تحت الرصاص الحيّ والاعتقالات وأنواع الانتقام المختلفة، كان بمثابة الاستقتال الشعبي الذي لا يمكن أن تراه إلا في لحظة التقاء اليأس «من إصلاح موعود» مع الأمل الذي غذّته الثورة في تونس ومصر. إنه انفجار اليأس بقدر ما هو انفجار الأمل، أو قُل هو انفجار خلطة انفجارية من اليأس والأمل.
لكنك؛ وعلى الرغم من أنك جرّدت من حقوقك المدنية، والتي كان لها بالغ الأثر على حياتك الشخصية والمهنية، بقيت مصرّاً على البقاء في سوريا وعدم التفكير بالخروج منها، ما الذي أجبرك على الرحيل نهاية الأمر؟
لم أفّكر أبداً بمغادرة سوريا، رغم الحصار الاجتماعي والمهني المتعدّد الطبقات الذي أحاط بي منذ مطلع 2011، بسبب آرائي. لكن في السنة الأخيرة قبل خروجي، تصاعد «اهتمام» أجهزة الأمن بي. مع استدعاءات متكرّرة، وزيارات من مسؤولين أمنيين إلى العيادة، ومراقبة ..إلخ. من الطبيعي أن يلازمك الخوف في هذا الجو، ليس فقط من الأجهزة الأمنية، بل أيضاً من الفئة التي عرفت في سوريا باسم «الشبيحة». حين يدرك الشبيح أنك شخص مرفوض ومستهدَف من السلطات الأمنية، سوف يضعك على لائحة الضحايا الوشيكين. القلق كان جزءاً من نسيج حياتنا اليومية. كان صوت الفرامل تحت البيت يزيد من دقّات قلبي. وكانت زوجتي تعيش القلق عينه. ولا شكّ أن أولادي كانوا يقرؤون ذلك في عيوننا. ما أجبرني على الخروج هو الحصار المتصاعد، وخوفي من اعتقال بدا لي وشيكاً، وتفكيري بما سوف يعني هذا من خطر على حياتي وعلى سلامة عائلتي.
بالعودة لـ2011 يقولون: «خطفوا الثورة…» هل المقولة صحيحة؟ ومن الذي لعب الدور الأبرز في تحوّلها الجذري عن الأهداف التي انطلقت من أجلها؟
برأيي عبارة خطف الثورة أو سرقتها قول خاطئ، لأن الثورة ليست شيئاً مستقلّاً بذاته يمكن حيازته من هذا الطرف أو ذاك. الثورة فكرة وأداة وإذا انقطعت العلاقة بينهما تكفّ الثورة عن الوجود. يمكن للثورة أن تموت؛ أو أن تتعثّر وتفشل ولكنها لا تُخطف. الإسلاميون في سوريا مثلاً، لم يخطفوا الثورة؛ بل خنقوها، لأن أيديهم وأدمغتهم وقلوبهم خالية من الأوكسجين الذي تعيش عليه الثورة. شيء مشابه حدث في مصر. لا حياة لثورة في القوالب الذهنية المتحجّرة؛ أو المسبقة الصنع، أكانت إسلامية أو غير إسلامية، لكنني أخصّ الإسلاميين، لأنهم قادرون على التعويض عن فقرهم الفكري بقوّتهم الشعبية والقتالية المدعومة ممن له كل المصلحة في خنق الثورة. على هذا بدا أن الاستمرار العسكري للإسلاميين في سوريا هو استمرار للثورة، وهذا غير صحيح. في النهاية، فشل الإسلاميون عسكرياً وكان يمكنهم أن ينتصروا، لو تبدّلت الحسابات السياسية الكبرى، ولكن انتصارهم لم يكن ليعني انتصاراً للثورة بأيّ حال.
