ماذا سيحصل بعد قرار ترامب الانسحاب من سوريا؟ -مقالات مختارة- متجدد
انسحاب أمريكا من سوريا: نقصت الاحتلالات وتضاربت المصالح/ صبحي حديدي
إذا صدقت تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول اعتزامه سحب القوات الأمريكية من سوريا، ثمّ بادر البنتاغون إلى وضع ذلك العزم موضع التنفيذ الفعلي وباشر عمليات الانسحاب، خلال آماد قصيرة كما يُقال لنا؛ فإنّ المتضرر الأول، داخل وزارة الخارجية الأمريكية بادئ ذي بدء، سوف يكون جيمس جيفري، السفير الأمريكي السابق لدى العراق ثمّ تركيا ثمّ ألبانيا، ولكن الذي يعمل اليوم تحت مسمى «المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا». الرجل سوف يخسر وظيفته، منطقياً، إذا أتمت الولايات المتحدة تصفية وجودها العسكري والمدني والدبلوماسي على الأرض السورية؛ أو ستنحصر وظيفته في التثاؤب من مكتبه في واشنطن، خلال مرحلة انتقالية تطول أو تقصر، يتحول بعدها إلى عمل آخر ومسمّى جديد.
لكنّ خيبة أمل جيفري لن تقتصر على خسران وظيفة، كانت أصلاً بلا معنى ولا محتوى في واقع الأمر، بل ثمة ما هو أبعد أثراً على أصعدة شخصية تخص عقل الرجل ومعتقداته ومَلَكاته الستراتيجية والتكتيكية؛ ليس حول المشهد السوري، ميدان عمله واختصاصه الراهن، فحسب؛ بل كذلك على مستوى موقع الولايات المتحدة الكوني كقوّة عظمى أولى، ومكانتها بالقياس إلى كبار منافسيها (روسيا والصين، على وجه التحديد)، ومصداقيتها مع حلفائها الصغار والكبار معاً. قبل أيام قليلة، هذا الشهر تحديداً، ألقى جيفري كلمة في محفل حول سوريا نظمه «المجلس الأطلسي»، جزم فيه أنّ أمريكا باقية في سوريا ليس لأسباب تتصل بالقضاء على الإرهاب أو هزيمة «داعش»، فهذه أهداف قريبة المدى؛ بل لأنّ مضامين الملف السوري المتفجرة لم تعد منحصرة في مصائر نظام قتل نصف مليون مواطن سوري وشرّد 11 مليوناً («أكثر من مجموع سكّان مدينة نيويورك وشيكاغو» كما قال، من باب تقريب الفاجعة إلى أذهان مستمعيه!)؛ بل باتت مسألة صراع وتصارع بين قوى إقليمية ودولية كبرى، هي أمريكا وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل، وفق إحصائه.
وإذا كان جيفري على وشك خسران وظيفته، لأنها باتت بلا معنى، فإنّ وظيفة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس يمكن أن تصبح اسماً على غير مسمى في ضوء رضوخ البنتاغون لما أعلنه رئيسه المباشر، القائد الأعلى للقوات المساحة، من عزم على الانسحاب من سوريا. ففي مطلع هذا العام، وخلال خطبة عصماء بدورها، ألقاها في جامعة جونز هوبكنز لكي تكتسي بطابع فكري وليس عسكرياً فقط؛ كشف ماتيس النقاب عن الانعطافة الكبرى في الستراتيجية الدفاعية الأمريكية: بدل الحرب على الإرهاب، ديدن أمريكا خلال العقدين المنصرمين، تنتقل الأولوية الآن إلى مجابهة الجبروت العسكري لكلّ من روسيا والصين. وإذ أعلن، قبل عام من إعلان رئيسه، أنّ الولايات المتحدة تمكنت من هزيمة «داعش»، شدّد ماتيس على «حال التقلّب وانعدام الوثوق، وحقيقة عودة التنافس بين القوى العظمى»، وأنّ هذا التنافس «وليس الإرهاب، هو التركيز الرئيسي للأمن القومي الأمريكي». لكنه اليوم، في ضوء تغريدات ترامب حول الانسحاب، مجبر على ابتلاع لسانه تماماً، والبحث في المقابل عن أسس «فكرية» جديدة، لهذه الستراتيجية العجيبة المتمثلة في مجابهة التهديد الروسي عن طريق… الانسحاب منه، وأمامه!
ولا يصحّ، من جانب آخر، إغفال حسّ الإحباط الذي انتاب صحيفة «نيويورك تايمز»، بما تمثله من قيمة وتأثير في قلب مؤسسات القرار السياسية والإعلامية والفكرية الأمريكية. وهو إحباط يبدأ من التحسر على رئيس أمريكي لم يتعلم أية حكمة من دروس ما بعد 9/11، خاصة هذه القاعدة الكبرى: نشر القوّات الأمريكية خارج الولايات المتحدة هو «المفتاح لوقف الإرهابيين، قبل أن يصلوا إلى الشواطئ الأمريكية»، وهو «حيوي للحفاظ على التحالفات التي تُبقي العالم آمناً». وأمّا هذا الرئيس، يندب دافيد سانغر موقّع المقال، فإنه يفضّل «فكرة استخدام الجيش لضمان أمن الحدود المكسيكية، على مجابهة روسيا وإيران وكوريا الشمالية والصين». لكنّ سانغر يتذكر ــ لحسن الحظّ! ــ أنّ ترامب لا يقوم بما هو أكثر من إعادة استنساخ نظرية سلفه باراك أوباما؛ الذي دشن نظرية أبسط في الواقع: نعتمد على شركاء محليين، ونستخدم القوّة الجوية الأمريكية إذا اقتضت ضرورة الدفاع عن المصالح الأمريكية، ثمّ نحتفل بإعادة القوّات الأمريكية إلى الوطن خلال الأعياد. وهكذا، أعاد الرئيسان الـ44 والـ45 النظر في انتشار الجيش الأمريكي ما وراء المحيط (170 ألفاً في العراق، و100 ألف في أفغانستان، خلا 17 سنة)؛ وليس غريباً، بالتالي، أن يغصّ ترامب بوجود 2000 من فتيان أمريكا على أرض سوريا!
إلى هذا، يتردد أنّ عدداً من معاوني ترامب المقرّبين كادوا أن يشدّوا الشعور رعباً، قبل السخط، إزاء قرار يحمل كلّ أوجه السوء، في أبعاده جمعاء (ما خلا إعادة «فتياننا» إلى أمريكا خلال الأعياد)، على الأصدقاء والحلفاء، قبل الخصوم والأعداء. والمرء، بالطبع، ليس بحاجة إلى عناء من أيّ نوع لكي يعدد الخاسرين من قرار الانسحاب (دولة الاحتلال الإسرائيلي أولاً، ثمّ الفصائل الكردية التي رهنت مصيرها بالقرار الأمريكي شرق الفرات وفي منبج و20 انتشاراً عسكرياً أمريكياً على الأقلّ في مناطق الجزيرة الحدودية مع تركيا والعراق، فضلاً عمّا تبقى من صبيان «المعارضة» السورية الذين تعلقوا بأذيال واشنطن، ثمّ الحلفاء أمثال السعودية والأردن…)؛ مقابل الرابحين من القرار إياه (روسيا فلاديمير بوتين، إيران «الحرس الثوري» و«فيلق القدس» و«حزب الله» والميليشيات ذات التمذهب الشيعي كافة، تركيا رجب طيب أردوغان وفصائل «المعارضة» السورية المسلحة الملحقة بالجيش التركي، ما تبقى من وحدات عسكرية موالية لنظام بشار الأسد…).
ولا فائدة تُرجى، هنا ومرّة أخرى، من توجيه الملامة إلى قيادات الفصائل الكردية المسلحة التي انضوت تحت المظلة الأمريكية، فليست الخيانة الأمريكية جديدة على التاريخ الكردي؛ بأسره في الواقع، في تركيا والعراق وإيران، قبل سوريا؛ وليس جديداً، أيضاً، أن تتخذ تلك الخيانات صفة الغدر المعلَن، الذي يندر أن يأتي كمفاجأة مباغتة، إلا عند السذّج بالطبع. لقد اختلطت، مراراً وتكراراً، أوراق القوى الكردية، ومعها تبعثرت الحسابات وتشرذمت واتخذت مسارات معاكسة؛ لدى «حزب العمال الكردستاني» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» مرّة، وعند «وحدات حماية الشعب» و«قوات سوريا الديمقراطية» مرّة أخرى؛ على امتداد مناطق الجزيرة السورية، في محيط دير الزور وشرق الفرات، على خطوط أحياء حلب الشرقية، وفي منبج وعفرين. وإذا كانت عفرين آخر شهيدات الرهانات الأمريكية البائسة للقيادات الكردية، فإنّ منبج سوف تكون الشهيدة المقبلة والفريسة التي يتطلع الرئيس التركي إلى قضمها، على مرأى من أمريكا، ومسمع من… موسكو!
ولست أختم هذه السطور دون ابتهاج شخصي بقرار ترامب سحب القوّات الأمريكية من بلدي، إذْ أنه في المقام الأوّل يُنقص الاحتلالات واحداً، رغم أنه يُبقي سوريا محتلة من إيران وروسيا وتركيا، إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي؛ برّاً وبحراً وجوّاً. وهي احتلالات ليست دون استطالات محلية (ميليشيات مذهبية تديرها طهران، وأخرى تموّلها موسكو وترعاها، وثالثة تتولاها أنقرة؛ مضامينها تتماثل حتى إذا اختلفت مسمياتها بين «حزب الله» أو «عصائب الحق» أو «قوات النمر» أو «درع الفرات»…). وهو، في المقام الثاني، إذْ يرتّب على أبناء سوريا مهامّ أكثر تعقيداً في وضع تحرير البلد نصب الأعين، فإنه يُشعل أكثر فأكثر أوار التناقضات بين مصالح قوى الاحتلال هذه، ويجعل تكالبها على مشاريع اقتسام البلد أشدّ صعوبة وتعقيداً.
وإنّ ضارّة للبعض قد تكون نافعة لسواد السوريين!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي
ترامب وسورية والأكراد.. انحطاط البراغماتية/ وائل السواح
قال لي والدي مرّة، وكنت فتى في العاشرة، إن الفرق بين الاستعمارين البريطاني والفرنسي أن البريطانيين مخلصون لحلفائهم وعملائهم، بينما لا يأبه الفرنسيون بذلك. والدي من مواليد 1910، وتوفي في 1992، وكان اعتزل السياسة والحياة العامة قبل ذلك بعقدين. الرؤساء الأميركيون بالنسبة له هم فرانكلين روزفلت، ودوايت أيزنهاور، وجون كينيدي. وكان آخر عهده بالسياسة، حين انفجرت فضيحة ووترغيت، فراح يشتكي لرفاقه عن المستوى الذي وصلت إليه الحال في السياسة العالمية. لم ينتظر والدي ليرى تردّي السياسة الأميركية في عهد ريغان، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما. وكان من حسن حظه أنه لم يسمع باسم دونالد ترامب، الرجل الذي ساق البراغماتية الأميركية إلى مستوى لم تعرفه سابقا من الانحطاط الأخلاقي والإفلاس السياسي.
الفرق بين براغماتية ترامب وبراغماتية الرؤساء الآخرين أن سابقيه كانوا، على الأرجح، يضعون أميركا (أو جزءا منها) في بالهم، وهم يصنعون قراراتهم، فيما لا يضع ترامب نصب عينيه سوى مصلحته الفردية الضيقة، وما يحيط بها من عائلة وأعمال ومال. لا يكترث لمبدأ، ولا يحترم قيمة، ولا يراعي صديقا أو حليفا. لم يرفّ له جفن، وهو يتخلى عن كبير موظفي البيت الأبيض الذي كان يلمّ القذارة التي يخلّفها ترامب في كلّ حركة يقوم بها، ورمى وراء ظهره كلّ مساعديه الذين يحقّق معهم المحقّق المستقلّ، روبرت مولر، في فضائح التآمر مع روسيا.
ومع ذلك، لا شيء يمكن أن يقارن بالخطوة التي أعلن عنها قبل أيام: سحب قوّاته من سورية، والتخلّي عن السوريين عموما، والأكراد في شمال شرق سورية خصوصا. وهو استخدم أكراد سورية كما يستخدم أي لاعب ورق محترف ورقة الجوكر، فحصد من ورائها ما حصد، ثمّ رمى بها بعيدا، وجمع نقوده ومضى، لا يلوي على شيء.
هل كان قرار ترامب مفاجأة؟ نعم ولا. نعم، لأن ترامب نفسه وإدارته توصلا قبل أشهر فقط (سبتمبر/أيلول) إلى استراتيجية أميركية جديدة في سورية، تقضي ببقاء غير محدود للقوات الأميركية في سورية، حتى نهاية تنظيم الدولة الإسلامية نهاية تامّة، وحتى (وأرجو الانتباه جيدا) سحب إيران قوّاتها، والكفّ عن التدخل المستمرّ في السياسة السورية. وكم كان جيمس جيفري مبعوثه الخاص لسورية فخورا وهو يتشدّق بذلك، حتى قبل أيام.
ونعم، لأن معظم مساعدي ترامب لم يكونوا موافقين على القرار، بدءا بوزير الدفاع المحنّك، جيمس ماتيس، الذي استقال الخميس الماضي، احتجاجا على انسحاب ترامب من سورية، وانتهاءً بأعضاء الكونغرس من الجمهوريين والديمقراطيين. وجاء انتقاد هذه الخطوة من أقرب المقرّبين إلى الرئيس، والمدافعين عنه. “إنه خطأ كبير”، هكذا كتب السناتور الجمهوري، ماركو روبيو، من فلوريدا، على “تويتر”، متابعا، “إذا لم يتمّ إيقاف ذلك، سوف يطارد هذه الإدارة وأميركا لسنوات مقبلة”. أما حليف ترامب، السيناتور ليندسي غراهام، الجمهوري، من ولاية كارولينا الجنوبية، فدعا إلى عقد جلسات استماع للكونغرس بشأن القرار.
وحدّدت صحيفة واشنطن بوست الرابحين من قرار الرئيس ترامب بأربع فئات: إيران وروسيا وبشار الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، بينما حدّدت الخاسرين باثنين: الأكراد وإسرائيل، ناسية طبعا السوريين بعمومهم، فهم لا يشكّلون كبير فرق.
لم تكن الخطوة مفاجئة جدا من منظور آخر، فنحن لم نعرف عن ترامب يوما اهتمامه الحقيقي بأي قضية أو شعب أو مهمّة. وإن كان ثمّة ولاء حقيقي لترامب، سوى ولائه لنفسه وشركاته، فهو للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد توصّل بوتين وتركيا إلى اتفاق فيما يخصّ الشمال السوري، ولا يتعيّن على الولايات المتحدة أن تعيق ذلك الاتفاق. وفي يونيو/حزيران 2017، قال السفير الأميركي السابق في سورية في مقابلة مع صحيفة الشرق الأوسط: “أعتقد أن ما نقوم به مع الأكراد ليس فقط غباء سياسيا، بل غير أخلاقي. الأميركيون استخدموا الأكراد سنوات طويلة خلال حكم صدام حسين”. هل تعتقد أن الأميركيين سيعاملون حزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب، بشكل مختلف عما عامل (وزير الخارجية الأسبق) هنري كيسنجر الأكراد العراقيين (عندما تخلى عنهم)؟ “بصراحة، مسؤولون أميركيون قالوا لي ذلك. الأكراد السوريون يقومون بأكبر خطأ عندما يضعون ثقتهم في الأميركيين”.
وبعد ذلك بسنة، كتب صاحب هذه السطور في “العربي الجديد” أن المبعوث الخاص الأميركي إلى التحالف العالمي لهزيمة داعش، بريت ماكغورك، قرّر أن يستخدم الكرد رافعة للحرب على التنظيم الإرهابي، رافضا التعاون مع المكوّنات السورية الأخرى. ونجحت “قوّات سوريا الديمقراطية” ووحدات حماية الشعب، في إزالة “داعش” من منبج، بعد أن عبرتا نهر الفرات، وخاضتا، خلال أكثر من ثلاثة أشهر في صيف عام 2016، معارك ضارية وصعبة للغاية ضدّ “داعش”، فقدتا خلالها نحو ثلاثمائة مقاتل. ومنذ ذلك الحين، خفّت، إلى حدّ كبير، حدّة العمليات الإرهابية في العالم، ومن ثمّ بدأت قبضة “داعش” تفلت في سورية، إلى أن تمّ القضاء عليه نهائيا. في الوقت نفسه، بعد معركة منبج، بدأت تركيا في تلك المنطقة عملياتها المسمّاة “درع الفرات”، والتي دعمت فيها تركيا قوى المعارضة، وقامت، فيما بدا أنه غضُّ طرفٍ من الأميركان والروس، بتطهير هذه المنطقة المسماة جيب منبج من “داعش”. وبذلك أحكمت إغلاق الزجاجة، حيث كان “داعش” يحاول التسلل داخل سورية وخارجها. ليس هذا الأسلوب غريبا على واشنطن، وليس غريبا أيضا أن يقع الكرد مرّة ومرّة في هذا المطب. لقد عانوا عقودا طويلة جدا من سياسة تمييز قومي ومجتمعي من نظام “البعث” الحاكم في سورية، لذلك حين فتحت أمامهم أبواب للنجاة، ما كان عليهم سوى أن يخرجوا منها.
ولم يكن ذلك بدون ثمن، فقبل يوم واحد، وقّعت تركيا اتفاقا مع الولايات المتحدة لشراء 80 صاروخا من طراز باتريوت بقيمة 3.5 مليار دولار. هو سعر معقول للتخلي عن الأكراد، وترك سورية لإيران وترك الأكراد لتركيا. وما على الرئيس أردوغان الآن سوى التفكير في صفقة ينتج عنها تسليمه خصمه التاريخي فتح الله غولن. ولم لا؟ إنه عالم خالٍ من القيم. إنه عالم ترامب.
العربي الجديد
عن مسألة الانسحاب الأمريكي من سوريا وتداعياته المحتملة/ زياد ماجد
فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إدارته ومعظم المسؤولين في الولايات المتّحدة الأمريكية وفي العالم بتغريدة أعلن فيها قراره سحب قوات بلاده الخاصة المتمركزة في الشمال الشرقي السوري، في إطار ما يُعرف بـ”التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب”.
والمفاجأة كمنت في توقيت الإعلان وشكله أكثر منها في القرار نفسه. فترامب لم يبدُ مرّة مكترثاً بالشأن السوري. وهو، وإن عاب على سلفه باراك أوباما انسحاباً مبكراً وغير موفّق من العراق، سبق وأعلن خلال حملته الانتخابية ثم في مناسبتين في العامين الماضيين عن رغبته في سحب الجنود الأمريكيّين (المقدّر عددهم بألفي مقاتل) من سوريا، حتى قبل اكتمال “انتصارهم” وحلفائهم في الميليشيات الكردية على تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، سبب تدخّلهم المعلن في الصراع هناك صيف العام 2014.
لكن التوقيت الآن، بعد تصعيد الإدارة الأمريكية سياسياً واقتصادياً ضد طهران والانسحاب من الاتفاق النووي معها، وبعد تعيينها جيمس جيفري مبعوثاً خاصاً لِسوريا، وبعد تصريحات لعدد من صقورها أكّدت على البقاء في المنطقة إلى حين التأكّد من انسحاب إيران وحلفائها منها، داهمت كُثراً ودفعت وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس إلى الاستقالة، وأطلقت العديد من التكهّنات.
تركيا وأكراد سوريا
من هذه التكهّنات ما يرتبط بتوقيت الإعلان الترامبي بُعَيد اتصال مباشر مع الرئيس التركي رجب طيّب اردوغان، الذي يحشد منذ فترة قواته ويهدّد بالتدخّل ضد الميليشيات الكردية في منبج وشرق الفرات لإبعادها عن الحدود مع بلاده وضرب مشروعها السياسي السيادي. وهذا قد يُفضي، إن تحقّق الانسحاب، إطلاقاً لِيد تركيا في مناطق حمى فيها الأمريكيون حلفاءهم الأكراد حتى الآن بعد أن عاونوهم بآلاف الغارات الجويّة للتقدّم على حساب “داعش”.
في المقلب الآخر، تبدو القوى الكردية عاريةً من كلّ غطاء دولي حاسم ومضطرة لخيارَين كلاهما مرّ. الأول، مواجهة احتمالات الاجتياح التركي والسعي لدى الأمريكيين والروس والأوروبيين لإبقائه محصوراً في منبج وبعض النقاط الحدودية. والثاني، التفاوض مع النظام السوري للتنسيق في مواجهة التوسّع التركي إياه، والحصول على دعم روسي لهكذا تنسيق، بما يعني “الاستسلام” لشروط الأسد وموسكو والتراجع عن معظم الطروحات الاستقلالية وفتح المناطق الشرقية والشمالية الشرقية أمام جيش النظام وميليشياته (ومعها الميليشيات الشيعية الموالية لطهران). وهذا كلّه غير مضمون للأكراد في أي حال، إذ أن أنقرة تفاوض أساساً مع كلّ من روسيا وإيران كما مع الولايات المتحدة، ويمكن لها مقايضة بعض إدلب ببعض الشمال الشرقي السوري إذا اضطرّت، أو حتى الاكتفاء بتفاهمات مع موسكو لدعم الخطط الروسية للمرحلة المقبلة من دون الحاجة إلى “تنازلات” كثيرة.
إيران وإسرائيل
من التكهّنات المطروحة أيضاً، ما يتعلّق بالمعادلة الإيرانية – الإسرائيلية سورياً وتطوّرها، وما يُظهره قرار ترامب من تراجع للدور الأمريكي المباشر الملوَّح به سابقاً في مواجهة طهران داخل سوريا، مقابل عودة التصعيد الإسرائيلي ضدّها واستئناف ضرب مواقعها ومواقع حلفائها (وهو ما تقلّص في الأشهر الأخيرة بِطلب روسي). وإذا تأكّد ما تسرّب في الصحافة من أن نتنياهو كان المسؤول الأجنبي الوحيد الذي أطلعه ترامب على قراره قبل تغريده، ففي الأمر ما يشير إلى وعود بتغطية واشنطن لهكذا عمليات تطمئن تل أبيب القلقة من التداعيات المحتملة للانسحاب الأمريكي على مسألة الانتشار الإيراني والنشاط الحزب-إلهي على مقربة من الجولان المحتل.
روسيا كمستفيد أوّل
يبدو من كلّ ما ورد آنفاً أن روسيا ستكون الأكثر استفادة من قرار الرئيس الأمريكي. فهي ستحاول تكريس قيادتها للمسارات السياسية كما للديناميات الميدانية السورية في غياب منافس دولي لها وفي لحظة انتقال مهمّة الوساطة الأممية المترنّحة من ستافان دي مستورا (الذي لم يقترن اسمه بغير الفشل) إلى غير بيدرسون. وهي ستعمد على الأرجح إلى تعزيز السيناريوهات التي تقسّم الأدوار بين مختلف الأطراف الإقليمية (إيران وإسرائيل وتركيا) بما يبقيها جميعاً محتاجةً إلى “تحكيمها”. ولا يُستبعد مثلاً أن تقبل موسكو بتوسيع أنقرة لرقعة سيطرتها شمالاً وأن تعمد بالمقابل إلى رعاية اتفاق بين النظام والقوى الكردية يجعل باقي مناطق الشمال الشرقي والشرق بعهدتهما معاً مؤقتاً. كما لا يُستبعد أن تغضّ النظر عن تصعيد إسرائيلي ضد إيران وحلفائها شرط بقائه محصوراً جغرافياً وعدم خروجه عن السيطرة. أما طهران التي تركّز اهتمامها على الحدود العراقية السورية والسورية اللبنانية وبعض المناطق المحيطة بدمشق ومطارها الدولي حيث تنتشر الميليشيات الموالية لها في مدن وبلدات أُفرغت من سكّانها، فتدرك ضيق هوامشها وتكتفي راهناً بما تسيطر عليه وبالرهان المعهود في استراتيجيتها على الوقت وعلى “ملل الخصوم وتعبهم”.
على أن كل ما ورد يبقى بالطبع مشروطاً بتحوّل قرار ترامب المُعلن إلى إجراءات ميدانية سريعة. وهذا ما ليس مؤكّداً بعد لعدّة أسباب، منها احتمالات طلب مستشاريه ومعهم المؤسسة العسكرية تأجيله أو تنفيذه على مراحل لا تُخرج واشنطن تماماً من المعادلة. ومنها أنّ كثرة من حلفاء الولايات المتّحدة التقليديّين في أوروبا (فرنسا وبريطانيا ولهما أيضاً قوات خاصة على الأرض ضمن “التحالف الدولي”) وفي المنطقة (إسرائيل والمملكة العربية السعودية) لا يحبّذونه كلّ لأسبابه. ومنها أخيراً أن ترامب المحتاج إلى إعلان “إنجاز” ما اختار أن يسمّيه “انتصاراً على الإرهاب” في لحظة تعرّضه لضغط داخلي نتيجة التحقيقات الخاصة بعلاقاته الروسية غير المشروعة، وبصدامه مع الديمقراطيين (وبعض الجمهوريّين) حول تمويل الجدار على الحدود مع المكسيك، إنما يستطيع لاحقاً اعتبار لوجستيات الانسحاب الذي أعلنه وجدوله الزمني مسائل تقرّرها إدارة القوات الأمريكية، بما يمنح واشنطن المزيد من الوقت لإتمام اتفاقات وتفادي سيناريوهات تزيد من إرباكها ومن تهاوي سطوتها دولياً.
وهذا كلّه يعني أننا ندخل في مرحلة جديدة من مراحل الصراع الطويل في سوريا وعليها، من دون أفق واضح أو معطيات ديبلوماسية وميدانية يمكن أن تحسم الأمور في المدى المنظور.
* كاتب وأكاديمي لبناني
القدس العربي
قرار ترامب بالانسحاب من سوريا يُعيد خلْط الحسابات/ وسام سعادة
لا يكاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب يُنهي جولة كباش مع الأجهزة الاستخبارية، حتى يفتتح واحدة جديدة مع وزارة الدفاع. قراره بسحب القوة الاميركية شمال شرق سوريا أسعدَ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافرورف بالقدر نفسه الذي أغضبَ فيه وزير الدفاع الاميركي جيمس ماتيس. أسعدَ في الواقع أطرافاً كثيرة ومتباينة في المنطقة ستتبارى لاحقاً لتقرير من له، منها، مصلحة في هذه الخطوة. المتضرر المباشر: «وحدات حماية الشعب» الكردية. المستفيد المباشر: لا يمكن تحديده بهذه البداهة. لن يكون ثمة رادع امام عمليات تنفذها تركيا ضد هذه الوحدات في المستقبل. الخطوة الترامبية تسحب البساط من تحت الميليشيات الكردية في المنطقة، لكنها تجعل من النزاع على هذا البساط عنواناً للسنة القادمة، وبامتياز. الفراغ الذي سيخلقه هذا الانسحاب من يشغله؟ الاكراد؟ تركيا؟ روسيا؟ ايران؟
ماذا قبل كل شيء عن تنظيم «داعش»؟ ترامب يربط قرار سحب القوات الخاصة الاميركية بالنصر على هذا التنظيم، والانتقال من بعدها الى مرحلة جديدة في مكافحة الارهاب. يأتي هذا بعد أسابيع من تشديد رئيس هيئة اركان الجيوش الاميركية جو دانفورد على انه يلزم تجنيد وتدريب نحو 45 الف مقاتل محلي لحفظ الامن في الشرق السوري. هذا في مقابل تصعيد كلامي روسي وصف مؤخراً الوجود الاميركي في سوريا بغير الشرعي. ترامب الذي فضّل خلافة مارك ميلي لدانفورد في المنصب العسكري الرفيع، بدلاً من ديفيد غولدفاين الذي مالت له المؤسسة، قفز رأساً على كل هذا الثبات في الدفاع وعند العسكر على فكرة الاستمرار بالوجود العسكري في سوريا.
يسمح القرار الترامبي بتفادي موجة جديدة من التوتر بين واشنطن وأنقره، لكنه يبدو، لوهلة أولى أقلّه، متناقضاً مع النبرة التصعيدية الاميركية تجاه ايران وتمدداتها بالمنطقة. ليست قليلة عناصر الخلخلة التي تقاسيها المنطقة، ولا هي قليلة عناصر الخلخلة المزيدة التي يوفّرها عند كل منعطف دونالد ترامب. يبقى ان ترامب يخلق فراغاً سيتسابق الجميع للاستفادة منه. القرار يحشر وحدات الحماية في الزاوية، لكنه يثير شهوات كل اللاعبين الاخيرين.
منذ اشهر والتقارير تتوالى حول استعادة تنظيم “داعش” للتشابك بين مجموعاته، وزيادة فعاليته في القتال في الشرق السوري. القرار من شأنه توفير مناخ لتعويم “داعش” من جديد. لكن الأهم والأخطر أنه يخلق دينامية تسابق بين الجميع، تركيا وإيران والنظام السوري، للاستفادة القصوى والأسرع من الواقع الجديد. القرار «تجريبي» إذا: سحب القوات الخاصة الاميركية سيخلق واقعاً جديداً مجهولاً بالكامل من قِبل من اتخذه، ولا يمكن أن يفرز هذا الواقع الجديد إلا بنتيجة جولة تزاحمية جديدة بين الأطراف المتواجهة لتقرير من سيكون المستفيد الأول ومن سيكون الخاسر الأول من هذا.
بمغادرة الاميركيين سوريا تنتهي ايضاً فترة التجاور بين الاميركيين والروس على أرض ملتهبة واحدة، ليترك الواقع السوري ككل أكثر فأكثر للثنائية الروسية ـ الايرانية، مع تناقض تركي – كردي يدخل الآن عتبة لحظة جديدة، وسياسة اسرائيلية في المنطقة عنوانها الأبرز استيعاب أن الاميركيين يميلون أكثر فأكثر الى مصلحة في الانسحاب من جغرافيا المنطقة في هذه المرحلة.
لأنه، على الرغم من التنافر بين البنتاغون وترامب بالنسبة الى هذا الملف، يمثّل قرار ترامب التطبيق الحرفي لشعاراته في الحملة الانتخابية، ومن ورائها لمنطق ان الهيمنة الاميركية على العالم لا تكون بإرهاق القوة العظمى نفسها بالتدخلات في كل مكان، وإنما بالتنقل «الاكروباتي» (البهلواني) بين التدخل هنا والانسحاب هناك، والتفرّج على تداعيات التدخلات والانسحابات التي تُعيد توزيع الاوراق والحسابات بين الاطراف عند كل «ارتجال» رئاسي اميركي.
ما زال من الصعب الحكم بوضوح على الايقاع الترامبي، وما الذي يمكن ان تكون محصلته، وبخاصة مع اقتراب العدّ العكسي للمنازلة الانتخابية الرئاسية الاميركية. في المقابل، كل هذا الاصطدام مع المحقّقين الفدراليين، الاستخبارات المركزية، قضاة، وسائل اعلامية، وزارتا الخارجية والدفاع، وبعد الانتخابات الاخيرة، مع الكونغرس، وترامب لم يضعف ولم ينزوِ. قلّ الرؤساء في الغرب الذين يلتزمون ببرامجهم الانتخابية بهذا الشكل الحرفي مثل ترامب، والمفارقة أنه في كل مرة يطبّق ترامب واحداً من بنود برنامج حملته ثمة من يعتبر ذلك مفاجئاً!!
المستقبل
وفعلها البرتقالي!/ بكر صدقي
منسجماً مع وعوده الانتخابية، كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد تحدث، في شهر آذار الماضي، عن الانسحاب العسكري من سوريا. وإذ عاندته المؤسسة العسكرية والدبلوماسية والأمنية، حينذاك، أعطاهم مهلة تسعة أشهر قبل البدء بالانسحاب. الآن انتهت الأشهر التسعة، فظل ترامب وفياً لوعوده، فأصدر أوامره بالانسحاب الكامل والسريع. ومع ذلك فاجأ قرار ترامب الجميع. فهو، بهذا المعنى، قرار مفاجئ وغير مفاجئ في الوقت نفسه.
ووجه المفاجأة فيه هو أنه لم يمض وقت طويل على إعلان وزير الخارجية مايك بومبيو، ومبعوثه الخاص جيمس جيفري، عن تفاصيل استراتيجية أميركية جديدة لسوريا قائمة على 3 نقاط: هزيمة تنظيم داعش بما يقطع الطريق على عودته مرة أخرى، وإخراج إيران من سوريا، ووضع ترتيبات انتقال سياسي في سوريا. إعلان ترامب، من هذا المنظور، يعني طي صفحة هذا البرنامج الطموح، بما أن الأهداف الثلاثة لم تتحقق، وإن كانت الحرب على داعش قد حققت بعض الإنجازات الميدانية. كذلك هي الحال مع تصريحات كثيرة من أركان البنتاغون فحواها توقع بقاء مديد للقوات الأميركية في سوريا.
تحدثت التسريبات عن أن ترامب قال لنظيره التركي أردوغان، أثناء المكالمة الهاتفية التي جرت بينهما،
الأسبوع الماضي: “سأقول لك شيئاً. أتريد سوريا؟ خذها إن شئت. نحن عائدون إلى الوطن”! مع ذلك لا يصح اعتبار قرار ترامب بالانسحاب، هدية يقدمها لتركيا التي طالما هددت بملاحقة من تصفهم بالإرهابيين من وحدات حماية الشعب الكردية في منطقة شرق الفرات الواقعة تحت الحماية الأميركية، وطالما ضغطت على واشنطن لفك تحالفها مع تلك الوحدات. ذلك لأن دخولاً عسكرياً تركياً إلى تلك المنطقة، بتفاهم مع واشنطن شيء، وبعد خروجها منها شيء آخر. وبالنظر إلى أن هدية ترامب هي لبوتين أكثر مما لأردوغان، سيكون على تركيا، بعد إتمام الانسحاب الأميركي، الحصول على موافقة موسكو بدلاً من واشنطن، وهو أمر ليس مضموناً في الجيب.
وهكذا كان أول رد فعل تركي على القرار الأميركي هو الحديث عن تعليق موعد العملية العسكرية شرق الفرات إلى أجل غير مسمى. وهو ما قد يعني أن التهديدات التركية كانت، أصلاً، نوعاً من التهويش لاستدراج تنازلات أميركية في مناطق أخرى، منبج مثلاً، حيث لم ينفذ الأميركيون تعهداتهم لأنقرة بشأنها، وواصلوا المماطلة والتسويف. الآن وقد زالت العقبة الأميركية، وجد الأتراك أنفسهم، فجأة، في مواجهة الفراغ. وهو ما سوف يستدعي إعادة تقييم الموقف قبل التورط في أي توغل بري جديد.
روسيا بوتين هي الرابح المطلق من قرار ترامب. فقد باتت مستفردة تماماً بكل جوانب المشكلة السورية. هي التي ستوزع المغانم السياسية من الانسحاب الأميركي بين تركيا وإيران وإسرائيل. وكذا فيما يتعلق بالمسار السياسي. ففي ظل غياب أي سياسة أميركية لسوريا (بعد طي صفحة الاستراتيجية الأميركية المذكورة أعلاه) سيواصل بوتين المضي في تسويته السياسية، مع شريكيه الضعيفين في ثلاثي سوتشي، إيران وتركيا، وربما مع الاستغناء التام عن أي مساهمة للأمم المتحدة، حتى بذلك الشكل الهزيل الذي مثله المفوض الأممي المستقيل ستيفان ديمستورا.
من الأسئلة الملحة التي يطرحها قرار ترامب: ما هو مصير التحالف الدولي لمحاربة داعش، بعدما اعتبر ترامب أنه تم القضاء على المنظمة الإرهابية، مسوغاً بذلك قراره؟ أما “ما تبقى” من تلك المنظمة فقد رمى ترامب بمسؤولية القضاء عليه على “دول المنطقة، بما فيها تركيا” على ما جاء في أحدث تغريداته. فهل نتوقع قراراً ترامبياً جديداً بخروج الولايات المتحدة من التحالف الدولي؟ أم أن من شأن ضغوط فرنسية – بريطانية أن تقنعه بمواصلة العمل ضمن التحالف، أقلّه على مستوى سلاح الطيران، حتى تحقيق الهدف الأصلي من إنشاء التحالف، أي القضاء التام على داعش (وإن كنا لا نعرف ما قد يعنيه ذلك، وكيف يمكن التأكد من “تعقيم” العالم ضد هذا السرطان).
وإذا كان أكبر الرابحين هو روسيا بوتين، فأكبر الخاسرين من قرار ترامب هو “وحدات حماية الشعب” بما لا يقبل الجدل. يتوقع كثيرون أن تتجه تلك الوحدات، وجناحها السياسي “حزب الاتحاد الديموقراطي” إلى إعادة التحالف مع نظام دمشق الكيماوي للاحتماء من أي توغل تركي محتمل. ولكن يفوت أصحاب هذا التوقع أنه لم يعد هناك قرار مستقل في دمشق، بعدما أصبح رسن النظام في يد موسكو إلى حد بعيد. وهنا إذا أرادت روسيا إعادة النظام إلى مناطق شرق الفرات، استكمالاً لديكورات التسوية السياسية، في هذه الحالة فقط يمكن أن تنسق القوات الكردية لعودة النظام الرمزية إلى تلك المنطقة.
إيران بدورها ستتنفس الصعداء، بعد أشهر عصيبة وقاتمة من توقع الأسوأ من جهة تضييق الخناق الأميركي عليها. لكن قواتها ستبقى تحت رحمة الطائرات والصواريخ الإسرائيلية التي ستواصل ضرب المواقع الإيرانية في سوريا بضوء أخضر روسي.
الخلاصة أن قرار ترامب سيشكل بداية مرحلة جديدة في الصراع في سوريا وعليها، أبرز سماتها الموقع القيادي المتفرد لموسكو. أما فرنسا التي أعلنت أنها باقية في سوريا، فمن المحتمل أن تسحب العدد الرمزي لقواتها من سوريا قريباً، بالنظر إلى أنها لا تملك القدرة على مواجهة أي مخاطر يمكن أن تتعرض لها (من النظام أو تركيا أو داعش).
وعلى ذكر داعش، لن نفاجأ إذا عادت المنظمة إلى استعادة زمام المبادرة وتفعيل خلاياها النائمة في مناطق سورية عديدة، لتعود لاعباً مهماً في الصراعات العسكرية.
من المستبعد أن يتراجع ترامب عن قراره، بعدما استقال وزير الدفاع جيمس ماتيس، وكذا ممثل الولايات المتحدة في التحالف الدولي ماك غورك، على خلفية قرار الانسحاب. إلا إذا أراد صاحب الشعر البرتقالي أن يفاجئ العالم بتغريدة جديدة تحبس الأنفاس.
تلفزيون سوريا
ماذا سنفعل من دون أمريكا؟/ عمر قدور
لو افترضنا جدلاً وجود أوباما على رأس الإدارة الأمريكية، وأنه هو من اتخذ قرار الانسحاب من شرق سوريا معلناً إنجاز مهمة قواته، فلن نحظى قطعاً بردود الأفعال التي رافقت القرار ذاته الذي اتخذه ترامب. لن يُنظر إلى القرار “لو اتخذه أوباما” كنزوة شخصية من صاحب مزاج هوائي، أو من شخص يشكك الإعلام الأمريكي في كفاءة قواه الذهنية. لن تندر في هذه الحالة التحليلات الموسعة والمعمقة عن كون القرار استكمالاً لسياسته في العزوف عن منطقة الشرق الأوسط والتوجه إلى شرق آسيا، وبالطبع لن تدور الشبهات حول علاقة خاصة تربطه بموسكو، أو حول مصالح تجارية شخصية هنا أو هناك.
ما يشجع على طرح الافتراض السابق هو وجود مقدّمات قوية ليفعلها سلف ترامب، ربما على نحو أقل خفة فلا يصدر قراره على تويتر. عدم إبلاغ مسؤولين كبار في الإدارة بنواياه، على نحو ما فعل ترامب، لن يكون نقطة افتراق بين الرجلين، فأوباما أيضاً ظهر في أكثر من مناسبة تخص الملف السوري كصاحب قرار متفرد أو متسلط، وبينما كانت تصريحات وزيري خارجيته على التوالي تذهب في اتجاه كان يفاجئ الجميع بالمضي في اتجاه آخر. ينبغي ألا ننسى أنه فاجأ أركان إدارته بصفقة الكيماوي مع بشار الأسد، وألا ننسى ما نُقل عن تلهيه بجهاز الآيباد عندما كان يُطرح الملف السوري في مناقشات مجلسه للأمن القومي كرسالة مزدوجة للحاضرين تتضمن عدم اكتراثه ورغبته في الاستئثار بالقرار.
التدخل العسكري الروسي في سوريا أتى في عهد أوباما، وكذلك أتى قبله التدخل الإيراني، وفي المرتين بموافقة أمريكية. في بعض المناسبات، عندما سُئل أوباما من قبل الإعلام عن سبب إحجامه عن التدخل في سوريا كان يقدّم إجابات من نوع: لماذا نتدخل ما دام المتطرفون من جميع الأطراف يتقاتلون ويخسرون؟ أو من نوع: لماذا لا يقوم الذين يطالبوننا بالتدخل بذلك بأنفسهم ولماذا نقاتل نيابة عنهم؟ رغم معرفتنا آنذاك بلجم إدارته قوى إقليمية متحفزة لإسقاط بشار، ودور مخابراته في تقنين الدعم للفصائل المحلية، مع الإصرار على “الحل السياسي” الذي يعني تغييراً في النظام لا تغييره كما يطالب السوريون.
من هذه الناحية لا يضيف ترامب جديداً على سياسات سلفه، باستثناء نزوعه الشخصي إلى الاستعراض أو الابتذال. هو أحياناً يكرر عبارات أوباما بصياغة المقاول نازعاً عنها صبغة الحنكة السياسية المزعومة، بالتعبير التراثي العربي القديم هو “يهلهل” تلك البلاغة السياسية فحسب، وهذا في الأصل من الأسباب القوية لنجاحه في الأوساط الشعبوية. يبقى المغزى الأهم أننا نجد تقاطعاً عملياً بين واحد من أفضل الرؤساء الديموقراطيين ونظيره الجمهوري الذي لا يندر أن يُوصف بالأسوأ على الإطلاق، وأن يُقال الشيء ذاته بصياغتين مختلفتين فذلك نوع من التأكيد على توجه موجود وقوي في أوساط الديموقراطيين والجمهوريين معاً، مثلما نجد خصوماً لهذا التوجه في المعسكرين. ربما، كل ما في الأمر، أن الانسحاب الأمريكي في عهد أوباما كان أكثر رصانة، وأكثر بعداً عن منطق الابتزاز المالي العلني، لكنه لم يكن بعيداً دائماً عن منطق الصفقات القذرة كما حدث في صفقة الكيماوي.
المسألة لا تتعلق بشرق سوريا فقط، فالانسحاب الأمريكي بدأ عملياً منذ تسليم العراق لطهران مع انحسار تأثير المحافظين الجدد في واشنطن. تجربتا العراق وأفغانستان، التي لا تريد نسبة ضخمة من الأمريكيين تكرارهما، هما مثال على التقدم الأمريكي خارج مناطق النفوذ التقليدية الموروثة من حقبة الحرب الباردة. وفق نمط التفكير السائد لدينا، والذي يعود في جزء منه إلى الحقبة نفسها، سيبدو مستغرباً ذلك الإحجام الأمريكي عن الهيمنة المباشرة المتاحة بسهولة، ففي العقل السائد لدينا صورة أمريكا ذات النزوع المطلق إلى السيطرة، سواء أتت تلك الصورة من بوابة العداء لها، أو من نافذة التمني.
نستطيع الآن استذكار عقد كامل، منذ بدء ولاية أوباما الأولى، من محاولات عربية لـ”توريط” الإدارة الأمريكية في شؤون المنطقة، ورغم ما بدا من نجاح نسبي صغير هنا أو هناك بقيت السمة العامة للسياسة الأمريكية هي عدم الانخراط في المنطقة كما يشتهي كثر. الرهان المضمر الدائم كان أن أمريكا تتمنع وهي راغبة، وأنها تحتاج إما إلى ذريعة مناسبة أو إلى “مَهر” غالٍ! احتمال أن تكون أمريكا لا تريد هذا أو ذاك لم يُطرح بجدية مناسبة طيلة هذه الفترة، ولا نعدم الآن “مع تأكيدات ترامب على سياسة الانسحاب” تلك التحليلات العربية التي تصرّ على خطأ القرار وتتنبأ بالتراجع عنه، وحتى التركيز على خفة ترامب ومزاجيته يحدوه أمل ما بتراجع سريع لتبقى صورة أمريكا كما هي راسخة من قبل.
في الذاكرة الأمريكية درس فيتنام ثم درس العراق وأفغانستان، بينما لا يوجد في الذاكرة العربية أي درس، بما في ذلك درس العراق حيث لم يكن هناك انخراط عربي موازٍ للغزو الأمريكي، بل تُرك الأمر برمته لعهدة الإدارة الأمريكية والتمدد الإيراني الذي سيصبح الشريك الوحيد على الأرض. الحرب في سوريا لم تقدّم مثالاً أفضل عن القيادات العربية التي أغرقت نسبة كبيرة من الفصائل بأموالها وفسادها وخلافاتها المستمدة من الخلافات العربية، والحرب على الحوثيين بدورها لم تقدّم مثالاً على حرب ذكية تُدار بأعلى من قدرة الخصم على استنزاف القوات المهاجمة. وبينما التقطت قوى إقليمية أخرى إشارة الموافقة الأمريكية على التدخل الروسي اعتبرت القيادات العربية تلك الموافقة قدراً ينبغي الانصياع له، فلم نجد منها حراكاً يماثل الحراك التركي أو الإسرائيلي، رغم أن التدخل الروسي لا يخفي أبعاده الاستراتيجية ومطامعه في ملء فراغ أي انسحاب أمريكي.
قد لا نكون اليوم إزاء انسحاب أمريكي شامل من المنطقة، هذا لا يلغي الفكرة من حيث المبدأ، ولو خضعت أحياناً للتجاذبات الداخلية الأمريكية، وأحياناً أخرى لمتطلبات الابتزاز الخارجي. ينبغي ألا ننسى وجود قوى دولية وإقليمية متحفزة لملء الفراغ، وهي التي ستتولى المفاوضات مع واشنطن لتنظيمه إذا حدث، ولتنسيق المصالح مع واشنطن التي لن ترحل نهائياً بل ستبحث عن شركاء محليين يضبطون إيقاع المنطقة ويعفونها من الانشغال بتفاصيلها. السؤال الذي لا تتحمل مسؤوليته قيادات عربية نعرف مدى تهافتها، السؤال الموجَّه إلى عقولنا أيضاً هو: ماذا سنفعل بدون أمريكا؟ وربما: ماذا نفعل كي لا يكون رحيلها أكثر كارثية من وجودها؟
المدن
أميركا ترسّخ إيران في سورية/ غازي دحمان
من المفارقة وضع انسحاب أحد الأطراف المحتلة لسورية في خانة المصائب التي تنتظر هذا البلد المنكوب، ذلك أن الوجود الأميركي في سورية، وعلى الرغم من كل مساوئه، يظل العامل الوحيد لتحقيق توازن، مهما كان هشّاً، في مواجهة التغولات الروسية والإيرانية، في غياب الأمم المتحدة، أو أي طرف دولي فاعل. ومن المفارقة أيضاً تزامن الإعلان عن قرار الانسحاب الأميركي مع وعيد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بشن حربٍ لا هوادة فيها على الفصائل في سورية، وتفاخره بتدمير الكتلة الأساسية من المسلحين، وكذلك محاولة روسيا تلفيق تركيبة للجنة الدستورية التي على أساسها سيقول الروس للعالم: لقد نفذنا كل الاستحقاقات المطلوبة منا، فنفذوا أنتم التزاماتكم.
يضرب قرار الانسحاب الأميركي كل الرهانات على إمكانية تحقيق أي توازن محتمل لصياغة تسوية للأوضاع السياسية، فسيلغي هذا الانسحاب أي دافعٍ أو محفّز للطرف الآخر، من أجل السير في طريق هذه التسوية، وعندما تكمل أميركا انسحابها من مناطق شرق الفرات، فإنها بذلك ستكون قد تحوّلت إلى طرف هامشي بدون أي فاعلية، سوى المساومة على ورقة إعادة الإعمار، وهو أمر غير مضمون بدوره مع شخص مثل رئيس الإدارة الأميركية، دونالد ترامب، الذي يتبدل ويتغير في كل لحظة.
ليست معلومة الأسباب التي دفعت إدارة ترامب إلى اتخاذ هذا القرار المفاجئ، ولا طبيعة التقديرات التي أوصت به، غير أن متابعة ما يصدر عن الإدارة الأميركية في المرحلة السابقة كان يوحي بأن إستراتيجية ترامب السورية قد تبلورت واتضحت آلياتها وأهدافها، كما أن وزارة الدفاع زادت، في الشهور الأخيرة، من أصول أميركا العسكرية في مناطق شرق الفرات، وقد رسخ ذلك القناعة لدى المهتمين بأن هذه الإستراتيجية ستستقر سنوات طويلة، وستكون أحد عناوين الأوضاع في الشرق الأوسط، وأنها ستضغط على روسيا، من أجل التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية.
هل فاضلت إدارة ترامب علاقاتها بتركيا عن وجودها في شرق سورية؟ ربما، وخصوصا بعد الإعلان عن صفقة صواريخ باتريوت بين الطرفين. وهل وعدت تركيا في مقابل ذلك بتخفيف علاقاتها مع روسيا؟ لا يمكن القفز إلى جواب في هذا الإطار بسبب تشابك العلاقات بين تركيا وروسيا وتعقدها، وخصوصا في المجالات الاقتصادية، الاستثمارية والتجارية.
لكن المؤكد تخلي تركيا عن أهدافها الأساسية في سورية، إلى درجة أنها باتت تلعب في سورية وفق القواعد التي حدّدها بوتين، وحصرت أولوياتها في إطار محاربة حزب العمال الكردستاني، ومنع تشكيله قاعدة تجميع وإنطلاق في سورية، لما لذلك من تأثير، وفق التقديرات التركية، على المصالح الأمنية لأنقرة.
هل يتساوق قرار الانسحاب الأميركي مع مشروع إعادة تأهيل بشار الأسد، الذي يبدو أنه وضع على الطاولة بعد صدور مؤشرات عربية ودولية في هذا الاتجاه، خصوصا أن الدبلوماسية الأميركية أكدت أخيرا، وفي أكثر من مناسبة، أن واشنطن غير معنية بتغيير النظام، وهو ما يمنح اللاعبين الآخرين حرية السير في هذا السياق؟
وهل اقتنعت تركيا، وحسمت المفاضلة بين تأهيل بشار، واستعادته السلطة على كامل الأراضي السورية، والرهان على إسقاطه الذي لم يعد مضموناً بسبب سيطرة روسيا على الأوضاع في سورية؟ التوافق بين أنقرة وموسكو على صعيد أكثر من ملف يؤيد هذا الافتراض، كما أن كلام رئيس الوزراء التركي، جاويش أوغلو، عن احتمال إعادة العلاقات مع نظام الأسد، في حال حصول انتخابات ديمقراطية، مؤشر على تغييرات جذرية في الموقف التركي. وهذا ما يحيل إلى سؤال آخر: ما هو مصير المناطق التي ستخرج أميركا منها، هل يجري تسليمها لنظام الأسد، أم ستتشكل فيها إدارات مستقلة، أم أن الأتراك سيضمونها للأراضي التي يسيطرون عليها في غرب الفرات، الرّقة وريفها الشمالي والريف الشرقي لدير الزور، وهي المناطق ذات الأكثرية العربية؟ والمعلوم أن هذه المنطقة تحتوي معظم إنتاج سورية من النفط والغاز، فضلاً عن أنها أكبر مصدر للمياه في سورية.
ولعل السؤال الأهم في هذا السياق يتعلق بالوجود الإيراني ومصيره في هذه المنطقة الحساسة، حيث تتعامل إيران مع هذه المنطقة بوصفها منطقة نفوذ مستقبليةٍ مهمة، وقد حوّلت البوكمال وريفها إلى مركز لانطلاق عملياتها المستقبلية، وخصوصا على مستوى التشييع وتغيير التركيبة الديمغرافية في الجزيرة السورية، وقد أسست مليشيات عديدة من أبناء المنطقة، وقامت بتشييع أبناء العشائر، وخصوصا العشائر التي تنتمي لآل البيت، وهي، للمصادفة، كثيرة في هذه المنطقة، وتملك إيران قدرات لوجستية هائلة هناك، مع وجود طرق برية مباشرة بين طهران وشرق سورية، واستقرار مليشيات الحشد الشعبي العراقية في المناطق المقابلة للجزيرة السورية.
على ذلك، كل ما فعلته إدارة ترامب، في المرحلة السابقة، هو جعل إيران ترسخ نفسها قوّة مؤهلة للسيطرة على منطقة شرق الفرات بعد خروج هذه الإدارة، ويبدو أن إيران التي بات لديها خبرة بالنزق الأميركي، وسرعة التملص من الالتزامات، قد جهّزت نفسها جيداً لهذا اليوم.
قرار الانسحاب الأميركي سيحوّل سورية بالفعل إلى مستنقع للإرهاب تمارسه مليشيات الأسد بمساعدة روسيا وإيران. لا يعرف هذه الحقيقة إلا السوريون الذين استعاد نظام الأسد السلطة عليهم، حيث بلغت استباحة آدميتهم والاستهتار بحياتهم حداً لا يمكن لعقل آدمي تصوّره، وهذا بوتين يتوعد السوريين بالويل والثبور، ويتباهى بقضائه على المعارضة، وينسى أنه يطرح نفسه أمام العالم وسيطا وضامنا، ويتشدق وزير خارجيته، سيرغي لافروف، بالمصالحة بين السوريين!
العربي الجديد
شراكة تركية أمريكية/ إياد الجعفري
ثلاث مرات على الأقل، خلال أيام، تواصلت فيها الولايات المتحدة الأمريكية، مع الائتلاف السوري المعارض، الذي سبق أن تخلت عنه، أو أدارت ظهرها له. إحدى حالات التواصل تلك كانت على سبيل التهديد. لكن الحالات الأخرى كانت على سبيل الاستمالة وتلمس إمكانيات التعاون، من جديد.
فالولايات المتحدة الأمريكية، التي حرقت معظم “مراكبها” السورية، خلال السنتين الأخيرتين، تجد نفسها اليوم في حاجة ملحة للبحث في دفاتر علاقاتها “العتيقة” مع قوى المعارضة السورية، بعد أن استشعرت ضيق رهانها على الشريك المحلي الكردي، المتمثل في حزب الاتحاد الديمقراطي، وذراعه العسكري “قوات سورية الديمقراطية”.
وفي الساعات الأخيرة، أجرى دبلوماسي أمريكي رفيع، تواصلاً مع رئيس الائتلاف المعارض. ودعاه لزيارة واشنطن، مؤكداً أن الولايات المتحدة تتفهم مخاوف الائتلاف من عمليات التغيير الديمغرافي في سوريا.
قبيل ذلك، تحرك جيمس جيفري، مسؤول الخارجية الأمريكية المعني بسوريا، صوب “المجلس الوطني الكردي”، وهو أحد مكونات الائتلاف المعارض، لإقناع المجلس بدفع مقاتلين محسوبين عليه (البشمركة السورية) للمشاركة في تأمين الحدود السورية – التركية، بدلاً من مقاتلي “قوات سورية الديمقراطية” الذين تعتبرهم تركيا، امتداداً لحزب العمال الكردستاني.
بطبيعة الحال، يمثل ذلك نقاطاً في سلّة المكاسب التركية. فالأمركيون الذين حصروا معظم رهاناتهم السورية في “الاتحاد الديمقراطي الكردي”، دفعوا أكبر تكتل سياسي سوري معارض، وهو الائتلاف، للارتماء في الحضن التركي. وتلقفت أنقرة الأخير، ليصبح إحدى أوراقها السورية العديدة، إلى جانب فصائل معارضة تلقفتها تركيا، بعد أن تخلى عنها الحلفاء الإقليميون، وتحديداً السعودية. واستقبلت تركيا تلك الفصائل، من قبيل “جيش الإسلام”، في شمال غرب البلاد، لتعيد تأهيلها لصالح الأجندات التركية.
وبذلك، ورثت تركيا، جزءاً كبيراً من المعارضة السورية، السياسية والمسلحة، التي تخلى عنها الغرب، والخليجيون. الأمر الذي يتيح لها هامشاً أكبر للمناورة في المناطق السورية المتاخمة لحدودها.
وأمام الاندفاعة التركية، نحو شرقي الفرات، تنحصر الخيارات الأمريكية بين صدام مع الحليف التركي، يهدد بمزيد من الخسارة الاستراتيجية لهذا الحليف، وبين تقديم تنازلات نوعية له. ويبدو أن الخيار الثاني هو ما تعمل عليه واشنطن، عبر إشراك لاعبين سوريين في تركيبة الإدارة في شرقي الفرات. هؤلاء اللاعبون، سواء كانوا من “المجلس الوطني الكردي”، أو من فصائل وعشائر عربية على صلة بالائتلاف المعارض، وتنشط في الجزيرة السورية، مُحسوبون في نهاية المطاف، في “السلّة التركية”. وهذه قد تكون الاستراتيجية المثلى المتاحة للأمريكيين، لتثبيط النوايا التركية للاندفاع العسكري نحو شرفي الفرات. أي منح تركيا شراكة في إدارة تلك المنطقة، عبر لاعبين مُحسوبين عليها، أو مقربين منها.
ولا يبدو أن سيناريو سحب “الديمقراطي الكردي” تماماً من منبج، سيكفي لإقناع تركيا. وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن استخدام جنود أمريكيين كدروع لحماية “قوات سورية الديمقراطية” في نقاط المراقبة المعلن عنها، استراتيجية واقعية كفيلة بتثبيط النيّة التركية بالعمل العسكري.
وفيما تبدو الولايات المتحدة الأمريكية، في حالة ضغط، جراء التلويح التركي بعمل عسكري، لا يمكن في الوقت نفسه، أن نتجاهل حقيقة أن المصلحة التركية لا تكون في صدام عسكري محتمل، مع الأمريكيين. لذا فإن تسوية وسط بين الطرفين، هي الحل الأنسب لهما. ولتنفيذ ذلك، قد يتطلب الأمر عملاً عسكريا ًتركياً، مؤقتاً، يجبر قيادة “الاتحاد الديمقراطي الكردي”، المُتعنة، على تقديم التنازلات المتفق عليها مع الأمريكيين.
وهكذا يبدو أن تركيا في طريقها لأن تكون شريكاً للأمريكيين في شرقي الفرات. وهي شراكة قد تغيّر في موازين القوى، بين اللاعبين في سوريا، وتعزز من الوزن التركي، بشكل نوعي.
وإذا تحقق هذا التطور، فهو سيمثّل ارتفاعاً للأسهم المتضائلة لقوى معارضة سورية، في تركيبة المشهد السوري. وهي قوى أصبح ارتباطها بالحليف التركي، ارتباطاً عضوياً، يصعب الفكاك منه. بحيث أصبحت كل زيادة للنفوذ التركي، تصب في صالح هذه القوى. وفي الوقت نفسه، أصبح هذا الارتباط، يلزم تلك القوى بالانصياع للأجندات والأولويات التركية، بصورة يصعب تخيّل إمكانية مقاومته، على المدى القريب أو المتوسط.
المدن
ماذا سيحصل بعد قرار ترامب الانسحاب من سوريا؟
في تغريدة مفاجئة أمس قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب: «لقد انتصرنا على تنظيم الدولة في سوريا، وهذا كان سبب وجودنا هناك خلال فترة رئاستي»، وتبعت ذلك أخبار عن قرب انسحاب القوات الأمريكية أكّدها البيت الأبيض بوضوح حين قالت الناطقة باسمه إن القوات «بدأت في التحرك إلى أرض الوطن»، فيما عبّر مسؤول أمريكي في تصريح لوكالة الأنباء رويترز عن جانب آخر عن «سرعة العملية» بالقول إن إجلاء كل موظفي الخارجية الأمريكية في سوريا سيتم خلال 24 ساعة.
ليس هذا التصريح الأول لترامب، الذي كرر منذ استلامه منصبه أنه يرغب في انسحاب كامل لقواته ليس من سوريا فقط ولكن من كل الشرق الأوسط، وفكرة الانسحاب هذه جزء أساسيّ من خطابه السياسيّ الرافض للتدخّل العسكري الأمريكي في العالم، وهو ما كان يجد معارضة من المؤسسات العسكرية والخارجية والأمنية الأمريكية التي نجحت، أكثر من مرة، في تأجيل هذا القرار. مسؤولو البنتاغون بدأوا مجددا بمحاولة إقناع ترامب بتأجيل قراره (كما تقول «نيويورك تايمز») بدعوى أنه يشكل «خيانة» لحلفائهم الأكراد، وإذا لم ينجحوا في إثنائه، هذه المرة، عن قراره، فسوف نشهد تموضعات عسكريّة وسياسية جديدة في سوريا، حيث ستحاول الأطراف الخارجية ذات الوزن، كروسيا وتركيا وإيران، أن تملأ الفراغ الناجم عن الانسحاب الأمريكي، وهو ما ينطبق على الأطراف الداخلية أيضا، وعلى رأسها النظام والميليشيات اللبنانية والعراقية الحليفة له، وتنظيمات المعارضة المسلحة.
وإذا كان القرار منسجما مع برنامج ترامب السياسي فإن هذا لا ينفي ارتباطه بعوامل أخرى كثيرة، خارجية وداخلية. أول هذه العوامل هو «العلاقة الخاصة» التي تربط الإدارة الأمريكية بموسكو، والتي تجسّدت، بشكل فظّ، في التدخل الروسي المباشر لصالح انتخاب ترامب في انتخابات عام 2016 الرئاسية، وإذا كان هذا التدخّل يبدو مبررا كافيا لـ«مكافأة» ترامب لروسيا رغم ما سيشكّله ذاك من إحراج سياسيّ للرئيس الأمريكي، فإن الواقعية السياسية تقتضي القول إن تلك «العلاقة» هي من طبيعة أيديولوجية، فترامب، ومعسكره الأيديولوجي، برهنوا أنهم حلفاء سياسيون طبيعيون لبوتين، وهو أمر أكدته العلاقات الوثيقة لكل أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا والعالم.
لا يخلو ربط الانسحاب بالضغوط التي مارسها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على ترامب من وجاهة، غير أن هذه الضغوط تراكبت مع علاقة ترامب ومعسكره «الخاصة» بالقيادة الروسيّة، وانضافت إليها الضغوط التي شكّلتها قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والانتصار الذي حققه الحزب الديمقراطي في الكونغرس، والذي بدأ مطاردة حقيقية لترامب في القضايا العالمية والمحلّية.
الرابحان الأساسيان الظاهران للقرار (لو تمّ تطبيقه بالسرعة التي يطلبها ترامب) سيكونان روسيا، التي بدأت حشد قوات ونقل ذخائر في دير الزور (التي تحتوي حقولا نفطية كثيرة أهمها حقلا العمر والتنك)، وتركيا التي أعلنت منذ أسبوع استعدادها لعملية كبيرة للقضاء على خصومها الأكراد شرق الفرات، ولابد أن سباقا كبيراً سيجري بين هاتين القوّتين على ملء الفراغ العسكريّ الأمريكي، وهناك بوادر أيضاً لمحاولة إيران والنظام السوري استغلال الوضع ودفع قوات نحو المناطق التي تسيطر عليها المعارضة.
أما ما الذي سيحصل لما يسمى «قوات سوريا الديمقراطية» التي كانت الذراع العسكرية الأساسية الفاعلة للتحالف الدوليّ في النزاع مع تنظيم «الدولة الإسلامية»، وما هو سيكون موقفها من هذه «الخيانة» الأمريكية الجديدة (على حد وصف مسؤولي البنتاغون)، فأمران سيتكشفان سريعا في مقبل الأيام.
القدس العربي
انسحاب ترامب من سورية… إلى الفضاء/ وليد شقير
فعلها مجدداً دونالد ترامب بقراره المفاجئ للبعض، وغير المفاجئ للبعض الآخر، سحب زهاء 2500 جندي أميركي من شمال شرق سورية.
وإذا كان بعض حلفائه أقر بأنه لم يتفاجأ كما أعلن البريطانيون، فإن خشيتهم من الغموض الذي يكتنف مرحلة ما بعد الانسحاب يجعلهم في مصاف المتفاجئين.
قبل التفتيش عن الانعكاسات الأكيدة المتشعبة الأبعاد للخطوة الأميركية على الصعد الإقليمي والسوري والشمال الشرقي في بلاد الشام… وتأثيرها المباشر على كل دول المنطقة، من المفيد البحث عن أبعاد أكثر استراتيجية في التوجه الأميركي الذي يتجاوز الأسلوب «المتطاير» لترامب في ممارسة السياسة الخارجية، كما تصفه مجلة «فورين أفيرز».
وإذا كان ضرب ضربته ودعا «الآخرين» إلى الحلول مكانه في قتال «داعش» في سورية، فإن قراره يأتي في إطار سلسلة خطوات أميركية انسحابية سبقه إليها سلفه باراك أوباما، وقد يلحقه فيها خلفه.
استراتيجياً؛ إنه توجه الestablishmentـ الأميركي بخفض اهتمام الدولة العظمى في الشرق الأوسط الذي بدأ مع أوباما ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، اللذين اعتبرا أن مستقبل السياسة الخارجية بات في التركيز على مصالح أميركا في شرق آسيا، لأسباب تجارية وعسكرية. ولعل هذا الجذر في السياسة الأميركية هو الذي سمح للكثير من القوى الإقليمية أن تحل مكان المساحات التي أخذت واشنطن تهيء لإخلائها، ومنها تركيا وإيران في منطقتنا، في كنف الغيبوبة العربية.
وعلى رغم اختلاف أسلوبه، لم يكذب ترامب خبراً. فالحرب التجارية التي يخوضها مع الصين، مستبقا صعود سياستها الخارجية المخطط له من قبل الحزب الشيوعي القائد، بدءاً من عام 2020، استناداً إلى توسع اقتصادها داخلياً خارجياً، ليست إلا أحد مظاهر هذا الانتقال الاستراتيجي إلى حقبة جديدة لدى الدولة العميقة في واشنطن. ولعل ترامب أضاف إلى اهتمامات الإدارة السابقة عنصراً جديداً يبدو سوريالياً، إذا قورن بأولوية التوجه نحو آسيا، هو أنه قبل أربعة أيام من قراره الانسحاب من شمال شرق سورية طلب من البنتاغون إعداد قيادة عسكرية في الفضاء الخارجي.
مشروع القول ما لنا بهذا البعد الاستراتيجي؟ فالبحث عن الآثار التي تهم الشرق الأوسط أجدى من البحث الهمايوني في شؤون تلامس الخيال.
في الملاحظة قدر كبير من الصحة مع الحاجة إلى فهم الخلفية الفعلية التي تتحكم بالسياسة الخارجية الأميركية مع ترامب أو بغيره. فالانكفاء من سورية، أو من أي منطقة في العالم، يحتاج إلى إدارة الانسحاب، مهما كان السبب، أو الهدف، نظراً إلى التداعيات التي لا تحصى، التي يخلفها. ومع أن كبار الساسة الديموقراطيين المعارضين له في الكونغرس، ومعهم كبار رموز الجمهوريين الموالين له، وكبار خبراء مراكز الأبحاث، اتفقوا كل على طريقته على إبداء القلق من تكرار أخطاء انسحابية سابقة، أبرزها أن يملأ الفراغ «داعش» وروسيا، وإيران، وتركيا، فإن الإعلان عن أن الانسحاب سيأخذ بين 60 و100 يوم لإنجازه، يعني أنها مهلة لتنظيم عملية إخلاء الميدان وإدارة ما بعدها. ليس جديداً أن روسيا المستفيد الأول. فسياسة واشنطن قامت على أربع نقاط حيال الدور الروسي، هي: لا مانع من بقاء قوات الكرملين في بلاد الشام، لا مانع من بقاء بشار الأسد في ظل العملية السياسية التي يتقرر مصيره من خلال المسار الذي ستسلكه على رغم أن الديبلوماسية الأميركية تبقي على العديد من الأوراق التي تقود إلى رحيله بحجة الفظاعات التي ارتكبها عندما يحين الوقت، الموافقة على خطة موسكو للإبقاء على الجيش السوري العامود الفري للدولة، وأخيراً عدم ممانعة تحكم موسكو بالثروة النفطية والغازية الدفينة في سورية. ومع أن موسكو لا ترى في هذه النقاط جديداً لأنها حاصلة عليها بحكم الأمر الواقع الذي خلقته بقوتها العسكرية، فإن الأبرز في تفاهم واشنطن معها هو الحرص المشترك على أمن إسرائيل، التي تستفيد من هامش الحرية الذي يمنحها إياه هذا التفاهم لتوجيه الضربات للوجود الإيراني. التنازل الفعلي الذي يريده الكرملين من ترامب هو في أوكرانيا وأوروبا وفي العقوبات.
الأسايبع والأشهر المقبلة ستوضح ماذا ستفعل القوات الفرنسية والبريطانية والنروجية الموجودة في كنف الوجود الأميركي في سورية، وهل سيسبق الانسحاب إنهاء «داعش» أم ستُترك شوكة للاستخدام، وهل ستنسق موسكو مع واشنطن انكفاءها، وهل ستسمح لإيران أم لتركيا بملء الفراغ. وهل سيتلقف الكرملين الأكراد وقوات سورية الديموقراطية في الشمال الشرقي لحمايتهم من تركيا، وهل المقابل الذي يربحه الأميركي عودة الوئام بينه وبين الحليف التركي التقليدي، مع التداعيات على سورية الرجل المريض، الذي تتهيأ إسرائيل لسلخ الجولان منه؟ إنه انسحاب يضاعف التخبط…
الحياة
الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا: أسئلة واحتمالات../ نهلة الشهال
هل هي “الحيلة” التي وجدها ترامب لإرباك بشار الأسد الذي يَعتبر أنه انتصر (هو الآخر!) في الحرب التي دارت في بلاده وعليها (وخلّفت اكثر من 400 ألف ضحية ودمار مروع). أي أن الرئيس الأمريكي يستل وسيلة لإشغال دمشق وتحجيم سلطتها وإبقائها في موقف دفاعي، وكذلك إرباك روسيا وإيران، وزعزعة هذا التحالف الثلاثي الناشئ حول سوريا..
الرئيس الامريكي يحب التغريدات الى حد إعلان قراراته الكبرى عبرها. هكذا بالنسبة لقراره سحب الـ2200 عنصر من القوات الخاصة الامريكية من شمال شرق سوريا. هو يعلن بتعالٍ قطعي منيع، ويترك الآخرين يتخبطون، ويُسعَد كلما أثار الارتباك والقلق.
يخالف قراره هذا – وإعلانه كتبرير له ان “النصر على داعش قد تحقق” – جيمس ماتيس وزير الدفاع ، ومعه كبار الجنرالات، وكذلك وزير الخارجية، وسيناتورات من أعتى صقور الحزب الجمهوري ومن أكثرهم قرباً منه، وحتى جون بولتون مستشاره الخاص لشؤون الأمن، الذي يَعتبر أن مجابهة إيران تستلزم حضوراً أمريكيا ميدانياً في سوريا، كما قال في الامم المتحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي (“لن نذهب طالما هم هنا”). وكان البنتاغون يقول في آب/ أغسطس الماضي أنه ما زال هناك 14.500 عنصر من داعش في سوريا، يمكنهم أن يشنوا هجمات وحروب عصابات فيها.
يعتبر الجميع بأن القرار متفرد ولم تسبقه إستشارات، وأن النقاش مع الرئيس لم يَستكمل بعد، وتتسرب أخبار عن محاولات لثنيه عن الإعلان الذي أبلغ به هؤلاء قبل ساعات فحسب من تغريدته، بما في ذلك قادة القوة في سوريا. بل يقال أن “منظمات مجتمع مدني” أمريكية تتولى توفير الاعانات للسكان في الرقة قد طُلب منها ترتيب مغادرتها خلال 24 ساعة… وتبدي إسرائيل إمتعاضها وإنْ بكتمان، كما حلفاء واشنطن من الموجودين معها ميدانياً في سوريا، كبريطانيا وفرنسا.
صحيح أن ترامب كان قد قرر شيئاً مشابهاً في نيسان/ إبريل الماضي ثم تراجع عنه أو أجّله. وصحيح أنه قال أثناء حملته الانتخابية أنه لن يتورط بخوض حروب بشكل مباشر، وتباكى بعد تغريدته تلك على الخسائر في الارواح (الامريكية)، وكم يفطر القلب ابلاغ عائلاتها برحيلها. بل وفي طلعة درامية – مبتذلة – استنطق هؤلاء “الابطال الذين تفخر بهم الامة”، قائلاً انهم “ينظرون اليه من علٍ وفرحون بقراره”.. بل وتحدث عن مصالح أمريكا العليا وكيف هي أولاً، وأن الملحّ هو حماية الحدود مع المكسيك.
لكن ذلك كله ليس الدافع. فهل حقاً هو قرر إرضاء تركيا، ركيزته الاساسية في الطرف الجنوبي من حلف الناتو من جهة، والتي اتجهت من جهة ثانية الى تعزيز علاقتها السياسية بموسكو ( فشكلت معها ومع إيران “مجموعة آستانة”، ويشترك الثلاثة حالياً في مفاوضات لصياغة دستور سوريا الجديد)، بل قررت شراء منظومة أس 400 الصاروخية من روسيا قبل أن يهرع الامريكان الى الموافقة على بيعها منظومة “باتريوت” ب 3.5 مليار دولار؟
أم هي “الحيلة” التي وجدها ترامب لإرباك بشار الأسد الذي يَعتبر أنه إنتصر (هو الآخر!) في الحرب التي دارت في بلاده وعليها (وخلّفت اكثر من 400 ألف ضحية ودمار مروع). وسيلة للضغط عليه وتحجيمه وإشغاله وإبقائه في موقف دفاعي. موقف ترامب يفتح الطريق أمام تركيا للدخول الى كل شمال سوريا بحجة محاربة الاكراد، وبالاخص منهم “قوات سوريا الديمقراطية” التي تقودها “وحدات حماية الشعب” الكردية، الفصيل المنبثق عن “حزب العمال الكردستاني” (PKK)، عدو أنقرة اللدود؟ وهذه تريد منع الأكراد من تحقيق تواصل في السيطرة الميدانية على الأرض، وأبلغت ترامب أنها تنوي شن حرب عليهم خلال أيام. ويبدو أن تلك العملية ستبدأ من “تل أبيض” حيث أغلبية السكان من العرب المؤيدين لتركيا، ثم منبج التي تبعد 30 كلمتراً عن حدودها، والتوغل ربما الى مواضع أكثر عمقاً، كالرقة وبعدها دير الزور.. حيث تصبح المعادلة مختلفة. ويتباهى أردوغان بأنه شرح خطته في اتصال هاتفي مع الرئيس الامريكي، قبل يومين من تغريدة هذا الاخير، ونال عليها “جواباً إيجابياً”! وقد قامت تركيا سابقاً بعملية مماثلة في جرابلس وأعزاز وعفرين، (كانت كلها محدودة، ولم تُثر وقتها ردود أفعال روسية او سورية عنيفة لاختلاف المعطيات آنذاك).
هل سيذهب الاكراد – كالعادة ومرة أخرى – ضحية حسابات الدول الكبرى؟ هم اليوم يهددون بأنهم ساعة الدخول العسكري التركي (لذبحهم) والذي يؤيده وسيقاتل الى جانبه “الجيش الحر”، سيطلبون من السلطة السورية “تحمّل واجباتها”. وهذا يعني حرباً جديدة في سوريا!
.. أم إننا نبحث عن عقلانية (يفترض أن وجودها مؤكد) لقرارات شخص بمكانة رئيس الولايات المتحدة الامريكية، حتى لو كانت تلك العقلانية خفية. نبحث عن الخطة الضمنية والتخطيط الشيطاني.. وقد نكون هكذا بصدد إسقاط ما وجدناه على الموقف، وافتراض أن أقوال وأفعال مسؤول في موقع الرئيس الامريكي لا يمكن أن تنبع من التفاهة مثلاً – بغض النظر عن الواقعة الحالية والموقف منها – أو عن خطأ في التقدير..
السفير العربي
الانسحاب الأمريكي من سوريا: قلق أوروبي وترحيب روسي وتهديد إسرائيلي
أربك القرار الأمريكي جميع اللاعبين الأساسيين في سوريا، وكسر «الستاتيكو» الحالي في المشهد السوري ليعيد تشكيل المشهد المتدحرج في سوريا ويضع سيناريوهات عدة للمستقبل.
فبينما حذر عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين من انسحاب متسرع يطلق يد روسيا وإيران حليفي الرئيس بشار الأسد في سوريا، كتب ترامب على تويتر أمس، أن «روسيا وإيران وسوريا والعديد غيرهم ليسوا مسرورين بخروج الولايات المتحدة رغم ما تقوله الأخبار الكاذبة، لأن عليهم الآن قتال تنظيم الدولة وغيره ممن يكرهونهم بدوننا».
النظام في دمشق لم يعلق على قرار البيت الأبيض سحب القوات الأمريكية من شرقي الفرات، فثمة أمر غير بريء في الخطوة المفاجئة، هكذا يبدو على الأقل حتى الآن بالنسبة له.
واكتفى التلفزيون الرسمي للنظام خلال نشرة الأخبار الرئيسية، بإلاشارة إلى الموقف الروسي المرحب بقرار واشنطن سحب قواتها من سوريا، والذي قالت عنه وزارة الخارجية الروسية مساء الأربعاء، إنه يفتح آفاقاً للتسوية السياسية في هذا البلد. وقالت أيضاً إن القرار الأمريكي سيؤثر إيجاباً على تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وعلى الوضع في منطقة التنف الحدودية بين سوريا والأردن.
وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب قواته من سوريا هو قرار «صائب»، خلال لقائه السنوي بالإعلام الخميس. مستدركاً أن موسكو لم تر بعد ما يشير إلى بدء هذا الانسحاب.
وتشير مصادر سورية في تعليقها لـ «القدس العربي» على مسألة قرار الانسحاب الأمريكي، بالقول إنه في حال أتمت واشنطن انسحاب قواتها من شرقي الفرات، فيجب على الفصائل الكردية تسليم مواقعها للقوات السورية، لاسيما في المناطق الحدودية الشمالية. وتتابع المصادر أن عدم تسلم القوات السورية هذه المواقع سيعطي الأتراك مبرراً للقول إن هذه المواقع لم تعد منضبطة بعد أن غادر الأمريكي الشرق السوري، وسيقول الأتراك أيضاً إنه يجب إعادة ضبطها عبر عملية عسكرية تركية واسعة تعتمد على ميليشيات درع الفرات وميليشيات جهادية موجودة في إدلب ستستقدمها أنقرة إلى الشرق والشمال السوري.
من جهتها، أكدت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية، ناتالي لوازو، الخميس، أن فرنسا «تبقى ملتزمة عسكريا في سوريا». وقالت إن الحرب ضد الإرهاب «حققت تقدما كبيراً، صحيح أنه كان هناك تقدم كبير في سوريا من خلال التحالف، لكن هذه المعركة مستمرة، وسنواصل خوضها».
وفي لندن، اعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن تنظيم الدولة لم يُهزم بعد في سوريا. وأضافت أن المملكة المتحدة ستبقى «مشاركة في التحالف الدولي وحملته لحرمان داعش من (السيطرة) على أراض وضمان هزيمته القاطعة». ألمانياً قال وزير الخارجية هيكو ماس في بيان «لقد تراجع تنظيم الدولة الإسلامية لكن التهديد لم ينته بعد»..
تركيا من جهتها وبانتظار فهم خطة ترامب ونتيجة الاتصالات مع روسيا وإيران، تتعامل بـ«حذر» مع قرار ترامب الانسحاب من سوريا، وتضع في حساباتها سيناريوهات أسوأ بينها تسليم الأكراد مناطقهم للنظام وبقاء سلاحهم الثقيل المهدد لأمنها القومي.
المحلل السياسي التركي جاهد طوز المقرب من الحزب الحاكم قال لـ«القدس العربي» إن الخيار الوحيد في سوريا لحل أي عقدة سيكون عبر الآليات السياسية والدبلوماسية، مشيراً إلى أن «تركيا سوف تضغط على الدول الأوروبية بشكل خاص لتكون جزءاً من حل الأزمة السورية»، مؤكداً أن بلاده لن تواجه على الأرض أي قوات تابعة لدولة أخرى لأن ذلك لن يساعد في حل الأزمة بل يصعدها.
من جهته قال رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إن إسرائيل ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. وبعد ساعات من تصريحاته قال مكتب نتنياهو إنه تحدث مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن سوريا «وناقشا سبل مواصلة التعاون بين إسرائيل والولايات المتحدة ضد العدوان الإيراني». وقال نتنياهو في تصريحات بثها التلفزيون «سنواصل التحرك بنشاط قوي ضد مساعي إيران لترسيخ وجودها في سوريا».
كردياً رجح حمو وجود مصالح وحسابات أخرى للإدارة الأمريكية دفعتها لاتخاذ مثل هذا القرار، ولكنه استغرب تبرير القرار بهزيمة تنظيم داعش، وقال :»تنظيم داعش لم ينته، وبالتالي لم تنته المعركة، فالتنظيم لديه نقاط تمركز جغرافية واضحة، ولديه خلايا نائمة عديدة، تقريباً في كل المواقع التي تم تحريرها من قبضته»، مجدداً الدعوة للنظام السوري «للوقوف معنا».
الأمريكي من سوريا: ترحيب روسي، مخاوف إسرائيلية وتخوين من المعارضة
في خطوة مفاجئة كتبت الولايات المتحدة فصل النهاية لوجودها العسكري على الأراضي السورية بإعلانها الأربعاء أنها تستعد للانسحاب “السريع” و”الكامل” من سوريا، خطوة رحبت بها روسيا أهم حليف للنظام السوري، فيما اعتبرتها قوات سوريا الديمقراطية المعارضة خيانة وطعنة في الظهر، بينما عبرت إسرائيل عن “مخاوفها” وتمسكت فرنسا في المقابل بالبقاء في سوريا.
وأكدت وزارة الدفاع الأمريكية الأربعاء أنه يجري التخطيط حالياً لسحب القوات الأمريكية من سوريا “بشكل كامل” و”سريع”، بحسب ما قاله مسؤول في الوزارة لشبكة سي إن إن الأمريكية، مضيفاً أن القرار اتخذ من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي طالما أشار إلى رغبته بالخروج من سوريا. وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد كشفت في وقت سابق خبر الانسحاب الأمريكي المخطط له.
وتتناقض الخطوة الأمريكية مع ما سبق وأعلنه التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بشأن الإبقاء على الوجود الأمريكي بسوريا، وقال التحالف في بيان صدر في وقت سابق من هذا الشهر إن “أي تقارير تشير إلى تغيير في موقف الولايات المتحدة في ما يتعلق بالوجود العسكري في سوريا باطلة ومصممة لزرع الارتباك والفوضى”.
كما تتناقض الخطوة مع قرار صدر مؤخراً من قبل وزير الدفاع جيمس ماتيس بتوجيه القوات الأمريكية لإنشاء مراكز مراقبة على طول الحدود السورية التركية كجزء من الجهود الرامية إلى الحد من التوترات بين تركيا والحلفاء الأكراد في الحرب ضد داعش.
كما أعلنت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً أن الخطوة الأمريكية “تتناقض مع الواقع”، حيث وصلت تعزيزات خلال الـ48 ساعة الأخيرة إلى منطقة شرق الفرات، من وقود ومعدات عسكرية ولوجستية وآليات، إلى جانب تعزيزات عسكرية وصلت القواعد العسكرية في منبج وحقل العمر.
وللولايات المتحدة حوالي 2000 جندي في سوريا يقومون بتدريب القوات المحلية على محاربة تنظيم داعش.
وفي تغريدة على حسابه في تويتر أعلن الرئيس الأمريكي قرار الانسحاب: “لقد هزمنا داعش في سوريا، وهذا السبب الوحيد لوجود (القوات الأمريكية) هناك”.
كما أصدر البيت الأبيض يوم الأربعاء بياناً مشابهاً لفحوى تغريدة ترامب، جاء فيه أنه “قبل 5 سنوات، كان داعش تنظيماً قوياً وخطيراً للغاية في الشرق الأوسط، والآن هزمته الولايات المتحدة…لقد بدأنا بإعادة القوات الأمريكية إلى الوطن”.
لكن بعض المحللين يعتبرون أن أمريكا لم تهزم داعش كما يزعم ترامب، ونقلت وكالة رويترز للأنباء عن السناتور الجمهوري لينزي جراهام، المعروف بمواقفه الداعمة لترامب، قوله إن أي قرار يتخذه الرئيس الأمريكي بسحب القوات الأمريكية من سوريا سيكون “خطأ”.
ورفض جراهام الإقرار بأن الانسحاب يعني هزيمة داعش، بل على العكس اعتبر حدوثه في هذا التوقيت “انتصاراً كبيراً لتنظيم داعش وإيران وبشار الأسد وروسيا”، مضيفاً أنه يخشى أن تؤدي الخطوة إلى “عواقب مدمرة على أمتنا والمنطقة والعالم بأسره”.
وبحسب جراهام فإن الخطوة الأمريكية ستزيد من صعوبة الاستعانة بشركاء في المستقبل للتصدي للإسلام الراديكالي، وستعتبر إيران وغيرها “من الأطراف الشريرة ذلك دلالة على الضعف الأمريكي في الجهود الرامية لاحتواء النفوذ الإيراني”.
أما وزير الدولة في وزارة الدفاع البريطانية توبياس إلوود، فقد عبر عن خيبة أمل بلاده من خطوة الانسحاب الأمريكي، وكتب تغريدة على حسابه الرسمي في تويتر قال فيها إنه “لا يوافق بشدة” على تعليق ترامب بأن تنظيم داعش تعرض للهزيمة، قائلاً: “أنا لا أوافق بشدة. لقد تحول (التنظيم) إلى أشكال أخرى من التطرف”، معتبراً “تهديد” داعش قائماً “إلى حد كبير”.
كما رفضت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي الخميس حديث ترامب وبيته الأبيض عن هزيمة داعش مؤكدة أن متشددي التنظيم “ضعفت شوكتهم لكن لم يتم محوهم من على الخريطة في سوريا ولابد أن تستمر المعركة لإلحاق هزيمة حاسمة بهم في جيوبهم المتبقية”.
ووجهة النظر الفرنسية هذه كانت واضحة في موقف باريس الرسمي، إذ أعلنت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية ناتالى لوازو الخميس أن فرنسا ستبقى عسكرياً في سوريا، معلنة: “في الوقت الراهن، سنبقى في سوريا”.
انتصار لروسيا؟
الانسحاب الأمريكي من سوريا قد يكون انتصاراً لروسيا التي تعد الحليف الأهم للنظام السوري، كون ذلك الانسحاب سيجعل موسكو اللاعب الأهم والأقوى على الأراضي السورية في الفترة المقبلة، رغم أن موسكو خفضت إلى حد كبير قواتها في سوريا، كما خفض سلاح الجو الروسي وتيرة عملياته القتالية في الأراضي السورية من 100-120 تحليقا في اليوم إلى 2-4 تحليقات أسبوعيا، حسب ما أعلنته وزارة الدفاع الروسية الثلاثاء، ما تبقى من قوات روسية في سوريا هدفه غالبا هو جمع معلومات استخباراتية إضافية.
وأعلنت المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الخميس أن قرار سحب القوات الأمريكية من سوريا يعني عودة واشنطن إلى قواعد القانون الدولي، قائلة: “أريد أن أذكركم بأنه على الرغم من الإعلان عن محاربة داعش، إلا أنه كان وجوداً غير قانوني”.
وأشارت زاخاروفا إلى أن موسكو تود أن تفهم ما تعنية الولايات المتحدة بـ “المرحلة الجديدة من الحملة” في سوريا، التي أعلن عنها البيت الأبيض بعد انسحاب القوات.
الخارجية الروسية أعربت في وقت سابق عن قناعة موسكو بأن قرار واشنطن بسحب القوات “سيؤثر إيجاباً على تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وإيجاباً أيضا على الوضع في منطقة التنف الحدودية. بين سوريا والأردن”.
ورأت موسكو في بيانها أن “الولايات المتحدة بدأت تدرك بأن معارضتها للجهود التي تبذلها الدول الضامنة لعملية أستانا (روسيا، تركيا، إيران) في سوريا تضر بالمصالح الأمريكية عينها”، حسب بيان الوزارة.
“تدرس” التداعيات
“سنعمل على صون أمن إسرائيل وسندافع عن أنفسنا في هذا الساحة”، هذا ما تعهد به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في مقطع فيديو، نشره على حسابه في تويتر الأربعاء، كاشفاً تفاصيل محادثاته مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن الخطوة الأمريكية.
وقال نتنياهو: “تحدثت أول أمس مع الرئيس ترامب كما تحدثت أمس مع وزير الخارجية (مايك) بومبيو، الإدارة الأمريكية قالت لي إن الرئيس يعتزم إخراج القوات الأمريكية من سوريا وأوضحوا لي أنه توجد سبل أخرى للتعبير ميدانياً عن تأثيرهم”.
وتابع نتنياهو أن “هذا هو بطبيعة الحال قرار أمريكي”، مضيفاً: “سندرس الجدول الزمني لهذا القرار وأسلوب تطبيقه وبطبيعة الحال سندرس أيضاً التداعيات بالنسبة لنا”، وحتى يطمئن شعبه ختم المقطع بقوله: “في أي حال من الأحوال سنعمل على صون أمن إسرائيل وسندافع عن أنفسنا في هذا الساحة”.
أما داني دانون، سفير إسرائيل والممثل الدائم لدى الأمم المتحدة، فقال إنه يحترم قرار ترامب، لكنه أعرب عن قلقه بشأن الوضع الحالي هناك.
وأكد دانون أن بلاده تحترم القرار الأمريكي وأي قرار اتخذته الإدارة الأمريكية لكنه لم يخف تخوفه من وجود القوات الإيرانية في سوريا، قائلاً: “لدينا مخاوفنا بشأن سوريا، حول وجود القوات الإيرانية” هناك.
وتابع: “سنفعل كل ما هو ضروري لحماية شعبنا، بغض النظر عما إذا كان لديك قوات أمريكية، أو قوات روسية، أو أي دولة أخرى”، مضيفاً: “سنواصل اتباع سياستنا بعدم السماح للإيرانيين ببناء قواعدهم بجوار حدودنا”.
خيانة وطعنة في الظهر
داخلياً، وصفت “قوات سوريا الديمقراطية” المعارضة الأربعاء، قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا بأنه “طعنة في الظهر وخيانة لدماء آلاف المقاتلين”.
ونقل المرصد السوري لحقوق الإنسان عن مصادر وصفها بالموثوقة، قولها إن قيادات في قوات سوريا الديمقراطية اعتبرت انسحاب القوات الأمريكية في حال تحقق، “خنجراً في ظهر” قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية، التي سيطرت الأشهر والسنوات الماضية على أكبر بقعة جغرافية خاضعة لسيطرة داعش وهي منطقة شرق الفرات مع منبج.
وقال المرصد إنه حصل على معلومات من عدد من المصادر الموثوقة أكدت أن جهات أمريكية عليا أبلغت قيادات من “قوات سوريا الديمقراطية”، أن القيادة الأمريكية تعتزم سحب قواتها من كامل منطقة شرق الفرات ومنبج.
ترحيب تركي
أما تركيا فرحبت بالقرار الأمريكي معتبرة الخطوة متوافقة مع الخطوط العريضة التي خرجت بها محادثة هاتفية جرت بين ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
وقال مسؤول تركي لشبكة سي إن إن إن بلاده تعمل “مع الولايات المتحدة عن كثب في مجموعة من القضايا، نحن نرحب بهذه الفرصة لتعزيز تعاوننا مع زميلنا في حلف الناتو”.
لكن المسؤول حذر من قرار واشنطن سحب وقاتها من سوريا، لن يضعف عزم تركيا على محاربة جميع الجماعات الإرهابية، بما في ذلك التابعة لحزب العمال الكردستاني، شرق نهر الفرات على حد تعبيره.
لكن هذا الترحيب لا يكشف نوايا تركيا الحقيقية التي قد تتحرك عسكرياً في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد بعد الانسحاب الأمريكي.
رصيف 22
الانسحاب الأمريكي من سوريا ضربة قاسية لإسرائيل
يتواصل تذبذب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكامل شدته، فقد أعلن البيت الأبيض والبنتاغون يوم أول أمس الأربعاء، عن بدء انسحاب القوات الأمريكية من سوريا. وإذا كان هذا صحيحاً وسيحصل، فإنه ضربة قاسية للسياسة الإسرائيلية. لقد غرد الرئيس الأمريكي أمس فقال: «هزمنا داعش في سوريا، الذي هو السبب الوحيد لتواجدنا هناك في فترة رئاسة ترامب» (هكذا في الأصل، حيث غرد عن نفسه بالضمير الغائب). وتتعأرض هذه التغريدة مع تغريدة سابقة له، قبل نحو أسبوعين، كتب فيها أن السبب الوحيد لوجود الولايات المتحدة في سوريا هو «إسرائيل».
للولايات المتحدة اليوم بين 3 آلاف و 4 آلاف جندي في سوريا، معظمهم من القوات الخاصة، وهم يتركزون في منطقتين: في شمال شرق الدولة، في الجيب الكردي؛ وفي الجنوب الشرقي، في منطقة طنف، معبر الحدود مع العراق وعلى مسافة غير بعيدة من الحدود مع الأردن وإسرائيل.
لقد كان الدور الأساس للجنود الأمريكيين في السنة الأخيرة هو مساعدة الميليشيا الكردية وما تبقى من الجيش السوري الحر في الحرب ضد داعش. ولكن هذه المساعدة ساهمت أيضاً في تعزيز الجيش الكردي وكانت مغيظة لتركيا. فهي ترى في ميليشيا منظمة إرهابية وفرع لحزب العمال الكردي ـ التنظيم السري الذي أخرج في تركيا عن القانون والجيش التركي يقاتله في كل مكان.
لقد أعلنت تركيا قبل أسبوع بأنها ستبدأ حملة واسعة في سوريا ضد الميليشيات الكردية. وتحدث أردوغان هذا الأسبوع هاتفياً مع ترامب وحذره من أن التواجد الأمريكي من شأنه أن يؤدي إلى مواجهة مع جيشه. وإذا كان الاجتياح التركي بالفعل هو القشة التي قصمت ظهر البعير الأمريكي، فالحديث يدور عن استسلام من قوة عظمى لتهديدات من قوة عسكرية أدنى منها.
في أساسه، فإن ترامب هو في واقع الأمر مؤيد للسياسة الانعزالية. ففي حملته الانتخابية كرر ذلك مرات عديدة. فهو لا يريد أن تكون الولايات المتحدة شرطي العالم. ورغم ذلك، وفي ظل الالتواءات، أخذ في نهاية المطاف بموقف قادة الجيش ووزير الدفاع جيمس ماتس في أن على الولايات المتحدة أن تتواجد عسكرياً في سوريا وفي مناطق أخرى في الشرق الأوسط كي تبث نفوذها وكونها قوة عظمى. حتى اليوم.
لقد حاول رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وزير الدفاع المستقيل افيغدور ليبرمان، ورئيس الأركان غادي آيزنكوت، ورئيس الموساد يوسي كوهن، المرة تلو الأخرى، إقناع نظرائهم بأن التواجد العسكري الأمريكي في سوريا حيوي، ليس فقط لمصالح الولايات المتحدة، بل وأيضاً لحلفائها في الشرق الأوسط، وأولاً وقبل كل شيء لإسرائيل.
إسرائيل معنية بتواجد جنود أمريكيين كي توازن النفوذ الروسي في سوريا وتشكل كادحاً لمساعي التوسع الإيراني والنوايا الإيرانية لنشر صواريخ وميليشيات شيعية على مقربة من الحدود مع إسرائيل ـ الخطوة التي صدت حالياً، بما في ذلك من خلال هجمات سلاح الجو في سوريا.
أما انسحاب القوات الأمريكية فهو خطوة مدوية لباقي حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: السعودية، والأردن، واتحاد الامارات في الخليج، ومصر، وغيرها. معنى القرار هو أنه لا يمكن في واقع الأمر الاعتماد على الولايات المتحدة لتحميهم عند الحاجة.
كما أن هذه ضربة قاضية للأكراد الذين يشعرون مرة أخرى بأنهم خانوهم. فقد خاضوا معظم الحرب ضد داعش في السنة الأخيرة، بمساعدة هجمات جوية للتحالف الدولي، سفكوا دماء أبنائهم، والآن يجدون أنفسهم مرة أخرى وحدهم أمام تركيا ونظام الأسد.
ولكن فوق كل شيء، فإن الانسحاب الأمريكي هو انتصار للتصميم الإيراني للتمسك بسوريا وترك الساحة، ليس سوريا وحدها، لروسيا. في الشرق الأوسط يعمل قانون بسيط: كل فراغ تخلفه الولايات المتحدة تملأه روسيا. يحتمل ألا تكون قيلت الكلمة الأخيرة في هذا الشأن بعد والولايات المتحدة ستترك قوة صغيرة ورمزية في سوريا. ولكن مطالبة إسرائيل بانسحاب إيراني من سوريا تبدو الآن أبعد من أي وقت مضى.
يوسي ملمان
معاريف 20/12/2018
القدس العربي
على أبواب شرق أوسط جديد
انسحاب القوات الأمريكية من سوريا علامة طريق تهدد بتغيير ميزان القوى الأقليمي وخلق واقع جديد على الأرض، واقع ليس بالضرورة محسن لإسرائيل.
صحيح أن الرئيس السوري بشار الأسد لم يعقب أمس على بيان ترامب بسحب الجنود الأمريكيين من بلاده، ولكنه هو المنتصر الرئيسي. ليس صدفة أن اقتبست وكالة الأنباء السورية الرسمية «سانا» بيان البيت الأبيض بتوسع، بل وأوضح الناطق بلسان النظام بأن «الرئيس الأسد يعود ويطالب بخروج كل القوات الأجنبية من سوريا، باستثناء «الحلفاء» من روسيا وإيران».
بوتين هو الآخر سجل إنجازاً إضافياً: رغم أنه لم تسجل صدامات عنيفة بين الجيش الروسي والأمريكي في السنوات الثلاثة الأخيرة، تبقى روسيا، إلى جانب إيران، القوة العسكرية المركزية في المنطقة. وإذا لم يكن هذا بكاف: فإنه يخطط لتوسيع نشاطه في أهداف استراتيجية، ولا سيما في الموانئ البحرية.
إيران هي الأخرى كسبت كسباً كبيراً: فتواجدها في الأراضي السورية سيتسع الآن ليشمل المناطق الأمريكية.
وحتى تنظيم داعش يمكنه أن يكون راضياً: ترامب يسحب قواته من سوريا دون أن يهزم الدولة الإسلامية هزيمة تامة، وهذه لا تزال تسيطر في مناطق على الحدود العراقية السورية. ورغم إبعاد مقاتلي داعش عن مدينة هجين الأسبوع الماضي، لا يزال هناك في سوريا قرابة 15 ألف من نشطاء التنظيم يعملون على إعادة تنظيم أنفسهم.
من يبقى وحيداً في الميدان الآن هي الميليشيات الكردية: ففي السنوات الثلاثة الأخيرة حظيت بالحماية والتأهيل والوسائل القتالية من الجيش الإسرائيلي في الجيب الذي أقامته في شمال شرق الدولة. أما الآن، وبلا الحماية الأمريكية، فإن قوات الجيش السوري من الجنوب والجيش التركي من الشمال، تهدد باجتياح أراضيها.
إسرائيل هي الأخرى بقيت وحدها: بدون التواجد الأمريكي قرب الحدود الشمالية، فقدت إسرائيل مصدر ردع هام ومساعدة عسكرية محتملة في حالة التصعيد الإقليمي. ليس للجيش الروسي، الذي سيصبح الآن رب البيت الأساس في الدولة، أي التزام تجاه إسرائيل التي ـ كما يذكر ـ علقت في أزمة سياسية مع موسكو بعد حادثة إسقاط الطائرة الروسية.
سمدار بيري
يديعوت 20/12/2018
القدس العربي
بوليتكو: انسحاب أمريكي جديد واستمرار لـ”حمية يو يو” في الشرق الأوسط
تحت عنوان “حمية يو يو الأمريكية في الشرق الأوسط”، كتب المعلق في مجلة “بوليتكو” إيلان غولدنبرغ أن قرار دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا هو آخر قرار كارثي تتخذه الولايات المتحدة في المنطقة.
وقال إن القرار “خطأ” و “على خلاف الكثير من قراراته السيئة فإن هذا القرار مقنع ومتساوق مع الخيارات السئية للرؤساء السابقين”. وقال إن السياسة الخارجية السابقة في الشرق الأوسط وخلال العشرين عاما الماضية تشبه “حمية يو يو” وهي نظام لتخسيس الوزن يعود بمنافع وقتية على من يتبعها.
فعادة ما تكتشف الولايات المتحدة أنها استثمرت كثيرا في المنطقة وتريد والحالة هذه التركيز على ما هو أهم، الصين وبدرجة أقل روسيا. وعادة ما يعزز القرار الإستراتيجي بالسياسات. فالرأي العام الأمريكي مل من الحروب في الشرق الأوسط التي لا معنى لها وتكلف الأموال ولا علاقة لهم بحياتهم اليومية. ولكن المشكلة مع أمريكا أنها ذهبت بعيدا وتمارس “الحمية كثيرا وسريعا” بشكل عرض الأمريكيين للخطر خاصة الهجمات الإرهابية وأمور أخرى تحتل صفحات الأخبار. ولهذا ردت الإدارة مرة أخرى بجلب القوات حتى يحين موعد الحمية الأخرى من الشرق الأوسط. ويقول الكاتب إن باراك أوباما أقام حملته الإنتخابية على فكرة سحب القوات الأمريكية من العراق ودعا في عام 2012 إلى إعادة ميزان القوة مع آسيا. إلا أن الخروج من العراق وعدم التدخل بالحرب السورية في أيامها الأولى منحت فرصة لتنظيم الدولة. وأدت أفلام قتل الأمريكيين على يد تنظيم الدولة واحتلال الموصل إلى زيادة الضغط على أوباما. ومن هنا ردت أمريكا على الوضع بإعادة القوات الأمريكية من جديد بسبب التهديد الحقيقي من تنظيم الدولة والحاجة الداخلية التي تطالب بالرد والتحرك.
أما جورج دبليو بوش فقد أقام حملته الانتخابية عام 2000 على أجندة التنافس مع الدول العظمى ووقف الأنظمة المارقة بدلا من التركيز على الدول الفاشلة والإرهاب. ولم تنظم إدارته في الأشهر الاولى من تسلم السلطة ولا أي لقاء عن الإرهاب. إلا أن هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 غيرت كل هذا حيث أطاحت أمريكا بنظامي طالبان وصدام حسين في العراق وقضت الثماني سنوات الأخرى وهي تنفق التريليونات وترسل الجنود متجاهلة بقية الأولويات الأخرى.
وكرر ترامب نفس الأشكال حيث تجاوزت استراتيجيته الأولويات المتعلقة بالتنافس الدولي. وكان يعد بإنهاء تنظيم الدولة والخروج من الشرق الأوسط منذ عام 2016. إلا أن انسحابه الأخير من شرق سوريا التي يرابط فيها الفي جندي لن تكون نهايتها جيدة لأنها النسخة الأخيرة من حمة يو يو السريعة. والسبب هو أن جيوب تنظيم الدولة الإسلامية لا تزال موجودة في شرق سوريا مع ظهور إشارات عن عملية إحياء لها. وقد تستفيد من الفراغ الذي ستتركه الولايات المتحدة ويعيد تجميع نفسها. وقد نرى عودة الهجمات على بروكسل ولندن والتي تركت أثرا سلبيا على السياسة الأوروبية وصعود الأحزاب القومية المحلية وظواهر غريبة مثل البريكسيت البريطاني من الإتحاد الأوروبي. وربما حاولت إيران وروسيا الإستفادة من الوضع والسيطرة على الشرق الروسي. ولا نعرف إن كان لديها القدرات الكافية لاستعادة مناطق شاسعة بدون قتال قبيح لا يؤدي لخلق المناخ الذي ينتعش فيه تنظيم الدولة. وحتى لو حدث هذا فالرسالة الأمريكية للحلفاء العرب وإسرائيل أن الحملة المشتركة ضد إيران قد تعرقلت. ويرى الكاتب أن شركاء أمريكا في الشرق الأوسط ليسوا بدون عيوب، مذكرا بقتل جمال خاشقجي ويجب أن لا تعرض أمريكا مصالحها لخدمة مصالحهم. ولكنهم عندما يرون شريكا أمريكيا لا يمكن الإعتماد عليه أو الوثوق به تصبح تصرفاتهم متقلبة وعدوانية وتخلق صداعا للأمريكيين و “من يلومهم”.
وفي وجه كل هذه السلبيات النابعة من قرار خطأ، فالسؤال هو هل سيجلس الرئيس ساكتا أمام هجوم إرهابي قادم؟ بالطبع لا، مما يعني أن الولايات المتحدة ستجد نفسها أمام تجربة جديدة ونخب آخر في الشرق الأوسط.
ويرى الكاتب أن التحدي الأكبر أمام واشنطن يتعلق ببقائها في الشرق الأوسط دونما التزامات مفرطة. وكيف يمكن رسم استراتيجية مستدامة ضد الإرهاب والدول الفاشلة التي تمنح ملاجئ للإرهابيين. فقد أثبتت الخمس عشرة السابقة أن وجود 150.000 جندي يخوضون حربا تقليدية عملية مكلفة ولا تحظى بدعم من الرأي العام الأمريكي، كما أن الانسحاب يعرض الأمريكيين للخطر كما أثبتت تجربة العراق عام 2011. ويعتقد الكاتب أن النموذج الذي بدأ في عهد أوباما للرد على تنظيم الدولة والتحديات الأمنية الأخرى وواصلت إدارة ترامب تطبيقه يبدو ناجعا. ويقوم هذا النموذج على اربع دعائم: الأولى نشر عدد محدود من القوات الامريكية لتدريب جماعات محلية وتسليحها. وتوفير نوع من الدعم اللوجيستي ومنح وزن سياسي للعملية من أجل الحصول على الدعم الدولي. وتقديم خدمات إعمار ومساعدة مستدامة تمنع من تكرار الخطأ وظهور التهديدات من جديد. ومن أجل نجاح النموذج على الولايات المتحدة إجراء تعديلات منها قبول واشنطن أنها لن تنهي الحروب الأهلية التي تعاني منها المنطقة. فهي تستطيع إدارة واحتواء الجوانب السيئة من النزاع بطريقة لا تؤدي لانتشار الإرهاب وتدفق اللاجئين إلى دول الشرق الأوسط بل وإلى أوروبا. ويجب إعادة تشكيل القوة التي ترسل إلى المنطقة بطريقة تكون قليلة الثمن حتى تبقى لمدة طويلة. وسيقلل هذا من النظام الذي يجهد الجيش خاصة قوات العمليات الخاصة والتي يقع عليها العبء الأكبر.
ويكون التغيير في هذا السياق من خلال خلق وحدات مهمتها تدريب القوى المحلية وتسليحها. وأخيرا يجب على الولايات المتحدة العثور على مدخل أقل كلفة لاستخدام السلاح المستخدم في العمليات الحالية. فالحروب هذه لا تحتاج إلى طائرات مكلفة مثل أف-22 واف- 35 كما ولا تستطيع الولايات المتحدة استخدام الطائرات بدون طيارو والاستطلاعية كلها في الشرق الأوسط على حساب التركيز على آسيا وأوروبا. وفي النهاية يظل الجواب النهائي للشرق الأوسط هو البقاء ولكن بعدد قليل ولسنوات قادمة. والاحتفاظ بقوات في شمال – شرق سوريا والمناطق الساخنة في الشرق الأوسط. والهدف لن يكون تحقيق النصر ولكن احتواء وإدارة الأزمة.
انسحاب أمريكا ضربة قوية لأكراد سوريا والأسد يخطط لخطوته التالية
بيروت: بعد أن كانوا من بين أكبر الرابحين في الحرب السورية، سيصبح الأكراد أكبر الخاسرين من قرار الولايات المتحدة سحب قواتها التي ساعدتهم في المعركة ضد متشددي تنظيم الدولة الإسلامية وفي ردع أنقرة ودمشق.
وبمساعدة الولايات المتحدة، انتزعت قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الأكراد السيطرة على مساحات كبيرة من شمال وشرق سوريا من أيدي الدولة الإسلامية، لكنها تحذر من أن المتشددين لا يزالون يشكلون خطرا حتى رغم إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هزيمتهم.
وتتفق فرنسا وألمانيا حليفتا واشنطن في حلف شمال الأطلسي مع هذا الرأي، وتقولان إن التحول المفاجئ في مسار الولايات المتحدة تجاه سوريا، في إطار وفاء ترامب بتعهد انتخابي عام 2016، يهدد بتقويض المعركة ضد الدولة الإسلامية.
ولن يعرض قرار ترامب الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية لخطر عودة الدولة الإسلامية فحسب بل يزيد من احتمال أن يتعرض شمال سوريا الذي يهيمن عليه الأكراد لهجوم من تركيا وحلفائها من مقاتلي المعارضة السورية.
وكأن التاريخ يعيد نفسه للأكراد وهم أقلية بلا دولة موزعة على سوريا والعراق وإيران وتركيا أحبطت قوى أجنبية تاريخيا طموحاتها القومية. فالأكراد هم أكبر مجموعة عرقية ظلوا بلا دولة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية قبل نحو قرن.