الذي لعب الدور الأبرز في اختناق الثورة هو الفراغ الديموقراطي الذي اشتغل عليه النظام بدأبٍ طوال عمره. القوى الديموقراطية المضعفة، والتي تتوق إلى تغيير النظام لن يكون أمامها إلا قبول الإسلاميين الأقوياء كأداة لهذا التغيير. هذا منطق الأمور، وهذه آلية اشتغل عليها النظام كما في مرحلة صراعه مع الإسلاميين في نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، كذلك في ثورة 2011. بالنتيجة، رأينا مثلاً كيف سادت على ضفة الثورة، لغة غير ديموقراطية، هي في الواقع لغة الإسلاميين، وقد طغت حتى صارت تتردّد على ألسنة الديموقراطيين أنفسهم.
لكن ألم يكن الموقف الدولي منذ البداية يكتنفه الغموض، لماذا استمرّ البعض من المعارضة في الاعتماد على التدخّل الخارجي رغم السلبية التي ظهرت من الموقف الدولي، والتي كانت سبباً في تصدّر تلك التنظيمات الإسلامية المتطرّفة المشهد كاملاً؟
ما تبيّن خلال السنوات الماضية أن التغيير الديموقراطي في سوريا ليس مصلحة إقليمية ولا دولية، وأن «الغموض» في الموقف الدولي كان صيغة الوضوح الدولية إزاء سوريا. التقى الموقف الدولي «الأمريكي خصوصاً» غير الداعم لتغيير ديموقراطي في سوريا، مع الموقف الإقليمي (الخليجي والتركي) المتشوّق لتغيير إسلامي، وكانت النتيجة تصدّر الإسلاميين ثم الجهاديين العالميين، هذا بدوره ساعد في زيادة «غموض» الموقف الخارجي من التغيير في سوريا.
ولأن الموقف الدولي، محكوم برأي عام، ولا يمكن أن يفصح عن دعم الخيار الإسلامي غير الديموقراطي، فقد راح يدعم الموقف التركي الخليجي فعلياً، ويحافظ على صورته الديموقراطية شكلياً. والحقيقة أن تنظيمات المعارضة المتعاقبة التي حازت على الشرعية الدولية (المجلس الوطني، الائتلاف، والهيئة العليا) كانت تستمدّ نسغها أساساً من هذا التناقض؛ أو «الحياء» الخارجي.
هذا لا يعني أن الموقف الدولي كان يرحّب فعلياً بتغيير إسلامي (على خلاف الموقف الخليجي والتركي)، إنما كان هذا هو الطريق الملتوي الذي أراد من خلاله الغرب أن يحبط الثورة السورية التي كان يمكن أن تعطي طاقة تغيير تشمل الشرق الأوسط. النتيجة أن الثورات العربية ماتت بالتسمّم الإسلامي؛ أو بفرط الجرعة الإسلامية، حين طغت الإسلامية على ما عداها.
لا يذهب كلامي السابق إلى إقصاء الإسلاميين العقلانيين، أقصد الذين يستلهمون الإسلام ديناً وتاريخاً، دون أن يصل بهم الأمر إلى نسب الإسلام إلى أنفسهم، ودون أن يصدروا عن فكرة «الحاكمية لله»، معتبرين أنهم ممثلو الله على الأرض، هكذا دون توسّط.
الحرب أحدثت شرخاً عميقاً بين مكوّنات المجتمع السوري وخلق نوع من الاصطفافات الطائفية إلى درجة أصبح المراقبون يطلقون على ما يحدث في سورية «الحرب الأهلية» أو «الصراع الطائفي» كيف تنظرون إلى المشهد السوري اليوم؟
ما يحدث في سوريا هو في الواقع «حرب أهلية»، كل ثورة هي حرب أهلية، ولكن ليست كل حرب أهلية هي ثورة. الحساسية من تسمية «حرب أهلية» تأتي من نيّة مفترضة؛ أو حقيقية، عند مستخدمي التسمية، لطمس واقع الثورة، وتصويرها زوراً، كحرب بين طوائف.