ويقول بعض المحللين إنه لكي تحمي الجماعات الكردية السورية نفسها من تركيا، فقد تضطر الآن لطرق أبواب دمشق وإبرام اتفاق مع الرئيس بشار الأسد وحلفائه الروس الذين قد يوفرون لها الحماية مقابل التخلي عن الحكم الذاتي.
وعلى النقيض من مقاتلي المعارضة السورية، فإن قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب الكردية التي تقودها لم تقاتل قط للإطاحة بالأسد. بل إنها تعاونت معه في بعض الأحيان ضد خصوم مشتركين وفي وقت سابق هذا العام دخلت في محادثات سياسية في دمشق.
إلا أن هذه المحادثات لم تسفر عن شيء، فالأسد يعارض رؤية الأكراد لسوريا اتحادية تحافظ على حكمهم الذاتي الإقليمي.
ويتطلع الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون، الذين يُنظر لهم على أنهم الرابحون على الأرجح من الانسحاب الأمريكي، إلى استعادة الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية والتي تمتد عبر ربع مساحة سوريا تقريبا والغنية بالأراضي الزراعية والنفط والمياه.
وقال مسؤول في التحالف الإقليمي المدعوم من إيران الذي يدعم الأسد لرويترز إن الحكومة السورية ستسعى قطعا لاستعادة المنطقة بعد انسحاب الولايات المتحدة.
وفي المناطق الكردية بشمال سوريا، عمق تحرك ترامب المخاوف من هجوم تشنه تركيا، التي تعتبر السيطرة الكردية على الشمال خطرا على أمنها وتطالب بإنهاء دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية.
وقال بنغين سيدو (35 عاما) من بلدة راس العين، حيث خرجت مظاهرة أمس الخميس ضد أي هجوم تركي: “من قبل كانت أمريكا موجودة ما حدا كان يخاف بس هلا بدنا نخاف من التهديدات (التركية)”.
ويقول أحمد سليمان وهو سياسي ومحلل كردي إن قرار ترامب أخذ قوات سوريا الديمقراطية على حين غرة، رغم أن القوات كانت قلقة مما تعتبره سياسة أمريكية مهتزة تجاه سوريا.
وقال: “الاعتماد على الأمريكان حقيقة هو تجربة فاشلة بالنسبة للأكراد على الأقل… هلا خيارات الأكراد صارت صعبة جدا”.
“خطر جدي” من الدولة الإسلامية
تطور الدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية، التي تمثل العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية، من عام 2014 عندما كان تنظيم الدولة الإسلامية في أوج قوته وكان الأكراد يقاتلون لمنع التنظيم من السيطرة على مدينة كوباني على الحدود مع تركيا.
وأثارت العلاقة غضب تركيا التي تعتبر وحدات حماية الشعب امتدادا لحزب العمال الكردستاني، الذي يشن تمردا منذ 34 عاما في جنوب شرق تركيا الذي يغلب الأكراد على سكانه.
وتطورت العلاقات مع تمكن وحدات حماية الشعب من دحر مقاتلي الدولة الإسلامية بدعم من الضربات الجوية والقوات الخاصة من التحالف بقيادة واشنطن. وخسر تنظيم الدولة الإسلامية الآن معظم أراضيه في سوريا.
لكن قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم كوباني قال الأسبوع الماضي، إن خمسة آلاف متشدد على الأقل لا يزالون يقاتلون باستماتة في آخر جيب لهم شرقي نهر الفرات قرب الحدود العراقية.
وذكر كوباني أن من بين هؤلاء مقاتلون أجانب وربما أيضا زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي. ويسيطر التنظيم أيضا على جيب صحراوي غربي الفرات في مناطق تخضع أساسا لسيطرة دمشق وحلفائها.
وأشار نواف خليل وهو محلل متخصص في الشؤون الكردية مقيم في ألمانيا وله صلات بقوات سوريا الديمقراطية إلى التهديد الذي يمثله كثيرون من الأعضاء السابقين في تنظيم الدولة الإسلامية الذين اندمجوا مجددا في الحياة المدنية.
وقال: “خلال أشهر يمكن أن يلتحقوا بداعش باسم داعش أو باسم آخر” مشيرا أيضا إلى مئات المقاتلين الأجانب الذين تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية وترفض حكوماتهم تسلمهم.
وأضاف: “في خطر جدي حقيقي…آلاف الناس كانوا قد انضموا إلى داعش ..هؤلاء لم يتبخروا”.
المعارضة تشيد بتحرك ترامب
دفعت الهجمات التركية في سوريا هذا العام قوات سوريا الديمقراطية لأن توقف مؤقتا عملياتها ضد الدولة الإسلامية. والآن تهدد تركيا بشن هجوم كبير في شمال شرق سوريا مستهدفة وحدات حماية الشعب.
وقال أبو حاتم شقرا القائد العام لتجمع أحرار الشرقية التي ستشارك في العملية: “عن قريب بإذن الله ستنطلق العملية شرق الفرات”.
وأشاد بقرار ترامب، مضيفا: “هدفنا أخذ جميع المناطق التي تسيطر عليها قسد (قوات سوريا الديمقراطية)”.
ويعتمد الكثير الآن على كيفية إدارة الولايات المتحدة عملية سحب جنودها البالغ عددهم 2000 جندي.
وقال جوشوا لانديس وهو خبير في الشأن السوري ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما: “إذا انسحب الأمريكيون بسرعة فستكون هناك فوضى. وإذا دخل الأتراك… فسيكون هناك سفك للدماء”.
وستمثل الموارد الطبيعية في المناطق الكردية ورقة مساومة قوية محتملة في أي مفاوضات مع دمشق لكن الإعلان الأمريكي قوض موقف الأكراد في أي مفاوضات.
وقال جوست هيلترمان من مجموعة الأزمات الدولية: “ليس من الواضح بعد من سيفوز لكن من الواضح من سيخسر. وحدات حماية الشعب ستخسر وشعب الأكراد سيخسر … موقفهم التفاوضي ببساطة أصبح صفرا”. (رويترز)
في حيثيات الانسحاب الأميركي من سورية/ عمر كوش
يطرح القرار المفاجئ للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوات الأميركية من سورية، أسئلة عديدة عن أسبابه وحيثياته، وخصوصا بشأن الغاية والمغزى من هذه الخطوة وتوقيتها، ومن هي الدول والقوى المستفيدة منها في سورية، وما الأثر الذي ستتركه في الصراع الدولي والإقليميي الدائر في سورية وعليها، وما الدور التي ستلعبه الولايات المتحدة الأميركية في الملف السوري بعد الانسحاب؟
وإن كان قرار ترامب ينسجم مع وعوده الانتخابية، ومع سياساته التي انتهجها منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلا أن إعطاء الأوامر بالانسحاب الفوري لا يتسق مع التغييرات الأخيرة في السياسة الأميركية حيال الوضع في سورية، خصوصا أن مسؤولين أميركيين كانوا يتحدثون عن بقاء القوات الأميركية مدة أطول في سورية، بل إن رئيس هيئة الأركان المشتركة في الجيش الأميركي، الجنرال جوزيف دانفورد، تحدث قبل أيام قليلة، عن “بقاء القوات الأميركية في المستقبل القريب في سورية”، وتزامن ذلك مع نفي التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي تقوده الولايات المتحدة، وجود أي خطط لتغيير وجود القوات الأميركية في سورية. والأدهى من ذلك عدم وجاهة التبرير الذي قدمه الرئيس ترامب لقراره، وربطه باكتمال هزيمة تنظيم داعش في سورية، واعتباره السبب الوحيد لوجود القوات الأميركية فيها، لأن الوقائع على الأرض تظهر عدم انتهاء المعارك مع التنظيم، واستمرار وجود آلاف العناصر منه في مناطق محافظة دير الزور المحاذية للحدود السورية العراقية.
ويأتي قرار الانسحاب في وقتٍ تحشد فيه تركيا وحداتٍ من جيشها على حدودها الجنوبية، وتتوعد بالقيام بعملية عسكرية في منبج وشرقي الفرات، ضد مليشيات الوحدات التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في تركيا، الأمر الذي يظهر أن الانسحاب الأميركي بمثابة تخلٍّ عن دعم هذه المليشيات التي اتخذتها الولايات المتحدة حليفاً أساسياً في حربها ضد “داعش”، وتركها تواجه مصيرها وحدها، مثلما فعلت مع فصائل المعارضة السورية في الجبهة الجنوبية، عندما تخلت عنها، وأرسلت رسالةً واضحة لها، تفيد بأن لا تتوقع أي دعم أميركي حيال الهجوم الذي شنه ضدها تحالف النظام البوتيني مع نظام الملالي الإيراني ونظام الأسد، وانتهى أمرها بتسليم السلاح والانخراط في التسوية الروسية.
ولعل إعلان قرار الانسحاب الأميركي بعد الاتصال الذي أجراه الرئيس التركي رجب طيب
أردوغان مع نظيره الأميركي دونالد ترامب، يشير إلى وجود تفاهم ما بينهما، لكنه لا يتسق مع رسالة التحذير الأميركية لفصائل المعارضة السورية من مغبّة مشاركتها في أي عملية عسكرية تركية في شرقي الفرات أو منبج، كما أن القرار يسير في عكس اتجاه الخطوات الأميركية التي اتخذتها وزارة الدفاع الأميركية حيال التهديدات التركية، وأنشأت بموجبها مراكز مراقبة عسكرية على طول الحدود السورية التركية، المحاذية لمناطق سيطرة مليشيات الوحدات الكردية، للحدّ من إمكانية قيام الأتراك بعمل عسكري واسع في المنطقة. وبالتالي هل يمكن الحديث عن خطة أميركية مضمرة، تقضي بتوريط تركيا أكثر في الملف السوري، أم أن الغاية من الانسحاب هو ترك الساحة السورية للروس والأتراك وملالي إيران، وخلط الأوراق في المنطقة، والمراهنة على صراع محتمل بين رعاة محور أستانة على الأرض السورية. غير أن الرئيس الأميركي، ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، أظهر أنه يتصرّف وهو على كرسي رئاسة الولايات المتحدة، وكأنه يدير شركة تجارية كبيرة، والمبدأ الأساس لسياسته فيها هو ميزان الربح والخسارة، ما يعني أن حساباته في سورية هي ما قادته إلى اتخاذ هذا القرار، خصوصا أنه كان قد طالب دولا عربية بدفع تكلفة الوجود العسكري الأميركي في سورية، مع أن المنطقة التي يوجد فيها الأميركيون غنيةً بالموارد الطبيعة، وخصوصا النفط والغاز، لكنها لا تمثل شيئاً معتبرا بالنسبة لحساباته التي سبق أن قادته إلى الانسحاب من “الميثاق العالمي حول الهجرة”، واتفاق باريس حول المناخ، ومطالبته دول الاتحاد الأوروبي بدفع ثمن حماية الولايات المتحدة لها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وسوى ذلك.
والواقع أن ترامب لم يخف رغبته بسحب قوات بلاده من سورية، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، وتحدث عن ذلك في أكثر من مناسبة عن ضرورة إسناد مهمة “الاعتناء بسورية للآخرين”، بل وأعلن في نهاية مارس/ آذار الماضي عن عزمه على سحب القوات الأميركية من سورية، وأن الانسحاب “سيكون قريباً جدا”، بدوافع وحسابات اقتصادية، من خلال قوله: “أنفقنا سبعة تريليونات دولار في الشرق الأوسط، هل تعلمون ما الذي حصلنا عليه لقاء ذلك؟ لا شيء”، لكن أركان الإدارة الأميركية، آنذاك، تمكّنوا من ثنيه عن قرار الانسحاب، وأقنعوه بضرورة بقاء قوات بلادهم مدة أطول في سورية، وحاولوا البحث عمن يدفع تكاليف الوجود الأميركي في سورية، وإقناع بعض الدول العربية بإرسال وحدات عسكرية عربية تحل محل القوات الأميركية عند انسحابها، إلا أنهم فشلوا في ذلك.
ويبدو أن قرار الانسحاب اتخذ منذ مدة في الإدارة الأميركية، وأن تنفيذه قد بدأ فور إعلان ترامب عنه. ويعي أركان الإدارة تماماً تبعات تنفيذ هذا القرار، والذي سيفضي إلى ترك المجال السوري مفتوحا تماماً أمام الروس وملالي طهران، وبالتالي نظام الأسد. ولذلك قد يطلق العنان لتكهناتٍ بالتحضير لعمل عسكري كبير، تقوم به إسرائيل، بإسناد من الولايات المتحدة، ضد مليشيا حزب الله في لبنان، وخصوصا بعد اكتشاف أنفاق حزب الله، وقد يمتد ذلك إلى أماكن وجود مليشيات نظام الملالي الإيراني، وربما إلى أبعد من ذلك، لكن هذا الأمر متروك لما ستحمله الأيام المقبلة.
العربي الجديد
إنسحاب أميركي “ذو وجهين”/ بسام مقداد
قبل أيام من إعلان الرئيس الأميركي عن الإنسحاب من سوريا، اشتكى الناطق باسم وزارة الدفاع الروسية من تجاهل البنتاغون الرد على رسائل وزير الدفاع الروسي حول سوريا ومعاهدة الصواريخ متوسطة المدى. في ظل التجاهل الأميركي المهين هذا، يمكن فهم الترحيب الشديد بإعلان الرئيس الأميركي بشأن الإنسحاب من سوريا، الذي عبرت عنه الناطقة باسم الخارجية الروسية. فقد علقت ماريا زاخاروفا فور انتشار نبأ الإعلان الأميركي بقولها “إنها قصة شديدة الأهمية، تلك التي تترتب على هذا القرار، هذا أفق حقيقي للتسوية السياسية”. كما أشارت زخاروفا إلى أن القرار الأميركي يسمح بالأمل في تحسن الوضع في منطقة التنف، “حيث يولد أمل بأن تسلك هذه المنطقة على الخريطة السورية الطريق الذي سلكته حلب والكثير غيرها من المدن والمواقع السورية، التي أخذت تعود إلى الحياة السلمية. لم يكن مثل هذا الأمل موجوداً، طالما كان يتواجد الأميركيون هناك”.
لكن البيان الرسمي لوزارة الخارجية، الذي نقلته وكالة تاس، كان اقل حماسة من اندفاعة ماريا زاخاروفا على قناة التلفزة الرسمية، حيث يقول البيان “لقد بدأوا يفهمون في الولايات المتحدة، أنهم يلعبون ضد أنفسهم، وهم يقاومون عمل “ترويكا أستانة”.
أما رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الإتحاد كونستانتين كوساتشيف، فقد كان أكثر حذراً في تعليقه، عبر الفايسبوك، على القرار الأميركي، كما نقلت صحيفة “NG”، إذ اعتبر ان الخطوة الأميركية قد تكون “مزدوجة القعر، إذ يمكن للأميركيين أن ينسحبوا، لكن يستمرون في العمل عبر الحلفاء، بمن فيهم الرسميون منهم والمشكوك بأمرهم”.
وفي مقالة لها بقلم نائب رئيس تحريرها، تتساءل صحيفة الكرملين “VZ” عن “من أجبر الأميركيين على الإنسحاب من سوريا”. وتقول الصحيفة، بأن إحدى أكثر عمليات التدخل صخباً في تاريخ الجيش الأميركي انتهت “بصورة غير مشرفة”. وتتساءل الصحيفة عن السبب في اتخاذ مثل هذا القرار في هذه اللحظة بالذات، وكيف يمكن لهذه الخطوة أن تترك تأثيرها على صفقة مبيع صواريخ S-400 إلى تركيا.
ورأت الصحيفة، أنه في كل مرة كان دونالد ترامب يقترح سحب القوات الأميركية من سوريا، تنفيذاً لوعده الإنتخابي، كانوا يقنعونه يتأجل الأمر، وذلك بحجة ضرورة أخذ موقف الولايات المتحدة بالحسبان “بشكل ما” لدى تحديد مستقبل سوريا، ومن أجل منع الروس من “أن يمسكوا بالوضع كلياً”. وحتى لو بقي الأميركيون في قاعدة التنف، فإن انسحابهم من المناطق الكردية يعني نهاية اللعبة السورية بالنسبة لواشنطن، والتي انتهت، في الحقيقة، منذ بدأت الحملة الروسية في سوريا العام 2015، حسب الصحيفة.
لكن مع ذلك، تتساءل الصحيفة لماذا انسحاب الأميركيين الآن؟ وهي ترى أن الولايات المتحدة لم تعد معنية بسوريا، لأن الرهان في اللعبة هو على الشرق الأوسط برمته وليس على سوريا وحدها. وتعتبر أن واشنطن تريد وقف تراجع نفوذها في المنطقة، والانسحاب من سوريا هو الأمر الأسهل والأقل ألماً، مما هو متاح القيام تقوم به حالياً، لأنه ليس لوجود ألفي جندي أميركي أي معنى عسكري وجيوبوليتيكي في سوريا العائدة إلى سلطة الأسد.
أما فيما يتعلق بالنتائج المترتبة على الإنسحاب الأميركي من سوريا، ترى الصحيفة أنه لم يعد من مبرر لقيام الأتراك “بعملية جد حاسمة” ضد الأكراد، لأن هؤلاء سوف يجدون أنفسهم مضطرين ليكونوا أكثر لياقة وحذراً في تعاملهم مع أنقرة، وسوف يكونون أكثر طواعية في المفاوضات مع دمشق، وأكثر انتباهاً لحجج روسيا.
بالنسبة لروسيا، ليست الآثار السورية الداخلية المترتبة على الإنسحاب الأميركي هي الأهم، بل الآثار التركية هي الأشد أهمية. وتتساءل الصحيفة، كيف سيتصرف إردوغان، وهل سيبدأ بلعب “الورقة الأميركية” ضد روسيا، كما حاول في العام 2015، إثر إسقاط الطائرة الروسية في حينها؟ لكنها ترى أنه، وعلى الرغم من عدم الثقة به المنتشرة وسط “خبراء التلفزة” الروس، إلا أنه ليس من اساس في الواقع للإشتباه بوجود “نوايا للغدر” لدى الرئيس التركي. والتناقضات الأميركية التركية لا تقف عند الموضوع السوري الكردي فحسب، كما أن العلاقات الروسية التركية هي ذات أهمية استراتيجية بالنسبة لإردوغان، حسب صحيفة الكرملين. لكنها لا تنفي في الوقت عينه إمكانية أن يقدم إردوغان الآن على خطوات إستعراضية حيال واشنطن، كأن يعمد إلى إلغاء الإتفاقية حول شراء صواريخ S-400، لكن “نهجه الإستراتيجي لن يتبدل”. وهي ترى أن تركيا تريد أن تصبح في عداد الدول العظمى في القرن الحادي والعشرين ويمكنها أن تصبح كذلك، لكن ذلك سوف يكون مستحيلاً ” من دون الشراكة الإستراتيجية الثابتة ومتعددة الجوانب ” مع روسيا.
لكن صحيفة “kommersant” المستقلة والمعروفة بنفوذها الواسع ترى أن قرار ترامب بالإنسحاب من سوريا “سوف يبقى، على الأرجح، عند مستوى الإعلان”. تقول الصحيفة على لسان معلقها للشؤون الدولية، بأن الأميركيين لن يخرجوا نهائياً من سوريا، بل قد يتعلق الأمر بسحب الألفي عسكري، الذين سبق أن أعلن البنتاغون عن وجودهم رسمياً هناك. ويقول هذا المعلق، بأنه لا يصدق أن رجال المخابرات الأميركيين والإختصاصيين في شؤون المنطقة ورجال البنتاغون سوف يقومون بتنفيذ أمر ترامب هذا “غير المتوقع براديكاليته”.
وتقول الصحيفة، أن البنتاغون يتحدث عن مهلة تتراوح بين 60 و100 يوماً لأتمام الإنسحاب، وهذه المهلة هي “مرحلة كاملة” بمقاييس الحرب السورية. لقد انسحب الأميركيون من العراق، لكن ذلك لم يمنعهم من العودة لاحقاً والمساهمة في استعادة الموصل من “الدولة الإسلامية”. وتشير الصحيفة إلى أن الدول العظمى، حين تتدخل في الحروب الإقليمية، فإن الأمر الأصعب في هذا التدخل هو الخروج من الحرب “مع حفظ ماء الوجه”، وهو ما لم تتمكن منه الولايات المتحدة حتى الآن في أفغانستان.
لكن الحروب، مهما طالت، ينبغي أن تنتهي في لحظة ما، فلننتظر، حسب الصحيفة، لنرى كيف ستخرج الولايات المتحدة فعلياً ونهائيا من الحرب السورية. وتتساءل الصحيفة ما إن كانت روسيا ستتمكن من الخروج “مرفوعة الرأس ” حين تحين لحظة الخروج من هذه الحرب، وهي لا بد آتية.
المدن
الانسحاب الأميركي من سوريا.. الأكراد يبكون عزلتهم/ وليد بركسية
لم يترافق قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا، بكثير من الصدمة أو الدراما في مواقع التواصل الاجتماعي، من طرف الناشطين الأكراد تحديداً، رغم أن الحلفاء الأكراد، الذين كانوا قوة أساسية في هزيمة “داعش” على الأرض، هم الخاسر الأكبر في المشهد السوري المعقد.
وتعززت شكوك أكراد سوريا بتحالفهم مع واشنطن خلال السنتين الأخيرتين، وبالتحديد بعد عملية غصن الزيتون التركية في منطقة عفرين، التي لم تمنع الولايات المتحدة حصولها، إضافة للموقف الأميركي السلبي من الاستفتاء الكردي في العراق على الاستقلال. ومع تراكم الخيبات الكردية، كان طبيعياً أن يأتي رد الفعل اليوم، بسيطاً. فكتب عشرات الناشطين الأكراد في “تويتر” عبارات مثل “أميركا للمرة الألف تبيع الأكراد” أو “لن يبقى للكردي إلا الريح”، علماً أن النقاشات تعددت بين هاشتاغ #الأكراد، وهاشتاغ #روجافا، وعبارات بحث أخرى ذات صلة.
وثبت بتخلي الولايات المتحدة عن حلفائها الأكراد، أن سعي الأكراد للحصول على مكاسب من الحرب السورية، تبدأ بالحد الأدنى وهو الاعتراف بهم كمواطنين بعد اعتبار النظام كثيراً منهم كأجانب لعقود، وصولاً للحد الأقصى المتمثل بإقامة دولة كردية مستقلة، لا تتعدى كونها أوهاماً رغم نجاح الأكراد في إقامة إدارة مستقلة في مناطق نفوذهم، حققت نوعاً من الإدارة المدنية لمناطق خارج نطاق سيطرة الأسد، وهو ما فشلت فيه كافة فصائل المعارضة الإسلامية الأخرى.
ولا يعود ذلك لمنطق الحق أو الصواب التاريخي، وإن كان الأكراد يستحقون تلك المكاسب أم لا، حيث أن هنالك معوقات سياسية كثيرة تقف أمام كل تلك الطموحات، وأبرزها علاقة تركيا بالغرب، بوصفها دولة في حلف شمال الأطلسي “ناتو”، وهو ما جعل عشرات الناشطين السوريين المناهضين للأكراد، من الموالين للنظام والمعارضين له، يتجهون نحو خيار الشماتة وكأن الانسحاب الأميركي، حقق لهم انتصاراً سهلاً على خصم محلي آخر في الحرب السورية متعددة الأطراف، من دون بذل أي جهد لذلك.
وتداول ناشطون العبارة التي علقت بها “قوات سوريا الديموقراطية” على القرار الأميركي بوصفه “طعنة في الظهر”. هذه العبارة العاطفية المجردة، تحيل إلى إدراك كردي مسبق بالفشل في إقناع واشنطن بأن أكراد سوريا يشكلون حليفاً يجب التمسك به على حساب العلاقات مع الدول الإقليمية. وهو ضرب من التفكير الفانتازي بطبيعة الحال، وربما يكون ذلك سب عدم وجود هاشتاغ موحد أو حملة أو مناشدة أكبر للولايات المتحدة، للعدول عن القرار، سواء في وزارتي الدفاع والخارجية، أو حتى الكونغرس، مع التسليم بعدم وجود جدوى من تحرك مماثل، خصوصاً أن الموقف الأميركي الداخلي معقد وممزق في ظل رئاسة ترامب.
إلى ذلك، كانت تركيا حاضرة في النقاشات السورية حول القرار في “فايسبوك” و”تويتر”، فبينما قدم ناشطون أكراد خيارات للتصرف أمام أي هجوم تركي محتمل على شرق الفرات ينهي الإدارة الذاتية تماماً، تحدث آخرون عن نصر تركي، فيما توقف آخرون عند صفقة تركية – أميركية، تقضي بالتخلي الأميركي عن الأكراد مقابل التنازل التركي عن قضية الصحافي السعودي جمال خاشقجي التي باتت محرجة للإدارة الأميركية والرياض على حد سواء، مع الإشارة إلى أن أنقرة لطالما رأت في الوجود الكردي على حدودها الجنوبية، مصدراً للقلق بسبب ارتباطات أكراد سوريا المفترضة مع حزب العمال الكردستاني المحظور.
الخيار الكردي الأكثر رواجاً في مواقع التواصل، يتحدث عن التواصل مع النظام السوري كي يملأ الفراغ الذي سيخلفه رحيل القوات الأميركية، علماً أن الإدارة الذاتية لم تقطع قنوات التواصل مع النظام طوال السنوات الماضية، وأجرى الطرفان مفاوضات قبل أشهر لكنها لم تسفر عن أي شيء، وكان هذا المشهد ككل، مثيراً لبهجة الموالين للنظام السوري، الذين تجاوزوا الشماتة بالأكراد الذين “سيعودون لحضن الوطن” بعدما تمت تعرية “مشروعهم الانفصالي”، نحو الحديث عن نصر سوري على الغرب في سوريا.
وفيما استند ترامب في تبرير قراره على تنفيذ الهدف الأميركي القديم بهزيمة “داعش” في سوريا، يبدو للوهلة الأولى أن الصراعين الأقدم والأطول في سوريا، يتجهان إلى النهاية رسمياً، أي الحرب ضد “داعش” والثورة ضد النظام. لكن مستوى التشنج في السوشيال ميديا بين الأطراف الموالية لأطراف النزاع الأخرى، تشير إلى أن الصراع قد لا ينتهي كلياً بل ينتقل إلى المستوى الثاني فقط، مع تغير أجندات الأطراف، ما يعد بمزيد من العنف مع غياب أي معنى حقيقي للدولة كبناء سياسي في سوريا.
لا يعني ذلك أن الأكراد يعودون للمربع الأول، حيث لا يمتلك النظام مصلحة كبيرة في الضغط على الأكراد مثلما كان يفعل قبل عقود، عندما كان يحرمهم من الدرجة الثانية، أو لا مواطنين في سوريا الأسد، مع عدم اعتراف السلطات بهم ومنعهم من حقوق بسيطة كالتعليم والحصول على بطاقات شخصية، لأن الضغط عليهم قد يدفعهم نحو بدائل مثل التنسيق مع أكراد العراق مثلاً، وهو ما تمنعه التجاذبات الإقليمية، وتجلى في ترحيب الصفحات الموالية للنظام السوري بالأكراد كمواطنين يعودون لحضن الوطن.
وهكذا لا يصبح مصير الأكراد مشابهاً لما حصل لفئات سورية أخرى في السابق، اتخذت مساراً مختلفاً خلال الحرب السورية، لكن خيبة الأمل المشتركة السائدة في مواقع التواصل تبقى أمراً بسيطاً أمام الشعور بعدم العدالة في نفوس جيل الحرب وما بعد الحرب، مع اليقين بأن العودة لحكم النظام قد تعني العودة لحالة الظلم التاريخية نفسها. ما يترك السوريين، عرباً وأكراداً ضمن دائرة مفرغة لا تترك مجالاً كبيراً للغفران والمصالحة، وتهدد بدوامة عنف جديدة في المستقبل.
المدن
الانسحاب الأميركي .. قرار استراتيجي أم مناورة جديدة؟/ مهند الكاطع
شكّل القرار الأمريكي بالانسحاب السريع والكامل من سوريا مفاجأة لجميع المراقبين والساسة المتابعين للشأن السوري بمن فيهم مسؤولون وأعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي.
القرار الأمريكي بالانسحاب والذي سبق للرئيس الأمريكي ترامب بأن تراجع عنه، يأتي اليوم في ظروف كان من المتوقع أن تشهد تصعيداً في منطقة شرقي الفرات، خاصة بعد التهديدات الأمريكية التي وصلت على شكل رسالة للائتلاف السوري تحذر فيه من أن أي مشاركة لفصائل المعارضة في القتال إلى جانب القوات التركية ضدّ الفصائل الكردية ستعني استهداف للقوات الأمريكية وسيتم التعامل بشدة.
التصعيد التركي الأخير
لقد شهدت الفترة الماضية تصعيداً غير مسبوق في اللهجة التركية حول مناطق شرق الفرات، تزامن ذلك مع حشد عسكري تركي في المناطق الحدودية، وقد كانت هذه التحركات تشير إلى اقتراب التدخل في مناطق شرق الفرات وبشكل خاص في منطقتي تل أبيض ورأس العين، التي باشرت القوات الكردية هناك بحفر خنادق واتخاذ إجراءات دفاعية هناك.
تركيا والتي كانت تبدي عدم رضاها عن السياسات الأمريكية الداعمة لفصائل مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وتبدي امتعاضاً من
تعثر تنفيذ خارطة الطريق في منبج على النحو المتفق عليه، إضافة إلى الملفات الأخرى العالقة بينها وبين واشنطن كملف تسليم المطلوبين لتركيا وعلى رأسهم غولن، وتنفيذ صفقات السلاح المتعثرة وغير ذلك من القضايا التي كانت تشكل منعطفات حرجة في العلاقة بين الشريكين في حلف الناتو المهمين ( تركيا، أمريكا)، يبدو أنها أكثر ثقة في خطابها اليوم، وتعتبر أن دبلوماسيتها نجحت اتجاه التعامل مع الموقف الأمريكي، خاصة مع حدوث بوادر لانفراج في العلاقات مع حل أكثر الملفات العالقة بين الجانبين.
خطوات الانفراج بين واشنطن وأنقرة
لم تكن قضية القس برونسون الذي تم الإفراج عنه في تركيا تمثل الدلالة الوحيدة على بدأ الانفراج في الأزمة بين البلدين، فقد تبعها عدة خطوات، منها قيام أمريكا بإلغاء العقوبات المفروضة على مسؤولين أتراك ورد تركيا بالمثل، وخلال الأيام القليلة الماضية كانت هناك اتصالات على أعلى المستويات بين الجانبين التركي والأمريكي، أعلنت بعدها الولايات المتحدة الأمريكية عن موافقتها على تسليم طائرات الـ إف 35 لتركيا بعد تعطيلها في وقت سابق، والبدء بالتحضيرات لملف تسليم عبد الله غولن إلى تركيا، كل ذلك كان يشكل خطوة تحول مهمة في العلاقات الأمريكية – التركية، لكن القرار الأمريكي الأخير يعتبر تتويجاً لهذا الانفراج إذا ما تم بالشكل الذي يؤمن المصالح التركية.
الدور الأميركي شرق الفرات
يوجد نحو ألفي جندي أمريكي في سوريا، وبعض المصادر الأمريكية تشير إلى أن العدد الفعلي قد يصل إلى أربعة آلاف مقاتل غير معلن، يتوزعون في مناطق مختلفة من شرق الفرات بعيداً عن مراكز المدن، حيث تنتشر نحو عشرين قاعدة أمريكية لمختلف المهام العسكرية في هذه المناطق، وتقوم بتقديم الدعم العسكري واللوجستي لقوات قسد في إطار الحرب المعلنة على تنظيم الدولة الإسلامية. لقد شكل الوجود الأمريكي نقطة توازن مقابل الوجود الروسي وكذلك الوجود الإيراني، وكانت أمريكا تصرح بأن انسحابها من سوريا يجب أن يتوافق مع انسحاب للقوات الروسية والإيرانية أيضاً. ويرى بعض المراقبين الأمريكيين بأن الوجود الأمريكي في منطقة استراتيجية شرق الفرات قد يعوضهم عن فقدان الموقع الاستراتيجي الذي كانوا قد تركوه في العراق، ويسمح لأمريكا أن تكون لاعباً أساسياً في اللعبة السورية وعدم ترك الساحة لروسيا وإيران.
كل ما سبق إضافة إلى مناطق حظر الطيران التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية شرق الفرات، ساهم في جعل القوات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني تسيطر على نحو 40% من الأراضي السورية خلال السنتين الأخيرتين، وسمح لها بأن تنفرد في إدارة هذه المناطق التي يشكل العرب أكثر من 90 بالمئة من سكانها، وتقوم بارتكاب مختلف الانتهاكات من حرق وتجريف للقرى العربية وفرض مناهج التعليم الكردية برؤية إيديولوجية تنتمي لمدرسة العمال الكردستاني، وكذلك فرض التجنيد الإجباري على شبان المنطقة، والضرائب والأتاوات على باقي المدنيين.
انسحاب استراتيجي أم مناورة جديدة؟!
إن قرار الولايات المتحدة الأمريكية الذي نشرته وسائل الإعلام الأمريكية قد تم تأكيده عبر البيت الأبيض، مؤكداً أن قرار أمريكا بالانسحاب وعودة جنودها من سوريا يعني الانتقال لمرحلة ثانية من مراحل مواجهة الدولة الإسلامية، وقد حذر مسؤولون أمريكيون مثل السناتور الأمريكي ماركو روبيو مغبة الانسحاب السريع والكامل، إذ قال: ” إن الاسنحاب السريع والكامل للقوات الأمريكية خطأ فادح وسيكون له تداعيات خطيرة”، في حين صرح مسؤول أمريكي بأن الانسحاب سيكون متدرجاً وسيستغرق من 60 إلى 100 يوم. هذه الجدولة الزمنية الطويلة نسبياً لجنود قد تكون مبررة إذا ما كان الغرض تفكيك القواعد الأمريكية ونقلها بشكل كامل من المنطقة، وقد تكون أيضاً بغية تأمين المنطقة وعدم إحداث فوضى قد تنتج عن الانسحاب السريع، لكن أيضاً لا يمكننا استبعاد أن ذلك قد يدخل ضمن مناورة أمريكية جديدة تستهدف تخدير الجانب التركي ومنعه من التدخل العسكري، قبل ترتيب بعض الأمور في المنطقة خاصة مع أنباء غير مؤكدة تحدثت عن تعزيزات عسكرية ثقيلة وصلت قاعدة الرميلان خلال الأيام السابقة. و أياً كانت الأسباب وراء هذه الجدولة، فهذه المدة ستكون كفيلة بحدوث أكثر من سيناريو خلال هذه الفترة، أبرزها:
الأول: توافق غير معلن بين النظام والقوات الكردية برعاية أمريكية تسمح للنظام وحلفائه بالدخول إلى منطقة شرق الفرات وإعادة انتشار قواته في المنطقة بشكل كامل يتم الإعلان عنه مع الانسحاب الكامل للأمريكان من سوريا، وبالتالي إرباك الأتراك ومنعهم من الدخول للمنطقة خاصة إذا ما تم إخلاء المواقع الحدودية بعمق 10 كم من تمركز القوات الكردية، والتي يحق للأتراك بموجب مذكرة تفاهم مع النظام السوري وقعها سنة 1998 بالدخول في الأراضي السورية الحدودية بعمق 5-8 كم في حال وجود تهديد لأمنها القومي.
الثاني: إعادة تموضع القوات الكردية بالتوافق مع حلفاء آخرين في مناطق متفق عليها بين الأمريكان والأتراك، وقد تكون هناك أطراف عربية أخرى تضمن انتشار قوات عازلة بين مناطق القوات الكردية والحدود السورية – التركية، مع توقعات بأن تكون قوات سودانية مرشحاً رئيسياً للعب هذا الدور، تزامناً مع زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، مع توقعات بحمله رسالة من الجامعة العربية في مقترحات من هذا القبيل.
مستقبل قسد بعد الانسحاب الأمريكي
لا يبدو أن القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني التي تمثلها اليوم ( قسد) بموقف يحسد عليه مع هذا القرار، فهي تعتبر أن القرار طعنة بالظهر
وخيانة لدم مقاتليها، المحللة السياسية الروسية إلينا سبونينا علقت على هذا الموقف قائلة ” بأن الموقف سيكون صعباً بالنسبة للأكراد، أمريكا تستخدم الأكراد ولا تنفذ وعودها لهم، والأمريكان اعتادوا اللعب على وتر القضية الكردية، بينما الموقف الروسي أكثر وضوحاً إزاء ذلك”. يذكرنا هذا الانسحاب أيضاً ، بالتخلي الأمريكي عن قوات البيشمركة في كركوك العام المنصرم، وكذلك المواقف الأمريكية التي كانت منذ عهد كيسنجر تخذل الطموحات الكردية المتعجلة.
على أي حال يبدو أن خيارات قوات الأمر الواقع الكردية في سوريا “قسد” بدون الوجود الأمريكي تكاد تكون معدومة، فلا التدخل التركي مع فصائل المعارضة سيكون في صالحها، ولا تدخل النظام أيضاً سيكون في صالحها، خاصة بعد أن حاولت قسد الخروج عن عباءة النظام فعلياً تزامناً مع التمركز الأمريكي في المنطقة، وبعد المواجهات الدامية التي كانت تحدث أحياناً بينها وبين قوات النظام وأجهزة أمنه في المنطقة التي تسيطر عليها القوات الكردية خلال الفترة الماضية.
مشروع القوات الكردية في سورية كان من المتوقع له الفشل، والآن يمكن القول بأنه سيشهد انهياراً بشكل لا يقل مفاجأةً عن قرار القوات الأمريكية بالانسحاب، وسيساهم في تسارع هذا الانهيار عدم وجود ركائز محلية تدعم هذا المشروع، ووجود نقمة كبيرة من أبناء المنطقة على الممارسات والمجازر التي قامت بها هذه الميليشيات بحقهم خلال السنوات الماضية منذ إعادة حلفهم مع النظام بداية الثورة السورية، وصولاً لحلفهم مع الأمريكان خلال الأعوام الماضية.
تلفزيون سوريا
الانسحاب الأميركي من سوريا ليس انتصارا لإيران/ شادي علاء الدين
سارع الكثير من المحللين إلى تحديد المنتصرين والمهزومين من عملية الانسحاب الأميركي من سوريا والتي تم الإعلان عنها مؤخرا.
تقع روسيا وتركيا وإيران على رأس قائمة المنتصرين، ويتبعهم نظام الأسد بينما تدرج قوات سوريا الديمقراطية كخاسر أكيد وإسرائيل كخاسر محتمل.
خرجت هذه القراءة إلى النور فور إعلان الانسحاب، ولكن البحث في الأسباب والعناوين العريضة لهذا الانسحاب قد يدفع إلى الخروج باستنتاحات أكثر حذرا وأقل يقينية ،وخصوصا في ما يتعلق بالنظر إليه على أنه يؤسس لانتصار إيراني.
أدى هذا الانسحاب دور تكريس روسيا كمرجع أساسي في سوريا، وهذا الأمر لا يعود إلى أنها تتمتع بقوة استثنائية لا تقارع بل إلى قلة الاهتمام الأميركي بسوريا، وهو ما توارثته الإدارات المتعاقبة من عهد أوباما الذي كان يرى فيها مستودعا لتجميع كل الذين يجب التخلص منهم، إلى عهد ترامب الذي اعتمد سياسة مواربة تجاه سوريا تحت عنوان محاربة الإرهاب، اتخذ منها منطلقا للتفاوض في ميادين أخرى أكثر أهمية بالنسبة له.
تُركت سوريا لروسيا ضمن عناوين بدأت معالمها تتضح الآن مع الانسحاب الأميركي، وهذه العناوين
لا تتصل بحسابات الربح والخسارة بشكل دقيق بل تتصل بترتيبات ومسارات، فما تم إرساؤه يرتبط بإنهاء أحلام الأقليات ببناء دول أو كيانات مستقلة كما هو حال الأكراد، وتكريس التعامل وتقاسم النفوذ بين الدول بشكل حصري.
لم تشأ أميركا تغليب حلفها مع الأكراد على علاقتها مع تركيا، ولكنها لم تمنحها كذلك تفويضا مطلقا بإنهاء الوجود الكردي وتصفية قوات سوريا الديمقراطية، بل تركت الأمر في دائرة التنازع التي تتوقع أن يخرج منها الطرفان منهكين من دون السماح لأحدهما بتسجيل انتصار واضح ونهائي.
الأمر نفسه ينطبق على الدور الروسي، فروسيا مطلوب منها أن تلعب دور ضابط الإيقاع في المنطقة، بما يؤمن حماية أمن إسرائيل وتيسير شؤون إنهاء الحرب السورية وفق جدول مقايضات.
وفق هذا السياق يبدو الحديث عن انتصار إيراني من خلال الانسحاب الروسي حديثا مفتقدا للحيثية الميدانية، فروسيا التي تسعى لتعويم النظام السوري تفعل ذلك انطلاقا من عنوان متصل بالشرعية وفكرة الدولة، وتعمل على شرعنة الأسد ليس بوصفه نظاما أو تعبيرا أقلويا، ولكن بوصفه يمثل بنية دولتية تعبّر عن منطق مرتبط بآليات عمل نفوذها.
يتناقض النزوع الروسي الذي يلاقي أصداء إيجابية عربية ودولية مع طبيعة الوجود الإيراني وشكله وحضوره في سوريا والمنطقة، الذي اتخذ طابعا ميليشويا لم يعد مقبولا، كما أنه بات واضحا ارتباط إيران في كل مجال تحضر فيه مباشرة أو بالوكالة عبر أذرعها ،من قبيل حزب الله، بالتعطيل والتعقيد وسد سبل الحلول.
كان لافتا أن المشروع الروسي في المنطقة عمل على تظهير نفسه بوصفه النقيض المباشر لمنطق التعطيل الإيراني ففي حين عمد حزب الله في لبنان إلى السعي المحموم لتعطيل تشكيل الحكومة وفق توجه إيراني ابتزازي،أنتج التدخل الروسي دورا حاسما في دفع الأمور إلى خواتيمها السعيدة، وإنجاح تشكيل الحكومة بشكل ظهر فيه رئيس المجلس النيابي نبيه بري والمدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم في واجهة صناعة الحلول بدعم روسي دفع في اتجاه تكريس الحضور السوري في الحكومة.
ما كرسه الانسحاب الأميركي والذي لا يبدو أن إيران قادرة على التعامل معه بسلاسة
أو بقدرة على الابتزاز، هو أنه أناط بروسيا دورا مرجعيا في كل ما يتصل بالمنطقة وشؤونها، وهو ما لم تعتد إيران على التعامل معه في ظل تضارب مشاريعها مع مشروع روسي لا يمكن له أن ينجز إلا في ظل إنهاء النزاعات، والدفع في اتجاه استقرار يسمح بتدفق أموال إعادة الإعمار، وربط فكرة الشرعيات في المنطقة بالنفوذ الروسي ومآلاته.
لا يمكن لإيران أن تعمل إلا في ظل الاضطراب والفوضى والتوتر، ولعل الانسحاب الأميركي من سوريا يمهد لفترة اضطراب قصوى ومحدودة، تمهد لاستقرار ما لا يلحظ دورا واضحا لإيران.
يؤدي هذا الواقع وظيفة إجبار إيران على ضبط نشاطات أذرعتها في المنطقة ما يعني أن حزب الله سيجبر على الخضوع لمعادلات لا تتصل بالوضع الداخلي اللبناني الذي يتمتع فيه بغلبة لا تنكر، حيث سيجد نفسه في مواجهة مشروع النفوذ الروسي، وهو مشروع لا يرد على محاولات اختراق مصالحه والتشويش عليها بالعقوبات والمفاوضات بل بسياسة الأرض المحروقة.
تلفزيون سوريا
أميركا في سورية لاحتواء روسيا/ عمار ديوب
تنطلق الاستراتيجية الأميركية عالمياً من مواجهة الصين واحتواء روسيا، والضغط على أوروبا. وضمن هذا الإطار، توزَّع “الغنائم” ويُقتسَم العالم بين دوله الأقوى. أميركا تتحرك في العالم على وقع مواجهتها مع الصين ومنذ أكثر من عقد، وهذا مما لم يتغير. كان الوجود الروسي في سورية بموافقة أميركية، وليس بتضادٍ معها، بل وجاء بعد الحلف الأميركي لمحاربة الإرهاب 2014. وبالتالي، هناك تنسيق مستمر بين الدولتين العظميين بخصوص سورية. والخلاف في السياسات والتكتيكات عبر السنوات السابقة، ومنها التصعيد العسكري، وضربات عسكرية هنا وهناك لقوات تابعة للدولتين العظميين، لا يُغير من حقيقة هذا التنسيق. أميركا بسياستها العالمية هذه إذًا، لا ترفض الاحتلال الروسي لسورية، لكنها تحدّد شكل التدخل للروس ولسواهم في سورية. ما زالت أميركا المهيمنة على العالم، وضمن ذلك نفهم استراتيجيات الدول العظمى والإقليمية في سورية.
لم يقل المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، جديداً عما كان يقوله مسؤولون أميركيون سابقون، أي إنهاء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وإخراج إيران وإحداث تغيرات في النظام، ولكن جيفري حسم في قضية بقاء أميركا في سورية، ولا سيما بعد الانتهاء من قضايا طُرحت سابقاً، كتفكيك قاعدة التنف، وخروج إيران، ويقابله خروج أميركا من سورية؛ هذه القضايا انتهى الحديث عنها. يكرّر جيفري الآن ما قاله تيلرسون، ويضيف عليه ضرورة الانتهاء من مساري أستانة وسوتشي، والعودة إلى قرار مجلس الأمن 2254 وربما جنيف. وأيضا، يُمهل روسيا للانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية، وبغياب تحقق ذلك، فإن السياسة الأميركية تريد وضع نهاية للعب الروسي ولمساراته ضمن أستانة وسوتشي، ومناطق خفض التصعيد والهدن والمصالحات، والتي سمحت لروسيا بفرض سيطرة كاملة على مناطق واسعة، وتشمل حلب ودمشق وغوطتيها ودرعا وأغلبية حمص وحماه وأجزاء واسعة من دير الزور، وبالتأكيد كلا من دمشق والسويداء واللاذقية وطرطوس؛ القصد من ذلك أن حدود روسيا الآن مرسومةٌ، وكذلك الأميركان وتركيا، وتُنافس إيران روسيا على مناطق الأخيرة!
كل ما سردناه أعلاه تمّ بالتوافق مع الأميركان، وليس فقط عبر التحالف بين روسيا وتركيا وإيران فقط؛ أميركا التي انفردت بشمال شرقي سورية، وبتحالفٍ وثيقٍ مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (البايادي)، وبنت قواعد عسكرية ونقاط مراقبة على الحدود مع تركيا والعراق، وأجرت توافقات “متعثرة” مع تركيا، أقول إن أميركا هي حجر الأساس في ذلك كله. ولهذا حينما يصرِّح جيمس جيفري بما يخص سوتشي وأستانة ومصير إيران في سورية، فإن روسيا وتركيا وإيران يجدون أنفسهم في “خانة اليك”، أي لا بد من حسم نهائي لقضية الوجود الإيراني في سورية، وحسم مصير إدلب، لجهة تثبيت الاتفاق الروسي التركي بخصوصها، وأيضاً التوافق مع تركيا بخصوص مصير شمال سورية.
تتبنّى أميركا الآن سياسة دقيقة، فشمال سورية لها، بكل خيراته وناسه، وبالتالي لم يعد لروسيا وحلفها الثلاثي تقرير مستقبل سورية، ولم يعد لخيار سوتشي وأستانة أهمية تذكر؛ فقد كان له ذلك لتصفية الفصائل المسلحة، وتقوية الوجود الروسي في سورية بالضد من إيران بالتحديد، وأيضاً لتقوية الوجود التركي في كل من عفرين وجرابلس وبقية المناطق، وتقاسم إدلب بين روسيا وتركيا.
لا يمكن قراءة الموقف الأميركي الجديد كاستراتيجية تتوخى أميركا من ورائها إخراج روسيا من سورية؛ فهذا خطأ كبير في قراءة استراتيجيتها العالمية، وكذلك خطأ في قراءة سياسة الرئيس دونالد ترامب ذاته، حيث يعتمد على فَرضَ سياسات عالمية غير مُكلفة، وإحداث صراعات متعددة في العالم، ثم إن سورية بلدٌ ضعيف، ويمكن استغلال ضعفه في إنشاء قواعد عسكرية ثابتة، وتكون مُكملةً أو بديلة في حال حصلت خلافات واسعة مع تركيا، لكنها مكملة للقواعد العسكرية الموجودة في الخليج خصوصا.
إذاً، أصبح الأميركان ضاغطين أكثر على روسيا، من أجل الانتقال إلى إنهاء الوضع السوري، ومزيد من الضغط على إيران لتحجيم نفوذها، وتفكيك مليشياتها، وتأهيل النظام السوري نفسه ليتقبل التغيير. تنطلق أميركا من أن ما حدث في سورية عبر ثماني سنوات يسمح لروسيا بفرض سيطرة واسعة على النظام، وأنها قادرةٌ على الضغط عليه ليتقبل التغيير، وإجراء تغييرات جذرية فيه. الرهان هنا الآن، فليس من مبررٍ لاستمرار مسار أستانة واقعياً، ولم يعد مقبولاً استمرار مسار سوتشي أيضاً، وبالتالي، هناك ضرورة لإنهاء موضوع التغيير في سورية والوجود الإيراني فيها. وقد أصبحت أميركا حاسمة في الفكرة الأخيرة، وهناك ضغط أميركي مستمر بخصوصها، وكذلك بخصوص الحل في اليمن واستمرار الضغوط في العراق. وتضاف إلى ذلك كله العقوبات الأميركية على إيران والوضع الاقتصادي المتدهور جداً. تريد أميركا بذلك تهيئة الأجواء العربية من أجل محاصرة إيران.
لا جديد في القول إن الاتفاق بين روسيا وأميركا بشأن سورية هو الذي يُنهي هذا الملف، والتخوف هنا أن تكون الورقة السورية جزءا من أوراق عالمية مختَلَف عليها بين الدولتين. ولكن، هل يمكن لروسيا الاستجابة للشروط الأميركية المذكورة أعلاه؟ وهل يمكن لتركيا التوافق مع أميركا بخصوص قوات الاتحاد الديمقراطي الكردي والقواعد العسكرية الأميركية الحامية لها؟ غياب تحقق هذه الشروط أعلاه يعني استمرار غياب التوافق بين هذه الدول، وبالتالي: ما هي الاحتمالات المستقبلية في سورية؟
هذا عن التوافقات، وتتضمن أن الجغرافيا السورية مقسمة حاليا بين الدول المحتلة لسورية، وهذا هو واقع سورية حالياً، ولكن هناك مشكلات بين الدول المحتلة هذه، ولم يتم الانتهاء منها بعد، وتتمثّل في خرقٍ مستمر من النظام وإيران لاتفاق إدلب وبتغطيةٍ روسية. وهناك رفض تركي للتوافقات الأميركية مع الأكراد، فبالنسبة لتركيا يُشكل تسليح الأكراد خطراً أمنياً مستمراً ومستقبلياً؛ وأيضاً هناك توافقاتٌ بين إيران وروسيا بخصوص سورية، وتشمل مصالح في سورية وإيران، وليس من السهولة التخلي عنها لصالح إخراج إيران من سورية.
وعلى الرغم من كل الأسئلة أعلاه: هل نضجت الطبخة الروسية الأميركية بخصوص سورية والدول المتدخلة فيها؟ هذا ما ننتظر دخانه الأبيض في الأشهر المقبلة؟
العربي الجديد
دلالات انسحاب القوات الأمريكية من سوريا/ محمد زاهد جول
لم يكن قرار أمريكا الانسحاب العسكري من سوريا بتاريخ 19 ديسمبر/كانون الأول الجاري مفاجئا، فقد أعلن الرئيس الأمريكي ترامب عن رغبته بذلك منذ بداية تسلمه للسلطة، من دون أن يتمكن من تنفيذه، لأن رؤية وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) ومعظم أعضاء الكونغرس مغايرة لرؤية البيت الأبيض في هذه المسألة، بدليل التصريحات الكثيرة خلال السنتين الماضيتين، التي ترفض الانسحاب وتقرنه بشروط كثيرة، ولكن توقيته الحالي مفاجئ وغريب فعلاً، فما الذي حصل حتى تتخذ الإدارة الأمريكية هذا القرار السريع؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراءه؟ إن كان سيتم فعلاً؟
لقد وجه مسؤول أمريكي قبل أيام قليلة تهديداً للمعارضة السورية بعدم التعرض للتنظيمات التي تدعمها أمريكا شمال سوريا وهي “قوات سوريا الديمقراطية”، وقد فهم من ذلك أن أمريكا سوف تتدخل عسكريا ضد الجيش السوري الحر المشارك في العملية العسكرية التركية المقبلة، وهذا ما كان سوف يعتبر اصطداماً مباشراً بين حلفاء الجيش التركي والأمريكي، وبالأخص أنه كان سيؤدي إلى تعثر العملية العسكرية التركية، التي تستند في الأصل إلى قتال أصحاب الأرض من الشعب السوري لتحرير أراضيهم ومدنهم وقراهم، وطرد التنظيمات الارهابية منها، فكيف انقلب الموقف الأمريكي بهذه السرعة وخلال أيام قليلة؟
وسبب الغرابة الآخر هو ان كل التصريحات الأمريكية الأخيرة، كانت ترفض الانسحاب من سوريا، وتتعذر بوجود تهديد من تنظيم “داعش” أولاً، وبوجود قوات إيرانية في سوريا ثانياً، وان أمريكا تشترط خروجها وميليشياتها من سوريا قبل سحب قواتها، وكان من آخر التصريحات الأمريكية، رفض الانسحاب العسكري من سوريا حتى تتمكن قوات داخلية من سوريا من ضمان الأمن فيها، ومنع عودة تنظيم “داعش”.
ولعل أكثر الدول ترحيباً بالانسحاب الأمريكي هي الدولة الروسية، وبالفعل فقد رحبت الخارجية الروسية بإعلان امريكا الانسحاب من سوريا، واعتبرت أن ذلك الانسحاب خطوة مساعدة للحل السياسي، وهو تقييم من المفترض أن يكون صحيحاً، فما كان من الممكن إيجاد حل سياسي في سوريا مع وجود قواعد عسكرية أمريكية فيها، وهذا ما يفرض سؤالاً: هل من الممكن أن يكون الانسحاب الأمريكي خطوة ضرورية لتشكيل هيئة صياغة الدستور؟ أم أنها شرط تركي وإيراني وروسي لتسهيل تشكيل هيئة صياغة الدستور، بالتوافق مع الأمم المتحدة والمبعوث الدولي ديمستورا التي كانت مقررة نهاية هذا الشهر؟
أما الدولة الأكثر قلقا من الانسحاب الأمريكي من سوريا فهي الدولة الإسرائيلية، التي أعلنت احترامها للقرار الأمريكي، ولكنها تعهدت ان تواصل جهودها بمنع إيران من تثبيت قواتها في سوريا، ولا شك بأن أمريكا لا تقدم على مثل هذا القرار من دون الاتفاق مع الدولة الاسرائيلية، وأنها خطوة تابعة لما توصلت إليه الدولة الاسرائيلية من اتفاق مع موسكو على حدود التواجد الإيراني في سوريا ولبنان أيضاً، فإيران وبعد ضربات متوالية من الجيش الاسرائيلي على قواعدها في سوريا خضعت للشروط الإسرائيلية، ونقلت مواقع تصنيع صواريخها من سوريا إلى لبنان، وهي في حالة اضطراب في لبنان أيضاً، وتحاول الدولة الإيرانية منع أي تبرير لهجوم عليها في لبنان أو في سوريا كذلك، وهذا يعني أن القوة الاسرائيلية العسكرية أثبتت قدرتها على حسم التهديد الإيراني في سوريا، من دون الحاجة إلى القوات الأمريكية، أو أن ايران تدرك خسارتها الكبيرة إذا افتعلت صراعاً مع الدولة الاسرائيلية.
أما بالنسبة لتركيا، فلا شك أن لها دورا كبيرا في دفع امريكا لاتخاذ هذا القرار العسكري المهم، فالرئيس التركي أردوغان أعلن قبل أيام قليلة عن قرب التحرك العسكري نحو منبج وشرق الفرات اولاً، ثم أعلن أردوغان ان الرئيس الأمريكي ترامب على علم وتوافق بالتدخل التركي في شرق الفرات ثانيا، وهذا يعني أن هناك توافقا تركيا امريكيا حول العملية العسكرية التركية المقبلة، وهو ما أكده مسؤول أمريكي بعد صدور قرار ترامب بالانسحاب، بان الخطوة الأمريكية جاءت بعد اتصال هاتفي الأسبوع الماضي بين ترامب والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عقب إعلان عملية تركية مرتقبة ضد تنظيم “ي ب ك / بي كا كا” الإرهابي في المناطق الواقعة شرق نهر الفرات. هذا القرار بالانسحاب الأمريكي قد يعني أن أمريكا ستطالب تركيا بتأجيل العملية العسكرية لحين اتمام الانسحاب الأمريكي أولاً، فالوجود العسكري الأمريكي يتمركز في مناطق واسعة في شمال شرق سوريا في الحسكة والرقة ودور الزور وغيرها، ولها فيها قواعد عسكرية قادرة على استقبال طائرات حربية أمريكية في عين دادات في منبج وصرين شمال عين العرب، وفي الرقة والحسكة والطبقة والتنف وغيرها، وبحسب المصادر الأمريكية فهناك ألفي جندي أمريكي في سوريا، أي أن الانسحاب سوف يستغرق وقتاً، وفي حالة إتمامه ولو بشكل جزئي فإن الأرجح أن يكون قد تم في حالة مراجعة أمريكية شاملة لعلاقاتها مع تركيا أولاً، وليس بشأن التواجد العسكري الأمريكي في سوريا فقط، فالخارجية الأمريكية أبلغت الكونغرس الأمريكي قبل أيام قليلة بأنها وافقت على بيع منظومة الدفاع الجوي من صواريخ باتريوت إلى تركيا، وأن هناك نوايا لدى الرئيس الأمريكي ترامب بتسليم زعيم انقلاب 15 يوليو/تموز 2016 فتح الله جولن إلى تركيا، إضافة إلى الحديث عن تفاهمات تركية أمريكية لتسليم تركيا طائرة أف35 الحديثة، فهذا يعني أن تركيا قد رتبت أوراقها مع أمريكا، وأنها أصبحت الآن تجني ثمار صبرها على التعنت الأمريكي بالانسحاب من منبج وشرق الفرات، بعد ان تأكد لأمريكا القضاء على “داعش” في هذه المناطق اولاً، وعدم حاجتها الحقيقية للتنظيمات المحاربة لـ”داعش” فيها، والتي تلقت من امريكا الكثير من التدريب والدعم العسكري، وكلها من توابع حزب العمال الكردستاني، التي ترفض تركيا هيمنته على شمال سوريا، سواء كان باسم تنظيم عسكري قوي، او باسم دولة أو كيان سياسي تابع لأمريكا أو غيرها.
إن القراءة الأولى لقرار الانسحاب الامريكي من سوريا تشير إلى تمييز السياسة التركية في التعامل مع المشكلة السورية في حالتين:
الأولى: وهي قضية ثورة الشعب السوري من دون ان تؤثر على الأمن القومي التركي، وذلك بدعم حقوق الشعب السوري في التغيير والإصلاح والديمقراطية من دون تدخل في شؤونها الداخلية ولا أراضيها الوطنية، وبقي ذلك لخمس سنوات تقريبا.
الثانية: التعامل مع المشكلة السورية، وهي تشكل تهديدا للأمن القومي التركي، بغض النظر عن الجهة الداعمة لخطر حزب العمال الكردستاني على الشعب التركي، سواء كانت الجهة الداعمة إيران أو روسيا أو اامريكا أو غيرها، فالإصرار التركي على الدخول إلى الأراضي السورية عسكريا لم يتعلق بالمرحلة الأولى، وهي ثورة سورية شعبية خالصة، وإنما تعلق بالمرحلة الثانية وهي تهديد للأمن القومي التركي، فكان قرار التحرك العسكري في درع الفرات وغصن الزيتون وما بعدها قرارا تركيا مصيرا، لا تملك أمريكا أن تتجاهله، وهي الحليف الأول لتركيا ثنائيا وفي الناتو، واضطرت على إثره ترك أرض المعركة لتصبح شأنا إقليما وليس أمريكياً، آخذين بعين الاعتبار أن أمريكا زودت قوات سوريا الديمقراطية بذخائر وأسلحة تكفي لحرب أشهر أو أكثر، وهذا ما يحمل الإدارة الأمريكية مسؤولية أكبر من الانسحاب، وهي منع الحرب بين حلفائها، فمصداقية تفهم أمريكا للأمن القومي التركي ومخاطرة المقبلة من سوريا والعراق يفرض عليها أن لا تضع جيشها ولا قوات حلفائها في مواجهة الجيش التركي، وإلا فإن انسحابها سيعني التخلي عن المشاركة في المعركة فقط، وليس حماية الأمن القومي لحليف استراتيجي لها.
كاتب تركي
القدس العربي
خلاف المسؤولين الأمريكيين حول الانسحاب من سوريا/ وائل عصام
عندما وضع البنتاغون خطة غزو العراق في 2003 التي صممت للسيطرة على بغداد في أسبوعين فقط، عارضها مسؤولو المخابرات الأمريكية والخارجية، الذين كانوا يعتقدون أن العمليات يجب أن تصمم لمواجهة حرب تستمر شهورا وليس أسبوعين فقط.
روى لنا أحد المطلعين على هذه الأجواء، أن مسؤولا رفيعا في الخارجية دخل إلى أحد مكاتب الخارجية وبيده ملخص ورقي لمشروع البنتاغون، قد تم توزيعه على مكاتب الإدارة، فأخذ يقلب الأوراق ثم رماها على المكتب، وقال «انظروا هذا الهراء أسبوعان لإسقاط صدام!». بالفعل كانت تقديرات البنتاغون دقيقة، وكانت خطته بالالتفاف الصحراوي من جنوب العراق شمالا نحو بغداد ناجحة، وسقطت بغداد بعد بدء الهجوم البري بأسبوعين، وأقر الكثيرون من موظفي الخارجية، الذين التقيناهم حينذاك في بغداد بأن «خطة الثعلب رامسفيلد كانت صائبة.
لا أملك معرفة عميقة في الشأن الأمريكي الداخلي الحزبي والحكومي، لكنني مطلع عن كثب على سياساتهم في المنطقة منذ حرب العراق وآلية تعاملهم وذهنية تعاطيهم مع الأحداث، خصوصا بعد العمل عن قرب مع العشرات من مسؤولي وموظفي الأجهزة الأمريكية المختلفة في العراق، والباحثين والصحافيين المقربين منهم، من ديفيد بترايوس في الموصل عندما كان قائدا للفرقة 101 حتى مارك كيميت قائد العمليات في بغداد، وكان من الواضح دائما أن هناك خلافات وتباينات في وجهات النظر بين البنتاغون والخارجية الأمريكية، بل ضمن الإدارات نفسها احيانا ومستشاري البيت الأبيض، إزاء طريقة التعامل مع الكثير من الأحداث العراقية، وفي فترة استمرت نحو شهر بالعمل داخل معسكرات الجيش الأمريكي والمنطقة الخضراء، لتغطية معارك الفلوجة والأنبار، كان العديد من ضباط الجيش الأمريكي لا يتوانون عن الانتقاد اللاذع لسياسات وتصريحات بعض المسؤولين الأمريكيين في المنطقة الخضراء، وفي لقاء بين رامسفيلد وقادة الجيش في معسكر المزرعة شرق الفلوجة، وبعد أن خرج الصحافيون نعت رامسفيلد أحد تصريحات الخارجية الأمريكية بالبلهاء. كان رامسفيلد حينها من جناح الصقور المحافظ، بزعامة الرئيس بوش، الذي لقي أيضا معارضة داخلية تماما كما يحصل الآن ضد ترامب وفريقه، لكن في النهاية الكلمة الفصل تبقى لفريق مستشاري البيت الأبيض ومجلس الأمن القومي .
بلا شك أن حالة ترامب أكثر تفردا في طريقة اتخاذه القرارات، اعتمادا على حلقة ضيقة من مساعديه، بدون الالتفات حتى لوزير دفاعه الذي استقال، لكن من الواضح أن هناك فريقا يؤيد قراراته، بومبيو وزير الخارجية قال إن قرار الانسحاب اتخذه ترامب بعد مشاورات مع كبار المسؤولين، بولتين مستشار الأمن القومي، سبق أن أيد ترامب في كثير من قراراته التي لاقت استهجانا، ويمكن ملاحظة أن عددا من الباحثين توقعوا، بل أيدوا انسحابا أمريكيا من شمال سوريا قبل اكثر من ثمانية شهور من اليوم، وقبل حتى قرار ترامب الأول في أبريل/ نيسان الماضي، ومنهم مدير الأبحاث في معهد واشنطن باتريك كلاوسون، وقبل تسعة اشهر كتب أرون ستين مقالا في «الفورين بوليسي» اعتبر فيه الانسحاب من سوريا فرصة لعقوبة روسيا ومواجهة إيران.
وبعيدا عن مواقف المسؤولين الأمريكيين، فإن الأحداث والوقائع في الشرق الأوسط توحي بأن الوجود الأمريكي في العراق وسوريا وحتى أفغانستان يتحول ليصبح وجودا مكلفا وغير مجد سياسيا، ولعل التمدد الإيراني في سوريا والعراق والعودة الروسية للمياه الدافئة، جعلت الأمريكيين في وضع صعب في سوريا، خاصة إذا عرفنا أن حليف الامريكيين المحلي شمال سوريا على صدام دموي مع حليف أمريكي اخر وهو تركيا، وعندما يكون حليفاك المحليان الوحيدان في هذه الصورة من العداء، ستتحول الأرض تحت أقدام الامريكيين لتكون زلقة بمواجهة الاعداء الروس والإيرانيين شمال سوريا، لذلك يبدو الوضع في شمال سوريا معقدا للامريكيين وانسحابهم أتى نتيجة متوقعة منذ شهور عندما أعلن ترامب قراره، ثم أجله لبعد انتخابات الكونغرس في نوفمبر/تشرين الثاني السابق.
الأمر الآخر، هو أن الانسحاب الأمريكي السياسي والعسكري من المنطقة يجري بهدوء منذ حرب العراق، نفوذ واشنطن في المشرق العربي في تراجع واضح امام منافسين مشاكسين هما طهران وموسكو، ومن اعتمد على الدعم الأمريكي المطلق في معاركه المصيرية، عليه أن يتلقى نتيجة سوء تقديراته وقراءته الضعيفة للمشهد، لقد وصل الأمريكيون لحالة من تراجع التأثير داخل سوريا، لدرجة أن فصائل مرتبطة وممولة من وزارة الدفاع والمخابرات الأمريكية تتعرض لقصف روسي، فيكتفي وزير الخارجية الأمريكي بالاحتجاج. وفي التنف على الحدود العراقية السورية الأردنية، حاول الأمريكيون دعم فصائل عشائرية للوصول إلى ريف دير الزور، ففشلت أول مرة في مواجهة تنظيم «الدولة» في البوكمال، وفشلت ثاني مرة في التوسع نحو ريف دير الزور والميادين، بعد أن واجهتها ميليشيات الحرس الثوري الإيراني، وأضحت تلك القوات الممولة أمريكيا محاصرة في مربع التنف، ومن هذه الاعتبارات، فإن الإدارات الأمريكية المتعاقبة من بعد حرب العراق وتقرير بيكر هاملتون، أخذت تميل لتخفيف التدخل العسكري الأمريكي البري المباشر، والاعتماد على حلفائها وقصر العمل العسكري على الدعم الجوي دون البري، وهذا ما أصبح سياسة رسمية لدى إدارة أوباما، حتى أن مفكرا كبرنارد لويس نصح الأمريكيين بـ(الانسحاب بشرف) إذا كانوا غير قادرين على مواجهة أزمات الشرق الاوسط، كاتب «نيويورك تايمز» توماس فريدمان دعا ايضا قبل عام لانسحاب امريكي من (المنطقة المتعبة وتركها تواجه مصيرها)، ولذلك فإن قرار الانسحاب يمكن قراءته أيضا كاستمرار لسياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ نهاية حرب العراق، خصوصا أوباما، بالخروج السلس من المنطقة وعدم التدخل العسكري المباشر المكلف بشريا وماليا. كذلك لا يمكن استقراء التطورات الامريكية في المنطقة من خلال الاخذ بحديث تيار امريكي ما كالديمقراطيين، وترك تيار آخر يسيطر على البيت الأبيض، والأهم أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين حتى في البيت الأبيض تتغير وفقا للأحداث والتطورات على الأرض، وموازين القوى، وعلينا أن نتذكر أنه بعد تفجير القوى الموالية لإيران لمقر المارينز في بيروت بداية الثمانينيات، الذي أدى لمقتل وجرح مئات الجنود الامريكيين، أعلن الرئيس الأمريكي ريغان انه لن يستجيب للتهديد ولن ينسحب من لبنان، بعدها بأسابيع انسحبت كل القوات الأمريكية من بيروت.
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»
القدس العربي
سحب القوات الأمريكية سيرسم خارطة «تكتلات» جديدة في المنطقة
في شركة «لوكد مارتن» التي تنتج طائرات اف 35، يقومون بقضم الأظافر: هل ستخرج إلى حيز التنفيذ صفقة المليارات المتخفية التي ستشتري تركيا بموجبها 100 طائرة اف 35، أم أن الكونغرس سيمنع عملية البيع؟ العائق الأساسي أمام الصفقة هو نية تركيا أن تشتري أنظمة صواريخ مضادة للطائرات من طراز اس400، التي حسب البنتاغون ستضر بقدرة التنسيق الاستراتيجي لدول الناتو. الأهم من ذلك هو أن تكنولوجيا سرية موضوعة في طائرات اف 35 يمكن أن تنتقل لروسيا، وهذه يمكنها استغلالها لتحسين قدرات أنظمة دفاعها الجوي.
القرار حول مصير الصفقة معقد، لأن تركيا هي شريكة في مشروع تطوير الطائرة، وسبق لها واستثمرت نحو مليار وربع مليار دولار في مراحل التطوير، وأهلت عشر شركات تركية تم منحها صلاحية إنتاج أجزاء حيوية في الطائرة بأشكالها المختلفة. إذا تم إبعاد تركيا عن المشروع فستخسر 12 مليار دولار من إنتاج الأجزاء وستخسر الشركات الأمريكية الصفقة الضخمة. وزير خارجية تركيا، مبلوط تشاوشاولو، أعلن أن صفقة شراء الصواريخ من روسيا هي «صفقة منتهية»، لكن الإدارة الأمريكية غير مقتنعة بذلك، ولهذا اقترحت الإدارة الأمريكية هذا الأسبوع المصادقة على بيع 140 نظاماً من أنظمة صواريخ الباتريوت لتركيا بمبلغ 3.5 مليار دولار تقريباً، إذا ألغت تركيا الاتفاق مع روسيا.
إلا أن صفقات السلاح هذه تتعلق بالسياسة الخارجية لثلاث دول، ومرتبطة بالأساس باستمرار الخطوات السياسية والعسكرية في سوريا. تركيا محبطة من واشنطن بسبب الدعم والتمويل والتسليح الذي تمنحه للمتمردين الأكراد في شمال سوريا. مرات كثيرة عرضت جيشها كبديل للقوات الكردية في الحرب ضد داعش، وفي كل المرات رفض ذلك. الأكراد الذين أظهروا نجاحاً مثيراً للإعجاب في هذه الحرب أثبتوا أنفسهم كقوة حيوية ورافعة سياسية. لقد منحوا لأمريكا موطئ قدم في العملية السياسية التي تقودها روسيا لإنهاء الحرب، وتأسيس نظام جديد. تركيا أنشأت لنفسها «جبهة التحرير الوطنية» المشكلة من عدة مليشيات وفيها جيش سوريا الحر، وبهذا فقد حصلت على نفوذ عسكري وسياسي في سوريا. بشكل مشابه، استخدمت واشنطن الأكراد كمبعوثين سياسيين وظيفتهم ضمان المصالح الأمريكية في المستقبل أيضاً. لهذا الغرض فإن الولايات المتحدة عزمت على إنشاء عدة قواعد مراقبة على الأراضي السورية على طول الحدود مع تركيا للصد والإنذار من هجوم تركي على المناطق الكردية.
صحيح أن واشنطن بررت هذه الخطوة بالرغبة في الدفاع عن تركيا من أي هجوم، لكن الأخيرة لم تقتنع بهذا التفسير. هذا الأسبوع أعلن أردوغان أنه ينوي توسيع الغزو التركي حتى مدينة منبج وتحريرها من سيطرة الأكراد، رغم الاتفاق الذي تم التوصل إليه مع الولايات المتحدة، والذي حسبه ستقوم قوات مشتركة أمريكية وتركيا بأعمال الدورية في محيط المدينة. هذا الإعلان وضع الولايات المتحدة أمام مفترق طرق معقد ـ مواصلة دعم الأكراد أو الاستجابة لطلب تركيا. قرار ترامب سحب القوات الأمريكية، التي تبلغ حوالي ألفي جندي ومدرب من الأراضي السورية، أوضح بأن تركيا انتصرت في هذه الجولة، والحلفاء الأكراد سيبقون مهملين دون دعم ودون دفاع أمريكي، عدا عن الضغط السياسي الذي سبق وأثبت فشله. ليس واضحاً إذا كان القرار الأمريكي قد جاء نتيجة اتفاق تم التوصل إليه مع تركيا بشأن إلغاء أو تجميد صفقة الصواريخ مع روسيا، لكن بالنسبة لتركيا هذا يشكل ضوءاً أخضر لمواصلة السيطرة على المواقع التركية من مدينة عفرين شرقاً من أجل إنشاء منطقة كردية مستقلة حسب نموذج المنطقة الكردية في العراق. أردوغان قال هذا الأسبوع: إنه أبلغ ترامب عن نواياه العسكرية لاحتلال مناطق شرق نهر الفرات. وحسب أقواله «ترامب وافق على ذلك». إذا كان حقاً هذا هو جواب ترامب فيبدو مع ذلك هناك اتفاق ما يربط بين انسحاب أمريكا وصفقة الصواريخ.
روسيا وإيران، اللتان هما شريكتا سوريا في الخطوات السياسية، يمكنهما تنفس الصعداء بعد أن أخلت أمريكا مكانها، ودفع خطواتهما إلى الأمام. حسب ادعاء الأكراد، فإن روسيا تدفع تركيا للسيطرة على المناطق الشرقية من أجل إجبار الأكراد على الانضمام إلى الخطوات السياسية، وبذلك تحييد إحدى العقبات الصعبة التي تقف أمام إنشاء تحالف متفق عليه من قوات المتمردين.
هذا الأسبوع اتفقت ثلاث دول على تشكيل لجنة من ممثلي الحكومة السورية والمتمردين في جنيف في بداية 2019 تحت رعاية الأمم المتحدة. هذه اللجنة يتوقع أن يجتمع فيها 150 مندوباً، منهم 50 من ممثلي الحكومة و50 من المتمردين و50 «مستقلين»، الذين بشأن هويتهم حدث خلاف بين الطرفين. هدف اللقاء هو تشكيل لجنة لصياغة الدستور، التي ستحدد ضمن أمور أخرى صلاحيات الرئيس وتمهد للانتخابات البرلمانية والرئاسية.
الولايات المتحدة أوضحت مؤخراً أنها لن تعارض استمرار حكم الرئيس الأسد شريطة أن ينتخب في انتخابات حرة، لكن ما ينقص الموقف الأمريكي هو التطرق لطبيعة النظام الذي تريده أمريكا في سوريا، واشتراط حقوق الأقليات مثل الأكراد في الدستور الذي ستتم صياغته وترتيبات أمنية وانسحاب القوات الأجنبية، وبالأساس التواجد الإيراني. باختصار، أمريكا تفهم جيداً أنه لم يعد باستطاعتها التأثير، وبالأحرى تشكيل صورة النظام الجديد في سوريا.
أحد الأسئلة الأساسية يتعلق بإعادة إعمار سوريا بعد الحرب، وهي عملية طويلة حسب تقديرات معقولة ستكلف 300 ـ 400 مليار دولار. الولايات المتحدة أوضحت في السابق أنها لن تدفع دولاراً واحداً طالما لا توجد إدارة متفق عليها ومستقرة في الدولة. وهذا هو موقف الدول الأوروبية أيضاً. ولكن من المعروف أن من لم يشارك في إعادة الإعمار لا يمكنه التأثير على النظام أيضاً.
إلى حين تشكيل لجنة صياغة الدستور بقي على الأقل جيب آخر كبير على الجيش السوري احتلاله لاستكمال السيطرة على الدولة، وهذا الجيب هو محافظة إدلب ومدينة إدلب، التي يترك فيها الآن 100 ـ 150 ألف مقاتل من المتمردين الذين تجمعوا فيها من أرجاء الدولة في أعقاب اتفاقات وقف إطلاق النار التي بادرت إليها روسيا.
إدلب وقفت في شهر تشرين الأول على شفا الاحتلال الذي كان يمكنه أن يتسبب بقتل جماعي لآلاف الأشخاص. بضغط من تركيا وأمريكا وافقت روسيا على تأجيل الهجوم شريطة أن تنجح تركيا في جعل المتمردين يخرجون من المدينة السلاح الثقيل والانضمام للعملية السياسية. صحيح أن إدلب الواقعة في المنطقة الأمنية التي حددت في المحادثات بين روسيا وتركيا وإيران، توجد تحت إشراف تركيا، ولكن تأثيرها على مليشيات المتمردين هو جزئي، ولا يشمل «جبهة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)، ومليشيات راديكالية أخرى.
الخشية هي أنه إذا لم تنجح تركيا في الأيام القريبة في تنفيذ وعودها لروسيا، فإن الأخيرة ستقرر العمل مع جيش الأسد وستحتل المدينة والمحافظة بالقوة. هذه الخشية أدت بآلاف السكان للهرب من المدينة. وإذا جرت فيها معارك شديدة يتوقع أن تقف تركيا أمام موجة كبيرة أخرى من اللاجئين الذين سيطلبون المأوى فيها.
في الوقت نفسه، يمكن للأسد أن يكون راضياً من الاتجاه الجديد الذي يظهر في سياسات دول عربية تجاه سوريا. السنونو الأولى هي زيارة رئيس السودان، عمر البشير، لدمشق، وقريباً يتوقع زيارة الرئيس العراقي الكردي، برهم صالح. رئيس تونس الباجي السبسي، الذي سيصل إلى بيروت لحضور مؤتمر اقتصادي للدول العربية ينوي البحث مع رؤساء الدول رغبته في دعوة سوريا للمشاركة في مؤتمر القمة العربية التي ستعقد في تونس في شهر آذار/مارس القادم.
إذا تم الاتفاق على دعوة سوريا فهذه ستكون المرة الأولى التي تشارك فيها في القمة العربية منذ تم تجميد عضويتها في الجامعة العربية في تشرين الثاني 2011. صحيح أن الجامعة العربية أظهرت العجز في كل ما يتعلق بحل الأزمة السورية، لكن وقف عضويتها كان عملية رمزية هامة استهدفت الاحتجاج على المذبحة التي نفذها الأسد ضد مواطنيه. إذا عادت سوريا للجامعة العربية قريباً فذلك سيشكل أكثر بكثير من بادرة حسن نية رمزية. هذه الخطوة ستكون صفعة للسعودية التي تعارض استمرار حكم الأسد، وإعطاء إشارة واضحة إلى أن التحالف العربي ضد إيران آخذ في التصدع إلى جانب تهاوي مكانة زعيمة التحالف السعودية.
ترامب واقع تحت ضغط الكونغرس لتجميد صفقات السلاح مع السعودية التي تحولت في نظرهم إلى دولة غير مرغوبة في تلة الكابتول. في المقابل، الدول العربية بدأت تشكك بقيادة السعودية وهي ترى كيف أن واشنطن تتراجع في سوريا. مقابل كل ذلك يمكن التوقع أن روسيا لن تبقى فوق المنبر. هذا السيناريو يعرض خطوات ترامب كخطأ كبير آخر، أو على الأقل كخطوة غير محسوبة، من شأنها رسم خارطة كتل جديدة في منطقة الشرق الأوسط تضر بمكانة الولايات المتحدة في المنطقة وربما بمكانة إسرائيل.
تسفي برئيل
هآرتس 21/12/2018
القدس العربي
نيويورك تايمز: قرار ترامب إحراج لإسرائيل وتخلٍ عن الأكراد وانتصار لبوتين وإيران
علقت صحيفة “نيويورك تايمز” على آثار القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب قواته من سوريا على الشرق الأوسط.
وكتب ديفيد هالبفنغر قائلا إن قرار الرئيس يفتح المجال أمام إيران كي توسع من تأثيرها الجيوسياسي في الشرق الأوسط بشكل يترك إسرائيل وحيدة لكي تقوم بوقف هذا التأثير ومخاطر عودة تنظيم الدولة الإسلامية. وبعيدا عن المنطقة فقد ارتد أثر قرار الرئيس من موسكو إلى واشنطن حيث أدى القرار إلى استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس. ورغم قلة عدد الجنود إلا أن قرار الرئيس ترك آثارا بعيدة على الحرب المعقدة بحيث ترك الحلفاء يبحثون عن طرق للخروج من المأزق الذي أدى إلى جرأة الإعداء. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “دونالد محق وأنا اتفق معه” وسيزيد من تأثير روسيا في المنطقة بخروج الولايات المتحدة.
أما تركيا وإيران والحكومة السورية فهي ستجني ثمارا مباشرة من انسحاب القوات الأمريكية. وبالمقابل فحلفاء مثل القوات الكردية التي قاتلت إلى جانب الأمريكيين يشعرون بالخيانة ويهددون بإطلاق سراح سجناء تنظيم الدولة. وستجد إسرائيل نفسها أمام واقع إكمال إيران الممر البري من طهران إلى البحر المتوسط.
وبحسب الزميل في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى مايكل هيرتزوغ “هذا يتركنا وحيدين في الميدان مع الروس” و “نحن وحدنا في الميدان أمام إيران”. ومع الهزات التي أحدثها القرار فإن عددا من الدول ستقوم بإعادة النظر في علاقاتها مع الولايات المتحدة، مما سيقود إلى تشكيل في العلاقات: تحاول إسرائيل تأليب روسيا ضد إيران، وتركيا تحاول التلاعب بروسيا والولايات المتحدة ضد بعضهما البعض. أما سوريا فستحاول التلاعب الأكراد ضد تركيا.
ويقول دانيال كريتزر، السفير السابق في مصر “لو نظرت إلى أي بلد في المنطقة ولا أحد منهما يثق بالآخر ولا تريد كلها الثقة بروسيا ولكن من تبقى للثقة به؟”. فقد كان الوجود الأمريكي مثيرا لسخط الإيرانيين ويمنع الجماعات المسلحة التابعة لهم من عبور الحدود إلى سوريا من العراق.وسيمنح خروج الأمريكيين الفرصة للإيرانيين والتعامل مع الحدود العراقية كمتاحة لهم بشكل سيسهل من حركة المقاتلين والسلاح وبشكل ممكن نقل الصواريخ الإيرانية برا إلى حزب الله في لبنان. كما وستؤدي حرية الحركة إلى تخفيف آثار العقوبات الأمريكية القاسية والتي أضرت بالاقتصاد الإيراني. وتقول لينا الخطيب من “تشاتام هاوس” إن “المنطقة غنية بالنفط” و “من هنا فخروج القوات الأمريكية سيزيد من فرص وضع إيران يدها على حقول النفط في شمال- شرق البلاد”. ولن تخسر جماعة من انسحاب الأمريكيين أكثر من المقاتلين الأكراد. وكرد على القرار يناقش هؤلاء الإفراج عن 3.200 سجين من تنظيم الدولة. ونفى مصطفى بلال، المتحدث باسم قوات سوريا الديمقراطية أي نقاش بهذا المعنى وقال “أي أخبار تأتي من هذه المصادر ليست موثوقة ولم تخرج منا”. إلا أن المسؤولين الغربيين العاملون في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة في سوريا أكدوا حدوث نقاش. وقال مسؤول: “النتيجة الوحيدة لهذه النقاشات هي سجن النظام لهؤلاء” و “لو أفرج عنهم فستكون كارثة حقيقية وتهديدا كبيرا على أوروبا”. وقال محللون إن تهديدا من هذا النوع هو مخادعة أو محاولة لجلب الانتباه قائلين إنه لو أفرج عن سجناء تنظيم الدولة فسينقلبون رأسا على الأكراد. وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تفكير الأكراد بالإفراج عن هؤلاء المساجين جاء بسبب رفض الدول التي جاءوا منها استعادتهم. ولأن المقاتلين الأكراد بحاجة لكل فرد لمواجهة هجوم تركي محتوم. فالانسحاب الأمريكي ساعد تركيا من جهتين، فقد تخلت أمريكا عن الأكراد الذين تعتبرهم تركيا تهديدا لها واخرج القوات الأمريكيين من شمال- شرق سوريا التي قال الرئيس رجب طيب أردوغان إنه سيشن هجوما عليها. لكن أي هجوم لن يكون بدون أخطار. ويقول ستيفن كوك، خبير الشرق الأوسط بمجلس العلاقات الخارجية الامريكي “لمشكلة لهم ( الأتراك) هي أنهم لو دخلوا فسيواجهون حرب عصابات طويلة”.
ويرى المحللون أن اتفاقا بين الأكراد والنظام السوري هو المحتمل حيث يحصلون من خلاله على نوع من الحكم الذاتي مقابل ولائهم للنظام، مما سيضع تركيا أمام مواجهة مع كل من النظام وروسيا. وبالنسبة لإسرائيل فالقرار محرج لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الذي يحضر لانتخابات في العام المقبل التي تعتبر مصداقيته الأمنية وعلاقاته مع ترامب وهوسه بالتهديد الإيراني رئيسية فيها. وقال نتنياهو إنه علم بالانسحاب من حديثه مع ترامب يوم الإثنين. وقال عوفير زالزبيرغ، المحلل الإسرائيلي في مجموعة الازمات الدولية “وقد فاجأ هذا الحكومة الإسرائيلية”. وشعر نتنياهو بداية هذا العام أنه وصل لذروة تأثيره في واشنطن من خلال قرار نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وخروج ترامب من الاتفاقية النووية مع إيران، المطلب الرئيسي لنتنياهو. ويقول زالزبيرغ إن نتنياهو ينهي العام وقد اساء إدارة العلاقات الإسرائيلية مع قوتين عظميين، أمريكا وروسيا. فقد رفض الرئيس بوتين مقابلته منذ سقوط الطائرة الروسية في سوريا أثناء عملية إسرائيلية. وقلل العديد من المحللين من العسكريين الإسرائيليين من المخاطر التكتيكية وأنهم سيواجهون إسرائيل وحدهم إلا أنهم تحدثوا عن أثره على معنويات الإسرائيليين. وقال الخبير في الشؤون السورية بجامعة تل أبيب إيال زيسر “عددهم 2.000 جندي” و “من الناحية النفسية كانوا هناك بشكل جعل الروس والإيرانيون يمارسون الحذر”. إلا ان الانسحاب المتعجل يعطي مصداقية للفكرة المنتشرة في الشرق الأوسط وهي أن أمريكا لا تهتم بحلفائها “وهذا الكلام مضر لقوة إسرائيل وردعها أيا كان صدقه”.
وربما كان الروس من المستفيدين الكبار من القرار حيث سيكونون اللاعب الرئيسي في سوريا ويعيد لهم المكانة التي خسروها منذ سقوط الإتحاد السوفييتي. وبحسب الخطيب فمن المتوقع أن يستخدم بوتين الانسحاب “لكي يقول للعالم إن روسيا ربحت الحرب بالوكالة ضد أمريكا”. مضيفة أن روسيا ستحاول الاستفادة من القرار لوضع مسارات المستقبل السياسية للبلد كما تشاء و”ستفتح الطريق أمام معاملة روسيا سوريا كجزء من الأراضي التابعة لها”. وعلى المدى القريب ستستفيد إيران وروسيا من الانسحاب الأمريكي، لكن على المدى البعيد فالنزاع بين القوتين نظرا لخلاف الأجندة بين القوتين. فروسيا تريد حكومة قوية ومستقرة في دمشق. أما إيران فتريد دولة ضعيفة من السهل التحكم بها.
القدس العربي
هدية أميركية سخية لإيران وروسيا/ محمود الريماوي
لم يكن مفاجئا قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب “الكامل والسريع” من سورية، فقد سبق له في بحر هذا العام (2018) أن أعلن رغبته في هذا الانسحاب، وأمام ضغط وزارة الدفاع قرر آنذاك إرجاء الأمر بعض الوقت، وها هو بعض الوقت قد استنفد في رأيه، ما يجعله يتشبث مجدّدا هذه المرة برأيه. وتسويغه الانسحاب يقوم على تقديره الذي عبر عنه في تغريدة على تويتر “لقد هزمنا داعش في سورية، وهذا السبب الوحيد لوجود (القوات الأميركية) هناك خلال رئاسة ترامب”. وكان مسؤول في وزارة الدفاع قد مهد قبل ساعات في اليوم نفسه (الأربعاء 19 ديسمبر/ كانون الأول) قائلا لشبكة سي إن إن: إنه يجري التخطيط حالياً لسحب القوات الأميركية من سورية “بشكل كامل” و”سريع”.
إنه أمر رئاسي يمارس فيه الرئيس صلاحياته بما يتعلق بقرارات السلم والحرب، وقد بدأت بعض القوات بالانسحاب بالفعل. وسرعان ما لقي القرار ترحيبا روسيا وتركياً. بالنسبة لموسكو، فإن مغادرة الأميركيين إنجاز استراتيجي في مطاردة الوجود الأميركي هنا وهناك، والحلول محله. أما تركيا التي تستعد علنا وببث كل التفاصيل لمواجهةٍ مع الحركة الكردية المسلحة، فهي ترى في الانسحاب الأميركي إضعافا لقوة الطرف الكردي المسلح، ورفع الغطاء السياسي عنه. وتكشف التصريحات التركية أنها لا ترى تداعياتٍ أخرى للقرار الأميركي. ويمثل هذا الانزياح التركي إنجازاً لإيران وروسيا، وبلوغ محفل أستانة غاياته في تحييد تركيا عن كل ما يجري في سورية، باستثناء الحرب المسموح بها على الأكراد.
وخلافاً لما يقوله ترامب، إن الهدف ينحصر في هزيمة “داعش”، فقد سبق للمبعوث الأميركي
إلى سورية، جيمس جيفري، في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أن صرح بأن القوات الأميركية ستبقى في سورية لضمان عدم عودة “داعش”. وتحدث عن هدف إخراج القوات الإيرانية وحلفائها، وعن تفعيل العملية السياسية، وتشكيل قوات أمن، وإشراك الشعب في العملية السياسية. وبهذا، فإن الاضطراب الذي يقوده ويعبر عنه ترامب قد بلغ ذروة جديدة له، وهو ما سينعكس على الوضع السوري، وعلى أوضاع المنطقة.
وفي توقيت صدور القرار، جاء في ذروة التحضيرات لمعركة شرق الفرات، لتفادي وقوع قواتٍ أميركية في مرمى النيران، بعدما شدّدت أنقرة على عزمها على خوض الحرب ضد قوات الحماية الكردية. وفي وقتٍ ترفض فيه واشنطن هذه المواجهة في هذه المناطق الشاسعة التي تضم دير الزور والحسكة ومنبج وبلدات أخرى، وقبل ذلك تضم أهم الحقول النفطية، ومنها حقل الغمر، وهي حقول انتزعتها قوات سورية الديمقراطية (قسد) من “داعش”. والراجح أن المعارك ستكون طاحنة بين القوات الكردية من جهة، وقوات المعارضة المسلحة وقوات تركية من جهة ثانية. وسوف تسعى واشنطن، بما يتبقى لها من خبراء، إلى وقفها، والعمل على وضع حلول وسط. ومن شأن المعارك أن تستنزف الأطراف الثلاثة المدججة بمختلف أنواع الأسلحة. وفي حال حققت القوات التركية انتصارا (وهذا ليس سهل المنال)، فسوف تكون مدعوّة من روسيا إلى الانسحاب منها، ولتمكين النظام من بسط سيطرته على هذه المناطق.
بدا الطرف الكردي غير مصدقٍ القرار الأميركي بالانسحاب، وشكك فيه بعض القادة العسكريين. غير أن واشنطن تقول جهارا نهارا إن هدفها هو هزيمة “داعش”، فإذا مُني التنظيم الإرهابي بالهزيمة، وهو ما يعتقد ترامب أنه قد حدث بالفعل، فهذا يعني حُكماً وضع نهاية للتحالف الأميركي مع الحركة الكردية، بعد أن أدت تلك الحركة واجبها في إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش!
في مراحل سابقة، حظي الأكراد بدعم روسي من أجل وضعهم في وجه المعارضة السورية المسلحة (الجيش الحر)، وطالب الروس بتمثيلٍ للأكراد في مفاوضات جنيف، وفي المؤتمرات الروسية، في أستانة وسوتشي، لتشتيت تمثيل المعارضة. الآن، وبعد أن انحسر وجود المعارضة المسلحة، انقلب الروس على الأكراد، محذرين إياهم من إقامة كيانٍ منفصل في شرق الفرات! وبعد التخلي الروسي، ها هي نذر التخلي الأميركي تأتي عاصفة: انسحاب كامل وسريع. هذا ينبئ بتفاهماتٍ أميركية روسية مستترة حول شرقي الفرات وحقول النفط وحول أمور أخرى.
ولنا أن نلاحظ أن هناك اصطفافا واسعا بات يضم تركيا مع إيران وروسيا، في هذا المرحلة
“ما الذي سيعترض طريق القوات الإيرانية على الحدود بعد الانسحاب الأميركي؟”
المفصلية، على أن يتم التنسيق الروسي الإيراني لاحقاً، للضغط على تركيا من أجل الخروج بعد هزيمة “داعش”، والحركة الكردية.. إن تحققت هزيمة هذه الحركة. وإذ تربح تركيا مؤقتا من الانسحاب الأميركي، فسوف تخسر لاحقا مع تعاظم الوجود الإيراني والروسي. ذلك أن الانسحاب الأميركي سيمكن إيران من الوصول إلى البحر المتوسط عبر الحدود العراقية السورية، وصولا إلى دمشق فبيروت، وإلا ما الذي سيعترض طريق القوات الإيرانية على الحدود بعد الانسحاب الأميركي، وبعد بقاء “جيش مغاوير الثورة” هناك بغير غطاء؟
وبهذا يمثل الانسحاب الأميركي هدية سخية لإيران، وأكبر مما كانت تنتظره. وسوف تعزّز القوات الإيرانية وجودها في الجنوب السوري بما يهدد الأردن، مع تعزيز الوجود الإيراني في العراق ولبنان. ويشمل السخاء روسيا التي سوف تنشغل بتقاسم النفوذ مع طهران، وإلى إشعار طويل آخر. ولوحظ أن باريس لم تماش واشنطن في قرار الانسحاب، إذ أعلنت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية، ناتالي لوازو، أن القوات الفرنسية (قوات رمزية في الرقة وريف حلب تضم نحو مائتي عنصر) سوف تبقى في سورية، وذلك خلافا للخبر الموحى به الذي بثته وكالة سبوتنيك الروسية عن بدء انسحاب مزعوم للقوات الفرنسية.
وفي مجريات الأحداث على ضفاف القرار الأميركي، فإن الأنظار تتهيأ لمتابعة حرب طاحنة في مناطق شاسعة بين السوريين، عربا وأكرادا، وهي حربٌ تلبي مصلحة تركيا على الأمد القصير بإضعاف العامل الكردي، وتؤدي على المدى المتوسط بعد استنزاف الطرفين (المعارضة المسلحة، والحركة الكردية المسلحة) إلى تعظيم الوجودين، الإيراني والروسي، وبغير ضمانة لعدم انبعاث “داعش” مجددا.
وسيكون بعض مما تقدم مرهوناً بما تؤول التفاعلات الأميركية الداخلية المرتقبة حول قرار ترامب، وهو ما يستحق أخذه في الحسبان.
العربي الجديد
المرحلة التالية/ ميشيل كيلو
لم تفصح الناطقة باسم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عن طبيعة “المرحلة التالية” التي ستترتب على قراره الانسحاب من سورية، بعد أن “ألحقنا الهزيمة بتنظيم داعش في سورية، التي كانت السبب الوحيد لوجودنا هناك”، كما قال في تسويغ قراره.
بدا القرار مباغتا، وغير مفهوم ولا منطقيا. اتخذ بصورة أحادية، ومن دون تنسيق مع أحد، وإلا كيف نفسر أقوال ممثل وزير الخارجية الأميركية، جيمس جيفري، قبل يومين، إن قوات بلاده باقية في سورية إلى أن يتم انتقال سياسي جذري، وتخرج إيران منها؟ هل كانت هذه التصريحات التي سبق أن أطلقها ترامب نفسه مجرد أكاذيب، أريدَ بها الضحك على الكرد، بحجة الحرب على الإرهاب، وبقية السوريين بالحديث عن الانتقال السياسي وإخراج إيران، ريثما يحين وقت التخلي عنهم كردا وعربا، بإعلان الانسحاب الذي كنت أعتبره ضربا من الاستحالة، لاعتقادي أنه أعطى واشنطن بديلا استراتيجيا فريدا للعراق، أخذته من دون خسائر تذكر، يتمتع بأهمية خاصة بالنسبة لمعركتها المزعومة مع إيران، وتجاذبها مع روسيا، وضغوطها على الأسدية، وتلاعبها بتركيا. لكن ترامب اتخذ قرار الانسحاب من منطقةٍ هذه صفاتها ووظائفها، إما لأنه عازم على إجراء تحول جذري في سياسات واشنطن الشرق أوسطية، بعد أن خربط النظام الدولي، من دون استشارة مؤسستيه السياسية والعسكرية، الأولى التي سارعت إلى التفاعل بإيجابية مع القرار، والثانية التي شعرت بأنها تلقت صفعة شديدة، لأنها كانت قد أعلنت تصميمها على البقاء في المنطقة من عشرين إلى ثلاثين عاما، واتسم موقفها من القرار بسخطٍ عبرت عنه كثافة الإمدادات العسكرية التي تدفقت البارحة واليوم على شرق الفرات من العراق، أو لأن ترامب أراد إثارة زوبعة خارجية، تحجب ما يواجهه من زوابع داخلية، بلغت حدودا تعزّز فرص إطاحته، أو جعل إعادة انتخابه ضربا من المحال، في ظل التقارب المتزايد والمتسارع بين أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي ضد شخصه وسياساته، ما دفعه إلى إعلان قراره من دون تنسيق أو تشاور مع أحد منهما، في خطأ إضافي لا يغتفر، يضاف إلى أخطائه الكثيرة، قد يتراجع عنه أو يتجاهله، أو لا يطلب من عسكر أميركا تنفيذه، لأنه كما كتب ديفيد أغناطيوس في “واشنطن بوست”، “يخلق فراغا يمكن أن يملأه مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية أو الروس والنظام السوري وإيران، أو تركيا، وهولاء جميعا يشكلون خطرا على المصالح الأميركية”. أذكر، بهذه المناسبة، أن عسكر أميركا لم ينفذوا قرارات عديدة بالانسحاب من أفغانستان.
ما الذي يمكن أن يترتب على قرار ترامب، في حال تم تنفيذه؟ إنه باختصار ضربة قد تكون قاضية للنظامين، الإقليمي والدولي، كما نراهما اليوم في المنطقة العربية وجوارها، تضاف إلى ضربات ترامب المزلزلة للنظام الدولي، يرجّح أن توطد البيئة التي تحتاج إيران إليها لتبقى جاثمة على صدر المنطقة، ولتمكينها من إكمال سيطرتها على سورية، وتعزيز مواقعها فيها تجاه روسيا وتركيا وإسرائيل، مقابل تركها اليمن ومضيق باب المندب، وتصعيد صراعها على شرق الفرات مع تركيا التي أُعلن البارحة عن شرائها نظام دفاع جوي من واشنطن، فإن ضمت المنطقة إلى إدلب امتلكت 40% من مساحة سورية، وتعزّز احتمال نشوب حرب بين الدولتين، وإنْ بالواسطة، وإلا فرض الرئيس أردوغان إرادته، وتوطد دوره حيال روسيا والأسدية، وتبدلت حصص الجميع من الحل السوري، بينما ستصبح إسرائيل سيدة المنطقة، وستدمر فرص قيام كيان كردي.
هل ستنسحب واشنطن من شرق الفرات؟ هناك دلائل تؤكد هذا الاحتمال ونقيضه، تجعل من أيامنا ما قاله جيفري قبل أيام: لحظة فاصلة في تاريخ منطقتنا!
العربي الجديد
أميركا تعيد الأكراد إلى الجبال/ بيار عقيقي
من لا يعرف الأميركي، خصوصاً منذ عام 1917، تاريخ دخوله الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، إلى جانب دول الحلفاء، لا يعرف أن مبدأه الأول يرتكز على البراغماتية المشبعة بروحية رجال الأعمال. الأميركي دائماً ما تصرّف في العلاقات الدولية وفقاً للمصالح التي تناسبه، من دون اكتراث بحليف مرحلي، أو عدوٍ مرحلي. وما عدا حرب فييتنام، لم يعرف الأميركي علاقة إيديولوجية مع دولة أو نظامٍ في العالم، باستثناء الإسرائيليين.
يوم الأربعاء الماضي، كرّس الرئيس دونالد ترامب المفهوم الأميركي مجدّداً. أعلن انسحاب قواته من سورية، تاركاً الحليف الميداني، قوات سورية الديمقراطية، في حيرة من أمرها، فقبل أسابيع قليلة، كان الحديث يتمحور حول “إقامة خمس نقاط مراقبة على الحدود السورية مع تركيا، ضمن سلسلة إجراءات تقوم بها واشنطن لتعزيز وجودها العسكري والدبلوماسي شمال شرقي سورية، شملت توقيع مذكرة تفاهم لمدة سنة لتدريب 30 ألف عنصر تابع لقوات سورية الديمقراطية، ومحاربة خلايا داعش”، غير أن “آمال” نوفمبر /تشرين الثاني الماضي انتهت بإعلان الانسحاب. لم يجد كثيرون تفسيراً للخطوة الأميركية، منهم من اعتبرها “تحضيراً لأمر ما في الشرق الأوسط”، ومنهم من رأى فيها “ضوءاً أخضر لهجمات إسرائيلية على حزب الله والإيرانيين، في لبنان وسورية”، ومنهم من اعتبرها “اتفاقاً ضمنياً مع الروس”، غير أن الأميركي، في كل الأحوال، ترك فراغاً سيملؤه أحدهم، في سياق التسابق الأبدي في الشرق الأوسط على كل شيء، وعلى لا شيء.
في الواقع، وفي صلب هذا السباق، لا يمكن لأحد وضع نفسه مكان الأكراد الذين وجدوا حلمهم في دولةٍ مستقلةٍ في شمالي العراق ينهار، على الرغم من استفتاء 25 سبتمبر/ أيلول 2017، ثم خسارتهم كركوك لمصلحة الحكومة الاتحادية في بغداد، ثم تعرّض مواقعهم لغارات تركية وإيرانية، وإنْ لأهداف مختلفة، ثم تسريب أخبار عن زيارة موفد منهم، من القامشلي السورية، العاصمة دمشق، مساء الخميس، لبحث التفاهم الثنائي، في وجه هجوم تركي مرتقب شرقي الفرات. التاريخ لم يرحم الأكراد من جديد، لا مع عراق صدام حسين، ولا مع عراق ما بعده، ولا حتى تحت ظلال النظام السوري. الروسي تعامل معهم من واقع أن بوابة التعاطي معهم تمرّ في دمشق، والتركي ينتظر ثأره منذ زمن بعيد منهم.
سيعود الأكراد إلى الجبال التي يصفونها بـ”صديقهم الأزلي”. لا يمكن الرهان على الأميركي بشيء، من هانوي في فييتنام إلى المفاوضات مع كوريا الشمالية، من دون اعتبار لليابان أو لكوريا الجنوبية. عاش الأكراد حلماً في ظلّ قتالهم “داعش”. ظنوا أنهم سيحصلون على دولتهم، أو أقله على حكم مركزي في دولة لامركزية. يتبدّد الحلم أمام ناظريهم. النفط حاجة عظيمة للأميركي، لكنه سيحصل عليه من دون تحالف مباشر مع الأكراد، كأقلية مصابة بلعنة الجيوبوليتيك والتاريخ.
هل يمكن التخفيف من تأثير الانسحاب الأميركي على الأكراد؟ الأبواب موصدة وطبول الحرب تقرع. ما فُرض عليهم سيخوضونه بأقسى ما لديهم. لا شيء يخسرونه بعد اليوم، سوى عدم تحقيق دولتهم الخاصة. الزمن في الشرق الأوسط لا يزال بعيداً عن قيام دويلات متناثرة. هكذا أوحى الانسحاب الأميركي. هل سيُقدم الروسي على خطوة ما؟ اعتاد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبض أثمان محددة لقاء “القيام ببعض الخدمات”. فعلها مع النظام السوري، بعد تدخله إلى جانبه، بدءاً من 30 سبتمبر/ أيلول 2015. لكن ما الذي يُمكن أن يقدمه الأكراد للروس، أكثر مما حصل عليه الروس أصلاً؟
وهل يهتم ترامب؟ اقرأوا تغريدة له، فجر أمس الجمعة. الرجل مصرّ على أولوية واحدة “بناء الجدار الحدودي مع المكسيك”. كم يبدو بعيداً عن الشرق الأوسط. ومع احتمال سحب الآلاف من العناصر الأميركية من أفغانستان أيضاً، يبقى أمام الأكراد الصعود إلى الجبال، وانتظار حكم التاريخ مرة جديدة، لعلّه سيكون أرحم.
العربي الجديد
الأكراد خاسرون دائمون في لعبة الأمم/ د. خطار أبودياب
أتى قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا متماشيا مع أسلوبه في العزف المنفرد عبر تغريدات تويتر واختزال إدارته بشخصه ما عجل برحيل وزير الدفاع جيمس ماتيس وأربك المستشارين والمؤسسات الأميركية قبل الحلفاء والأصدقاء. من الصعب أن تكون صديقا لواشنطن في زمن ترامب، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بالأكراد وهم الذين كانوا ضحية لعنة الجغرافيا والأحلاف المقدسة ضدهم، وقبل كل ذلك ضحية خياراتهم غير المدروسة وانقساماتهم.
إزاء كل التحولات في المشرق والصراعات المحتدمة منذ 2011 في إطار “اللعبة الكبرى” انطلاقا من سوريا، تصور الأكراد أنه حان وقت تصحيح التاريخ وتقسيمات ما بعد الحرب العالمية الأولى من خلال ممارسة حق تقرير المصير وفرض أنفسهم كلاعبين في رسم خارطة سوريا المستقبلية. وظن الأكراد أنهم الرقم الصعب نظرا لدورهم في الحرب ضد تنظيم داعش، لكن رهاناتهم أو حساباتهم لم تصمد أمام “الفوضى التدميرية” على أرض الواقع وتلقوا الضربة الأولى في الاستفتاء في إقليم كردستان العراقي وخسارة كركوك في سبتمبر 2017، وبعد ذلك في خسارة عفرين، جوهرة الشمال السوري. واليوم بعد قرار الانسحاب الأميركي لا تخشى “وحدات الحماية الكردية” (النواة الأساسية لقوات سوريا الديمقراطية) من خسارة الكثير من جغرافيا وجودها وسقوط هدفها بتحقيق سوريا فيدرالية تعددية، لكن هذا التخلي الأميركي والإهمال الروسي يقودان حكما إلى ضرب الحلم الكردي، وعلى الأرجح سيحصل انكفاء عسكري نحو شمال العراق مع كل المخاطر المترتبة على ذلك.
بيد أن التراجع أو الهزيمة في سوريا، وخسارة معركة في العراق، واحتواء الاحتجاج الكردي في إيران وكذلك الضغط السياسي والأمني على المكون الكردي في تركيا، لن يقوض فكرة تقرير المصير لأكبر شعب في العالم من دون دولة.
بين مصالح دولية متناقضة أو متقاطعة، وبين أصوليات قومية تبرز صورة الكردي المطارد من حقبة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر. لكن ذلك لا ينحصر في الأكراد فقط، بل يطول شعوبا بعينها أو مكونات أخرى في المشرق موئل الحضارات والديانات التوحيدية، وإذ بصراع الآلهة وصراعات النفوذ على أنواعها تحول العالم العربي إلى الرجل المريض لهذا القرن كما كانت الإمبراطورية العثمانية قبل قرن.
تتردد مقولة أن لا أصدقاء للأكراد إلا جبالهم وفِي ذلك تبسيط وتهميش لمساراتهم، لأن هناك مسؤوليات ذاتية وقرارات خاطئة في التعويل على الآخرين والتحول إلى أدوات إذا لم يكن هناك من ضمانات أو من استيعاب لتعقيدات اللعبة الإقليمية ومتغيراتها. وربما ما حدا بالجانب الكردي إلى عدم التنبه لرقصة تحالفاته (قيادة جبل قنديل لها صلات مستمرة مع إيران والنظام السوري). يمكن بالطبع لوم الآخرين بدلا من التعلم من الأخطاء والاستمرار في معركة غير محسوبة ضد أنقرة وقدراتها. وتبرز في هذا الحصاد مسؤولية خاصة أخلاقية وسياسية على عاتق واشنطن وحلفائها.