صحيح أن سوريا تشهد اليوم اصطفافاً طائفياً، وهو نتيجة اشتغل عليها النظام عملياً وحيث كان مناسباً (وظلّ بعيداً عنها لغوياً)، من باب المصلحة. واشتغل عليها الإسلاميون على المستويين اللغوي والعملي من باب الإيديولوجيا. ودعمها علمانيون لغوياً و«تحليلياً» (فهم لا يمتلكون أكثر من ذلك)من باب البراغماتية. المؤسف أن هذا المسار، الذي شارك به هؤلاء مجتمعين، لم يفعل سوى صبّ الحبّ في طاحونة النظام، كما يقال.
في المشهد السوري اليوم حقيقتان مفيدتان مناصرتان للثورة، الأولى هي أن النظام تحوّل إلى حكومة أمر واقع، بمعنى أنه بات يقف عارياً أمام السوريين، بما يشبه قوة احتلال. والثانية أن الإسلاميين، على تنوّعهم، ظهروا كقوة مضادة للثورة (ارتهان للخارج، قمع للداخل، فكر منغلق على زمن مضى ومغلق على الآخر ..إلخ) فلا يجمعهم معها سوى العداء لنظام الأسد، وهو جامع لا ينبغي الركون إليه. ولكن من جهة أخرى، يعرض الواقع السوري مستوى غير مسبوق من عمق الانقسام الطائفي، وهذه حقيقة ضارّة ومعادية للثورة.
سنعتذر منك مسبقاً على هذا السؤال، لكن لا بدّ من طرحه لأنه حقيقة مقتبس من حوارات الشعب السوري اليومية، أنتم -«العلويين» المعارضين- منبوذون من المعارضة والنظام معاً، والحديث الطائفي «المقرف» في بعض الأحيان هو إن سقط النظام ستأكلونها من المعارضة وإن بقي النظام سيكلّفكم ذلك كثيراً، أيّة معادلة صعبة هذه، ما المفرّ أمامكم؟
يمكن القول إن شيوع النظرة الطائفية يتناسب طرداً مع تراجع الثورة. لا يمكن لمعارض «علوي» أن يدخل منطقة «محرّرة» تحت طائلة القتل لأنه «علوي»، وهذا مخجل ويقترب من حدود العنصرية والعار. ولكن لا يمكن لمعارض علماني وديموقراطي «سنّي» أن يدخل «منطقة محرّرة» أيضاً، لأنه غير إسلامي، وهذا استبداد. أيّ أن هذه المناطق محرّرة من استبداد لمصلحة استبداد آخر. هذا يعني أن مجهود أصحاب الأمر في هذه المناطق ليس جزءاً من ثورة، بل من صراع، وهما متشابهان في صراعهما على السلطة. في منظور هؤلاء يكون النظام علوياً والثورة سنّية. أي تكون الثورة حرباً طائفية، أي لا ثورة. ومن لا ينسجم مع هذا التصوّر لن يكون مقبولاً، أكان علوياً أم سنياً أو سوى ذلك. لا يسود هذا النوع من الفكر إلا على جثة الثورة.
على ضفة النظام يوجد نظرة تقوم على منظور طائفي مقابل، وهو أن هذه «الثورة» هي مسعى إسلامي سنّي لاستلام السلطة لإعادة غير السنة، ولاسيما العلويين، إلى الدرجة الثانية؛ أو ربما إلى الحضيض. وتشكّل ممارسات الإسلاميين في مناطق سيطرتهم سنداً ملموساً لهذه النظرة. كل كلام آخر عن الديموقراطية والحرية والكرامة ..إلخ، لا يعدو، في عيون أصحاب هذه النظرة، كونه تمويهاً و«ضحكاً على اللحى».
شيوع هذه النظرة يجعل كل الديموقراطيين والعلمانيين في خطر، وليس فقط المعارضين العلويين. الديموقراطيون في مناطق سيطرة الفصائل الإسلامية خضعوا أو فرّوا أو صاروا ضحايا كما تعلم. المعادلة الصعبة تشمل في الحقيقة كل الديموقراطيين من كل المنابت الدينية: يخضعون، أو يواجهون ويتحمّلون ضريبة المواجهة، أو يفرّون.
في الحقيقة الإعلام لعب دوراً سلبياً في تغذية هذه الأفكار، وهو من كان يروّج أن الأسد هو الربّ، وعند المحكّ سيرجع كل علويّ معارض؛ أو موالٍ إلى هذا الربّ، كيف تفسّر ما قيل علمياً وموضوعياً؟
الأسد ليس ربّاً سوى للطغمة الفاسدة المستفيدة العابرة للطوائف، هذا ما لا يريد الطائفيون رؤيته. على أن هناك وهماً عند نسبة كبيرة من العلويين أن الأسد يحميهم، هذا وهمٌ يعزّزه النظام بقنوات مخفيّة، ويساعده في ذلك أصحاب المنطق الطائفي.
يحاول كثيرون تفسير العلاقة بين العلويين ونظام الأسد بناء على مفهوم «العصبية» عند ابن خلدون، ولكن الأقرب إلى المنطق والحقيقة أن الخوف الطائفي وليس العصبية الطائفية هو لبّ هذه العلاقة، وهذا ما ينتهي إليه، بحقّ، كتاب «دائرة الخوف، العلويون السوريون في الحرب والسلم» للباحث ليون ت. غولدسميث.
ثم ما هو المحكّ المقصود الذي سيجعل المعارض «العلوي» يعود عن معارضته؟ صمد معارضون علويّون كثر أمام محكّ الاعتقالات والمضايقات والتهديدات وقطع لقمة العيش، ومنهم من مات تحت التعذيب ولم «يرجع إلى هذا الربّ»، وبالمقابل هناك معارضون من منابت طائفية أخرى عادوا، في سياق الصراع، إلى «هذا الربّ»، لماذا هذا الإصرار على قراءة الأحداث بمنظور طائفي؟
إذن؛ هل تجد للإخوان دور في هذه اللعبة القذرة، وخاصة أن اليسار السوري وبعيداً عن العمر التاريخي لتأسيس الحركة الشيوعية في سوريا بداية عشرينات القرن الماضي، كان له الدور الكبير في حركة الوعي المجتمعي ضد الفساد والاستبداد؟
كشفت الأيام أن الإسلام السياسي كان له دور تخريبي في الثورات العربية، وتعزّز هذا الدور بفعل غياب الدور الديموقراطي الموازي أو المكافئ. الديموقراطيون في سوريا، أكانوا في السلطة أم في المعارضة، يعتمدون سياسة الالتحاق بالقويّ بدلاً من تقوية الذات. على هذا وجد الإسلاميون الساحة فارغة لهم، فاستبدّوا بالثورة، وخنقوها. ليس وجود أمثال الإخوان المسلمين بحدّ ذاته هو المشكلة، إنما المشكلة تكمن في غياب الديموقراطيين شبه التام. هذا الغياب هو ما يجعل من الوجود الإسلامي طاغياً، وبالتالي تخريبياً.
على العلمانيين الديموقراطيين السوريين بناء أنفسهم كقوة مستقلة لها وزنها وحضورها، بدلاً من «براغماتية» الالتحاق بالقوي أكان مستبدّاً بعثياً أو مستبدّاً إسلامياً، هذه السياسة التي لم يجن منها الديموقراطيون سوى الخذلان و«سواد الوجه».