خلال معركة عفرين هلل الغرب للبيشمركة الأكراد الذين لعبوا دور الحلفاء الرئيسيين في المعركة ضد إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية، وركزت وسائل الإعلام الأوروبية على المقاتلات الكرديات وعلى بطولات الأكراد وشجاعتهم وتضحياتهم في مواجهة الجهاديين من سنجار إلى كوباني (عين العرب) والرقة، ووصل الأمر بواشنطن والتحالف الدولي ضد الإرهاب إلى التعويل على وحدات الحماية الكردية لتكون نواة قوات سوريا الديمقراطية في السيطرة على المناطق الحساسة شمال وشرق الفرات في سوريا. لكن كما في منعطف عفرين وبعد حسم معركة “جيب هجين” ضد داعش، سرعان ما أتى قرار ترامب الذي قبل بتأجيله منذ ستة أشهر ومبررا إياه باكتمال الانتصار، وهذا ما لم يحصل بشكل كامل وحاسم، ويذكر ذلك تماما بإعلان سلفه جورج بوش الابن الانتصار في العراق في 10 مايو 2003 ولا يزال العراق حتى الآن في وضع غير مستقر. ويذكر هذا القرار بانسحابات لها تداعياتها وانعكاساتها مثل انسحاب آرييل شارون من غزة في 2005 وانسحاب إيهود باراك من لبنان في العام 2000.
يتساءل أكثر من مراقب عن النتيجة الفعلية للمعركة ضد تنظيم داعش منذ 2014، وهي تسليم العراق وسوريا بشكل أو بآخر للنفوذ الإيراني، مع جوائز ترضية للاعب التركي تحت إشراف القوة الدولية الجديدة في الشرق الأوسط أي روسيا فلاديمير بوتين.
من المبكر القيام بجرد حول الرابحين والخاسرين، ربما شاء ترامب رمي كرة النار ليتلقفها غيره، وما يُحكى عن صفقة مع تركيا غير دقيق لأن هناك ميزان قوى وتنافسا أميركيا – روسيا حول تركيا يستفيد منه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لفرض أجندته. ويتوجب عدم التقليل من أهمية العامل الداخلي الأميركي وشبح “روسيا غيت” المسلط على سيد البيت الأبيض، وربما يكون قراره حيال سوريا وسحب الكثير من القوات من أفغانستان، جزءا من مواجهته مع الكونغرس الذي يعانده من حرب اليمن إلى جدار المكسيك، وفِي خلفية القرارات تنفيذ الوعود الانتخابية قبل حملة جديدة تقترب وتطبيق لاستراتيجية بدأها الرئيس السابق باراك أوباما بالتخلي عن دور “شرطي الشرق الأوسط” والتركيز على آسيا والمحيط الهادئ إلى جانب تحريك خيوط اللعبة والتحكم بها في الشرق الأوسط الكبير عبر أسلحة العقوبات وحروب الوكالة وغيرها.
بالطبع تفقد الولايات المتحدة رافعة كبيرة لتقرير مصير التسوية في سوريا ويمكن لتركيا أن تكسب بعض المناطق في جوارها لأن تغلغلها في شرق الفرات وحتى شمال العراق سيرتبط بالسقفين الروسي والإيراني والمواقف الأوروبية والرقابة الأميركية.
في هذا الخضم المتماوج يخشى اللاعب الكردي الغرق بسبب إعصار ترامب شرق الفرات، ويطوي ذلك صفحة من التاريخ الكردي مع تراجع تياري مسعود البارزاني وعبدالله أوجلان، ويكون هناك رهان على جيل جديد يدير اللعبة بشكل أفضل من أمثال صلاح ديمرتاش القابع في السجن التركي وهو المعارض التركي الأول، وكذلك مع شباب كردي أخذ يفهم العالم بشكل أفضل.
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
العرب
سوريا: الانسحاب الأميركي بين الرغبة وصعوبة التنفيذ/ سلام السعدي
يؤكد القرار المفاجئ الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية بشكل كامل من سوريا على التناقضات الحادة داخل الإدارة الأميركية، وعلى حقيقة أن السياسة الخارجية باتت خاضعة لرغبات وأهواء الرئيس الأميركي الذي بات يحصر كل تفكيره في كيفية إعادة انتخابه بعد عامين من الآن.
تعارض كل من المؤسسة العسكرية والاستخبارات الأميركيتين الانسحاب من سوريا، وهو ما ظهر منذ إعلان ترامب نيته سحب قواته قبل نحو عام. في ذلك الوقت نجحت المؤسستان بالضغط على الرئيس الأميركي وإقناعه بالبقاء في سوريا لعدد من الأسباب. يأتي في المقدمة استمرار قتال تنظيم الدولة الإسلامية، بالإضافة إلى عدد من التنظيمات الجهادية عبر دعم قوات سوريا الديمقراطية. إذ تعتبر كلا المؤسستين أن الإستراتيجية الأميركية تعمل بصورة جيدة، وذلك بعد أن نجحت في هزيمة التنظيم المتطرف في جميع المدن والبلدات الرئيسية، حتى بات يتواجد في جيوب معزولة لا تشكل تهديدا حقيقيا في الوقت الحالي.
ويضاف إلى النجاح العسكري تواضع التكلفة الاقتصادية بما يجعل الحملة العسكرية الأميركية الأقل تكلفة والأكثر فاعلية منذ بداية عصر “الحرب على الإرهاب”. ففي حين كلفت حرب الولايات المتحدة على العراق نحو 570 مليار دولار، وحربها على أفغانستان نحو 590 مليار دولار، بلغت تكلفة الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية في كـل من سوريا والعراق نحو 23 مليار دولار، تعتبر حصة العمليات الأميركية في سوريا منها متواضعة نسبيا.
وفضلا عن الأهداف قريبة الأمد، هنالك مصلحة أميركية إستراتيجية بالتواجد في شمال سوريا بصورة دائمة طالما بقيت التكلفة الاقتصادية والبشرية متواضعة. فمن جهة، تشكّل إقامة قواعد ومطارات عسكرية أميركية فرصة هامة بعد تدهور علاقات واشنطن وأنقرة وإغلاق الأخيرة لمنشآتها العسكرية في وجه واشنطن أثناء حملتها العسكرية في سوريا والعراق. ومن جهة أخرى، يعتبر التواجد العسكري الروسي والإيراني في سوريا والعراق دافعا كبيرا لزيادة التواجد العسكري الأميركي في المنطقة. ولهذا السبب بالذات كان قرار زيادة التواجد العسكري الأميركي في سوريا والعراق قد اتخذ في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، وخصوصا بعد التدخل العسكري الروسي في العام 2015، وذلك ضد سياسته التقليدية المناهضة للتدخل العسكري.
بهذا المعنى، يتجاهل قرار دونالد ترامب الإستراتيجية التي وضعتها المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات الأميركيتين ويعبّر عن حقيقة اتجاه السياسة الأميركية في الوقت الحالي لتصبح رهينة لحساباته الخاصة، وبشكل خاص التخطيط لإعادة انتخابه للولاية الثانية في انتخابات ستجري بعد عامين من الآن. وهو ما يفسر ربطه لقراره الأخير بتنفيذ وعد انتخابي كما قال في إحدى التغريدات التي بررت الانسحاب. كما يتضح ذلك من ردود الأفعال المنتقدة لقرار الانسحاب حتى ضمن الحزب الجمهوري الذي نجح الرئيس في تدجينه، بدلا من أن يحدث العكس كما توقّع كثيرون بعد انتخابه.
يدفع ذلك للاعتقاد بأنه ورغم نبرة الحسم التي أراد ترامب إظهارها مع إعلان قراره الأخير، من الممكن أن لا يجري تنفيذه بصورة كاملة. هنالك حقائق عسكرية وسياسية شديدة التعقيد تزيد من المعارضة الداخلية لتنفيذ القرار. أكثر تلك الحقائق مباشرة وإلحاحا هي استمرار المعارك مع تنظيم الدولة الإسلامية حتى اليوم إذ ينجح التنظيم، بين فترة وأخرى، بشن هجمات مضادة على قوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا.
ولكن بالمقابل، قد يكون هنالك جانب آخر لقرار الرئيس الأميركي لا يتعلق بحساباته الشخصية الضيقة وإنما بطبيعة التواجد العسكري الأميركي وعدم إمكانية استمراره على الشكل الحالي. إذ يعتبر هذا التواجد العسكري هشاً من الناحية الإستراتيجية بسبب اعتماده بصورة تامة على حليف عسكري ذي قاعدة شعبية ضيّقة محصورة بالأكراد، ويمتلك عداءات مع كامل محيطه الجغرافي وجميع اللاعبين.
ويشمل ذلك روسيا وإيران والنظام السوري وتركيا، فضلا عن الميليشيات العسكرية المتواجدة على الأرض والتابعة لكل طرف. يضاف إلى ذلك أنه، وفي الأشهر الماضية، اتضح ضعف التأثير الأميركي على قوات سوريا الديمقراطية التي رفضت، ولا تزال، الانسحاب من مدينة منبج السورية ما تسبّب بتوتر شديد مع أنقرة وتهديدها لشنّ حملة عسكرية على المدينة.
بهذا المعنى، ورغم أهمية استمرار التواجد العسكري الأميركي في شمال سوريا، لا بد من خطوة جريئة لإعادة نسج التحالفات العسكرية والسياسية للولايات المتحدة في المنطقة بصورة واسع وبشكل مرتبط بالمستقبل السياسي للبلاد. قد يؤدي قرار دونالد ترامب بالانسحاب إلى ذلك السيناريو إن لم يكن مدفوعا بصورة تامة بحساباته الخاصة في ظل تسليم تام للمؤسستين العسكرية والاستخباراتية في واشنطن.
كاتب فلسطيني سوري
العرب
أي فوضى فعلها ترمب؟/ عبد الرحمن الراشد
صدم الرئيس الأميركي دونالد ترمب الكثيرين عندما أعلن عن سحبه قواته من سوريا فقط بعد بضعة أيام من توضيح وزارتي الخارجية والدفاع عن تعزيز سياسة الحكومة في سوريا سياسياً وعسكرياً سواء ضد «داعش» أو التوغل التركي أو الوجود الإيراني. سحبه القوات الأميركية عملياً يعني تسليم روسيا وإيران الأرض المتبقية. وقد تكون نهاية الثورة السورية، لكنها ليست نهاية الحرب الإقليمية على تراب سوريا وسمائها. ستبقى إيران وميليشياتها، وكذلك تنظيم داعش، وستستمر تركيا في معاركها في شمال سوريا.
ترمب أربك إدارته وخطط حكومته ونقض وعوده وأدخل الفرح في موسكو وطهران ودمشق، لكنه رغم هذا لا يزال الرئيس الأميركي الوحيد الذي يقف في وجه نظام إيران، أكثر مما فعلته إدارة الرئيس باراك أوباما قبله. ونجاح إيران في سوريا قد يكون مقتلها، لأن النظام في طهران لا يعرف متى وأين يتوقف، أحلامه التوسعية ورغبته في السيطرة ستعيد القوى الكبرى، سواء بقي ترمب أو جاء رئيس بعده في الانتخابات لاحقاً. المشكلة في طهران، وهي مشكلة الغرب كما مشكلة دول منطقة الشرق الأوسط.
القوات الأميركية ليست بالضخامة ولا القوة هناك، عددها ألفان مع بضع مئات من العاملين في الاستخبارات ووزارة الخارجية وغيرها. وأهميتها أنها تعبر عن التزام الدولة العظمى بفرض سياستها، وبنت ميليشيات سورية موالية لها، قسد، معظمها أكراد وعرب، والتي تقول بأنها تجاوزت الثلاثين ألف مقاتل يوجدون شرق الفرات.
خروج الولايات المتحدة، واستقالة وزير دفاعها، سيعقدان الوضع أكثر مما هو معقد داخل سوريا وفي محيطها. إيران لن تنسحب الآن، بل ستعزز وجودها، وفي المقابل ستكثف إسرائيل مواجهتها، وستخرج خلايا «داعش» الهاربة من جحورها. وهي كانت السبب الرئيسي وراء عودة أميركا عسكرياً إلى تلك المنطقة، بعد نجاح تنظيمي «النصرة» و«داعش» في الأرض واستيلائهما على مساحات واسعة من سوريا، وبينها مناطق النفط. المؤشرات كانت تدل حينها على تكرار ما فعلته «القاعدة» في العراق وقبلها في أفغانستان وما يعنيه من استهداف للولايات المتحدة ومصالحها.
وهذا يناقض رواية ترمب أنه تم القضاء على «داعش»، وأن حكومته ليست مستعدة لتمويل حروب الآخرين، فمواجهة إيران ومحاصرة «القاعدة» حرب في سبيل أمن الولايات المتحدة ومصالحها، وبالطبع تلتقي مع مصالح المنطقة والعالم.
وسواء كانت دوافع الرئيس الأميركي محلية، استعداداً للانتخابات الرئاسية بعد عامين، أو رغبته في الخروج من المستنقع السوري، فالأرجح أنه سيفعل ما فعله الرئيس قبله، باراك أوباما، سيعيد إرسال قواته إلى سوريا. من دون خروج القوات الإيرانية وميليشياتها فإن الوضع لن يستقر وسيكون جاذباً لتدخلات إقليمية ودولية مختلفة، والذي بدوره سيعيد الجماعات الإرهابية إلى الحياة في ظل الفوضى.
وفي الوقت الذي يعتبر ترمب محاصرة إيران ركناً أساسياً في سياسته الخارجية فإن قراره بالانسحاب من سوريا يرسل رسالة مناقضة للجميع، بما فيهم إيران. أيضاً المواجهة الكلامية مع موسكو التي نلحظ تصعيداً لها غير مسبوق من الجانبين منذ نهاية الحرب الباردة.
في رأيي إن خروج الولايات المتحدة سيرفع من حدة الصراع الإقليمي وسيقلل فرص السلام وسيكون الخيار الأسوأ لإيران تحديداً، على اعتبار أنها الكاسب في الانسحاب الذي تعتبره هزيمة للمعسكر الأميركي. من دون اتفاق في سوريا توقع عليه جميع الأطراف ستستمر الأزمة والمعارك بطرق مختلفة.
الشرق الأوسط
الانسحاب الأميركي .. قرار استراتيجي أم مناورة جديدة؟/ مهند الكاطع
شكّل القرار الأمريكي بالانسحاب السريع والكامل من سوريا مفاجأة لجميع المراقبين والساسة المتابعين للشأن السوري بمن فيهم مسؤولون وأعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي.
القرار الأمريكي بالانسحاب والذي سبق للرئيس الأمريكي ترامب بأن تراجع عنه، يأتي اليوم في ظروف كان من المتوقع أن تشهد تصعيداً في منطقة شرقي الفرات، خاصة بعد التهديدات الأمريكية التي وصلت على شكل رسالة للائتلاف السوري تحذر فيه من أن أي مشاركة لفصائل المعارضة في القتال إلى جانب القوات التركية ضدّ الفصائل الكردية ستعني استهداف للقوات الأمريكية وسيتم التعامل بشدة.
التصعيد التركي الأخير
لقد شهدت الفترة الماضية تصعيداً غير مسبوق في اللهجة التركية حول مناطق شرق الفرات، تزامن ذلك مع حشد عسكري تركي في المناطق الحدودية، وقد كانت هذه التحركات تشير إلى اقتراب التدخل في مناطق شرق الفرات وبشكل خاص في منطقتي تل أبيض ورأس العين، التي باشرت القوات الكردية هناك بحفر خنادق واتخاذ إجراءات دفاعية هناك.
تركيا والتي كانت تبدي عدم رضاها عن السياسات الأمريكية الداعمة لفصائل مرتبطة بحزب العمال الكردستاني، وتبدي امتعاضاً من
تعثر تنفيذ خارطة الطريق في منبج على النحو المتفق عليه، إضافة إلى الملفات الأخرى العالقة بينها وبين واشنطن كملف تسليم المطلوبين لتركيا وعلى رأسهم غولن، وتنفيذ صفقات السلاح المتعثرة وغير ذلك من القضايا التي كانت تشكل منعطفات حرجة في العلاقة بين الشريكين في حلف الناتو المهمين ( تركيا، أمريكا)، يبدو أنها أكثر ثقة في خطابها اليوم، وتعتبر أن دبلوماسيتها نجحت اتجاه التعامل مع الموقف الأمريكي، خاصة مع حدوث بوادر لانفراج في العلاقات مع حل أكثر الملفات العالقة بين الجانبين.
خطوات الانفراج بين واشنطن وأنقرة
لم تكن قضية القس برونسون الذي تم الإفراج عنه في تركيا تمثل الدلالة الوحيدة على بدأ الانفراج في الأزمة بين البلدين، فقد تبعها عدة خطوات، منها قيام أمريكا بإلغاء العقوبات المفروضة على مسؤولين أتراك ورد تركيا بالمثل، وخلال الأيام القليلة الماضية كانت هناك اتصالات على أعلى المستويات بين الجانبين التركي والأمريكي، أعلنت بعدها الولايات المتحدة الأمريكية عن موافقتها على تسليم طائرات الـ إف 35 لتركيا بعد تعطيلها في وقت سابق، والبدء بالتحضيرات لملف تسليم عبد الله غولن إلى تركيا، كل ذلك كان يشكل خطوة تحول مهمة في العلاقات الأمريكية – التركية، لكن القرار الأمريكي الأخير يعتبر تتويجاً لهذا الانفراج إذا ما تم بالشكل الذي يؤمن المصالح التركية.
الدور الأميركي شرق الفرات
يوجد نحو ألفي جندي أمريكي في سوريا، وبعض المصادر الأمريكية تشير إلى أن العدد الفعلي قد يصل إلى أربعة آلاف مقاتل غير معلن، يتوزعون في مناطق مختلفة من شرق الفرات بعيداً عن مراكز المدن، حيث تنتشر نحو عشرين قاعدة أمريكية لمختلف المهام العسكرية في هذه المناطق، وتقوم بتقديم الدعم العسكري واللوجستي لقوات قسد في إطار الحرب المعلنة على تنظيم الدولة الإسلامية. لقد شكل الوجود الأمريكي نقطة توازن مقابل الوجود الروسي وكذلك الوجود الإيراني، وكانت أمريكا تصرح بأن انسحابها من سوريا يجب أن يتوافق مع انسحاب للقوات الروسية والإيرانية أيضاً. ويرى بعض المراقبين الأمريكيين بأن الوجود الأمريكي في منطقة استراتيجية شرق الفرات قد يعوضهم عن فقدان الموقع الاستراتيجي الذي كانوا قد تركوه في العراق، ويسمح لأمريكا أن تكون لاعباً أساسياً في اللعبة السورية وعدم ترك الساحة لروسيا وإيران.
كل ما سبق إضافة إلى مناطق حظر الطيران التي فرضتها الولايات المتحدة الأمريكية شرق الفرات، ساهم في جعل القوات الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني تسيطر على نحو 40% من الأراضي السورية خلال السنتين الأخيرتين، وسمح لها بأن تنفرد في إدارة هذه المناطق التي يشكل العرب أكثر من 90 بالمئة من سكانها، وتقوم بارتكاب مختلف الانتهاكات من حرق وتجريف للقرى العربية وفرض مناهج التعليم الكردية برؤية إيديولوجية تنتمي لمدرسة العمال الكردستاني، وكذلك فرض التجنيد الإجباري على شبان المنطقة، والضرائب والأتاوات على باقي المدنيين.
انسحاب استراتيجي أم مناورة جديدة؟!
إن قرار الولايات المتحدة الأمريكية الذي نشرته وسائل الإعلام الأمريكية قد تم تأكيده عبر البيت الأبيض، مؤكداً أن قرار أمريكا بالانسحاب وعودة جنودها من سوريا يعني الانتقال لمرحلة ثانية من مراحل مواجهة الدولة الإسلامية، وقد حذر مسؤولون أمريكيون مثل السناتور الأمريكي ماركو روبيو مغبة الانسحاب السريع والكامل، إذ قال: ” إن الاسنحاب السريع والكامل للقوات الأمريكية خطأ فادح وسيكون له تداعيات خطيرة”، في حين صرح مسؤول أمريكي بأن الانسحاب سيكون متدرجاً وسيستغرق من 60 إلى 100 يوم. هذه الجدولة الزمنية الطويلة نسبياً لجنود قد تكون مبررة إذا ما كان الغرض تفكيك القواعد الأمريكية ونقلها بشكل كامل من المنطقة، وقد تكون أيضاً بغية تأمين المنطقة وعدم إحداث فوضى قد تنتج عن الانسحاب السريع، لكن أيضاً لا يمكننا استبعاد أن ذلك قد يدخل ضمن مناورة أمريكية جديدة تستهدف تخدير الجانب التركي ومنعه من التدخل العسكري، قبل ترتيب بعض الأمور في المنطقة خاصة مع أنباء غير مؤكدة تحدثت عن تعزيزات عسكرية ثقيلة وصلت قاعدة الرميلان خلال الأيام السابقة. و أياً كانت الأسباب وراء هذه الجدولة، فهذه المدة ستكون كفيلة بحدوث أكثر من سيناريو خلال هذه الفترة، أبرزها:
الأول: توافق غير معلن بين النظام والقوات الكردية برعاية أمريكية تسمح للنظام وحلفائه بالدخول إلى منطقة شرق الفرات وإعادة انتشار قواته في المنطقة بشكل كامل يتم الإعلان عنه مع الانسحاب الكامل للأمريكان من سوريا، وبالتالي إرباك الأتراك ومنعهم من الدخول للمنطقة خاصة إذا ما تم إخلاء المواقع الحدودية بعمق 10 كم من تمركز القوات الكردية، والتي يحق للأتراك بموجب مذكرة تفاهم مع النظام السوري وقعها سنة 1998 بالدخول في الأراضي السورية الحدودية بعمق 5-8 كم في حال وجود تهديد لأمنها القومي.
الثاني: إعادة تموضع القوات الكردية بالتوافق مع حلفاء آخرين في مناطق متفق عليها بين الأمريكان والأتراك، وقد تكون هناك أطراف عربية أخرى تضمن انتشار قوات عازلة بين مناطق القوات الكردية والحدود السورية – التركية، مع توقعات بأن تكون قوات سودانية مرشحاً رئيسياً للعب هذا الدور، تزامناً مع زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، مع توقعات بحمله رسالة من الجامعة العربية في مقترحات من هذا القبيل.
مستقبل قسد بعد الانسحاب الأمريكي
لا يبدو أن القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني التي تمثلها اليوم ( قسد) بموقف يحسد عليه مع هذا القرار، فهي تعتبر أن القرار طعنة بالظهر
وخيانة لدم مقاتليها، المحللة السياسية الروسية إلينا سبونينا علقت على هذا الموقف قائلة ” بأن الموقف سيكون صعباً بالنسبة للأكراد، أمريكا تستخدم الأكراد ولا تنفذ وعودها لهم، والأمريكان اعتادوا اللعب على وتر القضية الكردية، بينما الموقف الروسي أكثر وضوحاً إزاء ذلك”. يذكرنا هذا الانسحاب أيضاً ، بالتخلي الأمريكي عن قوات البيشمركة في كركوك العام المنصرم، وكذلك المواقف الأمريكية التي كانت منذ عهد كيسنجر تخذل الطموحات الكردية المتعجلة.
على أي حال يبدو أن خيارات قوات الأمر الواقع الكردية في سوريا “قسد” بدون الوجود الأمريكي تكاد تكون معدومة، فلا التدخل التركي مع فصائل المعارضة سيكون في صالحها، ولا تدخل النظام أيضاً سيكون في صالحها، خاصة بعد أن حاولت قسد الخروج عن عباءة النظام فعلياً تزامناً مع التمركز الأمريكي في المنطقة، وبعد المواجهات الدامية التي كانت تحدث أحياناً بينها وبين قوات النظام وأجهزة أمنه في المنطقة التي تسيطر عليها القوات الكردية خلال الفترة الماضية.
مشروع القوات الكردية في سورية كان من المتوقع له الفشل، والآن يمكن القول بأنه سيشهد انهياراً بشكل لا يقل مفاجأةً عن قرار القوات الأمريكية بالانسحاب، وسيساهم في تسارع هذا الانهيار عدم وجود ركائز محلية تدعم هذا المشروع، ووجود نقمة كبيرة من أبناء المنطقة على الممارسات والمجازر التي قامت بها هذه الميليشيات بحقهم خلال السنوات الماضية منذ إعادة حلفهم مع النظام بداية الثورة السورية، وصولاً لحلفهم مع الأمريكان خلال الأعوام الماضية.
تلفزيون سوريا
الانسحاب الأمريكي من سوريا يجعل طريق طهران ـ بيروت سالكة بسهولة/ منهل باريش
خلط الرئيس الأمريكي الأوراق في سوريا والمنطقة إثر قراره يوم الأربعاء سحب كامل قوات بلاده من الأراضي السورية، معتبرا أن الوجود العسكري الأمريكي في سوريا قد حقق أهدافه بهزيمة تنظيم “الدولة الإسلامية“.
ووصلت ارتدادات قرار الرئيس المفاجئ لتطيح بوزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس الذي عارض القرار، والذي كان قد جدد اتفاق بلاده مدة عامين جديدين مع قوات سوريا الديمقراطية بهدف تدريب 40 ألفا من مقاتليها كحرس حدود وأمن لمنطقة شرق الفرات بعد الانتهاء من هزيمة تنظيم الدول. ومن غير المستبعد أن تتوسع دائرة المعترضين في البيت الأبيض، خصوصا مع إلغاء ترامب لأدوار الجميع في فريقه خصوصا وزير خارجيته، ومبعوث البيت الأبيض الخاص بسوريا جميس جيفري الذي بذل جهدا واضحا لإرضاء أنقرة في الاسابيع الماضية. ويبقى الصمت الكبير لمستشار الأمن القومي جون بولتون مؤشرا على محاولات أثناء ترامب عن قراره، حيث بنى بولتون تصوره للأمن القومي الأمريكي ودور بلاده في الشرق الأوسط على حصار إيران وتحجيم دورها وإعادتها إلى داخل حدودها وإبعادها من سوريا وتحجيم نفوذها في العراق، وتقليم أظفارها في لبنان والمتمثل بحزب الله اللبناني، وهو ما يتقاطع مع إسرائيل، الحليف الرئيسي لأمريكا في المنطقة.
ولاقى القرار الامريكي انتقاد الدول المشاركة في “التحالف الدولي” التي اعتبرت انه لم يتم القضاء على التنظيم المتطرف، ووصلت الانتقادات لأعضاء الحزب الجمهوري الأمريكي الذين اعتبروا ان الانسحاب سيقوّي شوكة روسيا وإيران والنظام السوري.
ويذكر قرار ترامب بالقرار المشابه الذي اتخذه سلفه باراك أوباما عندما سحب القوات الأمريكية من العراق عام 2011، وهو ما سمح لتنظيم “الدولة الإسلامية” بإعادة تجميع نفسه مجددا وبدء نشاطه في سوريا باسم “جبهة النصرة”، وهو ما أعاد القوات الأمريكية مع سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مساحات شاسعة في سوريا والعراق ممتدة من الرقة إلى الموصل.
الانسحاب في حال حصوله سيكون بمثابة هدية لعدة أطراف أولها تنظيم “الدولة”، ورغم انحساره في جيب صغير شرق نهر الفرات قرب الحدود العراقية السورية، فانه قادر على أعادة تشكيل نفسه واستجلاب مقاتلين متشددين من إدلب والبادية السورية وأعداد كبيرة من العراق وآخرين من المنطقة، ومن غير المستبعد ظهور البغدادي وإعلانه الانتصار على الولايات المتحدة الأمريكية. ويمتلك التنظيم مقدرة التقدم والسيطرة شمالا وغربا على حساب “قوات سوريا الديمقراطية” التي سينكشف ظهرها بسبب غياب الدعم الجوي الأمريكي، والتي ستواجه هجوما منظما ستشنه تركيا من حدودها الجنوبية في عمق الأراضي السورية.
إيران الرابح الكبير
يقدم القرار فرصة كبيرة لإيران لتوسيع نفوذها شرق سوريا، بعد أن ربطت واشنطن استراتيجيتها في سوريا بطرد إيران وتقليص نفوذها، وهو ما تحدث عنه صراحة مستشار الأمن القومي جون بولتون قبل عدة شهور. وأبقت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” على قاعدتها الصغيرة في منطقة التنف لقطع الطريق وإعاقة حركة الميليشيات المدعومة من إيران في البادية السورية وإغلاق طريق بغداد-دمشق في وجهها.
ويخالف القرار ما أعلنه الرئيس ترامب نفسه في مطلع تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عندما فرض حزمة كبيرة من العقوبات على إيران، بعد نحو ثلاثة أعوام من رفع الولايات المتحدة العقوبات المفروضة على طهران، عقب توقيع الاتفاق النووي الإيراني في عهد الرئيس أوباما.
وتجد إيران الفرصة ملائمة للسيطرة على منابع النفط الرئيسية في شرق الفرات، وهو ما يمكن سيطرتها ويخفف من أعباءها المالية الكبيرة التي تنفقها على الميليشيات الأجنبية، العراقية والأفغانية والباكستانية والمحلية المنضوية في أفواج الدافع المحلية. ويسهل الانسحاب تحقيق المشروع الإيراني بفتح طريق طهران ـ بغداد ـ دمشق ـ بيروت والذي يعتبر عنوانا للسيطرة الإيرانية على العواصم العربية، أو ما عرف باسم “الهلال الشيعي“.
من جهتها، فان روسيا ستمضي قدما وتفرض رؤيتها للحل السياسي، والمتمثل بتشكيل اللجنة الدستورية، والتهيئة لانتخابات رئاسية على طريقتها يكون بشار الأسد مرشحها الوحيد أو أبرز مرشحيها. وسيعزز الدور الروسي بعد غياب القوة العسكرية الأمريكية من سوريا، وهو ما سيخفف من تأثيرها في المسار السياسي وينعكس سلبا على عملية تغيير سياسي حقيقي.
ومن المتوقع ان تشرع موسكو ببدء الاستثمار لموارد الطاقة في شرق سوريا بالشراكة مع إيران.
النظام يسيطر على الموارد
وسيستفيد النظام من عائدات النفط والغاز الذي حرم منها سنوات عديدة، وتساعد عوائد هذه الثروات في بدء مشاريع الإعمار الصغيرة التي بدأها هنا وهناك. ويبقى المردود السياسي لاستعادة السيطرة على آبار النفط أكبر من المردود المالي بكل تأكيد، لكنه سيساعد في تنظيم دورته الاقتصادية مع السيطرة على المياه وكهرباء سد الفرات والإنتاج الزراعي الكبير على ضفاف الفرات كالقطن والقمح والشعير.
وأكد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو الخميس، تصعيد هجوم بلاده ضد الميليشيات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية. وأضاف: “سنواصل التحرك بنشاط قوي ضد مساعي إيران لترسيخ وجودها في سوريا وسنكثف جهودنا، وأنا أعلم أننا نفعل ذلك بتأييد ودعم كاملين من الولايات المتحدة”.
ومع الغياب الأمريكي في سوريا، يتعين على إسرائيل التنسيق بشكل أكبر مع روسيا، وستكون البوابة الوحيدة لحفظ أمن إسرائيل والتخفيف من مخاوفها من الدور الإيراني ونشاطه قرب الجولان السوري المحتل في القنيطرة.
من المؤكد ان القرار الأمريكي سيعيد ترتيب العلاقة بين شركاء مسار أستانة الثلاثة (روسيا، إيران، تركيا)، فروسيا اعتمدت على تركيا طويلا في ازعاج أمريكا وكانت تراقب بصمت ردة الفعل الأمريكية على الهجوم التركي الذي بدأت تحضره على منطقة شرق الفرات. لكن الانسحاب الأمريكي سيجعل موسكو تفضل عدم توسيع نفوذ أنقرة في سوريا خصوصا في منطقة شرق الفرات، وإبقاء حدود التفاهمات القديمة معها فقط. وروسيا وحلفاؤها يستطيعون فرض استسلام على وحدات “حماية الشعب” الكردية، أو هزيمتها عسكريا دون مساعدة أو اشراك أنقرة، أو من المحتمل السماح لها بالمشاركة في عمل ضد الوحدات الكردية مع اشتراط خروجها بعد الانتهاء من المعركة. لكن احتمال الموافقة على بقائها أمر من المستبعد الموافقة عليه حاليا.
القدس العربي
انسحاب ووزارة دفاع غاضبة/ فاطمة ياسين
يقرّر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن تغادر قواتُه العسكرية سورية بشكل عاجل وسريع، لينفي بعدها وزير خارجيته، مارك بومبيو، عن هذا القرار تهمةَ التعجل أو العشوائية، بالقول إن القرار اتُّخِذَ بعد التشاور مع كبار المسؤولين الأميركان، بمن فيهم بومبيو نفسه.
بعد أقل من أربع وعشرين ساعة على إعلان القرار، يستقيل وزير الدفاع، جيمس ماتيس، الأمر الذي يعكس خلافات داخلية عميقة، تجعل مسؤولاً بهذا الحجم يخرج من الإدارة، بالإضافة إلى تغريدات أعضاء مهمين في الكونغرس الأميركي، ومن حزب الرئيس، تعارض الخروج العسكري من سورية بشدة. أما الشخصية القوية الثالثة في الإدارة الأميركية، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، فلم يظهر بعد، ولكنه كان قد صرح قبل ثلاثة أشهر إن الولايات المتحدة ستحافظ على تواجد قوي ومؤثر في الشمال السوري، لمعادلة الوجود الإيراني، ولن تخرج قبل أن ينتهي أي وجود إيراني، أو حليف لإيران، في سورية. وشخصية تعد من الصقور مثل بولتون لن تجد هذا القرار مريحاً، ولكن ترامب، في سياق تبرير قراره، لجأ إلى أسبابه المفضلة، وهي أن أميركا تدفع تكاليف كثيرة نيابة عن الآخرين في الشمال السوري، ولا تجد تقديراً من أحد. واستفاض مبرراً بأن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) هو العدو الطبيعي للأسد وإيران وروسيا، وعلى هؤلاء أن يخوضوا معاركهم بأنفسهم، لا أن تخوضها أميركا بالنيابة عنهم، وهذا يناقض حجته السابقة إن “داعش” قد تم دحرها، ولا موجب لوجود أميركي في الشمال السوري.
الإخلاء الأميركي العاجل، وقد يستغرق ستة أشهر، وإن حصل سيخلق فجوة هائلة، فالمنطقة التي تتمتع بحماية القوة الأميركية تبلغ ربع مساحة سورية، وهي منطقة فعالةٌ اقتصادياً، بسبب وجود معظم حقول النفط والغاز فيها، بالإضافة إلى متاخمتها الضفة الشرقية لنهر الفرات، حيث الأراضي المرويةُ الخصبة ذات المنتوجات الاستراتيجية من القطن والقمح.
عبَّر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن سعادته بقرار ترامب، وحذر الكرملين من التداعيات. من الممكن أن يتخيل كل من الأسد وبوتين سقوطاً متلاحقاً لصالحهما في الشمال السوري، يشابه تساقط المساحات الجغرافية في أيديهم خلال الصيف الفائت، لكن تنظيم الدولة الإسلامية لم ينتهِ بالفعل كما قال بوتين، وما زال قادراً على إعادة هيكلة نفسه، والانطلاق من جديد. وكانت هناك “بروفة” لعودته حدثت قبل شهر، عندما تمدّد بقوة على حساب القوات الكردية، ولم يتراجع إلا بتدخل مؤثر من الطيران الأميركي، وهذا لن يكون متوفراً لاحقاً.
أبدت تركيا ارتياحاً، فيما لم تبد إيران ردة فعل محسوسةً حيال القرار الأميركي، ولكن من الممكن أن يكون له أثر طيب لديها، فإيران ستتخلص من كابوسٍ عسكريٍّ، يحد من طموحاتها، ولن يبقى ما يهدد تجمعاتها العسكرية و”الثقافية” في سورية، وتركيا ستجد نفسها بمواجهة حرة مع الفئات الإرهابية المنضوية تحت رايات الكرد، وسيخفّف هذا الخروج الأميركي لهجة المواجهة التركية والأميركية، بعد انعدام نقاط التماس العسكري بينهما، ورفع اليد الأميركية عن القوات الكردية في الشمال. تبقى إسرائيل التي ستبدي قلقاً عميقاً في حال خلو الأراضي السورية من القوات الأميركية، وقد كانت تشكل ضمانة لكبح التمدّد الإيراني، وقد تزداد حينها وتيرة هجماتها الجوية على الأراضي السورية.
يطرح الخروج الأميركي معادلة جديدة، وإعادة ترتيب المقاعد حول المائدة من دون أن يتغير المدعوون، لكن فقط تتراجع بعض الأدوار وتتقدم أخرى، وذلك كله يجري وكواليس اللجنة الدستورية السورية حامية. ويشكل التغير الجديد عاملاً حاسماً في طريقة تشكيل هذه اللجنة. وقد يظن كثيرون أن الأسد رابح في كل الأحوال، لكن الرهان الأكبر على دور تركي قوي ومتناسب مع تطور الأحداث، بالإضافة إلى ما يمكن أن يحققه تنظيم الدولة الذي يستلزم كبحُ جماحه قوة كبيرة، يجب سحبها من أماكن أخرى، ما يرشح المشهد كلياً لإعادة ضبط قد يأتي بصورة أخطر من التوقعات.
العربي الجديد
قاعدة التنف… الانسحاب الأميركي يفتح طريق طهران ــ المتوسط/ محمد أمين
تتوالى تبعات القرار الأميركي بالانسحاب من سورية، والذي وضع المعارضة السورية في جنوب شرقي البلاد في المثلث الحدودي الذي يربطها مع العراق والأردن أمام مفترق طرق وعر، إذ تدل المؤشرات على نيّة وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إخلاء قاعدة التنف العسكرية التي تتخذ منها فصائل المعارضة سنداً للحيلولة دون تقدم قوات النظام للفتك بالمدنيين في مخيم الركبان، إضافة الى آخرين ضمن ما يعرف بمنطقة الـ 55 المحرمة على هذه القوات.
كما أن انسحاب القوات الأميركية من القاعدة يعني فتح البوابة البرية السورية أمام المد الإيراني الساعي إلى فتح طريق يربط طهران بالعاصمة اللبنانية بيروت، ما يعني تقديم سورية إلى إيران “على طبق من ذهب”، وفق محللين عسكريين يرون أن القرار الأميركي سيغري القادة الإيرانيين بالمزيد من “العبث” في سورية. وأكدت مصادر قيادية في “جيش مغاوير الثورة”، التابع للمعارضة السورية المسلحة والمتمركز في قاعدة التنف جنوب شرقي سورية على الحدود مع العراق، أنها تلقت قراراً شفهياً يفيد بانسحاب القوات الأميركية من جميع قواعدها في سورية، تنفيذا لقرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب قوات بلاده من سورية، وهو القرار الذي أثار ولا يزال يثير جدلاً واسعاً في العالم كله.
وأشار قائد “جيش مغاوير الثورة”، مهند الطلاع، في تصريحات صحافية، إلى أنه “في حال قررت دول التحالف الدولي الانسحاب من قاعدة التنف ومنطقة الـ 55، فإن ذلك سيضع فصائل المعارضة واللاجئين السوريين في تلك المناطق، أمام احتمالات عدّة، منها إمكانية وقوع مواجهة مباشرة مع قوات النظام والمليشيات الإيرانية، وروسيا التي تسعى منذ سنوات للاستيلاء على المنطقة”. وأوضح الطلاع أن القوات الأميركية لم تغادر بعد قاعدة التنف. وكان الطلاع قد وصف، في تصريح لـ”العربي الجديد”، قرار الانسحاب الأميركي بالسلبي والسيئ، وجاء في توقيت “غير صحيح”، مضيفاً “نحن نعلم أن الوجود الأميركي لن يدوم، ولكن عملية الانسحاب قبل إتمام الحل السياسي في سورية ستؤدي إلى نتائج سلبية”.
من جانبه، قال فارس المنجد، مدير المكتب الإعلامي في قوات “أحمد العبدو” التابعة للمعارضة السورية والموجودة في جنوب شرقي سورية، لـ”العربي الجديد”، إنه “حتى اللحظة لا يوجد تأكيد” لانسحاب أميركي من قاعدة التنف. وأشار إلى أن فصائل المعارضة السورية تضع في اعتبارها جميع الاحتمالات و”نضع حلولاً وفق ذلك”، مضيفاً “منطقة التنف تضم مخيم الركبان. ما يهمنا بالدرجة الأولى مصير المدنيين في المنطقة”.
وتقع قاعدة التنف، التي أنشأها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في عام 2014، غرب الحدود العراقية بمسافة 22 كيلومتراً، وتبعد نحو 22 كيلومتراً عن الحدود السورية الأردنية، وهي تعد من أهم القواعد العسكرية للتحالف الدولي في سورية. واعتبر التحالف المنطقة المحيطة بالقاعدة على مسافة 55 كيلومتراً “محرمة” على قوات النظام السورية والمليشيات التي تساندها، وتعامل بقسوة مع أي محاولة من هذه القوات والمليشيات بتجاوز حدود هذه المنطقة، آخرها كان مطلع ديسمبر/كانون الأول الحالي، إذ استهدفت قوات التحالف الدولي المتمركزة في القاعدة رتلاً عسكرياً تابعاً لـ”الفرقة الثالثة” التابعة لقوات النظام بصواريخ راجمة من منظومة “هيمارس” بعد دخوله “المنطقة المحرمة”.
وأكد “جيش مغاوير الثورة”، في تغريدة على حسابه في “تويتر” أمس السبت، أن “مستقبل المدنيين في منطقة الـ 55 هو مستقبل المغاوير”، مشدداً على أنه “لن نتخلى عن أهلنا في مخيم الركبان”. وأضاف “قوات التحالف الدولي وجيش مغاوير الثورة يخططون سوياً للوصول إلى أفضل الخيارات للكل، ولن يكون أي تغيير لمهمتنا وخططنا في الحفاظ على أمن المنطقة من أي تهديد خلال المستقبل القريب”. ويقع مخيم الركبان، الذي يضم أكثر من 50 ألف نازح سوري، ضمن المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة السورية. ومن المتوقع في حال انسحاب قوات التحالف الدولي أن تجتاح قوات النظام هذا المخيم، الذي يعيش القاطنون فيه ضمن ظروف إنسانية كارثية. وقد وضع القرار الأميركي المفاجئ بالانسحاب الكامل من سورية، في حال نُفذ، قوات المعارضة السورية والمدنيين في مخيم الركبان تحت عجلات قوات النظام والمليشيات التابعة لإيران، إذ لا يملك فصيل “مغاوير الثورة” وقوات “الشهيد أحمد العبدو”، التي تتولى بدورها حماية مخيم “الركبان”، القدرة العسكرية على المواجهة. ومن ثم ربما يبحث الفصيلان اليوم خيار توفير ممر آمن لهما إلى الشمال السوري يمر بالضرورة في مناطق تسيطر عليها قوات النظام، وأخرى تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، خصوصاً أنه من المستبعد أن يقبل الأردن بدخول مقاتلي المعارضة السورية إلى أراضيه. ويرى المنجد “أن رحيل قوات التحالف سيعزز موقف روسيا في المنطقة، ويساعد إيران التي تحارب قواتها إلى جانب الروس في سورية. كما أن انسحاب الولايات المتحدة من قاعدة التنف يمنح إيران القدرة على تأمين الطريق البرية من دمشق إلى طهران، وهو ما يزيد من نفوذها الإقليمي”. وحذر من تبعات الانسحاب الأميركي من قاعدة التنف، مشيراً إلى أن الخطوة الأميركية “تعرض المدنيين في منطقة التنف، التي تضم مخيم الركبان، لمخاطر جمة، إذ سيصبحون عرضة للمجازر من قبل المليشيات الطائفية التابعة لإيران”.
ويبدو القرار الأميركي بالانسحاب من سورية كأنه “هدية” غير متوقعة للجانب الإيراني الساعي إلى فتح خط اتصال بري بين طهران وبيروت، فيما تعد قاعدة التنف العائق الأكبر والأهم أمام تحقيق المخطط الإيراني. وفي حال الانسحاب الأميركي من هذه القاعدة يصبح الطريق مفتوحاً أمام تحقيق المطمع الإيراني للهيمنة على العراق وسورية ولبنان من جوانب مختلفة. وتنتشر مليشيات مرتبطة مباشرة بالحرس الثوري الإيراني في البادية السورية، خصوصاً في مدينة تدمر، قلب هذه البادية التي تشكل نحو نصف مساحة البلاد، إضافة إلى وجود مليشيات أخرى في بادية دير الزور وفي ريف دير الزور الشرقي جنوب نهر الفرات، حيث تعمل طهران على ترسيخ نفوذها.
من جانبه، رأى المحلل العسكري، العميد أحمد رحال، في حديث مع “العربي الجديد”، أن الأمور “حتى اللحظة غير واضحة”، مشيراً إلى أنه لا يمكن للعسكريين الأميركيين “الاستغناء” عن قاعدة التنف، معتبراً أن “الانسحاب من هذه القاعدة يعني فتح البوابة السورية البرية أمام الإيرانيين”. وقال “كانت هذه القوات محاصرة من الشمال بمنطقة هجين، ومن الجنوب بقاعدة التنف، واليوم تُترك مفتوحة أمام الإيرانيين. وصلتني معلومات أن هناك طائرتين إيرانيتين تحملان ذخائر وبكميات كبيرة وصلتا إلى دمشق. كما أن سهيل الحسن، التابع للروس، توجّه نحو ريف دير الزور الشرقي برتل كبير، يضم دبابات تي 90 وراجمات صواريخ روسية و11 قاطرة شحن مدنية لحمل الذخيرة وأربع عربات قيادة لإدارة العمليات، ترتبط بقاعدة حميميم بشكل مباشر”. وأضاف “يتم تقديم سورية على طبق من ذهب لإيران وروسيا، ولا أحد يعرف ما هو المقابل. العبث الإيراني سيزيد في سورية بعد أن كان الأميركيون يؤكدون أنهم سيحدون من النفوذ الإيراني فيها. السياسيون الأميركيون في واد والعسكريون في وادٍ آخر. حلفاء واشنطن ضائعون. هل سيكون للفرنسيين دور يعوض الغياب الأميركي؟ الأمور حتى اللحظة غير واضحة”.
العربي الجديد
إنسحاب ترامب:هذيان أم نبوغ؟/ ساطع نور الدين
ما بين هذيان الرئيس الاميركي دونالد ترامب ونبوغه شعرة لن تقطع. وما بين كونه يصنع التاريخ أو يمزقه خيط رفيع لا يمكن تبينه، برغم أنه يحول واشنطن من عاصمة أمبراطورية تحكم العالم وتدير شؤونه، الى أشبه ما يكون بمدينة ملاهٍ أو سيرك..او حتى الى مصح للإمراض النفسية.
لم يسبق للعاصمة الاميركية أن بدت على هذا النحو من التخبط والفوضى، وعلى شفير أزمة دستورية خطيرة، كما كتب مؤخراً عدد من حكمائها السياسيين. لم يسبق أن تهاوت قضاياها وأفكارها وأخبارها الى هذا الحد الذي يجعلها تبدو مثل محطة تلفزيونية لألعاب التسلية والترفيه، أو ربما إحدى محطات تلفزيون الواقع التي شهدت مع ترامب بالذات إنطلاقتها المذهلة في تسعينات القرن الماضي، قبل ان تصبح موجة عالمية كاسحة.
لم يعد هناك خبر يأتي من واشنطن يمكن أن يؤخذ على محمل الجد. الاخبار المزيفة هي الثقافة السائدة، التي يعممها الرئيس ومستشاروه ويتورط فيها بعض الاعلام الاميركي العريق: لا يمكن الجزم حتى الآن بخبر الانسحاب الاميركي الكامل من سوريا، والجزئي من أفغانستان، الذي أعلنه ترامب بنفسه، الاسبوع الماضي، وأثار دهشة في مختلف أنحاء العالم، وغضباً لدى حلفاء أميركا وفرحاً لدى خصومها.
كانت تلك هي المرة الثانية او الثالثة هذا العام التي يعلن فيها ترامب مثل هذا القرار، او تلك النية، من دون التشاور المسبق مع أقرب وزرائه المعنيين بالامر، ومع أقرب حلفائه الاوروبيين الغربيين المشاركين في الانتشار العسكري في سوريا وفي أفغانستان. قيل أنه، هذه المرة أبلغ الجميع سلفاً، بمن فيهم إسرائيل، لكنه الجميع ردوا بالاعتراض والاستغراب. غير أنه لم يتراجع حتى الآن على الاقل، وربما لن يتراجع. والدليل قراره تعطيل بعض المؤسسات الفيدرالية عن العمل، للضغط على الكونغرس كي يوافق على تمويل بناء الجدار مع المكسيك.
الأرجح أنه جدي هذه المرة بقرار الانسحاب، بدليل إستقالة وزير دفاعه جيمس ماتيس إحتجاجاً على قلة إحترام الحلفاء والوزارة والمؤسسة العسكرية. والمنطق يقول أنه من الاجدى التعامل مع القرار بأنه ليس مجرد هذيان رئاسي جديد، بل خطوة تنطق بالهوى الاميركي الفعلي، او هي على الاقل تعبر عن رأي عام واسع يميل الى سياسة العزلة التي ينفذها ترامب، ويرى أن جميع حروب أميركا في العالمين العربي والاسلامي على مدى العقود الماضية، كانت كلها خاسرة، أو غير مجدية، هدرت فيها أميركا ترليونات الدولارات، حسبما يكرر الرئيس ويوافق الجمهور. وهو رقم قريب من الدقة. غزو العراق وحده كلف أميركا ما بين 800 مليار وترليون دولار، وإنتهى الى تسليم العراق الى إيران والى الشيعة العراقيين الذين عاثوا فساداً في الدولة ومؤسساتها، ورفعوا شعارات للحكم مثل “الثأر للحسين”، و”لن تسبى زينب مرتين”..
يخطىء من يضع القرار الاخير في سياق الصراع على الارض السورية، مع الروس والاتراك والايرانيين والسوريين. هو في الجوهر، قرار بالخروج من المشرق العربي كله، ومن العالم الاسلامي. هو يمس إسرائيل مثلما يصيب سوريا والعراق وتركيا والسعودية ومصر. هو ليس إنسحاباً تكتيكياً من إحدى جبهات القتال غير المجدية، او المرشحة للاقفال. في مختلف العواصم العربية والاسلامية، كما في إسرائيل، سيترك الاميركيون خلفهم الكثير من اليتامى والمشردين، والقليل من المتربعين على عروش القوة والهيبة والنفوذ، والاقل من المحاربين الذين كانوا يتمنون بقاء أميركا لمقاتلتها ودرحها.
سحب أكثر من ألفي جندي أميركي من سوريا وأكثر من ثلاثة أضعافهم من أفغانستان، هو تحول إستراتيجي لا شك فيها. إذا تم فعلا. وهو سيشمل في مرحلة لاحقة الخليج العربي واليمن وشمال أفريقيا. المظلة الامنية الاميركية تسحب تدريجياً عن تلك الجغرافيا السياسية التي ظلت منذ بداية الحرب الباردة مع السوفيات ملعب الاميركيين ومرتعهم الاهم. لن يبقى بلد واحد على حاله، او داخل خريطته أو ضمن حدوده. ثمة مرحلة أكيدة من الفوضى الناجمة عن التنافس بين القوى الاقليمية لسد الفراغ الاميركي، طالما أن روسيا ليست مؤهلة لمثل هذا الدور، لا بقوتها العسكرية ولا بفكرتها السياسية ولا طبعا بقدرتها الاقتصادية، وطالما أن أوروبا الغربية ليست مهتمة أصلا بمثل هذا الدور.
لن يكون هناك شعب عربي او مسلم بمنأى عن مثل هذا القرار التاريخي..الذي يمكن ان يمحوه ترامب بتغريدة جديدة، لا أكثر.
المدن
سياسة ترامب السورية امتداد لسياسة أوباما/ ماجد كيالي
أسئلة عديدة باتت اليوم تشغل الكثير من المهتمين في المنطقة وفي الولايات المتحدة والعالم، مثل: هل ستنفذ الإدارة الأميركية حقا قرار الرئيس دونالد ترامب بالخروج من سوريا أم لا؟ ثم: ماذا بعد هذا القرار؟ أو ما هي استراتيجية الولايات المتحدة إذا في سوريا؟
قبل الإجابة عن كل تلك التساؤلات يجدر التذكير هنا بثلاث مسائل.. الأولى، هي أن الولايات المتحدة الأميركية، منذ بداية الصراع السوري، ظلت تنأى بنفسها عن التدخّل العسكري المباشر في هذا الصراع، وإن كانت، من الناحية السياسية، وقفت في جبهة المعارضة، ودعمت فصائل المعارضة العسكرية، بل وشجعت، من خلال إيحاءات رئيسها السابق باراك أوباما وأركان إدارته، على تصعيد ذلك الصراع للإطاحة بنظام الأسد، من خلال الحديث عن انتهاء شرعيته وأن عليه أن يرحل، ومن خلال الحديث عن الخطوط الحمر (في حال استخدام الكيمياوي)، من دون أن تأخذ موقفا من القصف الجوي والقصف بالبراميل المتفجرة.
بيد أننا يجدر أن ننتبه أن هذه التشجيعات وتلك الإيحاءات لم تصل إلى حد الدعم الإيراني ولاحقا الروسي لنظام الأسد، بل إن الولايات المتحدة تراجعت عن خطوطها الحمر، كما تبين بعد قصف الغوطة بالكيمياوي (أغسطس 2013)، حيث جرى التوافق حينها على تصفية السلاح الكيمياوي من ترسانة النظام السوري، بقرار من مجلس الأمن الدولي في حينه.
أيضا يفترض أن نلاحظ هنا أن الولايات المتحدة مانعت تسليم المعارضة أي أسلحة مضادة للطائرات، ولم تتجاوب مع المطالب الخاصة بفرض منطقة حظر جوي، أو منطقة آمنة، في أي منطقة في سوريا، لوقف قصف النظام للمناطق المتمردة، كما أنها سكتت عن التدخل العسكري الإيراني ثم الروسي في الصراع السوري.
وعلى الصعيد السياسي فإن الولايات المتحدة (في عهد أوباما) تساهلت مع التفسير الروسي الخاص بتعويم بيان جنيف 1 (2012)، بحيث تم إفراغه من مضمونه، بخاصة تلك الفقرة المتعلقة بإيجاد هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، بل إنها قبلت ببقاء الأسد لمرحلة مقبلة، ثم قبلت التحولات التي فرضها دي مستورا، المبعوث الدولي إلى سوريا، بخصوص التركيز على “السلال “الأربع (الدستور والانتخابات والحكم ومكافحة الإرهاب). الرئيس ترامب كان من دعاة الخروج من سوريا، منذ البداية، والتي اختصرت في ما بعد إلى سلة واحدة هي لجنة صوغ الدستور، التي لم تتحقق كما تبين أخيرا، هذا فضلا عن تجاوبها مع مسار أستانة ثم مؤتمر سوتشي.
أما المسألة الثانية، التي يفترض التذكير بها، هي أن سياسة الولايات المتحدة قامت على أساس استراتيجية مفادها، الحفاظ على ديمومة هذا الصراع، من خلال، أولا: عدم السماح لأي طرف في الصراع السوري الانتصار على الطرف الآخر، لا النظام ولا بالمعارضة، وثانيا: استدراج الأطراف الأخرى، أو تشجيعها على الانخراط في هذا الصراع، وهذا يشمل إيران وروسيا وتركيا، لاستنزافها وإرهاقها ووضعها في مواجهة بعضها، من دون إتاحة المجال لأي طرف التمدد على حساب الطرف الآخر.
تبقى المسألة الثالثة، وهي المتعلقة بإدارة الصراع السوري وفقا لمتطلبات أمن إسرائيل، بحيث، كما شهدنا، تم تقويض أو فكفكة، بنى الدولة بل والمجتمع في سوريا، وسابقا في العراق، بل ووضع مكونات تلك المجتمعات في مواجهة بعضها، بحيث اختفى ما يسمى “الجبهة الشرقية”، التي تحمل تهديدا ولو مستقبليا، أو نظريا، ضد إسرائيل، ليس باختفاء الجيشين السوري والعراقي فحسب وإنما بحكم الخراب والتفكك والاستنزاف الذي تحقق في هذين البلدين نتيجة استمرار الصراع.
على ذلك يمكن القول إن القرار الذي أصدره ترامب ليس جديدا، وإنه يشكل استمرارا للسياسة التي انتهجها سلفه باراك أوباما، وهو يأتي ضمن الفكرة التي طرحها أوباما بشأن أن على العرب أن يتدبروا أمورهم بأنفسهم وأن عليهم هم أن يدفعوا الأثمان لتغيير أو لتحسين أوضاعهم، وليس انتظار الولايات المتحدة أن تفعل ذلك عنهم، وإن كان ترامب يختلف في كلماته، عن الرئيس السابق، بحكم الفارق الشخصي والثقافي بين الرئيسين المذكورين.
في غضون ذلك يفترض الانتباه إلى العديد من المسائل، ضمنها، أولا، أن قرار ترامب بالخروج من سوريا، أتى بعد إعطاء الكونغرس الإشارة لتمرير صفقة “الباتريوت” (3.5 بليون دولار) مع تركيا، وبعد الحديث الهاتفي بين الرئيسين الأميركي والتركي، ما يثير شبهة تلزيم أو توكيل تركيا بالدور الأميركي في سوريا، وهذا يحتمل وجهتي نظر، أولاها، أنه بات ثمة توافق أميركي ـ روسي على كيفية العمل في سوريا.
وثانيها، أن الولايات المتحدة في هذا الإجراء تتحدى أو تهدد تركيا بإخلائها الساحة لها بعد التجاذب الحاصل بشأن اعتزام تركيا الدخول إلى منطقة شرقي الفرات، وهو الأمر الذي ينسجم مع الاستراتيجية الأميركية بخصوص ترك القوى الخارجية للتصارع في ما بينها على الصراع السوري (روسيا وتركيا وإيران). ثانيا، أن خروج الولايات المتحدة من سوريا لا يعني الخروج من المنطقة، بل إنه لا يعني الخروج من سوريا حقا، إذ أن هذا الوجود لا يتحدد فقط بالمئات من الجنود، ولا بألف أو الفين، ذلك أن ثقل الولايات المتحدة السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري يظل قائما، كما يظل قائما بوجودها وثقلها على مختلف الأطراف بما فيها روسيا ذاتها. ثالثا، إن موقف ترامب لا يعني أن الولايات المتحدة تخلت عن موقفها السابق بخصوص إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة، فهذه المسألة ستظل على رأس السياسات الأميركية في الشرق الأوسط.
في كل الأحوال يفترض أن ننتظر مدى جدية الإدارة الأميركية على تنفيذ قرارها المذكور، وما إذا كان طرح لمجرد الابتزاز والتهديد والمناورة، سيما مع معرفتنا أن تركيا أرجأت قرارها بشن حملة عسكرية على شرقي الفرات.
العرب
الانسحاب الأمريكي والقلق الإيراني/ حسن فحص
للوهلة الأولى، من المفترض أن تكون طهران من أكثر الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية ارتياحا وترحيبا بقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب قواته العاملة على الأراضي السورية إلى جانب الفصائل الكردية، فالقرار يمنح طهران نقاطا ميدانية عسكرية وسياسية واستراتيجية، عملت جاهدة من أجل فرضها كأمر واق انطلاقا من مبدأ تثمير الجهد الذي وظفته في الأزمة السورية وقتال الجماعات المتشددة، وتلك المطالبة بتغيير النظام في دمشق. ومن المفترض أن يوفر لطهران عدة نقاط منها:
ربط الخط البري بين سوريا والعراق وبالتالي امتداداته وصولا إلى طهران شرقا وإلى لبنان جنوبا، وهو الخط الذي تعتبره استراتيجيا في مساعي تثبيت نفوذها ومشروعها في منطقة الشرق الأوسط.
يقطع الطريق على إمكانية اللجوء إلى معركة عسكرية مكلفة لاستعادة هذه المنطقة من القوات الكردية المدعومة من الإدارة الامريكية.
يلغي إمكانية حدوث أي تصادم عسكري مع القوات والقواعد الأمريكية المنتشرة على الشريط الحدودي مع العراق وتركيا، وقد اختبرت هذا النوع من الصدام، وتكبدت مع القوات الحليفة لها خسائر قاسية خلال السنوات الأربع الماضية.
يسحب الذرائع التركية لشن عملية عسكرية ضد الفصائل الكردية ومعركتها، لمنع إقامة كيان كردي على حدودها، وما يحمله من تداعيات مستقبلية على وحدة الأراضي التركية أمام المطالب الكردية.
يدفع بالأكراد الذين باتوا بعد القرار في العراء، ومن دون أي دعم، يدفعهم نحو التفاهم مع حكومة دمشق، والعودة إلى حضن النظام، وتفويت الفرصة امام القيادة التركية لفرض أمر واقع جديد في المعادلة السورية من خلال سياسة ملء الفراغ الأمريكي.
عدم دخول إيران في مواجهة مع تركيا، التي تحتاج لها في المرحلة الحالية لمواجهة التداعيات الإقليمية المتسارعة، في حال قامت تركيا بهجوم عسكري على مناطق شرق الفرات.
الحفاظ على ما تبقى لها من نفوذ داخل حزب العمال الكردستاني (ب كه كا) وبالتالي توظيف هذه العلاقة وهذا النفوذ من أجل ترتيب الأوضاع بين النظام السوري والأكراد.
إمكانية توظيف الوضع المستجد لدى الأكراد بغياب المظلة الأمريكية والدفع بهم لاستكمال عملياتهم العسكرية ضد بقايا تنظيم “داعش” بالتنسيق مع دمشق وحلفائها.
أمام كل هذه المعطيات التي يقدمها قرار ترامب بالانسحاب من سوريا، وما يمكن أن تحمله من أبعاد إيجابية لطهران، إلا أن الأوساط الإيرانية المعنية بهذه المستجدات تبدي كثيرا من القلق، خصوصا أنه يأتي بعد اعتقاد بأن الإدارة الأمريكية صرفت النظر عن هذه الخطوة، لتعود وتحدث مفاجأة بقرار الانسحاب خلال مئة يوم. ما دفع طهران لطرح عدة اسئلة حول هذه الخطوة:
*ما هي الدوافع وراء الانسحاب، في ظل تقديرات تحدثت عن إمكانية بقاء هذه القوات لمدة طويلة؟
*هل هو انسحاب لإعادة التموضع من أجل التحضير لمعركة جديدة تستهدف هذه المرة إيران مباشرة؟
*هل المطلوب إحداث تحول يعيد خلط المعادلات الأمنية وتوازنات القوة وبالتالي إرباك استراتيجيات اللاعبين المؤثرين في المنطقة؟ والمعادلات التي أفرزتها الأوضاع المتأزمة في المنطقة خصوصا في سوريا؟
خطوة ترامب المفاجئة، كما تصر طهران على وصفها، جاءت بعد يوم من الاعلان عن توصلها مع تركيا وروسيا ومشاركة ممثل الأمين العام للأمم المتحدة، لتشكيل اللجنة الخاصة لإعادة صياغة الدستور السوري الجديد. وحديث عن وجود نحو 15 ألفا من مقاتلي تنظيم “داعش” منتشرين في محيط دير الزور ومنطقة عمليات القوات الأمريكية، والتحضير لشن هجوم بالتعاون مع الفصائل الكردية الموالية لها ضد معاقل هذا التنظيم، وأنها تقوم بتدريب اكثر من 40 ألف مقاتل من القوى المحلية، وإمدادهم بمعدات وتجهيزات وأسلحة ثقيلة ونوعية. ما يعزز عدم قناعة إيران بما صرح به ترامب من أن قواته الحقت الهزيمة بـ”داعش” السبب الذي كان الدافع وراء دخول هذه القوات إلى سوريا، وبالتالي يدفعها للبحث عن دوافع غير معلنة من وراء الخطوة الأمريكية. وما يعزز شكوك إيران بالدوافع الأمريكية، أن هذه الإدارة سبق لها أن ربطت وجود قواتها في سوريا بالوجود الإيراني، وأن انسحابها يرتبط بالانسحاب والخروج الإيراني من هذا البلد، وهو ما ردت عليه إيران دائما بان وجودها في سوريا جاء بناء على طلب الحكومة الشرعية في هذا البلد، في حين أن الوجود الأمريكي هو وجود احتلالي لم يأت برغبة من حكومة دمشق. فضلا عن أنه كان يشكل عائقا امام الجهود الروسية والايرانية لنقل الازمة السورية من المستوى العسكري إلى مستوى الحل السياسي.
أهمية هذا الانسحاب وما يمكن أن يحمله من انعكاسات إيجابية على التطورات السياسية للأزمة السورية، إلا انه يحمل في طياته مصادر تهديد لإيران، التي وضعت عدة سيناريوهات لهذا القرار أهمها:
الأول: أن الانسحاب يأتي منسجما مع رغبة مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتن ووزير الخارجية مايك بومبيو، اللذين يعتقدان بضرورة تركيز الجهود الأمنية والعسكرية ضد إيران، وعليه فإن واشنطن عمدت إلى سحب قواتها من سوريا باتجاه دول الخليح لتكون على مقربة في حال حصل أي عمل عسكري ضد إيران، وما يعزز هذا السيناريو الحشود العسكرية الأمريكية (البحرية) في مياه الخليج، إضافة للاعتقاد الأمريكي بإمكانية انسحاب إيران من الاتفاق النووي، وهذا يعني استئناف النشاط النووي، ما يعطي للطرف الأمريكي إمكانية القيام بعملية استباقية ضد المنشآت النووية الايرانية. وبالتالي يضع المنطقة أمام حرب مفتوحة تصب في إطار الهدف الأمريكي لتغيير النظام الإيراني.
الثاني: أن يكون الانسحاب قد جاء بناء على تفاهم مع روسيا وتركيا وهدفه اخراج إيران من سوريا، ما يعني أن الجانب الروسي سيعمد إلى ممارسة ضغوط كبيرة على إيران، لإجبارها على الانسحاب في حين أن هذا الوجود لا يختلف عن الوجود الروسي، لجهة انه جاء بناء على طلب من دمشق.
الثالث: أن يكون الانسحاب بمثابة “دية” لمقتل جمال خاشقجي، خصوصا أن القرار يعني سحب الدعم عن الأكراد السوريين وتركهم في العراء، وبالتالي هو تقديم هدية لتركيا لتخفيف الضغط عن السعودية وجاريد كوشنر صهر ترامب.
الرابع: أن يكون الهدف هو إفساح المجال أمام إسرائيل لتوجيه ضربات للقوات الايرانية في سوريا وحزب الله في لبنان، وبالتالي إبعاد قواتها عن أن تكون هدفا إيرانيا أو لبنانيا للرد على أي اعتداء إسرائيلي.
الخامس: أن يكون الهدف هو سحب جزء من القوات الأمريكية من سوريا، وبالتالي فتح المجال أمام تركيا للقيام بعملية عسكرية في شمال سوريا ضد الأكراد، ومن ثم الدخول في صفقة مع بشار الاسد. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة زيارة الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق، ويكون الانسحاب إشارة إيجابية عن استعداد واشنطن للتفاوض مع دمشق والحفاظ على وحدة الأراضي السورية، بعد أن استطاعت التأثير السلبي على كل المساعي لإطلاق مسار الحل السياسي من قبل الأطراف الآخرين.
السادس: أن يكون الإعلان الأمريكي عن الانسحاب هو رفع وتيرة الأعمال العسكرية التركية في شمال سوريا، ما قد يؤدي إلى خلق فجوة في العلاقة بين تركيا وإيران وروسيا، ما يساهم في عودة التوتر بين هذه العواصم التي قد تؤدي إلى إفشال مسار آستانة للحل السياسي وتشكيل لجنة صياغة الدستور.
طهران التي تضع أمامها كل هذه السيناريوهات في قراءة القرار الأمريكي تعتقد بأن إصرار بعض الأطراف الإقليمية على دفع المنطقة لمزيد من التوتر والمواجهات، لن تكون نتيجته سوى غرق الجميع في مستنقع لن يكتفي بابتلاع طرف واحد، بل سيبتلع الآخرين أيضا، وبالتالي لن تكون النتائج لصالح أي من الاطراف. وعليه فهل ستكون المنطقة والعالم في السنة المقبلة أمام مخاطر كثيرة قد تؤدي إلى ضرب وتفكيك النظام الحاكم للعلاقات الدولية، كما توقع ايغور ايفانوف رئيس مجلس العلاقات الدولية الروسي، ووزير الخارجية الأسبق، في ظل عدم وجود نظام بديل، وان الولايات المتحدة الامريكية ستكون هي مصدر الازمات الاكبر دوليا، كما كانت عام 2018 عندما لم تحترم الأصول التي تحكم النظام العالمي، ولم تراع حتى بالحد الادنى الحقوق الدولية والبنى المتعددة في النظام الدولي.
*كاتب لبناني
القدس العربي
إذا خرجت أمريكا من شرق سوريا فلماذا تبقى تركيا في شمالها وغربها؟/ عصام نعمان
قرر دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من كل الاراضي السورية. برّر قراره بأن الولايات المتحدة “لا تريد أن تكون شرطي الشرق الاوسط”. قادة سياسيون وعسكريون كثر فوجئوا بقرار الرئيس الأمريكي وجهروا بانتقاده. قيل إن أركان الدولة العميقة ـ أي وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية وكبار قادة الكونغرس ـ عارضوا القرار المثير للجدل، وحذروا من مخاطره. وزير الدفاع الجنرال جيمس ماتيس لم يتأخر في تقديم استقالته.
قادة كبار في دول أوروبا الأطلسية انتقدوا قرار ترامب الانسحاب المبكر. بعضهم كذّب زعم الرئيس الامريكي بإنهائه وجود “داعش” في سوريا. بعضهم الآخر تعهد بالمواظبة على دعم “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية ضد “الدواعش” حتى بعد انسحاب القوات الامريكية. موسكو طالبت واشنطن بمزيد من المعلومات حول توقيت انسحاب قواتها، وإن لم تكتم ترحيبها بالخطوة. أنقرة اغتبطت، لكن رجب طيب أردوغان أعلن تريثه في تنفيذ هجومه الموعود على القوات الكردية “الإرهابية” شرق الفرات.
أكبر الخاسرين، بطبيعة الحال، التنظيمات الكردية المتحالفة مع حزب العمال الكردستاني التركي، والمتعاونة مع الولايات المتحدة. هؤلاء اعتبروا قرار الانسحاب “طعنة في الظهر”. مثلهم شعر عدد من القادة الصهاينة. دمشق (ومعها طهران) اغتبطت بالتأكيد. فهي تعتبر وجود القوات الأمريكية في اراضيها غير شرعي وغير مقبول ومستوجباً الطرد، لكنها لم تبدِ ارتياحاً ظاهراً، بانتظار معرفة ما تنتويه أنقرة الضالعة في نشر قوات احتلال في غرب سوريا (عفرين) وفي جرابلس (شمال حلب)، ولم تتوانَ عن تقديم دعم عسكري لتنظيمات ارهابية موالية لها في محافظة إدلب. ما دافع ترامب إلى اتخاذ قرار الانسحاب؟
تعددت التخمينات، قيل إنه يريد حقن دماء الجنود الامريكيين المهددين من جهات عدة. قيل إنه استعظم التكلفة الهائلة، البشرية والمالية والسياسية، لحروب أمريكا دفاعاً عن حلفائها، اغربُ التفسيرات ادعاءٌ بأن ثمة اتفاقاً تحت الطاولة بين واشنطن وموسكو، يقضي بإعطاء روسيا ما تريد في سوريا والعراق، لقاء إقامة تحالف ضمني بين روسيا وأمريكا لمواجهة الصين!
ايّاً ما كان الدافع إلى الانسحاب، ظاهراً أو ضمناً، فإن ثمة سؤالاً مفتاحياً ينهض: أليس من الضروري، في غمرة الأزمة المتعاظمة التي تعصف بترامب داخل بلاده، وانحسار ثقة حلفائه به في الخارج، ولاسيما في اوروبا و”اسرائيل”، اغتنام الفرصة الناجمة عن اختلال موازين القوى نتيجةَ الانسحاب الأمريكي المرتقب، بمبادرة سوريا، مدعومةً من روسيا وإيران، بمطالبة تركيا بتنفيذ تعهداتها في أستانة وسوتشي القاضية بإنهاء سيطرة التنظيمات الإرهابية في محافظة إدلب بلا إبطاء، حتى إذا رفضت أو تلكأت قام الجيش السوري بمباشرة عمليات عسكرية مكثّفة لتحريرها من التنظيمات الإرهابية التي مازالت ناشطة هناك؟
أردوغان صرّح مؤخراً بأنه مستعد للتعاون مع روسيا وإيران، من أجل توطيد الاستقرار في سوريا. وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو، أكد حرص تركيا على وحدة سوريا. حسناً، أليس إنهاء سيطرة التنظيمات الإرهابية في إدلب وفي شرق الفرات شرطاً ومدخلاً إلى استعادة وحدة سوريا وتوطيد استقرارها؟ هل تراه يعتقد أردوغان وجاويش أوغلو أن وحدة سوريا وتوطيد استقرارها يكونان بحلول القوات التركية محل القوات الامريكية المتمركـزة في شرق الفرات، وفي قاعدة التنف على الحدود السورية ـ العراقية، وبحلولها محل القوات الكردية المتعاونة مع أمريكا في شمال سوريا الشرقي، وبسيطرة تنظيمات في محافظة إدلب برعاية تركيا أو، على الأقل، برضاها؟ أليس الانسحاب من سوريا والتفاهم معها هو الخيار الأفضل والأجدى لمعالجة المسألة الكردية في كل من البلدين؟
صحيح أن الحوار الهادئ والجدّي بين روسيا وإيران وتركيا هو الوسيلة الفضلى لتصفية ذيول الحرب في سوريا وعليها، كما لمعالجة تداعيات خروج أمريكا المرتقب منها، غير أن ذلك لا يتناقض البتة مع ضرورة التحسّب لإمكانية تمسّك تركيا بمطامعها الجيوسياسية كما مع وجوب تهيّؤ اطراف محور المقاومة، مجتمعين، لمواجهة مطامع تركيا بلا إبطاء على نحوٍ يكفل استعادة سوريا وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني.
دقّت ساعة العمل الجدّي.
كاتب لبناني
القدس العربي
في أسباب الانسحاب الأميركي من سورية/ حسين عبد العزيز
لا يستطيع هذا المقال تقديم إجابة واضحة ومكتملة عن الأسباب العميقة وراء قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوة الأميركية من سورية، لكن معطيات سابقة وحالية يمكن البناء عليها من أجل فهم دوافع القرار.
وفق إحدى المقاربات التي يمكن الاعتماد عليها جزئيا أن سورية لم تكن ولن تكون في أي يوم جزءا من الفلك الأميركي، أي جزءا من دائرة المصالح الأميركية العليا. ويدرك صناع القرار في واشنطن هذه جيدا، وهي السبب الذي جعل واشنطن، خلال عمر الأزمة السورية، لم تذهب بعيدا في القضاء على النظام واستبداله بقوى أخرى، ولم تجنح كثيرا إلى إيجاد حلول خلاقة للأزمة، بقدر ما اقتصر الدور الأميركي على التعطيل أكثر منه على الفعل، فهي التي عطلت سابقا حصول فصائل المعارضة على السلاح الثقيل، وعطلت أدوار بعض الدول العربية في الملف السوري، وعطلت اندفاعة الدول الداعمة للمعارضة على المستوى السياسي. وفي المقابل، هي التي عطلت حرية التحرك الإيراني في الشرق السوري، وهي التي عطلت الاندفاعة الروسية نحو إنتاج حل سياسي يستقيم مع رؤية النظام، وهي التي عطلت الاندفاعة التركية في شرق الفرات.
انسحاب 2500 جندي أميركي قد لا يعني أي شيء على الصعيد العسكري، فالحضور العسكري الأميركي لا يُختزل بعديد القوات في سورية، وإنما بالقوة العسكرية الأميركية المطلقة القادرة على التحرّك من أي مكان، بشرط أن لا يكون الانسحاب جزءا من انسحابٍ على المستوى الاستراتيجي.
من غير الواضح بعد ما إذا كان سحب القوات الأميركية من سورية يعني انسحابا على المستوى الاستراتيجي من مجمل الساحة السورية، بما فيها السياسية، وأغلب الظن أن الولايات المتحدة ليست بصدد الانسحاب الاستراتيجي من سورية، بقدر ما هي إعادة تموضع، واعتماد أساليب جديدة تفرضها المرحلة المقبلة.
لقد وصلت الأمور في سورية إلى مرحلة انفجار الصراع بين المحور الروسي والولايات المتحدة، على عكس ما يبدو في الظاهر من حالة ستاتيكو (ثبات) تخيّم على كامل المشهد. فمن جهة تبدو المعطيات أن دمشق وموسكو عازمتان، العام المقبل، على إرباك الوضع في الشرق والشمال الشرقي من سورية، في وقتٍ لا يبدو أن الأتراك على استعدادٍ للتخلي عن مهاجمة الوحدات الكردية في عمق الأراضي السورية شرق الفرات.
لا يعني ذلك هروبا أميركيا بالمعنى الحرفي، وإنما إعادة تموضع وعدم الانخراط في التفاصيل العسكرية الجزئية المباشرة. والمقاربة الأميركية يمكن أن تكون كالتالي: تقليص الانخراط الأميركي المباشر في الصراعات الإقليمية، عبر البحث عن شركاء محليين وإقليميين ودوليين، يخففون من الحضور الأميركي، مع الحفاظ على المصالح العليا لواشنطن.
ربما تكون هي محاولة لإجراء فصل بين الأهداف السياسية العامة عن الأهداف العسكرية المباشرة والسريعة، بمعنى أن عملية محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحدها التي تجمع بين الأهداف السياسية والعسكرية للولايات المتحدة. وفيما يتعلق بإيران، ودعم الوحدات الكردية، والتسوية السياسية، فهي أهداف عامة لواشنطن طويلة الأمد وغير مرتبطة بالأهداف العسكرية.
إضافة إلى ذلك كله، لن يعود الوضع في سورية القهقرى، إلى الوراء، بسبب الوجود العسكري الروسي، وهذا هو السبب في اختلاف الواقع السوري عن الواقع العراقي، فالولايات المتحدة لا تستطيع سحب قواتها كاملة من العراق، حيث لا بديل عنها.
بعبارة أخرى، ستكون روسيا الضامن الوحيد للحفاظ على الوضع الراهن في سورية، وهي التي ربما (وهذه إحدى مفارقات السياسة) منوط بها إعادة ترتيب المشهد بما لا يضر بالمصالح الأميركية. ولا يُستبعد أن تكون روسيا ضامنا للمصالح الأميركية المتبقية في سورية، في مقابل ضمان الولايات المتحدة المصالح الروسية في العراق. وربما من المهم الإشارة هنا إلى أن القوات الأميركية المنسحبة من سورية ستنتشر في العراق، في وقت تعيد واشنطن تموضع قواتها على الحدود العراقية السورية. كما من المهم التأكيد على نقطة أخرى، هي أن الولايات المتحدة لم تنسحب من التحالف الدولي.
يشير ذلك كله، وفق هذه القراءة غير المكتملة، إلى أن الولايات المتحدة ليست بصدد الانسحاب كاملا من المشهد السوري، بقدر ما هي محاولة لموضعة أهدافها المتغيرة. والمشكلة الآن في عدم قدرة فرقاء الصراع على تحديد هوية المصالح الأميركية، وربما هذا هو السبب في تريث القوى المحلية والإقليمية والدولية في اتخاذ قراراتٍ سريعة. فالرئيس التركي أرجأ العملية العسكرية إلى حين، والنظام بدأ خطوات خجولةً بتعزيز قواته في البوكمال، وإرسال قوات قليلة إلى بلدتي حربل وأم حوش الخاضعتين لسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” في ريف حلب الشمالي، من دون وجود معطياتٍ بشن عمليات عسكرية حاليا، فيما تنتظر روسيا انجلاء الصورة بالكامل، أما الوحدات الكردية فتعيش حالة تخبّط كبيرة، وغير قادرة على لملمة شتاتها.
في كل الأحوال، سيؤدي هذا الانسحاب إلى تغيير في خريطة المصالح داخل سورية. لا يتعلق الأمر هنا، كما سبقت الإشارة، بنوعية الانسحاب، وإنما بمبدأ الانسحاب الذي سيدفع مختلف القوى إلى إعادة ترتيب مصالحها واصطفافاتها.
العربي الجديد
توسيع أدوار تركيا سورياً: طلاق محتمل مع روسيا وإيران/ جابر عمر
تفتح الإعلانات التي تلت الاتصال الهاتفي الذي جمع بين الرئيسين الأميركي والتركي، دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان، مساء الأحد، مجالاً واسعاً لتقديرات تفيد بأن تحميل تركيا في سورية أدواراً كبيرة تتجاوز ما كان متفقاً عليه في إطار مسار آستانة، ربما يؤدي إلى اشتباك سياسي بالحد الأدنى، وعسكري بالحد الأقصى، مع شريكيها في الملف السوري، إيران وروسيا، بعدما اتفقت أنقرة وموسكو وطهران على تعايش سلس في سورية نتيجة السلوك الأميركي إزاء تركيا خصوصاً. وتكليف تركيا بمهمة “منع حصول فراغ”، بحسب ما أعلن من قبل الأوساط الأميركية والتركية بعد اتصال ترامب ــ أردوغان، هو حمال أوجه وقد يفهم منه بشكل رئيسي قطع طريق ملء إيران للفراغ الأميركي المقبل، وهو ربما يرجح الافتراق الحقيقي بين البلدين الجارين. والأوضح من ذلك ربما، هي عبارة تكليف تركيا بمهمة القضاء على ما تبقى من أوكار تنظيم “داعش”، مع أن المناطق المقصودة لهذه “الأوكار” تقع بعيداً جداً عن مناطق النفوذ التركية في سورية، تحديداً في أقصى شرق سورية، قرب الحدود مع العراق، على بعد مئات الكيلومترات من الحدود التركية مع سورية. وهذه “الأوكار” تقع بالقرب من مناطق انتشار قوات إيرانية وروسية ومليشيات تدور في فلك طهران، مثل حزب الله اللبناني. فأن يتفق ترامب وأردوغان، في الاتصال الهاتفي إياه يوم الأحد، على تولي أنقرة مهمة “إكمال المعركة” ضد داعش في هذه المناطق، فإنما ذلك ربما يوحي بتعظيم دور تركيا في سورية على حساب الطرفين الآخرين في مسار آستانة، وهو ما قد لا يمر بسهولة بالنسبة لحكام موسكو وطهران.
ومنذ نحو 6 أشهر تقريباً، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا في أسوأ أيامها، على خلفية سجن أنقرة للقس الأميركي أندرو برانسون، وفشل الإفراج عنه، وما استتبعه من عقوبات أميركية قاسية، دفعت إلى تدهور الليرة التركية بشكل ملحوظ. لاحقاً اتفق البلدان، وأُطلق سراح برانسون، قبل أن تشهد العلاقات المشتركة تطوراً ملحوظاً. هذا التطور برز مع الإعلان الأميركي المفاجئ عن الانسحاب من سورية، والتنسيق مع تركيا من أجل ملء الفراغ، وترك مسألة القضاء على “داعش” بعهدة أنقرة، في وقت أعلنت فيه تركيا استعدادها للعملية العسكرية في شرق الفرات.
وخلال الاتصال بين أردوغان وترامب، مساء الأحد، جرى التأكيد على التنسيق لعدم “حصول فراغ” نتيجة الانسحاب الأميركي. ووُصف الاتصال من قبل ترامب بأنه “بنّاء”، في وقت يعيش فيه العالم صدمة القرار الأميركي بالانسحاب من جهة، ومحاولة اللاعبين الآخرين على الساحة، أي إيران وروسيا، العمل على خطط أخرى للسيطرة على مزيد من المساحات الجغرافية.
واعتبرت مصادر تركية كانت تراقب الخطوة الأميركية، أن “الدافع الأميركي الأبرز وراء هذه الخطوة، هو تجنّب المواجهة مع الجانب التركي، عقب عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، والتهديد الحالي بعمل عسكري في شرق الفرات. وعلى الرغم من أن أي عملية عسكرية تستغرق ربما أشهراً للبدء بها نتيجة التحضيرات، إلا أن أنقرة أتمت استعداداتها الاستخبارية وجمع الأخبار اللازمة عنها ووضعت خططها”.
وأوضحت المصادر لـ”العربي الجديد”، أن “السياسات الأميركية السابقة ساهمت بابتعاد الحليف التركي باتجاه روسيا، وفشل جميع محاولات ردعه، لأن تركيا اليوم مختلفة عن تركيا قبل عقد من الآن، خصوصاً بعد النجاح في عملية عفرين (مطلع العام الحالي)، في مقابل تركة أميركية ثقيلة في عمليات القضاء على داعش بتدمير مدن كاملة، فضلاً عن رغبة ترامب السابقة بالانسحاب من سورية”.
من جهته، ذكر مصدر تركي مطلع لـ”العربي الجديد”، أن “أميركا عهدت لتركيا تمثيل الموقف الأميركي في شرق الفرات. وباسم المجموعة الغربية، سمحت أميركا لتركيا بتقوية مواقفها الميدانية في مواجهة الدب الروسي، تحديداً في الملفات المتعلقة باللجنة الدستورية وإعادة الإعمار”.
وأضاف المصدر أن “زيادة الوجود التركي في الميدان تساهم في وضع أفضل على التفاوض مع روسيا من جهة، وتبعدها عنها من جهة أخرى، مع احتمال حصول مواجهة بينهما، فإن تعزز الموقف التركي، فإنه على الأقل طرف مضمون في موضوع إعادة الإعمار، وهو ما بدا في مناطق عملياتها السابقة”، كما أنه في حال نجحت تركيا بالفعل في القضاء على ما تبقى من “داعش”، ومواجهة طهران وموسكو في موضوع اللجنة الدستورية والحل السياسي، فإن المرحلة المقبلة ستكون مرحلة دخول خطط إعادة الإعمار حيز التنفيذ، بحسب ما يفهم من أجواء مسؤولين أتراك فضلوا إبقاء هوياتهم غير معلنة نظراً لحساسية الملف.
مصدر مطلع آخر، ربط أيضاً الموقف الأميركي بعدم حاجته للمواجهة مع تركيا، وكسبها كحليف، ولكنه أكد أن “الثمن حتى الآن غير معلوم ولكنه كبير جداً، ويتجاوز حدود الصفقة مثلاً حول مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وإغلاق ملف اتهام القيادة السعودية”.
وحول مآلات الوضع الميداني، ذكرت المصادر التركية لـ”العربي الجديد”، أن “تركيا تواصل استعداداتها للعملية العسكرية في شرق الفرات من تل أبيض إلى منبج وربما إلى عين العرب والقامشلي كما هو مخطط لها، وفي الوقت نفسه تنتظر خطوات تطبيقية لمعرفة آليات انسحاب الجيش الأميركي، وهل ستكون استلاماً وتسليماً لبعض المواقع، أم أنها ستكون عبارة عن عملية عسكرية ومواجهة شاملة، في ظل مخاطر من قبل وحدات حماية الشعب الكردية، بتسليم مواقع للنظام من أجل التفرغ لمواجهة القوات التركية؟”.
ترمب بين «الخطأ الفادح» و«القرار الصائب»/ عبد الوهاب بدرخان
أدخل الرئيس دونالد ترمب الولايات المتحدة عصرالانقلابات الاستراتيجية عبر «تويتر»، كان يُقال إن قرارات مهمّة يمكن أن تُلغى بـ«جرة قلم»، وأصبح يُقال الآن بـ«تغريدة».
في رسم كاريكاتيري متداول، ينقل القائد الأمر إلى عسكرييه كما بلغه: «لقد غُرِّد بنا إلى خارج سوريا»، وانشغل بعض الإعلام بالأخطاء الإملائية التي تضمنتها تغريدات ترمب، واستنتج أنه كتبها بنفسه، ولم يستعِن بمساعده المختص.
أراد أن يخرج قرار الانسحاب من سوريا مباشرة منه إلى العالم، قبل أن تبدأ الدوائر المعنية وضع الترتيبات المعتادة لإصداره، تضاربت المعلومات حول ما سبق!
فقيل إنه تشاور لمرة أخيرة مع وزيرَي الدفاع والخارجية، وقيل أيضاً إنه لم يشاورهما لأنه يعرف موقفهما غير المحبذ، لذا اكتفى بإبلاغهما أن قراره المتخذ قبل 9 شهور أصبح لتوّه نهائياً.
هل ضاق الفارق إذاً بين دولة المؤسسات ودولة الحاكم الفرد؟
مع ترمب كل شيء ممكن، كان المرشّح تعهد بهذا الانسحاب ويريد أن يفي بوعده، وإذ يُواجَه بأنه انتقد سلفه باراك أوباما على انسحابه من العراق، فربما يرد بأنه لم يطلب بعد سحب قواته من العراق، لكنه قد يفعل!
لأن المنطق هو ذاته: أميركا تتحمل تكاليف لا يرى أية فائدة منها، فتنظيم «الدولة» ضعف وهُزم بل احتُفل بالنصر في بغداد، ومع أن العراق دولة نفطية إلا أن خزينتها متواضعة، ولا مجالات كثيرة لـ«البزنس» معها.
وبالعودة إلى سوريا، فإن ترمب كان يسأل أعوانه ومستشاريه: «ماذا نفعل هناك»؟
ولم تقنعه الإجابات، فكل ما سمعه عن حقول النفط والغاز والمساحات الزراعية في دير الزور والرقّة لم يساوِ عنده سوى مليارات قليلة، لا تبرّر استثماراً عسكرياً باهظاً تبذله أميركا ولا يخلو من المخاطر، ثم إن الهدف الاستراتيجي منه ليس واضحاً بالنسبة إليه.
فجأة صارت الأهداف الثلاثة المحددة غير ذات قيمة:
– أولها هزيمة تنظيم «الدولة»، فاعتبر أن أميركا أنجزت ما عليها في هذا المجال، وإذا كان التنظيم يتحفّز لمعاودة الظهور، فليتولَّ أمره من يرغب من الآخرين.
– ثانيها حماية أمن إسرائيل، فتذكّر أنها كذبة تقليدية تُستخدم فقط لأغراض «البروباغندا» الإقليمية.
– ثالثها تقليص النفوذ الإيراني في سوريا، فرأى أن العقوبات التي فرضها على إيران تفي بالمطلوب، أما الوجود العسكري فيستدرج مواجهات لا يريد توريط أميركا فيها.
وأضيف لذلك أخيراً إعلان الرئيس التركي تصميم تركيا على «تطهير» شمال شرقي سوريا من الإرهابيين، وبدا كأن ترمب وجد في نبرة أردوغان العالية ذريعة أخرى للانسحاب، وحين كان يقال له إن الوجود الأميركي على الأرض يساهم في تصويب التسوية السياسية للأزمة السورية، فلا شك أن هذا آخر ما يهمّ ترمب.
الانسحاب الأميركي يدفع بالوضع السوري إلى احتمالات عدّة، إذ اعتبر خصوم ترمب في واشنطن خطوته «خطأً فادحاً»، فيما رحّب الرئيس الروسي بها كـ«قرار صائب».
وإذا قُرئت مع قرار الانسحاب من أفغانستان فإنها تفضي إلى خروج أميركي من «الشرق الأوسط الكبير»، للتركيز على شرق آسيا والمحيط الهادي، ويمكن عندئذ وضع احتواء إيران في هذا الإطار الأوسع.
وربما لم يخطئ الذين رأوا في الانسحاب «هدايا» لروسيا وإيران وتركيا والنظام السوري وإسرائيل، لكن الهدايا في السياسة الدولية عادة أو غالباً ما تكون مسمومة.
العرب القطرية
في الانسحاب ومشتقاته!/ علي نون
الخلاصة حادّة لكنها خادعة! ولا تخفّف من حدّتها التفسيرات المتطايرة في كل اتجاه للخطوة الأميركية وأبعادها وتداعياتها على الأكراد خصوصاً وعموم المثلث العراقي – السوري – اللبناني الموصوف في الأجندة التصديرية الإيرانية بأنه لبّ الهلال المشتهى الممتد من بحر قزوين إلى شواطئ البحر المتوسط!
لكن برغم الاحتفالات الممانعة (الخفرة هذه المرة في واقع الحال!) فإن أمر الانسحاب الأميركي “يتزامن” مع تسجيل تراجعات إيرانية مُعتبرة لم تكن واردة قبل فترة وجيزة، أتعلق ذلك بالاتفاق اليمني في السويد الذي قضى بإخراج الحوثيين من الحديدة والموانئ الرئيسية المطلّة على البحر الأحمر، أم بالتخلّي عن شرط توزير رمز “الحشد الشعبي”، الإيراني الرعاية، فالح الفيّاض في الداخلية العراقية. أم بإعطاء “الإذن” في بيروت لإقفال صفحة ما يُسمّى توزير النواب الستّة وما سُمِّي “اللقاء التشاوري”.. أم بالاستمرار في مقاربة القرار 1701 باعتباره عنواناً تهدوياً سلمياً يُناقض لعلعة الصوت باتجاه الصهاينة والسعي إلى اختراقهم وتفطيسهم! ويثبت معادلة ربط الجبهتين الجنوبية اللبنانية والجولانية السورية بحبل جليدي وليس العكس. مثلما يثبت المنطق القائل بأن الاستجابة للمطلب الإسرائيلي بابتعاد إيران وأدواتها عن حدود الجولان إلى حدود حمص لا يمكن له إلاّ أن يُستتبع تلقائياً وعفوياً في الجانب اللبناني وإن بطريقة أخرى عمادها ترسيخ الستاتيكو القائم وليس نسفه!
وهذه (مجدداً) إشارات ودلالات على إنكفاء إيراني واضح برغم الدربكة الإعلامية “الانتصارية” المألوفة.. لكن في مقابل ذلك هناك مَن يعطي الأمر برمّته أبعاداً روسية أكثر من أبعاده الإيرانية الصرفة.. بحيث أن حديثاً معقّداً يدور عن “صفقة” تبادل أراضٍ ونفوذ تطال سوريا والعراق أساساً، وقوامها تثبيت الحضور الروسي في الأولى والحضور الأميركي في الثانية.. وأن إيران في المكانين واحدة من أبرز ضحايا هذا التقاطع الدولي الكبير، وأن انكفاءها فيهما وفي محطات انتشارها ونفوذها الأخرى، أي اليمن ولبنان، يتم تحت وطأة العقوبات والجدّية الأميركية في متابعتها ثم تعبيراً عن التيقّن من أن موسكو في مكان آخر تماماً تتلاقى فيه مع واشنطن على ضرب الإرهاب الداعشي مرحلياً.. وعلى “معالجة” الحالة الإسلاموية التي بدأت مع “الثورة” الإيرانية قبل أربعة عقود، استراتيجياً!
تثبيت “الحضور” الروسي في سوريا يعني في مكان ما تسهيل الحضور التركي من الزاوية التي تهمّ أنقرة وتتعلق بالهمّ الكردي. ويعني في مكان آخر زيادة طمأنة إسرائيل إلى حفظ “أمنها” على الجبهة الشمالية (اللبنانية – السورية).. ويعني التطنيش (أميركياً) عن الانقلاب على اتفاق سوتشي الخاص بقصّة اللجنة الدستورية وعلى حساب المعارضة السورية (كل المعارضة!).. ثم يعني مقاربة النفوذ الإيراني وفق سياقات تقليصية، وليست تصاعدية. وبانصياع من طهران وليس بمكابرة يمكن أن تكون انتحارية وغير مألوفة في كل حال، في أداء الإيرانيين الذين يعرفون التمييز بين الجدّ والهزل! ويعرفون راهناً أن “القرار” المتّخذ في شأن “إعادتهم” إلى حدودهم غير مسبوق في جدّيته! ولا يحتاج إلى قاعدة في التنف أو في غيرها لتنفيذه! ولا تنفع في محاولة مواجهته الأساليب التي اتبعت سابقاً من خلال “المقاومة” في العراق والتمدّد عبر “الحرس الثوري” وملحقاته في سوريا و”حزب الله” في لبنان وصولاً إلى بني حوث في اليمن! وما تفرّع عن تلك السياقات إرهاباً وتخريباً ومحاولات ميدانية في الخليج العربي وغيره من جنوب شرق آسيا إلى أميركا اللاتينية!
تتابع إدارة ترامب حربها الذكية على إيران وفق معادلة “صفر أكلاف” عليها.. وانسحابها الميداني من المشهد السوري يدخل في ذلك السياق ولا يكسره! خصوصاً وأن الجميع يعرف بأن الألفي جندي أميركي المطلوب سحبهم من شرق سوريا ليسوا هم “حرّاس” وزن وثقل وتأثير الدولة الأقوى في العالم (وفي التاريخ!) ولا تعني “إعادتهم” إلى بلادهم نكوصاً عن القرار الاستراتيجي في شأن إيران.. بل الحاصل (إذا صحّ حديث الصفقة أو لم يصحّ) هو أن واشنطن تذهب من شرق سوريا وفي مخيالها الذهاب إلى شرق العراق! واستعادة بلاد الرافدين من سطوة النفوذ الإيراني شبه الاحادي! ووفق سياق أعلى هو “إستعادة” إيران نفسها من “غيبة” طالت على مدى أربعة عقود!
.. بهذا المعنى يمكن أن يُقبل الكلام القائل بأن الكل منهزم في هذه المحن الفظيعة وأول المهزومين هي إيران التي كلّف جموحها “الثوري” المنطقة وشعوبها الويلات والكوارث والفظاعات! وبدلاً من “تحريرها” من “الغزاة الصهاينة” في رقعة واحدة، تمزقت وتتمزق رُقعاً وقطعاً منكوبة ومبتلية ومسلوبة القرار والإرادة من قِبَل “غزاة” متعددي الجنسيات والأوصاف والأجندات!
صالات أفراح الممانعة تصدح على الطالع والنازل، لكن على ماذا تدور الأناشيد الانتصارية هذه المرة؟! على تحرير القدس وإعادة النازحين واللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم؟! أم على توحيد سوريا وإعادة الملايين من أهلها إليها؟! أم على انتهاء “النفوذ” الأجنبي في دنيا العرب والمسلمين؟! أم على فوائض الرفاه والتنمية والعلوم والثروات في إيران نفسها؟! أم على ماذا يا فطاحل الانتصارات و”ممانعات” آخر زمن؟!
المستقبل
كيف يؤثر الانسحاب الأميركي على الخريطة السورية؟/ فراس العرودكي
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب انسحاب القوات الأمريكية المتواجدة على الأراضي السورية بشكل مفاجئ، حيث أعلن انتصار التحالف الدولي على داعش وانهاء الوجود الأمريكي هناك. هذا القرار كان صادماً لعدة جهات أبرزها قوات سورية الديمقراطية حيث الميليشيات الكردية الانفصالية تشكل غالبيتها. كما أن هذا القرار لقي صدى شبه موحد من حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الذين رفضوا القرار ودعوا ترامب لمراجعته لما له من تبعات سلبية سواء في محاربة داعش أو مهاجمة تركيا للأكراد في شرق الفرات حيث تقوم بتحضير عمليتها.
أما في الداخل الأمريكي، فقد كان هناك شبه إجماع بين الديمقراطيين والجمهوريين في مجلس الشيوخ على رفض القرار لأسباب مختلفة. هذا الرفض تمثل برسالة قادها عضو مجلس الشيوخ الأمريكي السيناتور ليندسي غراهام – المعروف بتأييده لأغلب مواقف ترامب – يدعو فيه الرئيس الأمريكي لإعادة النظر بالقرار والإبقاء على القوات الأمريكية. الرسالة عبرت عن قلق كاتبيها من استغلال إيران للموقف والسماح لهم بالسيطرة على مناطق قوات سوريا الديمقراطية.
كما أن الرسالة تخوفت من عودة داعش المكسورة والغير مهزومة لاحتلال أراض من جديد وبالتالي تكون فد ضاعت جهود الولايات المتحدة في محاربة داعش. وأوضحت الرسالة أن شركاء الولايات المتحدة لن يثقوا بها إذا استمرت في نهج “الشراكة ومن ثم الانسحاب”. أما روسيا، فرحبت بالقرار حيث دعت منذ دخول القوات الأمريكية للخروج من سورية باعتبارها قوات غير شرعية.
الانسحاب الأمريكي قد يشكل كارثة على الثورة السورية إن تم ترك شرق الفرات لنظام الأسد والإيرانيين. فالأتراك لن يحاولوا دعم الجيش الوطني السوري في مواجهة نظام الأسد والميليشيات الإيرانية
السؤال الذي يتبادر للذهن هو لماذا قرر ترامب سحب القوات الأمريكية في هذا التوقيت؟ الرئيس الأمريكي كان قد وعد ناخبيه في حملته الانتخابية بإعادة الجنود إلى ديارهم بعد القضاء على داعش في سورية والعراق وحرص على تنفيذ وعوده الداخلية والخارجية الواحدة تلو الأخرى في محاولة لكسب الجمهور الأمريكي لإعادة انتخابه. في صيف هذه السنة، أعلن ترامب أنه يريد أن يعيد هذه القوات ولكن فريقه الأمني تدخل بشكل مباشر لحثه على عدم القيام بذلك لأن داعش لم تنته بعد ولعبوا على وتر وجود قوات وميليشيات إيرانية في سورية.
منذ ذلك الوقت سارع الدبلوماسيون والسياسيون الأمريكيون لوضع استراتيجية تجاه سورية أولا لثني ترامب عن سحب القوات وثانيا لكسب ثقة الحلفاء الأوروبيين وفي الشرق الأوسط وكذلك الشركاء في الداخل السوري. تم تعيين جيمس جيفري ليكون مسؤولا عن الملف السوري وقام بجهد كبير للترويج لتلك السياسة الجديدة. على الرغم من أن السياسة لا تتحدث عن الإطاحة بنظام الأسد ولكنها تهدف لتغيير سلوكه بشكل جوهري ولإخراج الإيرانيين من سورية بشكل دائم.
هذه السياسة هي دعوة غير مباشرة لبقاء الأمريكيين في سورية لأطول مدة ممكنة حيث أن هذين الهدفين – عمليا – ليسا قابلين للتحقيق في المدى القريب. في الجهة المقابلة، هذا الأمر لا يناسب الأتراك الممتعضين من الوجود الأمريكي الذي يدعم الميلشيات الكردية الانفصالية والذي يهدد أمن تركيا.
قبل اتخاذ القرار، تناقلت الأخبار حدوث اتصال بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الأمريكي حيث نوقشت القضايا العالقة بين الدولتين منها الوجود الأمريكي شرق الفرات وقضية غولن وأمور أخرى. أردوغان شدد في محادثاته مع ترامب في مناسبات عدة عدم رضاه عن الدعم الأمريكي للأكراد ودعوته لتسريع تطبيق اتفاق منبج، ولم يترك الأتراك مناسبة إلا وذكّروا نظرائهم الأمريكيين بقضية شرق الفرات. بعد الاتصال، أعلنت الخارجية الأمريكية عن اتفاق تركي-أمريكي لشراء أنظمة الدفاع الصاروخية والجوية الباتريوت بمبلغ يقدر ب 3 مليارات ونصف.
علما أن تركيا قامت بالاتفاق مع روسيا لشراء منظومة S-400 المماثلة، الأمر الذي أثار غضب الولايات المتحدة حينها. من الواضح أن تركيا رضيت بالمقايضة وبفعل أي شيء حتى تأخذ زمام الأمور في شرق الفرات ولكيلا تحدث أي مواجهات عسكرية بينها وبين الأمريكان في سورية. وتاليا، جاء إعلان ترامب بعد أن أخذ ما يريد من الأموال بالإضافة إلى إزالة أمر من قائمة وعوده الانتخابية.
إذا تفاهمت تركيا مع أمريكا لتسلم كامل المنطقة لها فسيكون هذا الأمر أحد أكبر مكاسب الثورة عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ليتحسن موقفها في المفاوضات السياسية
الجزيرة
ويبقى سؤال عن الخريطة السورية بعد الانسحاب الأمريكي. لا شك أن الانسحاب الأمريكي سيترك فراغا أمنيا وسياسيا في شرق الفرات، لأن المنطقة يتم إدارتها بإيعاز أمريكي حيث أن المجالس المحلية السياسية المُعينة تعمل تحت إمرتهم مقابل الحماية العسكرية. لذلك، ستصبح المنطقة ضعيفة وعرضة للهجوم من ثلاث جهات: تركيا وداعش ونظام الأسد (وحلفائه). داعش منكفئة ومكسورة ولكن ليس من المستبعد أن يتم إعادة إحيائها عن طريق دول لها أجندة خاصة وعلى رأسها إيران ونظام الأسد. حيث أن هذا الأمر ثبت في السنوات الماضية عندما كانت المعارضة السورية تسيطر على ما نسبته 70-80 بالمئة من الأراضي ومن ثم ظهور داعش لتسيطر على معظم مناطق المعارضة ومن ثم يقوم نظام الأسد بدعم من روسيا والميلشيات الإيرانية باحتلال تلك الأراضي.
أما نظام الأسد وحلفائه، فهو بالتأكيد مهتم لاسترداد حقول النفط التي تسيطر عليها وتديرها الميليشيات الكردية الانفصالية، وأيضا لفتح ممرات برية أقصر بين طهران وحلب وطهران ودمشق (منطقة التنف). أما الأتراك فهم مهتمون بتأمين حدودهم الجنوبية ومن الصعب أن يقوموا بالسيطرة على كامل شرق الفرات ولذلك فهي قد تكتفي بالمساحة الشمالية المتمثلة بطريق القامشلي-منبج.
الانسحاب الأمريكي قد يشكل كارثة على الثورة السورية إن تم ترك شرق الفرات لنظام الأسد والإيرانيين. فالأتراك لن يحاولوا دعم الجيش الوطني السوري في مواجهة نظام الأسد والميليشيات الإيرانية. توجد بين تركيا وإيران تفاهمات بشأن قواعد الاشتباك بين الطرفين وزيارة روحاني إلى تركيا غداة إعلان الانسحاب الأمريكي تأتي لوضع تفاهمات لمرحلة ما بعد الانسحاب وربما تتضمن تنسيق هجوم مزدوج على مناطق شرق الفرات. أما إذا تفاهمت تركيا مع أمريكا لتسلم كامل المنطقة لها فسيكون هذا الأمر أحد أكبر مكاسب الثورة عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا ليتحسن موقفها في المفاوضات السياسية وكذلك سيكون تحت يدها حقول النفط التي ستكون ورقة بيد الثورة ضد نظام الأسد وحلفائه.
الكرد والانسحاب الأميركي من سوريا/ رضوان زيادة
لم تخفت بعد حدة الانتقادات التي تعرض لها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد قراره سحب قواته من سوريا، فهذا القرار يكشف الكثير عن طبيعة القرارات التي يتخذها الرئيس ترامب وتتعلق بالأمن القومي الأميركي وبطريقة تعامله مع السياسة الخارجية وخاصة في قضايا حساسة مثل الملف السوري الذي تتداخل فيه الكثير من المصالح الدولية والإقليمية.
بالرغم من أن الرئيس ترامب كان قد أعلن قبل ستة أشهر سحب قواته من سوريا، فإن مجلس الأمن القومي اجتمع وقرر بقاء القوات الأميركية هناك لفترة غير محددة، وخرج وزير الدفاع الأميركي حينها ومستشار الأمن القومي ووزير الخارجية لتبرير عدم سحب القوات وربطها بثلاثة ملفات أخرى وهي القضاء كلياً على داعش حيث ما زال يحتفظ بالكثير من الجيوب في شرق سوريا وثانيا انسحاب الميليشيات الإيرانية من سوريا وثالثاً ضمان الاستقرار في سوريا، فقرار ترامب الأخير الذي أعلن عنه بشكل مفاجئ مرة أخرى ناقض كل ما قاله مستشاروه للأمن القومي وما ردده المبعوث الأميركي للقضاء على داعش بريت مغاورك خلال مشاركته في منتدى الدوحة في 15 من الشهر الحالي، والذي أعلن استقالته بكل الأحوال بعد قرار الرئيس ترامب.
في الحقيقة يهمنا هناك التعامل مع تداعيات هذا القرار على المستوى السوري وكيف يمكن أن يؤثر في صياغة مستقبل سوريا في الشهور
أو السنوات المقبلة، إذ يكشف القرار مجدداً أن الرئيس الأميركي ترامب هو أقرب الرؤساء الانعزاليين منه إلى رؤساء الولايات المتحدة التدخليين فهو بالرغم من أنه ضاعف من ميزانية وزارة الدفاع الأميركية إلى مستويات قياسية لم يسبق لها مثيل إلا أنه يرغم دوماً بسحب هذه القوات حتى من القواعد العسكرية التي تمثل أهمية حيوية للولايات المتحدة في مناطق مثل الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
والسؤال الذي يدعو نفسه لماذا قرر الرئيس ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا التي ما زال فيها جيوب لداعش كما أن الصراع مع روسيا فيها على أشده ولم يقم بالشيء نفسه في العراق التي فيها حكومة مستقرة نسبياً وصديقة للولايات المتحدة كما أنه لا وجود لداعش أو بقاياه هناك كما أن الجيش العراقي يحتفظ بوجود قوي وشرعية نسبية في أعين العراقيين، حيث يوجد فيها ما يفوق عن 5200 جندي أميركي بعد خفض عديدها عما كانت عليه قبل عام 2016.
أعتقد أنه سؤال جوهري وبرأيي أنه يربط بشكل ما بعلاقة معقدة ما زالت لم تتضح معالمها بين الرئيس ترامب وروسيا، حيث توجد قواتها في سوريا وتحتفظ بقواعد عسكرية متعددة وكانت تنتقد باستمرار وجود القوات الأميركية في سوريا، في الحقيقة هذا السؤال لن نحصل على إجابة عليه أبداً بسبب تعقيد العلاقة بين ترامب وبوتين كما أنها مصدر تحقيق داخلي يجريه السيد مولر.
الآن مع انسحاب القوات الأميركية من سوريا سيصبح السؤال من سيملأ الفراغ الذي سوف تتركه هذه القوات، وهي مناطق غنية بالنفط والغاز وذات موقع استراتيجي في حدودها مع العراق.