تعدّدت التسميات بالنسبة للمنطقة الكردية بين (الإدارة الذاتية، الفيدرالية، روج آفا، شمال شرق سوريا) ما رأيك بالحلّ الأمثل للقضية الكردية في سوريا، وأيّة تسمية تراها مناسبة ويجب إدراجها بالدستور؟
أرى أن الكرد في سوريا عانوا اضطهاداً قومياً متعدّد الوجوه، ولهم الحقّ الكامل برفع كل أشكال الاضطهاد، ومن واجب السوريين العرب مساندتهم في هذا ضمن وطن سوري نهائي. لا أجد أن الانفصال حلّ عملي في الشرط السوري (توزّع السكان، الاختلاط ..الخ)، لذلك يبقى الحلّ في توحيد الجهود لبناء سوريا ديموقراطية يكون للكرد في مناطق تواجدهم سيطرة على شؤونهم. ليس لدي تفضيل في التسميات، المهمّ هو المضمون، أي حصول الكرد على حقوقهم القومية في إطار الوطنية السورية. أعلم أن في هذه الصياغة تناقض، لأنه يستبعد الانفصال من الحقوق القومية، ولكن لا أجد حلاً عملياً آخر.
كثر الحديث عن اللجان الدستورية وتشكيلها من المبعوث الدولي دي ميستورا، هل توافق على طريقة التوزيع بين الكتل والمنصات المعارضة؟ وهل مقبول أصلاً كتابة دستور لسوريا من خارج الحدود؟
لا أجد المشكلة في كتابة دستور لسوريا من خارج الحدود، شكل الحكم الديموقراطي الذي ننادي به جاءنا من خارج الحدود أصلاً. هذه حساسية في غير محلّها. المشكلة في الفاعلية المشلولة للدستور بفعل سلطة أمر واقع مفروضة على البلاد. الخلافات بشأن اللجان الدستورية والثلث الثالث ..إلخ، قليلة القيمة في رأيي، لأن من يمتلك القوة على الأرض، وبات يمتلك القبول الدولي، يستطيع أن يعرقل إلى ما لا نهاية، ويستطيع أن يقول، كما قال في السابق، إنه سيغرق المعارضة في التفاصيل، ويستطيع، إذا أُرغم، أن يحيل الدستور إلى حبر على ورق.
رأيي أن المعركة في العمق ليست معركة دستور، إنها اليوم معركة التطبيع مع النظام الذي سوف يحاول ترجمة نصره العسكري إلى نصر سياسي. الصور التي انتشرت عن مخطوفي السويداء في لقائهم مع «مدمّر سورية الحديث» هي في هذا المسعى. المهمّ هو ألّا «يطبّع» السوريون مع النظام.
لكن ألا يتحمّل ذلك المعارضة التي أخطأت كثيراً، وهذا ما أدّى لتغلغل فكر القاعدة وداعش فيها رغم إنكارها، فيما الواقع على الأرض يثبت ذلك، كيف ترى المعارضة بعد سبع سنوات من الثورة؟
إذا فهمنا المعارضة بوصفها التشكيلات السياسية التي حازت قبولاً دولياً وتكلمت باسم الثورة، أقول إنها لم تكن في نظري، مُرْضية منذ البداية. لم تمتلك خطاباً وطنياً موجّهاً إلى الشعب السوري، لم تسعَ إلى امتلاك زمام أمرها، لم تسعَ بشكل جدّي إلى وحدة العمل، لم يكن لها موقف ثوريّ؛ أو وطنيّ من التنظيمات الجهادية كالقاعدة ..إلخ.
في الخلفية العامة لسياستها الأولى سعَت وراء «الحلّ الليبي»، ثم سعَت بعد ذلك وراء الانتصار بغيرها «القاعدة»، وحين تكشّف فشل المسعَيَين كانت قد خسرت كل رصيدها السياسي والمعنوي. تاريخها اللاحق، إلى اليوم، هو تاريخ إدارة هزيمة لا أكثر.