سيكون الخاسر الأكبر بالتأكيد هي قوات سوريا الديمقراطية والتي هي عبارة عن قوات حزب العمال الكردستاني التي دربتها
ومولتها الولايات المتحدة في حربها ضد داعش وهي لا تحتفظ بأية شعبية أو شرعية داخلية سوى حماية القوات الأميركية لها، ومع انسحاب هذه القوات سيصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل بقاء هذه القوات في ظل الموقف التركي الذي يصر علناً على ضرورة إنهاء وجودها في سوريا كلية، وفي ظل التنسيق الأميركي التركي المستمر عبر الاتصال الهاتفي بين الرئيسين الأميركي والتركي والذي يكشف أن التنسيق الأميركي سيكون مع الطرف التركي فقط فإن مصير هذه القوات سيتبخر تماماً وربما تصر السلطات التركية على الحصول على كل الأسلحة الثقيلة التي حصلت عليها هذه القوات الكردية مقابل استمرار تركيا في حربها للقضاء على آخر جيوب داعش.
ولذلك سينتهي الوجود الكردي كلياً على المستوى العسكري في سوريا وستنتهي معها المغامرة الخاصة بحزب العمال الكردستاني في سوريا الذي كان لديه حلم بإنشاء كردستان سوريا بالرغم من معاندة الجغرافيا والتاريخ والديمغرافيا لكنه اعتقد أن بالسلاح يمكن تغيير وقبل كل المعادلات، ربما اكتشفوا الآن أن تحقيق ذلك أصبح من ضرب الخيال.
تلفزيون سوريا
الانسحاب الأميركي قد يتسبب بمشاكل لتركيا في سوريا/ علي حسين باكير
في خطوة مفاجئة، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأسبوع الماضي قراره سحب قوات بلاده الموجودة في سوريا. يعتقد كثيرون أنّ القرار سيفسح المجال أمام تركيا لملء الفراغ الذي سيتركه انسحاب هذه القوات، لكنّ تحقّق ذلك سيعتمد بالدرجة الأولى على الإجراءات التي ستتخذها السلطات الأميركية في المرحلة المقبلة وعلى مدى التعاون والتنسيق مع تركيا للوصول إلى النتيجة المرجوّة، وإلا فلا شيء مضمون إزاء من سيملأ الفراغ ومن سيسيطر على الأرض لاحقاً.
في مثل هذا الوضع، تسعى تركيا إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية، هي: أولاً، عدم القبول بوجود مجموعات إرهابية على حدودها مع سوريا سواء تمثّلت ب”داعش” أو بالميليشيات الكرديّة المسلّحة أكان ذلك تحت مسمّى قوات (بي واي دي) أم (واي بي جي) أم أي اسم آخر. ثانياً، إعادة الوضع الديمغرافي في تلك المناطق إلى ما كان عليه سابقا قبل احتلال الميليشيات الكردية للعديد من المدن وتغيير واقعها الديمغرافي، وذلك بإعادة السكان الأصليين من اللاجئين العرب وغيرهم ممن هم موجودون على أراضيها. وثالثاً، عدم السماح مجدداً بامتداد كانتون للميليشيات الكردية على طول حدودها الجنوبية.
مثل هذه الأهداف ستصطدم بأجندات اللاعبين الآخرين على الساحة السورية. الميليشيات الكردية ستسعى للمحافظة على المكاسب التي تحصّلت عليها، وعلى سيطرة الأراضي التي حصلت عليها سابقا سواء بتنازلٍ من نظام الأسد أو بدعم أميركي، ولذلك فقد تلجأ إلى نظام بشّار مجدداً لعقد صفقة تتيح لها الحفاظ على امتيازات معيّنة مقابل الاتفاق على منع أي تقدم عسكري تركي باتجاه المناطق التي يسيطرون عليها.
النظام الإيراني يمتلك ما يؤهّله أيضاً لملء الفراغ سواء من خلال الميليشيات الشيعية الأجنبية والمحليّة أو من خلال قوات النظام السوري. تمتلك إيران أيضاً حوافز للسيطرة على هذه المناطق منها تأمين الطريق البرّي من العراق إلى سوريا وعبره إلى المتوسط، ومنها السيطرة على آبار النفط، وأخيراً تمكين نظام الأسد من بسط نفوذه على كامل الأراضي السورية. بالرغم من أنّ طهران وأنقرة وجدتا مساحة للتعاون في بعض الملفات الحسّاسة مؤخراً في الملف السوري، إلا أنّ الاختلاف بين أجندتهما كبير، ولا تزال إيران تنظر إلى تركيا على أنّها منافس لها في المنطقة، ولذلك هناك مصلحة إيرانية في نهاية المطاف في تحجيم النفوذ التركي في سوريا وفي تثبيت حكم الأسد من خلال بسط سيطرته على المناطق التي سينسحب منها الجانب الأميركي.
إبّان عملية غصن الزيتون، قامت إيران بتقديم مقترح إلى السلطات التركية يتضمن قيام نظام الأسد بالسيطرة على عفرين بدلاً من الميليشيات الكردية، وبذلك كانت طهران تحاول اللعب على المخاوف التركية من الميليشيات الكردية من جهة، والعمل على تمكين الأسد من السيطرة على المزيد من الأراضي والحد من النفوذ التركي من جهة أخرى، لكنّ أنقرة رفضت ذلك وقررت أخذ زمام المبادرة بيدها لا بيد عمر كما يقول المثل. هذا الأمر يؤكّد أن السلطات التركية لن تقبل أن يتولى أمن حدودها ميليشيات كردية أو أخرى تابعة لنظام الأسد حتى وإن تمّ ذلك بضمانات إيرانية. لكن ماذا عن الجانب الروسي؟
للجانب الروسي تحفظات كبيرة على أجندة تركيا في سوريا، لكنّه لطالما أبدى ليونة ولم يستخدم الفيتو بسبب حاجته إلى تركيا بالعملية السياسية في سوريا من جهة، ولإحداث شرخ متزايد في العلاقة بين أنقرة وواشنطن من جهة أخرى. مع انسحاب أميركا، ستختفي الورقة التي كانت كل من تركيا وإيران وروسيا تصوّب عليها لتجاوز خلافاتها البينيّة، وسيعود التركيز على الخلافات ليحتل الأولوية مرّة أخرى، وهو ما سيعطي الأفضلية لموسكو فيما يتعلق بتمكين الأسد من السيطرة على المزيد من المناطق وتذكير تركيا بأنّ عليها سحب قواتها بصفتها القوة الوحيدة الموجودة في الأراضي السورية دون إذن مسبق من نظام الأسد “وفق المنطق الروسي”.
ورقة أخرى قد تلجأ إليها موسكو في مناكفة تركيا بعد أن تُخلي الولايات المتّحدة الساحة، وهي توظيف الميليشيات الكردية التي تركتها واشنطن. هذه الميليشيات تبحث الآن عن وسائل للحفاظ على المكاسب التي حصلت عليها، والحصول على ضمانات تمنع الجانب التركي من التقدّم عبر الحدود، ولذلك تبحث خياراتها مع متبنّين آخرين بما في ذلك نظام الأسد نفسه. سبق لروسيا أن قامت بدعم هذه الميليشيات وتبنيها سياسياً لاسيما عندما أسقطت أنقرة مقاتلة موسكو نهاية عام ٢٠١٥، كما افتتحت لها مكتباً تمثيلياً في موسكو.
قد لا يصل الابتزاز في المرحلة المقبلة إلى هذا الحد، لكنّ روسيا سبق لها أن اقترحت في مسودة الدستور التي حضّرتها لسوريا تفاصيل تدعم حكماً ذاتياً موسّعاً للأكراد في سوريا، وبإمكانها إعادة استخدام هذه الورقة في وجه أنقرة لتحقيق توزان في علاقتها مع مختلف الأطراف أو للضغط على الجانب التركي.
خلاصة القول، إنّه من المبكر القول انّ الانسحاب الأميركي هو انتصار لتركيا، فذلك سيقف عند حدود الترتيبات اللاحقة مع الجانب الأميركي وشكل التفاهمات التي ستتم أو ربما لا تتم بين كل من تركيا وروسيا وإيران. إذا لم يتم تنسيق الانسحاب الأميركي بشكل كامل مع تركيا، واذا لم تحصل أنقرة على دعم سياسي وعسكري من واشنطن بعد الانسحاب، فستكون خياراتها محدودة ومتأثرة بشكل كبير بمصالح كل من روسيا وإيران في سوريا.
تلفزيون سوريا
حرب الولايات المتحدة “غير المحدودة” في سوريا
أولًا: مقدمة
منذ مطلع العام الحالي، أوضحت الولايات المتحدة بشكل تدريجي استراتيجيتها الحالية والمقبلة في سورية، وتدرجت هذه الاستراتيجية من تبرير وجود القوة العسكرية الأميركية في سورية بـ “محاربة الإرهاب”، لتنتقل إلى مرحلة الرفض العلني الكامل للوجود الإيراني في سورية، والتشديد على أن وجودها العسكري في سورية سيكون إلى أمد غير محدد طالما هناك جندي إيراني واحد في الأراضي السورية، وكذلك رفضها أي نقاش حول عملية إعادة إعمار سورية طالما هناك قوات أجنبية في سورية وعلى رأسها الإيرانية.
إعلان الولايات المتحدة أنها ستبقى عسكريًا في سورية إلى أجل غير محدد طالما هناك إيرانيون و(داعشيون) وتنظيمات إرهابية أخرى، من دون أن تُقدّم مخططًا لما ستقوم به حيال هذه القوى إن لم تخرج طواعية من سورية، يمكن أن يُساعد في فهم بعض مما يجري على الأرض السورية، وهو يعني في الدرجة الأولى -في رأي كثير من المحللين السياسيين- أن الحل السياسي مؤجل إلى أجل غير محدد أيضًا.
ثانيًا: استراتيجيات قديمة متجددة
في 17 كانون الثاني/ يناير 2018، أدلى وزير الخارجية الأميركي السابق ريكس تيلرسون بتصريح جاء في منزلة إعلان لاستراتيجية أميركية في ما يتعلق بالشرق الأوسط بشكل عام، وسورية بشكل خاص، وطرح جملة من القضايا التي لم تكن الولايات المتحدة قد أعلنت موقفًا صريحًا منها في وقت سابق.
وشرح تيلرسون أن القوات الأميركية ستبقى في سورية لمواجهة (تنظيم الدولة الإسلامية – داعش) ونظام الأسد وإيران، وأنها “لن ترتكب خطأها العراقي عام 2011” الذي خرجت بموجبه القوات الأميركية من العراق فاسحة المجال للهيمنة الإيرانية وتوسّع تنظيم القاعدة، واعتبر ذلك “مصلحة وطنية أميركية”.
تحدث الوزير الأميركي عن أن قوات بلاده ستبقى في الأراضي السورية شرق الفرات، إلى أن يختار السوريون حكومة جديدة تحوز على صدقية دولية، وشدّد على أنه “لن يُسمح لإيران بالاقتراب من هدفها الكبير وهو السيطرة على المنطقة”، وعلى الرغم من أنه لم يقل إن الولايات المتحدة ستطيح الأسد ونظامه، لكنّه شدد على أن انتخابات حرة وشفافة بمشاركة جميع الذين فروا من النزاع السوري ستؤدي تلقائيًا إلى رحيله وعائلته من السلطة نهائيًا.
في أيلول/ سبتمبر الماضي، وبعد نحو خمسة أشهر من تصريحات أدلى بها الرئيس الأميركي قيّد فيها التدخل العسكري الأميركي في سورية، وقال في نهايتها إنه سيسحب قواته من سورية، قرر ترامب اعتماد سياسة استراتيجية جديدة ترتكز على زيادة التدخل الدبلوماسي والعسكري فيها، حتى تحقيق الأهداف الأميركية في المنطقة، وتشمل إخراج القوات الإيرانية كافة من سورية والميليشيات الموالية لها. وهو ما كرره جون بولتون، مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، في أكثر من تصريح منذ ذلك الوقت.
في العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أعلن وزير الخارجية الأميركي الحالي مايك بومبيو، خلال خطاب أمام المعهد اليهودي للأمن القومي الأميركي، أن الولايات المتحدة لن تُموّل إعادة الإعمار في سورية، طالما أن إيران والميليشيات التابعة لها موجودة على الأرض السورية، وأشار إلى أن إدارة الرئيس دونالد ترامب تريد حلًا سياسيًا وسلميًا، لكنها تريد أيضًا “أن تخرج القوات الإيرانية، وتلك التي تدعمها إيران، من سورية بشكل نهائي”.
هذا الإعلان والتصعيد الأميركي، يبدو نظريًا من الخارج وكأنه دفع للعملية السياسية في سورية، وعملية التغيير السياسي المأمول، لكنه في عمقه أيضًا لا يحل التساؤلات والغموض لعدم ذكر أي آلية يمكن أن تُلزم إيران بمغادرة سورية.
لكن آخر الإعلانات الأميركية كانت تُشير إلى فك الارتباط بين بقاء القوات العسكرية الأميركية والقضاء على تنظيم (داعش)، أي أنه بات تمركزًا واستقرارًا لا يرتبط بالقضاء على التنظيمات الإرهابية فحسب؛ ففي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، قال جيمس جيفري، المبعوث الأميركي إلى سورية، إن قوات بلاده ستبقى موجودة في سورية بعد انتصار قوات التحالف على تنظيم (داعش) من أجل “ضمان ألا يُجدِّد نفسه”.
إذًا، الأسس التي تحكم الاستراتيجية الأميركية في المرحلة الحالية والمقبلة هي أولًا البقاء في سورية عسكريًا للقضاء على (داعش) والجماعات المتطرفة الأخرى وخروج القوات الإيرانية والميليشيات الموالية لها من كامل الأرض السورية،وثانيًا تحقيق انتقال سياسي حقيقي وكامل من دون رأس النظام السوري وعائلته، وثالثًا البدء بالتخطيط لعودة اللاجئين لسوريين بشكل طوعي وآمن والبدء بإعادة الإعمار.
إن تذكير المسؤولين الأميركيين، كل مدة، باستراتيجية الولايات المتحدة في سورية، إنما هو على الأرجح رسالة متكررة للروس وغيرهم، بأن كل المحاولات الروسية للالتفاف على الحلول وإشراك إيران في الحل السوري، أو قيام تحالف تركي – روسي عميق، أو محاولة تجاوز الأميركيين، لن تجدي نفعًا.
يعلو وينخفض مستوى الرسائل وفق الظرف الإقليمي والدولي، ووفق مستوى تقارب وتباعد الروس والأميركيين، فهو ينخفض أحيانًا وفق ما قال جيفري، في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، بأن الإدارة الأميركية تحاول أن توضح للجانب الروسي أمرين: الأول هو أن “مصالح روسيا الأساسية” في سورية المتمثلة بوجود “حكومة صديقة” و”مواقع عسكرية” لا تُعارضها واشنطن، و”لن نحاول تغييرها”، وأوضح أن الأمر الثاني هو “أن من مصلحة روسيا أن نكون شركاء لها”، وأن من مصلحتها أن “تكون هناك حكومة سورية موجودة يدعمها الشعب”، وأكّد على أنه على روسيا “أن تبذل جهدها لتغيير سلوك النظام السوري”.
ثالثًا: أهداف عديدة
في التصريحات الصحفية نفسها، كشف جيفري عن أهداف أخرى لوجود القوات العسكرية في سورية، إضافة إلى محاربة (داعش) ومنع إيران من التمدد من العراق نحو سورية، وقال إن “وجودنا بشكل عام في سورية له أبعاد اقتصادية وأمنية وعسكرية، لدينا شركاء وحلفاء على الأرض، نركز على هزيمة (داعش) ومغادرة إيران لجميع الأراضي السورية، وتنشيط عملية سياسية لا رجعة فيها”.
وأضاف “لم تكن الولايات المتحدة جزءًا من تأسيس مسار أستانا، وهدف هذا المسار محدود جدًا، وهو لا يعدو أن يكون “آلية لتخفيف النزاع وعدم التضارب بين الدول الثلاث: تركيا، روسيا، وإيران”، ولن يكون مسارًا فعالًا لدفع العملية السياسية.
لا شك أن للولايات المتحدة مجموعة من الأهداف الاستراتيجية والغايات والمصالح المهمة جدًا لها من وراء تدخلها العسكري في سورية، وبناء ما يزيد على 14 قاعدة عسكرية في مناطق مختلفة داخل سورية، على رأسها المحافظة على عدم تحوّل سورية إلى دولة فاشلة بالمفهوم الأمني، وضمان عدم تغلّب فريق على آخر إلا ضمن ميزان دقيق وضعته وتعمل في تحالفاتها وفقه، وذلك عبر ضبط التوازن الإقليمي والدولي في سورية والشرق الأوسط، وضمان ألّا ينفلت الإرهاب، التكفيري أو الإيراني أو السوري، إلى خارج الحدود أو دول الجوار أو الغرب، وكذلك ضمان مصلحة وأمن حليفها الأساس في المنطقة “إسرائيل”.
كذلك، يقطع الجزء الشرقي من سورية الذي تتمركز فيه القوات الأميركية، التواصل الجغرافي بين سورية والعراق، ويوقف المد الإيراني المحتمل من الشرق، ويمنع إيران من إقامة ممرها البري الذي يربط بين طهران وبيروت، كما يمنع تسرب الميليشيات العراقية الموالية لإيران نحو سورية، بعد أن كانت إيران تحلم بالسيطرة على النفط في هذا الجزء من سورية لاستعادة جزء من استثماراتها المالية الضخمة في الحرب السورية.
يَضاف إلى هذه الأسباب العسكرية أسباب أخرى، منها مراقبة الأسلحة الكيماوية والأسلحة المحظورة، أكانت تلك التي يمتلكها النظام السوري أو التي تمتلكها إيران، وضمان عدم استخدامها أو انتشارها.
وفي هذا السياق يمكن استذكار ما ذكرته السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة، نكي هيلي، في حديث مع شبكة (فوكس نيوز) الأميركية، بأن أهداف الولايات المتحدة في سورية ثلاثة؛ وهي ضمان عدم استخدام الأسلحة الكيماوية، وهزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وضمان وجود نقطة مراقبة جيدة لمتابعة ما تقوم به إيران.
ومن غير المنطقي إهمال الجانب الاقتصادي الذي يمكن أن يدفع الولايات المتحدة للبقاء في بقعة خطرة كسورية، وهذا العامل يتعلق في الوقت الراهن بسيطرة القوات الأميركية على المنطقة الأهم بالثروات الباطنية في سورية، والتي تضم معظم آبار النفط السوري، ومخزونات الغاز الطبيعي الضخمة، وهي الآن تحت تصرف وإشراف هذه القوات، من دون وجود إمكانية لأحد لمحاسبتها عليها.
وفي الجانب الاقتصادي أيضًا، يمكن توقّع مقدار ما تستفيده الولايات المتحدة من بعض بلدان الخليج العربي ماليًا بشكل مباشر من جراء إبقاء قواتها العسكرية في سورية، وهي أموال نقدية في الغالب، ومن وجهة النظر الاقتصادية فإنها -كسيولة- تعادل عشرة أضعافها اقتصاديًا.
وفي هذا السياق، يمكن استذكار ما قاله الرئيس ترامب خلال مؤتمر صحفي في البيت الأبيض في 4 نيسان/ أبريل 2018، في سياق ردّه على الوجود الأميركي في سورية، وقال “أريد أن أعيد جنودنا إلى وطنهم… والتدخل الأميركي في سورية مكلف ويخدم مصالح دول أخرى، وقال إنه أكّد للسعودية، المهتمة ببقاء القوات العسكرية الأميركية في سورية: “إذا كنتم تريدون أن نبقى فربما يتعين عليكم أن تدفعوا”.
عاد ترامب، خلال مؤتمر صحفي له مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 24 نيسان/ أبريل 2018 للتلويح بأن طلبه من السعودية ليس خياريًا وإنما إلزاميًا، حيث قال إن “دولًا غنية في الشرق الأوسط عليها أن تدفع المال وتُقدّم الرجال لمساعدة القوات الأميركية في سورية ما دامت هذه الدول لن تصمد أسبوعًا واحدًا من دون حماية واشنطن”.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قد صرح في حينه بأنه يرى أن على الولايات المتحدة أن تبقى في سورية للتصدي للنفوذ الإيراني، ووجّه له ترامب رسالة مباشرة بأن على السعودية أن تدفع فاتورة الوجود العسكري، وهو ما حصل.
رابعًا: حجم الوجود العسكري
في حزيران/ يونيو 2014، أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف دولي ضد تنظيم (داعش)، وفي 23 أيلول/ سبتمبر 2014، أعلنت وزارة الدفاع الأميركية عن قيام القوات الأميركية بالتعاون مع دول أخرى، غربية وعربية (التحالف الدولي)، بشن هجوم على مقاتلي (داعش) داخل الأراضي السورية، وكان هذا التدخل العسكري الأميركي المباشر الأول في سورية عبر (التحالف الدولي).
منذ ذلك الوقت ازداد التدخل العسكري الأميركي، والقصف بالطيران بشكل أساسي، على أهداف تؤكد الولايات المتحدة أنها تابعة لمقاتلي تنظيم (داعش)، لكنها عمليًا تقتل الكثير من المدنيين، كما استهدفت عدة مرات قوات النظام السوري، خاصة بعد أن استخدم السلاح الكيماوي وكرر استخدامه، وصار للولايات المتحدة حضور عسكري مهم، يتفاوت بين قواعد كبيرة أساسية ذات طبيعة ارتكازية، أو قواعد عسكرية أصغر تُستخدم كنقاط عسكرية متقدمة داعمة للمواجهات العسكرية لـ (قوات سورية الديمقراطية)، الحليف الأساسي لها في سورية.
منذ بداية عام 2015 بدأ الوجود الأميركي العسكري يُصبح ملموسًا، فلم تعد الولايات المتحدة تعتمد على قواعد عسكرية في تركيا أو في شمال العراق أو على قطع بحرية في عرض المتوسط، وساعدها في توسيع هذا الوجود ذلك التحالف الدولي الذي تقوده، وتُشارك فيه دول أوربية كبرى كفرنسا وألمانيا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا وغيرها، فضلًا عن دول عربية كالسعودية والإمارات، وهذا ما وجدته الولايات المتحدة فرصة لتثبيت حضورها العسكري الاستراتيجي في المنطقة عمومًا.
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، أعلن ممثل هيئة الأركان المشتركة الأميركية كينيث ماكينزي أن عدد القوات الأميركية في سورية يبلغ نحو 500 عسكري، وأيّد البنتاغون العدد، وقال إنهم تحديدًا 503 من العسكريين الأميركيين المنتشرين في أراضي سورية.
لكن وسائل إعلام أميركية (سي إن إن) نقلت عن مسؤولين عسكريين أميركيين تأكيدهم – على خلاف ما أعلنت واشنطن عنه سابقًا- أن عدد القوات الأميركية في سورية وصل إلى 2000 عسكري، معظمهم من أفراد القوات الخاصة، وفرق مدفعية تابعة للبحرية الأميركية مزودة بمدافع متطورة يبلغ مداها 50 كيلومترًا.
ليس هذا العدد من العسكريين كبيرًا بالنسبة إلى الولايات المتحدة، خاصة إذا استذكرنا رغبة مستشار الأمن القومي الأميركي حينها الجنرال هربرت مكماستر التي أعلن عنها في نيسان/ أبريل 2017 في أنه يجب إرسال 50 ألف جندي أميركي إلى العراق وسورية.
ينتشر معظم الوجود العسكري الأميركي في سورية في المنطقة الممتدة من “المبروكة” شمال غرب الحسكة إلى “التايهة” جنوب شرق منبج، وفي 1 آذار/ مارس 2018، نقلت (وكالة الإعلام الروسية) عن مسؤول في مجلس الأمن الروسي قوله إن الولايات المتحدة أقامت نحو عشرين قاعدة عسكرية في سورية على أراض خاضعة لسيطرة الأكراد.
من الصعب التأكد من المعلومات الروسية، لكن المصادر الأهلية السورية تتناقل وجود 14 قاعدة عسكرية أميركية على الأقل، ومن أهمها:
– قاعدة رميلان؛ والتي تقع في مطار رميلان شرق مدينة القامشلي الحدودية مع العراق، وهي من أولى القواعد العسكرية الأميركية في سورية، حيث تم إنشاؤها في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، وهي قاعدة كبيرة لديها القدرة على استقبال طائرات قتالية وطائرات شحن عسكرية.
– قاعدة المبروكة؛ وتقع غرب مدينة القامشلي.
– قاعدة خراب عشق؛ وتقع غرب مدينة عين عيسى.
– قاعدة عين عيسى؛ وتقع في أقصى شمال سورية، وتعدّ أكبر قواعد الجيش الأميركي مساحة.
– قاعدة عين عرب؛ وتقع في ريف حلب الشمالي، وتضم مئات الجنود الأميركيين وعدد غير محدد من الخبراء العسكريين الذين يشرفوا على جزء من عمليات التحالف.
– قاعدة تل بيدر؛ وتقع شمال محافظة الحسكة والقامشلي.
– قاعدة تل أبيض؛ وتقع على الحدود السورية – التركية.
– قاعدة التنف؛ وتقع قرب الحدود مع العراق والأردن، وتضم منظومات صواريخ (ترددت أنباء في حزيران/ يونيو 2017 عن إنشاء الولايات المتحدة قاعدة ثانية لها هناك)
– قاعدة الزكف؛ وتقع على بعد نحو 70 كم إلى الشمال الشرقي من التنف، وهي قاعدة تكتيكية، أنشأتها الولايات المتحدة لمنع جيش النظام وحلفائه الموالين لإيران من التقدم إلى المنطقة الواقعة شمالي التنف تجاه الحدود العراقية (أخلتها الولايات المتحدة في حزيران/ يونيو 2017).
تقول الولايات المتحدة إنها لا تستخدم جميع هذه القواعد العسكرية الأميركية لشن هجمات، وإنما لقيادة الهجمات وتنسيقها، وتوفير الدعم لحلفائها في (قوات سورية الديمقراطية)، وتدريب بعض المقاتلين السوريين الذين درّبتهم لحماية بعض قواعدها في شرق سورية، وهي في واقع الأمر ليست في حاجة إلى شن هجمات من هذه القواعد باعتبار أن لديها قواعد عسكرية جوية ضخمة في تركيا وفي المتوسط، ووجودها في هذه القواعد رمزي، يؤكد للجميع أن هذه مناطق أميركية لا يجب الاقتراب منها. وبالفعل استخدمت القوات الأميركية القوة المفرطة في منع تقدّم مقاتلين روس (مرتزقة من مجموعة واغنر الروسية)، ومقاتلين تابعين للنظام وميليشيات تابعة لإيران، من دون أن تضع في الحسبان ردة الفعل الروسية الممكنة، ما يعني أنها جدّية في رسم حدودها داخل سورية بشكل لا تنازل عنه بالمطلق، ومن هنا تبرز أهمية القواعد العسكرية الأميركية.
طالب النظام السوري مرارًا بخروج القوات الأميركية من سورية، بحجّة أنها موجودة في الأراضي السورية من دون موافقته، ثم صارت إيران وروسيا تُلمحان إلى أن وجود القوات الأميركية لا مبرر له بعدما هزم التحالف (تنظيم الدولة الإسلامية) أو أوشك، إلا أن الإدارة الأميركية أعلنت رفضها هذه الفكرة، وسرّبت استراتيجيتها الجديدة التي يتم بموجبها الانتشار الدائم شرق سورية وفي المناطق التي تسيطر عليها (قوات سورية الديمقراطية)، حتى يتم تحقيق تسوية سلمية، وإنهاء الحرب السورية، والبدء بعملية انتقال سياسي، وربما أكثر من ذلك.
إذًا، ربط الجيش الأميركي نفسه بالحرب في سورية إلى أمد غير محدود، ومن المنطقي أن تؤرق هذه الاستراتيجية النظام السوري وروسيا وإيران، وأيضًا تركيا ما لم يكن هناك توافقات ضمنية بين واشنطن وأنقرة تُحافظ على العلاقة الاستراتيجية القديمة بين البلدين.
خامسًا: الاستفادة من الأكراد
يتساءل كثيرون في الكونغرس الأميركي عن ضرورة وجود الولايات المتحدة بشكل أعمق في الحرب السورية، ومدى خطورة وجود قواعد عسكرية لها في سورية، وجدوى تحالف الولايات المتحدة المُغامر مع الأكراد على حساب تراجع العلاقة مع تركيا، العضو في حلف الأطلسي والصديق القديم لأميركا.
تحالف الأميركيون مع (قوات سورية الديمقراطية) التي يتألف عمودها الفقري من أكراد شبه انفصاليين، يتبعون إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يُعتبر ذراعًا سوريًا لحزب العمال الكردستاني المُصنّف لدى تركيا كتنظيم إرهابي، هذا التحالف تسبب في زعزعة العلاقة التركية – الأميركية وأوصلها في بعض الأوقات إلى مستوى القطيعة والتحدّي.
يضغط الجيش التركي ضد (قوات سورية الديمقراطية) المدعومة من الولايات المتحدة، ويشن هجمات قاسية ضد هذه الوحدات، ودعم فصائل عسكرية سورية معارضة للنظام من أجل ردع هذه القوات ومنعها من السيطرة على الشمال السوري، الأمر الذي تراه تركيا تهديدًا لأمنها القومي.
في المقابل، تستمر الولايات المتحدة بدعمها للقوات الكردية، وتُقدّم الدعم لها، لكنّها لا تسمح لها عمليًا بالتحرك خارج السرب الأميركي، وبعيدًا عن الخطط التي تضعها الولايات المتحدة، وكلما حصل تجاوز منها، فإن الولايات المتحدة لا تتدخل، وتصمت عن قصف القوات التركية للقوات الكردية وتغض الطرف متناسية أنها حليفة لها، كما أن الولايات المتحدة أعلنت أكثر من مرة أنها تتحالف مع القوات الكردية عسكريًا ولا تتحالف معها سياسيًا، وترفض مشروعها الانفصالي أو الفدرالي بطريقة فرض الأمر الواقع.
في المقابل، فإن تناقضًا يعتري علاقة الولايات المتحدة بالقوات الكردية، حيث تتمتع هذه القوات بعلاقة ليست سيئة مع النظام السوري، وتحاول أن تُحسّنها ضمن شروطها، وقام قياديون في حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي و(الإدارة الذاتية الكردية) بزيارة لدمشق والتقوا بمسؤولين سوريين وبحثوا معهم إمكانيات التعاون والتنسيق على مستوى رفيع في العديد من القضايا، لكن السلطات السورية لم تتجاوب معهم وفق ما أرادوا، حتى الآن على الأقل، وتطرح هذه العلاقة الإشكالية أسئلة حول موقف الولايات المتحدة منها، وكيف تسمح للأكراد بمثل هذه العلاقة التي قد تفتح أبوابًا تؤدي إلى تواصل مباشر بين النظام السوري والولايات المتحدة.
تُنبّه “إسرائيل” من هذه الإشكالية، وترى أن الوجود العسكري الأميركي في سورية “أصبح بلا مغزى أو هدف”، خاصة أن روسيا “مستعدة إلى دعم (وحدات حماية الشعب الكردية)، إذا قرر ترامب معاقبتهم وحرمانهم من التمويل”.
الافتراض الإسرائيلي غير بعيد عن الواقع، فهذه القوات الكردية كانت طوال سبع سنوات براغماتية إلى درجة شديدة، بحيث غيّرت تحالفاتها عدة مرات، وتنقلت بين جهات متناقضة، وشابت علاقاتها صبغة انتهازية، حيث تنقلت بالعلاقة من روسيا إلى الولايات المتحدة، وهادنت النظام السوري والإيرانيين، وسعت للحصول على موافقة تركية لمشروعها شبه الانفصالي، كما تآلفت مع وجود قوات النظام السوري في المناطق التي سيطرت عليها، وتحالفت مع المعارضة السورية ثم عادتها.
على الرغم من أن الولايات المتحدة تدعم الأكراد عسكريًا في المرحلة الحالية، إلا أنه ليس مطروحًا أن تتخلى عن تحالفها مع تركيا، صاحبة أحد أكبر جيوش الشرق الأوسط، والتي تتحكم في سورية بعشرات الآلاف من المقاتلين السوريين، والشريك الاستراتيجي والعسكري القديم، وأيضًا التي تحتل المرتبة السابعة عشر في ترتيب أكبر اقتصادات العالم، والعضو في حلف شمال الأطلسي، كما أن القواعد العسكرية الأميركية، الحربية واللوجستية، في تركيا هي من أهم وأكبر قواعد الولايات المتحدة في المنطقة، ولهذا فإن الولايات المتحدة تضغط على الأكراد في ما يتعلق بتركيا تحديدًا وتمنعهم من تحقيق ما يريدون على حساب أنقرة، لكن تكتيكات الولايات المتحدة تُزعج الأتراك وتُبقي العلاقة غير مستقرة بين الطرفين.
تزامن إعلان الولايات المتحدة أن وجودها في سورية غير محدود بزمن، مع عودة الدفء إلى العلاقات التركية – الأميركية تدريجيًا، وميل تركيا تدريجيًا بعيدًا عن المشروع الروسي، وإعلان البيت الأبيض أنه سيُخرج إيران من سورية، ولهذا حاول وفد من الكونغرس الأميركي إقناع القيادة التركية بالتخلّي عن صفقة S400 مع روسيا، مقابل تسليم مقاتلات F35 لتركيا، وكل هذا مؤشرات تؤكد أن تحالف الولايات المتحدة مع تركيا استراتيجي، وتحالفها مع الأكراد تكتيكي، وقد تضع أسسًا جديدة لهذين التحالفين في الفترة المقبلة.
سادسًا: الخاتمة
ترى الولايات المتحدة أن إيران هي مصدر خطر حقيقي على الولايات المتحدة ومصالحها، وعلى الشرق الأوسط برمته، خاصة بعد أن عززت إيران وجودها في سورية بشكل كبير عبر الحرس الثوري الإيراني و(حزب الله اللبناني) والميليشيات العراقية والأفغانية الطائفية، وعبر تسهيل النظام لها للتغلغل في المجتمع السوري، والاستفادة من الصفقات الاقتصادية لكسب أموال تحتاج إليها إيران أو لكسر العقوبات المفروضة عليها، وتعتقد الولايات المتحدة أن إيران يمكن أن تُهاجم مصالح أميركية وأهدافًا غربية فيما لو غضت الولايات المتحدة الطرف عنها، وعليه فإن الولايات المتحدة ترى أن وجودها في سورية يضمن عدم تمدد إيران نحو المتوسط، وتقطع الطريق على هلال شيعي تسعى له إيران منذ سنوات.
كذلك، ترى الولايات المتحدة أن خطر (تنظيم الدولة الإسلامية) لم ينته بعد، ويمكن أن يتجدد في أي وقت، خاصة في ظل نظامين -سوري وعراقي- ضعيفين ومرتهنين لإيران، وضمن فوضى ونشاط الجماعات الجهادية العالمية في هذين البلدين، ومن الأفضل -وفق الرؤية الأميركية- أن تبقى في سورية لضمان بقاء هذه التنظيمات الإرهابية محصورة في هذه البقعة وعدم تمددها أو عودتها إلى الحياة من جديد.
وعلى الجانب الروسي، ترى الولايات المتحدة أن روسيا التي كُلّفت في مرحلة ما بتنسيق الملف السوري، لم تعد قادرة على إدارته، ولم تستطع تحقيق نجاحات واضحة فيه، وصارت تميل لدعم النظام السوري بلا حدود، وانخرطت مع إيران في تحالفات غير منطقية وليست ذات جدوى، وتُحاول أن تستفرد بالحل السوري وتسحب البساط من الأمم المتحدة نحو سوتشي وأستانا، ولم تستطع خلال هذه الفترة أن تُدجّن النظام السوري كليًا، وتمنع لعبه من وراء الستار، وعليه، فإن الوجود الأميركي في سورية بات أمرًا ضروريًا ورسالة لروسيا بأن الحل لن يكون إلا بموافقة أميركية خالصة، وأن الالتفاف على ما يريده البيت الأبيض أمر ممنوع وغير مجدي.
إضافة إلى ذلك، لا بد -في رأي الأميركيين- من منع التنظيمات الإرهابية وإيران وروسيا من الوصول إلى النفط السوري، وأفضل الحلول هو البقاء بجانب هذه الآبار، والاستئثار بها إلى أجل غير محدد، وهذا يضمنه الوجود العسكري غير المحدد.
إعلان الولايات المتحدة عن حرب غير محدودة في سورية، لا مكانيًا ولا زمنيًا، أمر يجب أن يُقلق المعارضة السورية، خاصة أن ذلك يعني ابتعاد الحل السياسي، أو عدم وجوده على الأجندة الأميركية، وسيُبقي الأطراف الإقليمية والدولية ناشطة في سورية ضمن هذه الحرب المفتوحة، والتي ستزيد من مستوى التحديات والمواجهة المباشرة وغير المباشرة بين هذه الأطراف، أيضًا إلى أجل غير محدد.
مركز حرمون للدراسات المعاصرة – وحدة دراسة السياسات
الانسحاب الأميركي من سوريا: الأسباب والسياقات والتداعيات
تسارعت التطورات في مجريات الأزمة السورية بصورة مفاجئة منذ أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 12 ديسمبر/كانون الأول 2018، عن حملة عسكرية وشيكة شرق الفرات على مواقع الميليشيات الكردية السورية المتحالفة مع القوات الأميركية في المنطقة منذ 2015. ولم يكن هناك شك في جدية إعلان أردوغان، الذي تلته تقارير صحفية تفيد بوصول حشود عسكرية كثيفة إلى الحدود مع سوريا، واستعداد ما يقارب الثلاثين ألفًا من الجنود الأتراك وعناصر الجيش السوري الحر للمشاركة في العملية. في 15 ديسمبر/ كانون الأول 2018، أجرى الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مكالمة هاتفية مع أردوغان، تمحورت حول الحملة العسكرية التركية المتوقعة. وقد تسرب بعد هذه المكالمة ما يفيد بأن ترامب أقنع أردوغان بتأجيل العملية التركية.
بيد أن المفاجأة وقعت في وقت مبكر من 20 ديسمبر/كانون الأول، عندما غرَّد الرئيس الأميركي على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي، تويتر، معلنًا قراره بالانسحاب الأميركي العسكري من سوريا خلال مئة يوم. وقد شاع، سواء في واشنطن أم أنقرة، أن أردوغان عوضًا عن الاقتناع بتأجيل العملية العسكرية التركية شرق الفرات، كان هو من أقنع ترامب بسحب القوات الأميركية من سوريا. ومهما كان الأمر، سرعان ما اتضح أن الرئيس الأميركي اتخذ قراره دون مشاورات كافية مع وزارة الدفاع الأميركية أو كبار ضباط القيادة المركزية المسؤولة عن العمليات في سوريا، أو لجان العلاقات الخارجية والأمن والدفاع في مجلسي الكونغرس الأميركي. ولم يكن غريبًا، بالتالي، أن يتقدم وزير الدفاع، الجنرال جيمس ماتيس، باستقالته من منصبه، لخلاف في الرأي مع الرئيس، وأن يتعرض قرار ترامب المفاجئ بالانسحاب من سوريا لعاصفة من الاعتراض والشجب من كبار أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ودوائر الأمن والدفاع في العاصمة الأميركية.
مساء 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، وبعد مكالمة هاتفية ثانية في غضون أيام قليلة بين ترامب وأردوغان، أكدت أنقرة بالفعل تأجيل العملية العسكرية شرق الفرات، ولكن “ليس إلى أجل غير محدود”. فما الذي يعنيه قرار الانسحاب من سوريا؟ وإلى أية درجة سيؤثر هذا القرار على ميزان القوى الاستراتيجي في الساحة السورية؟ وهل يصب القرار الأميركي لصالح الجهود التركية للتعامل مع خطر المسلحين الأكراد على الجانب السوري من الحدود؟ وما حجم المردود الذي قد يعود على تركيا ودورها في الساحة السورية من هذا القرار؟ وما الجهة، أو الجهات المتضررة والجهات المستفيدة من القرار الأميركي؟ وكيف يُفهم هذا القرار في إطار الدور الأميركي في الشرق الأوسط، وفي سياق سياسة مواجهة إيران في الإقليم، التي تتبناها إدارة ترامب؟
الوجود العسكري الأميركي في سوريا
يُعتقد أن هناك ما يزيد على ألفين من الجنود الأميركيين في شرق وشمالي شرق سوريا، أغلبهم من القوات الخاصة والمدربين العسكريين، موزعين على عدة مواقع في جوار الحسكة والقامشلي وعين العرب، بما في ذلك ثلاث قواعد جوية. وكذلك في عدد من المواقع على الجانب السوري من الحدود مع الأردن وفي الصحراء السورية. تحتفظ هذه القوات بسلاح ثقيل، ويدعمها غطاء جوي نشط وكثيف، وتعمل بالتعاون مع آلاف من المسلحين الأكراد في شمال شرقي سوريا، أو مجموعات صغيرة من المسلحين السوريين المعارضين للنظام في جنوب البلاد.
يعود الوجود العسكري الأميركي في سوريا، الذي استهدف بصورة أساسية تنظيم الدولة، وليس قوات النظام السوري أو الميليشيات الشيعية المؤيدة له، إلى العام 2015. فقد أجبر اجتياح تنظيم الدولة السريع لعدد من المحافظات العراقية، في صيف 2014، وتوسع نطاق سيطرة التنظيم في سوريا، إدارة أوباما على العودة العسكرية إلى الشرق الأوسط. ولكن الأميركيين اختاروا، هذه المرة، تجنب لعب دور مباشر في المواجهة مع تنظيم الدولة، والاعتماد على حلفاء محليين، على أن يقتصر الدور الأميركي على التدريب والتخطيط والدعم اللوجستي والدعم الجوي والتدخل العسكري عند الضرورة القصوى.
في العراق، يتمثل حلفاء القوات الأميركية في الجيش العراقي وقوات الحشد الشعبي، أما في سوريا فقد وجد الأميركيون في قوات حماية الشعب الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني حليفًا مناسبًا، سيما بعد أن لفتت الميليشيات الكردية انتباه الأميركيين خلال المعركة مع تنظيم الدولة في مدينة عين العرب في صيف 2015. المشكلة، أن الحزب الديمقراطي الكردستاني، وكافة المنظمات التابعة له، تتهمه تركيا بأنه ليس سوى فرع سوري لحزب العمال الكردستاني، المصنف إرهابيًّا، والذي يخوض معركة مع الدولة التركية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين. ولذا، فسرعان ما أصبحت العلاقة الأميركية مع الديمقراطي الكردستاني مصدر خلاف وتوتر في العلاقات الأميركية-التركية. إضافة إلى ذلك، أثار نشر قوات أميركية في سوريا، دون غطاء قانوني أممي، ولا دعوة من الحكومة السورية، اعتراضات في دمشق وفي موسكو، سيما بعد أن أصبحت الأخيرة فاعلًا أساسيًّا في المسألة السورية منذ بداية التدخل الروسي العسكري المباشر في نهاية سبتمبر/أيلول 2015.
الحقيقة، أن إدارة أوباما لم تخطط لا لإسقاط النظام السوري، ولا لموازنة التدخل الروسي في سوريا، بل عملت بالفعل على مواجهة تنظيم الدولة وحسب. ولكن، بتولي ترامب مقاليد البيت الأبيض، رأت دوائر في الإدارة الأميركية، سيما في وزارتي الدفاع والخارجية، في وجود قوات أميركية في سوريا وسيلة مهمة لخدمة استراتيجية مواجهة إيران. فقد تبنى ترامب منذ تسلمه مقاليد البيت الأبيض هدف تحجيم النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وهو ما جعل قيادات في إدارته تنظر إلى سوريا باعتبارها ساحة صراع مع إيران، وتعمل على منع إيران من تأمين خطط إمداد آمن من كرمنشاه، عبر العراق، وصولًا إلى سوريا ولبنان. وقد أخذت هذه القيادات الأميركية في التحدث بصراحة عن الربط بين الانسحاب الأميركي وإخلاء إيراني عسكري من سوريا. في المقابل، لم يُبدِ ترامب حماسًا ملحوظًا لاستمرار الوجود الأميركي العسكري في سوريا، خاصة وأنه كان قد وعد، خلال حملته الانتخابية، في انسجام مع أولوياته القومية الضيقة، بالانسحاب من أفغانستان وسوريا. فسوريا، في رؤية ترامب للأمور، ليست منطقة نفوذ أميركي، ومهما حدث هناك فهو شأن قوى الجوار السوري ومن يرغب في التورط في أزمة تلك المنطقة.
في أبريل/نيسان الماضي (2018)، أعرب ترامب عن اعتقاده بأن المعركة مع تنظيم الدولة انتهت، وأن التنظيم لم يعد يشكِّل خطرًا على الأمن القومي الأميركي، مشيرًا إلى عزمه سحب القوات الأميركية من سوريا. ولكن ضغوطًا من أركان إدارته، سيما في وزارة الدفاع، أقنعته بضرورة تأجيل قراره إلى أجل غير محدد، متعللة بأن العمليات ضد تنظيم الدولة لم تزل مستمرة وأن استراتيجية مواجهة النفوذ الإيراني تتطلب حرمان إيران والميليشيات الشيعية المرتبطة بها من السيطرة على شرق سوريا. الآن، يبدو أن الرئيس أعلن قرار الانسحاب دون أن يسبق هذا الإعلان مشاورات كافية مع أطراف إدارته الأخرى. ويبدو أن ترامب كان يعرف، قبل اتخاذ القرار، أن مثل هذه المشاورات لن تساعده في اتخاذ القرار، نظرًا لأن وزارة الدفاع، بصورة خاصة، لن تؤيد خطوة الانسحاب. فالطبيعة المفاجئة والشخصية البحتة للقرار، كانتا السبب الرئيس خلف استقالة الجنرال ماتيس، ومعارضة القرار في الكونغرس على نطاق واسع، واستقالة المبعوث الأميركي لمواجهة تنظيم الدولة، برت ماكغورك. كما أثار القرار استغراب ودهشة حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، سيما الفرنسيين، الذين تتواجد قوات لهم مع الأميركيين في سوريا. ولا تَقِلُّ إسرائيل، التي تخشى تعزيز النفوذ الإيراني ونفوذ حزب الله في سوريا، امتعاضًا من قرار ترامب، ولكن حجم الدعم الذي تقدمه إدارة ترامب لإسرائيل في مجالات عدة مختلفة جعل احتجاج نتنياهو خافتًا.
من جهة أخرى، وجد القرار ترحيبًا من موسكو، التي أبدت معارضة متكررة للوجود الأميركي العسكري في سوريا، واعتبرته دائمًا وجودًا غير شرعي. وليس ثمة شك في أن الانسحاب الأميركي من سوريا سيفسح مجالًا أوسع للجهود الروسية الساعية إلى إعادة تعزيز سيطرة نظام دمشق على البلاد وخلق مناخ سياسي للتوصل إلى حل نهائي للأزمة السورية.
السؤال الأهم، في المدى القصير، يتعلق بطبيعة الانسحاب الأميركي وتأثير هذا الانسحاب على الخطط التركية للتعامل مع منطقة نفوذ الميليشيات الكردية المتسعة في شرق الفرات.
العملية التركية شرق الفرات
تعرضت الأولويات التركية في سوريا لتغيير كبير منذ نهاية 2015 وبدايات 2016. فقد كانت أولوية تركيا، بعد تبني مجلس الأمن القومي التركي هدف الإطاحة بنظام الأسد في نهاية 2011، توفير الدعم الضروري لقوى الثورة السورية. في نهاية العام 2015، وبالرغم من أن أنقرة لم تكن سعيدة بتوجه الولايات المتحدة نحو احتضان الميليشيات الكردية التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني، إلا أنها لم تعتبره خطرًا جسيمًا على أمنها القومي لأن تقديرات الأتراك أن العلاقة الأميركية-الكردية في سوريا ستكون محدودة ومؤقتة. وبمرور الوقت، سيما بعد أن أخذت إمدادات السلاح الأميركي للميليشيات الكردية في الازدياد، وأعلن ضباط القيادة المركزية عن خطط لتدريب عشرات الآلاف من المسلحين الأكراد، وأعلن الحزب الديمقراطي الكردستاني عن تأسيس منطقة حكم ذاتي شمالي سوريا، استشعرت أنقرة خطر ما يجري على الجانب السوري من الحدود. وربما يعتبر إخلال إدارة أوباما بالاتفاق مع تركيا على الانسحاب الكردي من منبج، غرب الفرات، بعد تحريرها من سيطرة تنظيم الدولة، في صيف 2016، بداية الصدام التركي-الأميركي في سوريا.
ليس ثمة شك في أن تركيا تنظر إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب باعتبارها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، وأنها بالتالي تمثل خطرًا مباشرًا على الأمن القومي التركي. ففي صيف 2016، نفذت تركيا عملية درع الفرات، التي استهدفت قوات تنظيم الدولة والميلشيات الكردية في الجانب السوري من الحدود غرب الفرات. وفي مطلع العام 2018، نفذت تركيا عملية غصن الزيتون، التي استهدفت إخراج الميلشيات الكردية كلية من منطقة عفرين، أقصى غرب الشمال السوري.
لقد تجنبت تركيا صدامًا عسكريًّا مع القوات الأميركية، التي انتشرت في منطقة منبج، بهدف توفير الحماية والغطاء للميليشيات الكردية في المدينة ومحيطها، إلا أن الضغط التركي على الأميركيين استمر بلا هوادة، وانتهى بعقد اتفاق بين الطرفين على خروج القوات الكردية من منبج وتسليمها لإدارة محلية من سكانها. ولكن، وبالرغم من أن تنفيذ الاتفاق حول منبج قطع شوطًا ملموسًا، إلا أن الأميركيين ظلوا يجرُّون خطاهم بتثاقل واضح للوصول بالاتفاق إلى نهايته. هذا التلكؤ الأميركي ترافق معه ارتفاع مستوى الخطر المترتب على تسليح الميليشيات الكردية، واتساع دائرة سيطرة تلك الميليشيات شرق الفرات، بعد طرد تنظيم الدولة من معظم الشرق السوري، سواء في مناطق تواجد الأكراد السوريين أو المناطق السكانية العربية.
ما تسرب عبر مصادر صحفية تركية وأميركية أن الاتصال الهاتفي الأول بين ترامب وأردوغان، الذي أُجري بعد إعلان أنقرة عزمها القيام بحملة عسكرية شرق الفرات، تضمن حديثًا عامًّا عن انسحاب أميركي من سوريا. والأرجح أن ما كان يقصده أردوغان من حديثه للرئيس الأميركي لم يكن الدعوة إلى انسحاب أميركي عسكري شامل، بل الانسحاب من العلاقة مع الديمقراطي الكردستاني ووحدات حماية الشعب. ولكن ترامب، الذي لم يخف يومًا رغبته في الخروج كلية من سوريا، عسكريًّا وسياسيًّا، توصل إلى قناعة بأن تركيا يمكنها تعهد ما تبقى من تنظيم الدولة في شرق الفرات.
الواضح أن إعلان ترامب انسحابًا شاملًا وسريعًا كان مفاجئًا لأنقرة أيضًا. فبالرغم من ترحيب أردوغان الحذر بقرار ترامب، إلا أن الرئيس التركي، في خطاب 21 ديسمبر/كانون الأول 2018، لم يُخف دهشته من القرار، وأن القيادة التركية لم يتسن لها ما يكفي من الوقت لبحث دلالاته وتداعياته. ولكن أردوغان، في الوقت نفسه، استجاب لطلب ترامب تأجيل العملية العسكرية التركية شرق الفرات، ربما حتى يكتمل الانسحاب الأميركي.
ما يهم الأتراك هو معرفة ما إذا كان الانسحاب الأميركي العسكري من سوريا شاملًا، أم أن الرئيس ترامب سيخضع في النهاية للضغوط، ويوافق على مجرد انسحاب جزئي. ومعرفة ما إذا كان الأميركيون سيقومون، قبل انسحابهم، باستعادة السلاح الذي قاموا بتسليمه للميليشيات الكردية، كما وعدوا من قبل. ومعرفة ما إذا كان الأميركيون يملكون تصورًا لمنع اندلاع حالة من الفوضي شرق الفرات بعد انسحابهم، بما في ذلك الحفاظ على أمن الأغلبية العربية في المنطقة، وتحديد مصير الآلاف من عناصر تنظيم الدولة، التي وقعت في أسر الميليشيات الكردية. لذلك فإن التحدي الذي يواجه أنقرة هو التوصل إلى اتفاق مع واشنطن على تنسيق خطوات الانسحاب الأميركي مع القوات التركية المحتشدة على الجانب التركي من الحدود، وضمان بدء العملية التركية العسكرية في الوقت المناسب.
عمومًا، وحتى إن مضت الأمور مع واشنطن بما يرضي الجانب التركي، فإن التحدي الثاني هو أن تقوم أنقرة بجهد دبلوماسي حثيث لإقناع روسيا وإيران بالموافقة على العملية التركية شرق الفرات، حتى يبذلا الجهد الضروري لمنع نظام الأسد من التعرض للقوات التركية وتحويل العملية إلى صدام عسكري تركي-سوري. ولكن هذا ليس التعقيد الوحيد الذي يحف بالعملية التركية المترقبة، فالعلاقة بين الحزب الديمقراطي الكردستاني ونظام الأسد كانت علاقة ملتبسة منذ سيطر مسلحو الحزب على شمال شرق سوريا.
وقد تجنَّب مسلحو الحزب الصدام مع قوات النظام، الذي ظلت أجهزته الأمنية تمارس عملها في الحسكة والقامشلي، بالرغم من سيطرة الميليشيات الكردية عليها. وحتى وقت قريب، كان ممثلو الحزب يلتقون مسؤولي النظام في دمشق لمناقشة العلاقة بين الطرفين وحدود الإدارة الذاتية التي يعمل الحزب على تأسيسها في مناطق سيطرته. وليس من المستبعد، في حال الانسحاب الأميركي، أن تقوم ميليشيات الحزب بتسليم مناطق سيطرتها لنظام الأسد، سيما تلك التي تقع في العمق السوري، بعيدًا عن الشريط الحدودي، وهو ما من شأنه أن يضع القوات التركية في مواجهة المسلحين الأكراد وقوات النظام معًا.
الدلالات الأوسع لقرار الانسحاب الأميركي وتداعياته
يفسح الانسحاب الأميركي المجال لقيام الأتراك بالعملية العسكرية شرق الفرات دون مخاطر الصدام مع القوات الأميركية، التي ربطتها بالمسلحين الأكراد شراكة عميقة ومتعددة الجوانب خلال السنوات القليلة الماضية. فالانسحاب، بهذا المعنى، سيجعل الإدارة العسكرية للعملية أسهل وأكثر يسرًا. والمتوقع أن يرافق خروج الأميركيين انشقاق العناصر العربية المسلحة المنضوية في إطار قوات سوريا الديمقراطية، التي تقودها وتشكِّل عمادها وحدات حماية الشعب الكردية. كما أن الانسحاب الأميركي سيعزز معنويات أبناء العشائر العربية المعارضين للسيطرة الكردية في مدن الأغلبية العربية، شرق وشمالي شرق سوريا، الذين تربطهم بالأتراك صلات وثيقة.