هل كان يمكن أن يتغيّر مسار الثورة السورية لو تصرّفت المعارضة بصورة أفضل؟ لا أحد يمكنه الجزم، ولكن كان سيبقى للمعارضة رصيداً معنوياً في ضمير الناس، وهو الرصيد الذي يمكن أن يترجم سياسياً، والذي لا يمكن قصفه بالبراميل ولا بالكيماوي. أما اليوم فلا يوجد لهذه المعارضة احترام لدى غالبية السوريين. فساد ومحسوبيات واستزلام وتبعية ..إلخ. وهي فوق ذلك لا تجرؤ على نقد ذاتها.
في لقاء طلبته رئاسة الائتلاف، منذ أكثر من سنة، مع مستقلّين (كنت بينهم) لمناقشة الأخطاء وتقويمها ..إلخ، وجدت نفسي أمام عقلية تبريرية تليق بسلطات لا بممثّلي ثورة.
في مقالة لك كتبت: «في منظور السلطات الأبدية التي تشكل سلطة الأسد نموذجاً مدرسياً عنها، صوابية الخطّ أو القرار السياسي ليست مستقلّة عن الجهة التي يصدر عنها الخطّ أو القرار، لا يكون الولاء للخطّ السياسي أو القرار مستقلّاً عن الجهة التي تتبنّاه أو تصدره، الولاء للخطّ أو للسياسة ناقص…» ما مقياس الصوابية في هذا الموقف؟
الحقّ أنه، في بلد مثل سوريا، لا معنى للكلام عن موالاة سياسية. هل يُسمح مثلاً للموالي أن يعارض السلطة حين يجدها قد غيّرت سياستها بشكل لا يرضيه؟ الجواب كلا بالطبع، إذن الولاء ليس سياسياً بل جوهرياً أو عضوياً. لا تريد السلطة الأسدية من يواليها بسبب خطّها السياسي، هذا النوع من الولاء لا يناسب سلطة تقول إنها «أبدية»، بالنسبة لها هذا ولاء ناقص. الولاء الصحيح هو الولاء للسلطة بكل ما يصدر عنها، هو «الإيمان» بأن ما يصدر عن السلطة هو الصحيح أو هو «الحقّ». الموالي الذي يقول أنا مع السلطة لأن سياستها صحيحة هو موالٍ «ضعيف الإيمان»، عليه أن يقول أنا مع السلطة وكفى. هذا هو الموالي المطلق؛ أو الأبدي الذي تصبو إليه السلطة الأبدية. والسلطة هنا تعني مركز القرار الأول أي الرئاسة. يمكن للموالي أن يعارض وحتى أن يشتم الحكومة والوزراء ..إلخ، على أن تكون خلفية هذا الشتم والغيظ إيمان بمعصومية السلطة الأولى، أي الرئاسة. ليس من فراغ أن يطلب الأسديون من الناس السجود لرئيسهم، وليس من فراغ أن يطالبوا الله بالتنازل عن العرش لصالحه، فهذا هو منطق سلطة الأسد مدفوعاً إلى نهايته.
وطالما أن السلطة هي مصدر الصواب، يصبح كل من يعارضها مصدر الخطأ. أكثر من ذلك، الإقرار بصواب ما يصدر عن غير السلطة يوازي، في المنظومة السياسية للسلطة الأبدية، الشرك بالله في المنظومة الدينية التوحيدية. حتى محاولة الاطّلاع على ما يقوله مصدر آخر غير السلطة تعتبر خيانة. في السجون، على أيامنا، كان هناك مئات الأشخاص المعتقلين لأنهم قرؤوا جريدة حزب معارض. وبعد 2011، صارت مشاهدة «القنوات المغرضة» جريمة.
سؤال أخير: هناك مئات الآلاف من القتلى، ملايين النازحين، مدن بأكملها مدمّرة، داعش والنصرة هناك… هل من أمل بسوريا التي نريدها؟
يكون للإحباط الكبير والألم العميق بداية تحوّل عظيم أو بداية تلاشي، يتوقّف الأمر على الإرادة وعدم الاستسلام. الأمل بسوريا «التي نريدها» يجاور الخوف على سوريا نفسها.
صور