من زاوية النظر الاستراتيجية الأوسع، يصب الانسحاب الأميركي الشامل من سوريا لصالح كل من روسيا وإيران، القوتين الأساسيتين خلف نظام الأسد. فبخروج الأميركيين، تصبح تركيا الدولة الوحيدة المعادية لنظام الأسد، التي تحتفظ بقوات لها في سوريا وتسيطر على أراض سورية. ولذا، فليس من المستبعد أن يجعل الخلل الناجم في ميزان القوى التفاوض بين تركيا، من جهة، وإيران وروسيا، من جهة أخرى، حول مسار حل الأزمة السورية، أكثر صعوبة. كما سيجعل نظام الأسد وحلفاءه أكثر جرأة، على المديين القصير والمتوسط، في المطالبة بخروج القوات التركية من الأراضي السورية. وربما ستكون خطوة النظام الأولى في هذا الاتجاه، إن حصل على موافقة روسية، محاولة إخراج المعارضين المسلحين من محافظ إدلب، بغضِّ النظر عن وجود مراكز المراقبة التركية في محيط المحافظة السورية.
الدرس الأكثر دلالة للانسحاب الأميركي يخص القوميين الأكراد في الحزب الديمقراطي الكردستاني والمنظمات المتفرعة عنه، ومن خلف هؤلاء الحزب الأم، حزب العمال الكردستاني. فقد تبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني خلال السنوات القليلة الماضية، في ظل الشراكة والدعم الأميركيين، سياسة قمعية في مناطق سيطرته المتسعة، سواء ضد القوى الكردية المخالفة أم ضد السكان العرب. ولم يتورع مسلحو الحزب عن تهجير عشرات الآلاف من السكان العرب من قراهم ومدنهم، سواء لتحقيق أمن استراتيجي، أو صناعة أغلبية كردية ديمغرافية في منطقة الحكم الذاتي المتصورة.
الآن، يدير الأميركيون ظهرهم لشركائهم الأكراد، ويتركونهم عزلًا للقوات التركية من جهة، أو قوات نظام الأسد من جهة أخرى. وكما تخلى الأميركيون، ونظام شاه إيران، عن الحركة القومية الكردية العراقية في منتصف سبعينات القرن الماضي، يتخلى الأميركيون عن نظرائهم في سوريا.
على المستوى الإقليمي، يرسل الانسحاب الأميركي رسالة لا تقل دلالة للحلفاء العرب في السعودية والخليج، الذين عوَّلوا كثيرًا على إدارة ترامب في المواجهة مع إيران. فقرار ترامب بالانسحاب من سوريا، دون حتى مجرد تشاور شكلي مع الرياض وأبوظبي، يترك فجوة هائلة في استراتيجية محاصرة إيران. ولم يعد من المستبعد أن يقرر ترامب في المستقبل القريب انسحابًا مماثلًا من أفغانستان والعراق، أو على الأقل خفضًا ملموسًا في حجم الوجود العسكري في البلدين. ولكن، وحتى دون ذلك، فمن المؤكد أن الانسحاب الشامل من سوريا يوفر كسبًا استراتيجيًّا لإيران ولنفوذها المتسع في العراق وسوريا ولبنان.
ماذا بعد الانسحاب الأميركي من سوريا؟/ روبرت فورد
ربما بمقدور القراء في منطقة الشرق الأوسط سماع الصرخات التي انطلقت من مسؤولين ومحللين أميركيين في واشنطن بخصوص قرار الرئيس دونالد ترمب، سحب جنود أميركيين من شرقي سوريا. ويتعين عليّ هنا الاعتذار عن جهاز الأمن الوطني في بلادي، فقد علم مسؤولو وزارتي الدفاع والخارجية القرار عندما أطلق الرئيس تغريدة تضمنت القرار في 19 ديسمبر (كانون الأول).
ويحق للقراء التساؤل: أين التنسيق داخل المنظومة المعنية بالسياسة الخارجية الأميركية؟ في الواقع، هذا التنسيق مهمة مستشار الأمن الوطني جون بولتون والموظفين العشرة المعاونين له داخل مجلس الأمن الوطني بالبيت الأبيض. ويتحمل هؤلاء مسؤولية إخطار وزارتي الدفاع والخارجية بقرارات الرئيس.
أما أن تعلم الوزارتان بأمر قرار الرئيس من خلال تغريدة عبر «تويتر» فهذا أمر يتعذر تصديقه. والأمر الذي لا يقل استغراباً عدم إخبار الحلفاء الأكراد والعرب داخل قوات سوريا الديمقراطية، ومن المحتمل أن يترتب عليه سقوط ضحايا أكراد. كان أكراد سوريا بحاجة إلى إبرام اتفاق سياسي جيد مع الأسد قبل أن يظهر قرار الانسحاب ذلك على السطح.
ويمثل توقيت إعلان القرار مشكلة، لكن تبقى مسألة ما إذا كان قرار الانسحاب يخدم مصالح الولايات المتحدة قضية أخرى. من جانبهم، يقول منتقدو ترمب إن انسحابه يمنح النصر في الحرب السورية لروسيا وإيران وبشار الأسد. ويرفضون قبول أن الأسد وحلفاءه انتصروا بالفعل في الحرب. الشهر الماضي، سمعت مسؤولاً أميركياً بارزاً يتحدث خلال مؤتمر استضافته دول شرق أوسطية حول أن الأسد ليس بمقدوره الانتصار لأن الأميركيين يسيطرون على 30% من سوريا وحقول النفط بها. لكن الحقيقة الأكبر أن الأسد وحلفاءه يسيطرون على معظم أرجاء سوريا وجميع المدن الكبرى بالبلاد. كما أنهم على قدر من القوة يمكّنهم من رفض المقترحات السياسية لمبعوث الأمم المتحدة وعدم تكبد ثمن باهظ مقابل ذلك. أما الأميركيون، فإنهم يسيطرون على الصحارى ومدينة الرقة التي تعاني بالفعل مشكلات أمنية بين قوات سوريا الديمقراطية والسكان المحليين. وربما تعمد الاستخبارات السورية إلى تأجيج هذه التوترات.
وتتمثل حقيقة أخرى في أن حقول النفط لا تشكل أهمية كبيرة بالنسبة إلى الأسد، فهي لا توفر أموالاً كافية لإعادة بناء سوريا. جدير بالذكر أن إيرادات النفط السوري عام 2009، أي قبل الثورة، بلغت 3.2 مليار دولار، تبعاً لتقديرات صندوق النقد الدولي. الآن، تحتاج سوريا إلى 300 مليار دولار على الأقل لجهود إعادة البناء، حسب تقديرات البنك الدولي. ويحتاج الأسد إلى أموال ضخمة من الخليج وآسيا وأوروبا. والأهم من ذلك أن الأسد وكبار مسؤوليه لا يأبهون من الأساس لعملية إعادة إعمار سوريا، وإنما سيعملون على معاونة مناطق قليلة مهمة لهم سياسياً ويقمعون المظاهرات في مناطق أخرى من البلاد.
ربما لا يكون ترمب الرئيس الأميركي الأذكى، لكنه أدرك الاختلاف بين الآمال الأميركية غير الواقعية والنتائج المحتملة لعملية عسكرية طويلة الأمد داخل بيئة عصيبة. كما أنه أدرك التأثير السلبي على المشهد السياسي الداخلي حال تعرض القوات الأميركية شرق سوريا لسقوط أعداد كبيرة من الضحايا على غرار ما تعرضت له قوات مشاة البحرية في بيروت عام 1983، وهل هناك مَن يشكّ لحظة في أن بشار الأسد وقوات الحرس الثوري الإيراني ستتعاون مع جماعة «داعش» لمهاجمة الأميركيين شرق سوريا؟
ويتوقع بعض المسؤولين الأميركيين الذين استقالوا أو سربوا انتقادات إلى وسائل الإعلام أن «داعش» سيزداد قوة من جديد. وهذا أمر محتمل بالفعل، خصوصاً أن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عاونت «داعش» لا تزال قائمة. كما أن آيديولوجية هذه الجماعة لا تزال قائمة هي الأخرى. وليس بإمكان وزارة الدفاع أو الخارجية تفسير كيف أن 2000 جندي أميركي وبضعة دبلوماسيين أميركيين سيتمكنون من إصلاح مشكلات سوريا وإقناع حكومتي دمشق وأنقرة بقبول المنطقة الكردية السورية ذات الحكم الذاتي من أجل استمرار قوات سوريا الديمقراطية في عملياتها العسكرية في مواجهة ضد «داعش». ويبدو هذا حلماً لطيفاً، لكن من السخف الاعتقاد أنه سيتحقق في المستقبل القريب.
لطالما انتقدتُ وحشية حكومة الأسد وجرائم الحرب التي ارتكبتها، لكنني حزين للغاية بأن أعترف أنه في نهاية المطاف فإن الحكومة السورية فقط هي القادرة على تحمل مسؤولية اجتثاث من غرب وشرق البلاد على المدى البعيد.
وأصبح التساؤل الآن ما إذا كانت الحكومة السورية قادرة على النجاح في مواجهة «داعش». وسيكون من الأفضل لو أن حكومة الأسد تعمل مع قوات سوريا الديمقراطية، لكن واشنطن ليست باستطاعتها السيطرة على دمشق. وقد أصدر ترمب القرار بمعاونة الأسد في مواجهة «داعش»، والسعي للتأثير على الأسد من خلال جيرانه الأقرب. ولدى هذه الدول فهم أفضل لسوريا و«داعش» من الأميركيين الذين لا يزال يدور تفكيرهم حول العراق منذ 10 سنوات، وليس سوريا اليوم. وبالتالي نجد أن النتيجة التي خلص إليها ترمب ربما لا تكون بالبساطة التي بدت عليه للوهلة الأولى.
الشرق الأوسط
تجارة ترامب السورية لا تُرجع تكاليفها/ إبراهيم الزبيدي
بنى كثيرون من زملائنا الكتّاب العرب والمحللين تحليلاتهم وتفسيراتهم لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب المفاجئ من سوريا، وترك الساحة لروسيا وإيران وتركيا على أساس أنه قراره الشخصي المفاجئ وواحد من قراراته المزاجية الأخرى.
نعم ولا. فهو قراره، صحيح، ولكن قرارات كبرى تدخل في إطار الحرب والسلم والعلاقات والاتفاقات الاستراتيجية مع الخارج، بشكل خاص، لا يصنعها رئيس ولا كونغرس، رغم أنهما من ضمن صانعيها المهمين، بل توعز بها وقد تصوغها وترسم أبعادها وأهدافها الإمبراطوريات الاقتصادية الكبرى التي تمول ضرائب أرباحها المدفوعة للحكومة الفيدرالية ثلاثة أرباع ما تنفقه على سياساتها ونشاطاتها وأجهزتها من أموال.
وكل ما ترسله أميركا إلى خارج حدودها من معونات مالية أو عسكرية أو تكنولوجية أو ثقافية، وكل جهود مخابراتها، وجميع قواعدها العسكرية الثابتة، وبوارجها السابحة في البحار، وأقمارها الجائلة في الفضاء، لها هدف واحد هو حماية الصادرات وضمان الواردات، وتحييد الرافضين للهيمنة الاقتصادية الأميركية الطاغية على عالم اليوم.
بعبارة أوضح. إن السياسة الخارجية الأميركية تجارية نفعية بالدرجة الأولى ليس فيها كراهية ثابتة لخصم ولا محبة دائمة لحليف. وترامب، بحكم تاريخه الطويل في عالم التجارة والاقتصاد، أقرب من أي رئيس أميركي سابق إلى مراكز القوى الاقتصادية، وأقدرهم على تفهم مطالبها وحاجاتها وتنفيذ مقترحاتها، خصوصا في ما يتعلق بأسواق الدول القادرة على البذل والشراء.
جميع ما اكتسبه ترامب من خبرة، عبر نصف قرن من الزمان، كان في إدارة البارات ونوادي الخمر والقمار وتجارة العقار والفنادق الباذخة. وأثبت شطارة فائقة، على عادة جميع المقاولين في العالم، في تحقيق أقصى تخفيض ممكن للتكاليف، حتى لو كان ذلك عن طريق استغلال الثغرات ونقاط الضعف في القوانين، والإفلات من الضرائب وديون الحكومة والمُقرِضين.
وفي حساب الخسارة والربح ليست سوريا بذلك السوق الذي يسيل عليه لعاب مدراء مصانع السلاح والتكنولوجيا والزراعة والطاقة، وبالتالي فإن بقاء القوات الأميركية فيها يكلف الكثير مقابل الأقل من القليل. ولا ننسى أن لوازم الانتخابات الرئاسية القادمة تفرض عليه أن يُبطل ما يستطيع إبطالَه من سهام الديمقراطيين، وخاصة في ما يتعلق بالميزانية وروسيا بوتين.
من هنا، أصبح مفهوما أن يقرر ترامب سحبها منها وتوفير المال والجهد والعتاد، ما دامت روسيا وإسرائيل وتركيا التي تتولى إدارة الساحة السورية لا تشكل تهديدا من أي نوع لمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي بكل تأكيد. ثم إن التخلي عن سياسته المعلنة الداعية إلى إخراج إيران من سوريا، قد يكون أمرا نافعا، من نواح عديدة في المديين القريب والبعيد. وحتى الوجود الإيراني في العراق لم يكن ولن يكون مؤذيا لحكومة أميركا وشركاتها ومصانعها، إذا عرفنا حجم ما أنفقه العراق على السلاح والتكنولوجيا والخبراء من أموال، وما تحمله من ديون، منذ العام 2003 وحتى اليوم، بعلم القيادة الإيرانية وموافقتها الثابتة على ذلك دون ريب.
كما أن إيران، بنظامها الذي يعادي حكومات الدول العربية، عموما، والخليجية بوجه خاص، ويستنزف خزائنها، ويشغلها ويقلق أمنها واستقرارها، ويعطل الكثير من مشاريعها التنموية، نافعة وغير ضارة لأحد في أميركا، جمهوريا كان أو ديمقراطيا. وحتى القوانين التي يشغل الكونغرس، بجمهورييه وديمقراطييه، والبيت الأبيض نفسيهما بها بزعم معاقبة إيران والحد من نفوذها هي لزوم ما يلزم لإقناع العرب بأن أميركا لا تتخلى عن حلفائها، وتحمي أمنهم، وتعادي من يعاديهم، وهذا هو الدليل.
وما يدور على الساحة السياسية الداخلية الأميركية بين الجمهوريين والديمقراطيين لا يعدو كونه مشاغبات أخوين شقيقين في منزل الأسرة الواحدة. فلا ترامب في وارد الدخول في قتال شوارع مع الديمقراطيين، ولا الديمقراطيون معنيون بذلك إلا فيما يحقق الأهداف العليا الاسترتيجية أولا، ويُغلب أحدهما على غريمه في القيادة، وقبل أي شيء آخر.
وأخيرا، كتب دانيل ديبيتريس المعروف بدعمه الثابت لترامب مقالة في صحيفة (واشنطن إكزامينير) فقال، “إن هذا القرار سيمنع حدوث أزمة محتملة مع روسيا، فإن إطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في سوريا قد تزيد احتمالات وقوع صدام مع روسيا، وهو ما لا مبرر له”.
كاتب عراقي
العرب
ما وراء الانسحاب الأميركي من سورية/ علي العبدالله
المفاجأة، الصدمة، القلق، خلط الأوراق، كسر الجمود، قلب الطاولة، ملء الفراغ، مفرداتٌ طغت على تعليقات المعلقين والمحللين السياسيين على قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوات الأميركية من سورية، رافقها ميل واضح إلى الحديث عن الانعكاسات المباشرة على القوى المنخرطة في الصراع على سورية والأدوار والمواقف المنتظرة منها، وتقديرات بشأن الرابحين والخاسرين نتيجة القرار، من دون كبير اهتمام بالخلفيات التي دفعت الرئيس الأميركي إلى اتخاذ القرار، على الرغم من معارضة أركان إدارته: وزارة الدفاع (البنتاغون) وكبار الجنرالات ومسؤولي الملف السوري في وزارة الخارجية، وتأثير هذه الخلفيات على مستقبل القرار ومصيره.
ربطت تعليقات سياسية بين القرار ووعود ترامب الانتخابية، ناسية أن الوعود الانتخابية غدت غير ذات شأن، بعد مرور سنتين على فوزه وتسلمه مقاليد السلطة، من دون أن يذكّره أحد بها، أو يلومه على إهمالها ويطالبه بتنفيذها؛ ما جعل الربط بينها وبين القرار نمطيا وغير مناسب لتفسير اتخاذ القرار. زعم صحيفة يسرائيل هيوم، في تقرير، يوم 21/12/2018، أنّ تفاهما أميركيا إسرائيليا عربيا مع روسيا سبق الإعلان الأميركي، تمحور حول تعهد روسيا بكبح جماح إيران وحزب الله اللبناني في سورية، والسماح بعودة حرية الحركة الإسرائيلية في الأجواء السورية ضد أهداف لحزب الله وإيران، وضد نقل أسلحة كاسرة للتوازن، كذّبه تعليق المؤسستين العسكرية والاستخبارية الإسرائيليتين اللتين رأتا “أن القرار يعني أن الرئيس دونالد ترامب قد ألقى بإسرائيل تحت عجلات القطار الروسي”. وقول معلق الشؤون الاستخبارية، رونين بريغمان، في تعليق بثته القناة الإسرائيلية العاشرة في اليوم نفسه، “لا يمكن تصور حجم الغضب والإحباط الذي يعصف حاليا بكبار قادة الجيش والاستخبارات الإسرائيلية في أعقاب القرار الأميركي، وتحذيرهم من انعكاساته: القرار يمكن أن يفضي إلى “تبديد الإنجازات” التي حققتها إسرائيل خلال الأعوام الثلاثة، عبر تدخلها العسكري المباشر لإحباط نقل السلاح إلى حزب الله وإعاقة سعي إيران إلى التمركز عسكريا في سورية”. وقول معلق الشؤون العسكرية في صحيفة يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي، “القرار يهدّد البيئة الإستراتيجية لإسرائيل.. وتفكيك القاعدة العسكرية الأميركية في منطقة التنف، قاعدة للوحدات الخاصة الأميركية،
بالقرب من مثلث الحدود السورية الأردنية الإسرائيلية، سيمثل ضربة قوية لإسرائيل، على اعتبار أن القاعدة تلعب دورا مهما في منع إيران من نقل السلاح والعتاد إلى سورية عبر البر، إلى جانب إسهامها في منع الحرس الثوري الإيراني ومقاتلي حزب الله من التمركز في جنوب سورية ومنطقة الجولان”.
ثلاثة عوامل وقفت وراء قرار الانسحاب: أولها: التصعيد التركي ضد تبنّي الولايات المتحدة لقوات سورية الديمقراطية (قسد) التي تشكل “وحدات حماية الشعب” و”وحدات حماية المرأة” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) عمودها الفقري، والدعم العسكري الكبير (أوردت تركيا مرات عديدة عدد الشاحنات التي نقلت العتاد، أكثر من خمسة آلاف شاحنة، وأنواعه واحتواءه على أسلحة ثقيلة تشكل خطرا على الأمن القومي التركي)، والبرامج المعدّة لزيادة عددها وتطوير قدراتها وكفاءتها (تدريب بين 30 ألفا و40 ألف عنصر حرس حدود) وتمويلها وحمايتها، بتجاهل تام للتحفظ التركي واعتباراته، التحفظ على الخلفية القومية للقوات والمشروع السياسي الذي تسعى إلى تنفيذه وانعكاسه على القضية الكردية في تركيا، وإعلان الرئيس التركي، أردوغان، نيته شن عملية عسكرية شرقي الفرات ومنبج، للقضاء على هذا “الخطر”؛ وبدء تدفق قوات تركية على الحدود في مواجهة المدن السورية التي تسيطر عليها “قسد”. وقد وجدت الإدارة الأميركية نفسها ممزقةً بين حليفين، دولة عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقوات لعبت دورا وازنا في القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سورية. وقد زاد الطين بلة رفض “قسد” الحل الوسط الذي اقترحته لتليين المواقف القاضي بابتعادها عن الحدود ونشر قوات كردية (بشمركة روجافا) وأخرى عربية في مواقعها.
حاولت الإدارة الأميركية تنفيس الاحتقان التركي، واحتواء الانفجار المتوقع عن طريق العمل على صياغة الوضع شرقي الفرات، بإعادة صياغة “الإدارة الذاتية” التي شكلها حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) بتوسيع مشاركة بقية المكونات في الإدارة واتخاذ القرار؛ والتصويب على التغيير السكاني الذي نفذته “الوحدات” في بلدات وقرى عربية وآشورية سريانية، وترتيب شرقي الفرات بمطابقة تركيبة المجالس المحلية مع مجتمعاتها؛ وتحقيق توازنٍ في قوات “قسد” بإشراك مزيد من العرب والتركمان، وإسناد مواقع قيادية لهم، بحيث تكون مشاركتهم في اتخاذ القرارات حقيقية وملموسة.
ثانيها: تواضع مساهمات الحلفاء، أعضاء التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش، العسكرية والمالية، مشاركة عسكرية صغيرة؛ مئات من القوات الخاصة البريطانية والفرنسية والإيطالية والنرويجية، ومساهمة مالية سعودية وإماراتية يتيمة، مائة مليون دولار، علما أن الرئيس الأميركي سبق أن ربط بقاء القوات الأميركية في سورية بالمساهمة في تغطية تمويلها، في موقف ينسجم مع تركيبته تاجر عقارات ومستثمرا يقيس الأمور بميزان الربح والخسارة، وتجاهلهم (الحلفاء) رغبته برفع مستوى مشاركتهم الميدانية ومساهمتهم المالية.
ثالثها: تبرّم الرئيس الأميركي وضجره من العمل المؤسسي المنضبط، واستياؤه من ضغط المؤسسات الأميركية عليه، كي يلتزم بمعاييرها وتقديراتها وتصوراتها وخططها.
وهناك عوامل داخلية، تحقيقات المحقق الخاص روبرت مولر، وتوسعه في التحقيق مع أركان الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي وأسرته، وصولا إلى شخصه؛ مع توقع صدور تقرير مولر النهائي في الشهرين المقبلين، الاشتباك مع الكونغرس على خلفية رفضه تقديم خمسة مليارات دولار، لتمويل مشروع الجدار على الحدود مع المكسيك، وافق على تقديم مليار ونصف المليار، الخلاف مع وزارة الدفاع (البنتاغون) لاعتراضه على إرسال الجيش إلى الحدود مع المكسيك، لرد المهاجرين، تعثر التعيينات الجديدة في معظم المناصب الشاغرة، تواصل هبوط البورصة السريع والمتوالي، وسط توقعاتٍ باقتراب دخول الاقتصاد في دورةٍ من الركود، تفاقم الخلافات بشأن السياسة الخارجية، سيما بين البيت الأبيض والكونغرس، وخصوصا الجمهوريين فيه. وهي مرشحة لمزيد من التعقيد، في ضوء عزم الرئيس سحب نصف القوات الأميركية من أفغانستان، استياء الرئيس الشديد من تعليق “البنتاغون” على قول الرئيس التركي عن فحوى مكالمته الهاتفية معه “إنه وجد تفهما للعملية العسكرية في شرق الفرات”.. لعبت هذه العوامل دورا حاسما في الصيغة الحاسمة والسريعة للقرار (انسحاب كامل وفوري في مدة لا تتجاوز مائة يوم).
فاجأت ردود الفعل المحلية والخارجية على قرار الانسحاب البيت الأبيض، بقدر مفاجأته لهذه القوى والدول بقرار الانسحاب، ربما أكثر، حيث عزف “البنتاغون” عن التعليق، وصمتت وزارة الخارجية، وألغت مؤتمرها الصحافي اليومي قبل ساعتين من موعده، لتحاشي أسئلة محرجة حول القرار. وطلب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، السناتور بوب كروكر، موعدا مع الرئيس، للاطلاع منه على الأسباب التي حملته على اتخاذ قراره، ثم قرّر البيت الأبيض إلغاء اللقاء في آخر لحظة؛ الأمر الذي فاقم الاعتراض في الكونغرس، وعزّز الشكوك بشأن الدواعي، وانتقاد أعضاء في مجلس الشيوخ والنواب القرار، ومطالبتهم بإجراء جلسات استماع لمناقشة حيثياته، وظروف اتخاذه، وانتقادات خبراء ووسائل إعلام أميركية كثيرة للقرار، وإبراز سلبياته على الإستراتيجية الأميركية، والدور الأميركي عامة، وفي الحل في سورية خصوصا. وكانت ذروة الاعتراضات استقالة وزير الدفاع، جيمس ماتيس، انطوت رسالة الاستقالة على نقدٍ قاس لسياسة ترامب، والمبعوث الأميركي إلى التحالف الدولي، بريت ماكغورك. هذا بالإضافة إلى انتقادات أوروبية وإسرائيلية.
أثار قرار الانسحاب نقاشاتٍ بشأن انعكاساته على المشهدين، السوري والإقليمي، من رفع الغطاء السياسي، والحماية العسكرية عن “قسد”، وفتح طريق للعملية التركية، إلى إطلاق سباق على ملء الفراغ، ما يضع تركيا في مواجهة حتمية مع روسيا وإيران على خلفية تناقض المصالح والرؤى، ما دفعها إلى السعي مع الولايات المتحدة من أجل انسحاب تدريجي، قال الرئيس الأميركي إنه اتفق مع الرئيس التركي على انسحاب بطيء ومنسق بدقة، وهذا سيزيد حدة التناقض مع روسيا وإيران. روسيا تنتظر تنفيذ القرار، لأنها لا تثق بالنوايا الأميركية، كي تدفع شركاءها جانبا وتستأثر بالغنيمة، إيران مرتاحة للقرار الذي ضحّى بموقع ودور حسّاسيْن، من أجل توفير بعض المال، ما يمنحها الأمل بانسحابٍ من المنطقة، والتخلي عن خطة محاصرتها. تراهن بعض القوى على الضغوط الداخلية والأوروبية والخليجية، خصوصا إذا تقدمت بعروض لرفع مشاركتها الميدانية والمالية، والإسرائيلية؛ لدفع الرئيس الأميركي إلى التراجع عن القرار، المؤكد أن تنفيذه سيفتح باب الصراع على شرقي الفرات من أجل التحكّم بمصير سورية كاملة.
العربي الجديد
لماذا المفاجأة؟/ مروان قبلان
لا أعرف بالضبط لماذا مثّل قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الانسحاب من شمال شرق سورية مفاجأة، فالرجل كان قد أعرب عن رغبته في الانسحاب أكثر من مرة خلال العام الماضي، ففي خطابٍ أمام جمهور له في ولاية أوهايو في 29 مارس/ آذار الفائت، قال ترامب إن القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية بات وشيكا، وإنه يريد الانسحاب من سورية بسرعة، لكن تدخل بعض مستشاريه وحلفائه الإقليميين دعاه إلى التراجع مرحليا. وفي الثالث من إبريل/ نيسان الماضي، قال ترامب إنه أعطى وزارتي الخارجية والدفاع مهلة ستة أشهر، للقضاء نهائيا على تنظيم الدولة الإسلامية، ما يعني أن قراره البقاء كان لمدة محددة فقط.
لكن، من جهة ثانية، كانت هناك معطيات مهمة تشير إلى العكس، إذ سرى اعتقاد أن إحاطة ترامب نفسه في السنة الثانية من حكمه بمجموعةٍ من المساعدين الأشد عداءً لإيران، منذ إدارة جورج بوش الابن الأولى (2001-2005)، قد يكون أثّر في تفكيره، لجهة الاحتفاظ بقواتٍ في سورية، خصوصا بعد أن قرّر في الثامن من مايو/ أيار الماضي الانسحاب من الاتفاق النووي، وإعادة فرض عقوبات اقتصادية على إيران، فمستشار الأمن القومي، جون بولتون، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، والمبعوث الخاص إلى سورية، جيمس جيفري، يعدّون صقورا عندما يتعلق الأمر بإيران. وقد درجوا، على مدى الشهور الماضية، على التأكيد أن هدف واشنطن الرئيس من الاحتفاظ بوجود عسكري في سورية، بعد القضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، هو منع إيران من تحقيق تواصل جغرافي بين مناطق نفوذها في العراق وسورية ولبنان. وفي مؤتمر صحافي على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي، بدا بولتون واثقا بقوله “إن واشنطن باقية في سورية، طالما بقيت إيران خارج حدودها”.
كان البنتاغون (وزارة الدفاع) يضغط باتجاه البقاء، وإن لأهداف مختلفة، بدليل الاستمرار في إنشاء قواعد عسكرية أميركية في المنطقة، كان آخرها في عين العرب، فيما غدت قاعدة التنف في الجنوب الشرقي عين أميركا على إيران وأذنها. وكان وزير الدفاع المستقيل، جيمس ماتيس، يرى أن تنظيم الدولة الإسلامية لم ينته بعد، وأن الانسحاب في هذه المرحلة قد يؤدي إلى عودته، وربما بأشكال أخرى، وهو كلام كان قد ردّده وزير الخارجية السابق، ريكس تيلرسون، عندما وضع ما اعتقد حينه أسس سياسة جديدة في سورية، قوامها عدم تكرار خطأ الانسحاب من العراق، عندما هيمنت إيران، وعادت القاعدة بحلة جديدة (تنظيم الدولة الإسلامية)، كما أشار تيلرسون، في خطابه أمام معهد هوفر في جامعة ستانفورد في يناير/ كانون الثاني 2018. من جهة ثانية، بدا “البنتاغون” أقل استعدادا للتخلي عن الحلفاء الكرد الذين أثبتوا فائدة كبيرة في قتال تنظيم الدولة الإسلامية، فضلا عن إمكانية استخدامهم أداة ضغط فعالة، عند الحاجة مع تركيا.
فوق ذلك، ساد اعتقاد أن بقاء القوات الأميركية بالنسبة لترامب من عدمه قضية مالية، فوجه اعتراضه الرئيس على الاحتفاظ بوجود عسكري في سورية يتمثل في التكلفة، لكن السعودية، التي يعنيها أكثر من غيرها بقاء الأميركيين في سورية لمواجهة النفوذيْن، الإيراني والتركي، تعهدت في الصيف الماضي بتحمل كامل نفقات بقاء هذه القوات، ومقدارها 300 مليون دولار، سدّدت الدفعة الأولى منها (100 مليون دولار) في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
لكن هذا كله لم يسهم، على ما يبدو، في تغيير موقف ترامب، فعندما لاحت له فرصة لتنفيذ رغبته بالانسحاب، أخذ المال السعودي، تخلّى عن الحليف الكردي، أخرج وزير دفاعه المعترض، وترك الآخرين، خصوما وحلفاء، في حالةٍ من الذهول والحيرة. ولا تنتهي القصة هنا طبعا، فبقراره الخروج من سورية، يوجّه ترامب دعوة إلى كل القوى المتحفزة لوراثة التركة الأميركية للتنافس والتناحر، وهو يضع خصوصا شركاء أستانة (روسيا وإيران وتركيا) أمام امتحانٍ عسير، فالروس والإيرانيون والأتراك كانوا متفقين على ضرورة إخراج القوات الأميركية من سورية، أما الآن وقد خرجوا، فماذا هم فاعلون؟ هل يتجهون نحو صدامٍ يقضي على كل تفاهمات أستانة، أم إلى اتفاقٍ لتقاسم النفوذ، وما مصير اتفاق إدلب في كلتا الحالتين؟
العربي الجديد
استراتيجية الفوضى العارمة/ عبد الوهاب بدرخان
أنهى الرئيس الأمريكي منتصف ولايته بانسحابَين، من سوريا وأفغانستان، يغيّران استراتيجية الولايات المتحدة ومفاهيمها السياسية.
وجاء الإعلان عن عزم دونالد ترامب على إجراء قمة ثانية مع كيم جونغ أون ليوضح أن مغادرة الشرق الأوسط الكبير لتعزيز التوجّه إلى شرق آسيا والمحيط الهادئ هو الاستراتيجية الأميركية الثابتة منذ الإخفاق الكبير في العراق.
ولا يعادل انسحاب ترامب من سوريا وأفغانستان سوى إحجام أوباما عن التدخّل في الأولى وتردّده في تعزيز القوات في الثانية. أي أنها سياسة واحدة بوجهين وأسلوبين وحتى بدوافع متماثلة!
فكلاهما سعى إلى تحديد الأهداف المتوخّاة والمهل الزمنية لتحقيقها، وإذا كان ترامب يدفع إلى الواجهة بتكاليف التدخّلات، فإن هذه لم تغب عن ذهن أوباما الذي كان يبحث عن التداعيات المستقبلية.
يتبيّن في النهاية أن لكلٍّ منهما أسبابه لكنهما متفقان على النهج التقليدي للتدخّلات الخارجية في السياسة الأميركية.
كما في كل مرّة، يمكن القول إن أي تدخّل مرحّب به إذا كان غرضه حلّ النزاعات وتحقيق السلام، سواء كان أميركياً أو غير أميركي، غير أن هذا نادراً ما يحصل. فكلّ تدخّل يستدعي تدخّلاً مضاداً ويفرض تعقيدات إضافية لا تلبث أن تطيل أي نزاع أو تعبث بحقائقه وتجعل حلوله أكثر صعوبة.
المفارقة أنه مع النموذج الأميركي أصبح ممكناً القول إن الانسحاب بعد التدخّل أو “عدم التدخّل” – إذا صحّ – غير مرحّب به. لماذا؟
لأن الوجود الأميركي على الأرض أقام توازنات ومعادلات بين قوى دولية وإقليمية ومحلية، وارتبطت به – خطأً أو صواباً – تطلّعات الشعوب المعنية إلى السلام والاستقرار.
حدّدت أميركا ترامب وأوباما محاربة الإرهاب هدفاً، لكن التقويمات والتقديرات كافةً، بما فيها الأميركية، أظهرت أن هزيمة الإرهاب لم تكتمل بعد، ولذلك فإن الانسحاب الأميركي خطوة قد تهيّئ لهدف معاكس يناسب جماعات الإرهاب والقوى المتوارية وراءها.
ما دام ترامب يغلّب وعوده الانتخابية على واجبات أميركا وصورتها، فإن الأسوأ هو ما يمكن توقّعه منه. لم يعد مستبعَداً أن ينسحب من العراق تقليصاً للتكاليف، ومن كوريا الجنوبية متى وجد أن ذلك يمكن أن يحقّق الأهداف الأبعد مدىً في جنوب شرقي آسيا.
ويصحّ في هذا السياق التساؤل عن مصير «استراتيجية احتواء إيران» طالما أن واشنطن أزاحت عقبة من أمام التوسّع الإيراني وإقامة ممر طهران – بيروت عبر بغداد ودمشق، بل طالما أن ضغوطها لإنهاء حرب اليمن أثمرت «تفاوضاً» أممياً مع الانقلابيين.
كان الخبراء يقدّرون أن التأثير المستهدف للعقوبات على إيران لن يظهر قبل ستة شهور أو سنة، غير أن مكاسب خطوة الانسحاب ستمكّن إيران من الصمود لفترة أطول.
كانت المواجهة مع إيران وتدخّلاتها رتّبت على دول المنطقة أعباء سياسية وأمنية وعسكرية ومالية هائلة وأضافت «استراتيجية ترامب» إليها أعباء أخرى، ومن الطبيعي أن تتساءل هذه الدول الآن عن إمكان انقلاب ترامب على استراتيجيته.
لا شك في أن «تغريدة» الانسحاب دمّرت بثوانٍ معدودة الكثير من حسابات الدول، وأيضاً الكثير من آمال الشعوب. قد لا يكون ترامب مهتمّاً بالجدل حول مصداقية أميركا.
لكنه خاطب الشعب الإيراني بنفسه أو بوساطة وزير خارجيته ليلفته إلى أفق جديد، وإلى إمكان التخلص من حكم الملالي، ولا بدّ أن الإيرانيين يشعرون الآن بأن فسحة الأمل تقلّصت، أو هي في سبيلها إلى الزوال.
لعل الرسالة نفسها بلغت العراقيين الذين يتوجّسون من التقلّبات الأميركية.
أما بالنسبة إلى السوريين فقد جاءهم قرار ترامب في توقيت قاتل، أي في اللحظة التي ينبغي أن يتحدد فيها مصير التسوية السياسية، إذ كان يُنظر إلى وجود الولايات المتحدة في المعادلة باعتباره – خطأً أو صواباً – ضماناً لتسوية متوازنة.
المتفق عليه أن القرار الأميركي بتفويض روسيا في الملف السوري كان ضمنياً مكبّلاً بالشروط ثم أصبح الآن علنياً وعملياً. لكن الترحيب الروسي بخطوة ترامب لا يخلو من استياء ضمني!
فالهروب الأميركي يغرق روسيا وحدها أكثر فأكثر في المستنقع السوري، وفي المقابل يحرمها من مساومة واسعة أملت بها دائماً لتشمل سوريا وأوكرانيا وملفات أخرى لكن واشنطن رفضتها.
أما الآن ومع إطلاق يدها في سوريا فقد باتت روسيا ملزمة بمراجعة مدى تدخّلها لتتمكّن من إدارة التدخّلات الإيرانية والتركية والإسرائيلية وتوزيع الحصص في ما بينها، وهي مهمّة أوكلتها إليها أميركا من دون أن تستشيرها.
الاتحاد
تقاسم النفوذ في سورية: الكلّ يكسب إلا العرب/ عبدالوهاب بدرخان
أطلق قرار الانسحاب الأميركي من شمال شرقي سورية ورشة مراجعة لخريطة تقاسم النفوذ بين اللاعبين الخارجيين، ويبدو الكلّ كاسباً باستثناء العرب، ربما لأنهم ليسوا لاعبين أصلاً أو لأن مَن شاء منهم اللعب خسر بالتدخّل الروسي ولم يستفد شيئاً من التدخّل الاميركي. وفي كل الأحوال يبقى بعيداً عن التصوّر أن يدخل أي بلد عربي منافسةً للحصول على رقعة نفوذ في سورية أو أي بلد عربي آخر. لذلك تبرز المفارقة الصادمة في أن تُطرح عودة سورية الى عضويتها في الجامعة العربية من قبيل الاعتراف بأن النظام قد “انتصر” لكن مع تجاهلِ على مَن انتصر وكيف وبأي ثمن بشري وعمراني، فضلاً عن تجاهلِ الاحتلالات الكثيرة التي ترتّبت على هذا “النصر” وستتحكّم بسورية وشعبها لأعوام مديدة، وأخيراً تجاهل أن هذا النظام تنازل عن كل شيء ليضمن بقاءه ولم يتنازل عن شيء ليقي شعبه أنواع الإذلال شتّى.
قبيل قرار الانسحاب كانت واشنطن متّهمة بترجيح خيار تقسيم سورية وبأنها صانعة تنظيم “الدولة”/ “داعش”. بعد القرار صارت متّهمة بدفع سورية والمنطقة الى الفوضى وإعادة تمكين “داعش” إذ تترك “الحرب على الإرهاب” مهمّةً غير مكتملة. وقبل القرار كان الاميركيون يقدّمون وجودهم على الأرض باعتباره مؤشّراً الى الجدّية في احتواء النفوذ الايراني من سورية وفي الضغط على روسيا كي تحسم أمرها بالمساهمة في اخراج ايران، وبعد القرار بات يُنظر الى الانسحاب على أنه تزكية أميركية لممر طهران – بيروت عبر بغداد ودمشق. قبل القرار أيضاً كان يُنظر الى الوجود الأميركي في شمال شرقي سورية كـ “ضمان” سياسي لأي تسوية معقولة ومتوازنة للأزمة السورية، وبعد الانسحاب تصبح روسيا المرجعية الوحيدة للحل السياسي الذي يناسبها.
كانت دول محور استانا الثلاث، روسيا وتركيا وايران، لمّحت في بياناتها الأخيرة الى مسألة “التقسيم”، سواء للتركيز على أن الوجود الأميركي في الشمال الشرقي “غير شرعي” أو للتحذير بأن واشنطن يمكن أن تستخدم الأكراد أداةً لتفكيك سورية من خلال دعم “قوات سورية الديموقراطية/ قسد” وتسليحها، وكذلك تشجيعها على تطوير المنطقة كإقليم خاص محكومٍ ذاتياً وقادر على حماية نفسه وحدوده. غير أن واشنطن فشلت في تبرير قبولها وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني (بي كي كي) المصنّف ارهابياً، وبالتالي فشلت في توفير ضمانات لتركيا التي ترى في أنشطة هذا الحزب خطراً على أمنها. فكان أن مالت أنقرة أكثر الى محور روسيا – ايران لمواجهة الخطر الكردي، علماً بأن طهران (مع دمشق) كانت ولا تزال تقيم علاقة مع “بي كي كي” وتدعمه.
أما احتمالات انتعاش “داعش” فتكاد تكون مضمونة، لكن الخبراء يربطونها بمجريات تقاسم التركة الأميركية، ويعتقدون أن معاودة ظهور التنظيم تتوقّف على الطرف الذي لا يرضى بالحصّة التي تخصّص له وقد يجدها “مجحفة”. وهكذا يقال الآن أن “داعش” جاهز لمن يريد تشغيله، إذ أنه طمر كمية ضخمة من أسلحته في المنطقة التي طُرد منها تحسّباً للعودة. لدى الاميركيين فكرة واضحة عن ارتباطات الأطراف الإقليمية بـ “داعش”، وقد جاء في احدى تغريدات دونالد ترامب أن بإمكان هذه الأطراف استكمال الحرب على هذا التنظيم. لذلك تكثر التكهّنات حول أي “داعش” سيظهر لاحقاً، أهو “الاسدي” أم “الإيراني” أم “التركي” أو “الإسرائيلي” أم؟.. فالأمر منوط بارتضاء روسيا حصّتها وبإرضائها الأطراف جميعاً لتضمن حسن سلوكها.
في المعمعة التي أعقبت قرار ترامب أدرك الجميع أن قواعد اللعبة اختلفت، وصحّت مقولة أن الاميركيين “يخرّبون (اللعبة) ولا يلعبون” التي يردّدها معارضون سوريون كلما تعرّضوا لخذلان واشنطن. اضطرّت تركيا الى ارجاء حملتها التي كانت أوشكت على اطلاقها في شرقي الفرات لكنها واصلت الحشد العسكري على الحدود، فعلى رغم “التفويض” الترامبي لا يستطيع الأتراك التقدّم لتوسيع نفوذهم قبل التعرّف الى التصوّرات الروسية. أما ايران التي شعرت بأن فرصة ثمينة تلوح أمامها فسارع رئيسها الى لقاء نظيره التركي لعقد اتفاقات تضمن عدم تطبيق انقرة للعقوبات الأميركية، لكن خصوصاً لطمأنتها بالنسبة الى إدلب وأكراد الـ “بي كي كي”، والأهم لاستخدام هذه الاتفاقات والتطمينات في ضمان صمت الأتراك على التحركات الإيرانية الوشيكة.
في العادة تكون روسيا مرتاحة الى توافق حليفيها في محور استانا، لكن موقفها في ضوء الوضع الجديد، الناجم عن الانسحاب الأميركي، لم يتّضح بعد. كل التوقّعات ذهبت في اتجاه أن التطوّرات تضطرّ موسكو الى مراجعة شاملة لاستراتيجيتها، إذ باتت مدعوة الى ضبط جميع اللاعبين في سورية فضلاً عن توزيع الأدوار وإدارة المصالح المتضاربة والحدّ من الصراعات المحتملة. في السابق كانت موسكو تعتبر الدور الأميركي مصيدة لاستدراج واشنطن الى مساومة كبرى، وكانت تتعامل بحذر مع ذلك الدور لئلا تخسر الطموحات التي تعلّقها عليه، غير أنه ابتعد في المرحلة الأخيرة عن احتمال بناء “شراكة” ليغدو أقرب الى المنافسة والتحدّي، ما جعل موسكو تجهر بـ “عدم شرعيته” وتتشدّد في فرض خياراتها. فمن ذلك مثلاً مضاعفة تمسّكها بدور ايران وصمتها على انتهاكاتها في تجذير نفوذها واشتغالها بالتغيير الديموغرافي، بل حتى التقليل من تطويرها لـ “حزب الله السوري” وتغلغلها في الأجهزة الأمنية والاستخبارية للنظام. من ذلك أيضاً عدم اعترافها بالعقبات التي يمثّلها نظام بشار الاسد أمام عودة اللاجئين وإعادة الاعمار. ومن ذلك خصوصاً عملها بدأب على تغليب مسار استانا على مسار جنيف للتخلّص من أي كلمة للمجتمع الدولي في الحل السياسي وإصرارها على الحل عبر لجنة دستورية موالية لنظام الأسد.
بعد أقل من يومين على قرار ترامب كانت الأطراف الدولية والإقليمية تكثّف اتصالاتها عبر أجهزة الاستخبارات. إذ بدّدت استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس أي احتمالات للتراجع عن الانسحاب وأصبح لزاماً التعامل معه كاستحقاق وشيك. كل ما استطاعت الأطراف الحصول عليه إمكان التطبيق المنسّق للقرار، لتتمكّن بدورها من برمجة الفوضى والاستثمار في انعكاساتها. لم تكن طهران معنيّة بتلك الاتصالات، إذ تحركت بالسرعة القصوى لنقل ما أمكنها من المقاتلين من حلب ومحيط إدلب الى جنوب شرق دير الزور، تحديداً الميادين والبوكمال، فيما استحث الروس الى تلك المنطقة قوات سورية تابعة لهم ويثقون بقيادتها (سهيل الحسن). قبل ذلك كان الجنرال قاسم سليماني قفز الى بغداد فالنجف في مهمة ظاهرها بتّ خلافات البيت الشيعي على الحقائب الوزارية العالقة في حكومة عادل عبد المهدي، وباطنها تنظيم توجّه فصائل “الحشد الشعبي” الى المنطقة الحدودية مع سورية، فالفرصة أصبحت متاحة لإقامة الوصل بين الميليشيات عبر الحدود. في اللحظة التي كان سليماني يشرف على جهوزية “الحشد” كان الوزير مايك بومبيو يهاتف الرئيس ورئيس الحكومة العراقيين لتأكيد استمرار الدور الأميركي، بل احتمال نقل قوات من سورية الى العراق.
في الوقت نفسه نشّط النظام السوري اتصالاته أيضاً بزيارات رئيس مكتب الأمن الوطني علي المملوك الى عواصم عدة لم تكن شبه علنية سوى في القاهرة. يتنازع النظام مزاج مشوّش، إذ يُفترض أن له مصلحة في الانسحاب الأميركي لكنه تصوّر دائماً أن له مصلحة مع الاميركيين، ومع أنه يدين ببقائه لروسيا إلا أنه يرتاب من استفرادها بتسوية الأزمة خصوصاً أنها فرضت الدورَين التركي والإسرائيلي من دون مشاورته، ومع أنها تتعايش بشكل عادي مع الدور الإيراني إلا أن مصالحها واستئثارها بالملف السوري سيحتّمان عليها تقنين هذا الدور. ولعل الأهم عند الاسد أن الروس صاروا يكثرون من تجاوزه في ترتيب قوات النظام كما في تبنّيهم سهيل الحسن أو في رفضهم التعاطي مع أقرب العسكريين إليه فضلاً عن حمايتهم الاستثنائية لرموز كان أقصاها عن نظامه.
ربما يشعر النظام بأنه مستبعد عما يُطبخ لسورية وللمنطقة بمعزل عنه، وأنه أداة وليس لاعباً، لذلك يرغب في اجراء انفتاحات خاصة به حتى لو كانت محدودة. ولا شك أن المُقبلين على استعادة العلاقة معه سيكتشفون انفصاله عن الواقع، فهم يريدون منه شيئاً من الابتعاد عن ايران، لكن الأمر لم يعد في يده.
* كاتب لبناني.
الحياة
الانسحاب الأمريكي من سوريا… دلالات وتفاعلات/ فايز رشيد
بمفاجأة سريعة وبخطوة دراماتيكية وصاعقة وشديدة الوقع على الحلفاء، كان قرار الرئيس ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا، وكان قد لمّح قبل أشهر إلى الانسحاب، لكن تصريحات لاحقة لوزير الدفاع أكدت بقاء القوات حتى هزيمة «داعش» الكاملة، وانسحاب إيران والوصول لحل سياسي، ولكن يبدو أن ترامب عاد إلى قناعاته بأن النفوذ الأمريكي في سوريا ليس ضروريا وليس مفيدا ولا بأس أن يتركها لروسيا، وربما اعتقد بأن إسرائيل ستكون قادرة على ردعها من الاقتراب لحدودها وردع حلفائها، أما الاتراك فلينافسوا على ما شاؤوا على مناطق الشمال السوري، فالتأثير عليهم أفضل من خلال العقوبات والضغوط الاقتصادية. وقال ترامب في معرض دفاعه عن القرار، إن الولايات المتحدة تستطيع الحفاظ على نفوذها بوسائل أخرى.
من الواضح أن طريقة تفكير ترامب مقطوعة الصلة كليا بالاستراتيجية والسياسية التقليدية للدول، وقد ترك قراره صدمة عامة في الأوساط الأمريكية وقاد إلى استقالة وزير دفاعه على الفور، الذي سبق أن حذّر من أنه سيكون من التهور الانسحاب من سوريا في الفترة الحالية، ولحقه بعد يومين مندوب الولايات المتحدة إلى التحالف في سورية ماكغورك الذي أبلغ وزير الدفاع جيمس ماتيس معارضته الشديدة للقرار.
إخلاء الساحة بهذه الطريقة نظر اليه معظم المعلقين في الولايات المتحدة كإضافة جديدة لحركات ترامب الغرائبية، حيث يصعب المساجلة معه بجدية كخيار يستند إلى تقييم استراتيجي ما. بالمقابل عبر شيوخ ونواب عن سخطهم الشديد على خيانة ترامب لحلفائه، وتحديدا الأكراد، الذين تستعد تركيا لاستئصالهم ولم يكن يحميهم سوى الوجود الأمريكي.لا بد أن أوروبا وأطراف التحالف الدولي يفكرون كيف يمكن الاستمرار قدما، بوجود شخصية كهذه على رأس القوة الأعظم صاحبة الدور الأول في كل الشؤون الدولية والإقليمية، وكانت «مجموعة الصراع الدولية» توقعت في بيان نشرته في 15 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، بأن الانسحاب «المتسرع» من شمال شرق سوريا من شأنه أن يطلق قوى متنافسة تتصارع لتحقيق الامتيازات، وتحذر من أن «عدم وجود اتفاق مسبق متفاوض عليه، يمكن أن يهدد بنشوء صراع متصاعد». ورأت «التايمز» أن الانسحاب سيكون له وقع مختلف على الأطراف، بحسب مصالحها في الوجود الأمريكي في المنطقة، وبحسب علاقتها معها. من بين ردود الأفعال المُرتبِكة وتلك القلِقَة التي أَحدثها قرار ترامب، المفاجئ وغير المتوقع والصادم لقوى كثيرة والقاضي بسحب قواته من الأراضي السورية، يبرز الموقف الفرنسي المُثير في حدته، كما الصياغات اللافتة في التصريحات الصادِرة بتوجيهات من قصر الإليزيه، حيث يعيش الرئيس ايمانويل ماكرون، حالة غير مسبوقة من التوتر والانفعال والضعف السياسي، الذي كشَف انهيار شعبِيته وخشيته من تداعيات الإعصار المتنامي القوّة الذي سببه حراك السترات الصفراء المستمر، التي ما تزال رافِضة كل التنازلات التي قدمتها ادارة ماكرون، تلك التنازلات الكفيلة ضمن أمور اخرى، بالإسهام في بروز خلافات بينه وبين قيادة الاتحاد الاوروبي، خاصة لجهة خروج فرنسا عن الأُطر والمحددات التي تفرضها إدارة الاتحاد، على نسبة العجز المسموح بها في ميزانية الدول الاعضاء، والتي سيكون لقرارات ماكرون الاقتصادية (كرفع الحد الأدنى للاجور وإدخال زيادات على الرواتب)، أثر كبير في ارتفاع نسبة العجز وتجاوز النسبة التي تحدّدها انظمة الاتحاد الاوروبي. موقف فرنسا الرافِض لقرار ترامب الذي وصفته وزيرة الدفاع الفرنسية بانه «فادح للغاية»، والمتكئ على قرار فرنسي بـِ»الإبقاء على وجودها العسكري في سوريا، لمواصَلة محاربة الارهاب هناك»، رغم قرار واشنطن بالانسحاب، يشي بأنها مستمرة التواجد في سوريا رغم كل الصراع السائد والمتجدد في حدودها الشمالية الشرقية.
لا أحد ينكر أن الانسحاب الأمريكي سوف يصب في مصلحة النظام السوري، وسيزيد من إحكام سيطرته وحلفائه على المناطق التي كانت خاضعة للسيطرة الأمريكية أو لحلفائها، ورغم أن روسيا كانت ولاتزال حليف النظام «الأقوى» خلال المرحلة، لكن كسبها من هذا الانسحاب الأمريكي سيكون أقل نسبيا، نظرا لأن وجودها في سوريا يقتصر على دعم عسكري لتوفير المساعدة العسكرية للنظام مقارنة بالوجود الإيراني، الذي يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك بشكل أكثر تشعبا إلى حلفاء لها في لبنان والعراق. بوتين يقول إنه متفق مع ترامب على أن الدولة الإسلامية هزمت في سوريا. تعتبر تركيا بلا شك طرفا خاصا ضمن سياق الصراع الدائر في المنطقة، وحقيقة كونها حليفا أمريكيا، وعضوا في حلف شمال الأطلسي (الناتو) أبقاها طيلة الأعوام السابقة تحت رحمة المساومات، خاصة فيما يتعلق بمسألة الأكراد، عدو تركيا الأول. الولايات المتحدة كانت حليفا داعما للفصائل الكردية في الشمال السوري منذ عام 2015 والانسحاب الآن سوف يترك هذه الفصائل تحت رحمة تركيا، والرئيس التركي لم يخف نواياه بتدخل عسكري في الشمال السوري، ما يوحي بأنه على استعداد لتنفيذ ضربة ضد القوات الكردية هناك، لذلك فالأكراد هم من أكبر المتضررين من الخروج الأمريكي.
جدير الأخذ بعين الاعتبار أن «مركز دراسات الحرب الأمريكي» نشر تقريرا يوم 19 ديسمبر الحالي، بعد إعلان ترامب انسحاب القوات الأمريكية بساعات، جاء في مطلعه «لم تهزم الولايات المتحدة وحلفاؤها داعش في العراق أو سوريا»، ما يعني تكذيبا علنيا للرئيس ترامب. ويتخوف التقرير من أن جيوب التنظيم قادرة على لملمة نفسها مرة أخرى، وأن آلاف المقاتلين ما زالوا موجودين في مناطق متفرقة من البادية السورية والقرى، بالإضافة إلى وجود شبكة لسيطرتهم من خلال طرق وأنفاق تمتد لأطراف المدن السورية أيضا. أما المنزعجون أيضا، في معادلة «سوريا من دون قوات أمريكية» فقد رأت صحيفة «التايمز» أن أولهم الشعب الكردي، الذي فقد حليفه الأساسي في المنطقة وتُرك معلقا تحت رحمة الاجتياح التركي لمناطقه. وقالت قوات سوريا الديمقراطية في بيان لها أصدرته يوم 11 ديسمبر: «أن سحب القوات والمسؤولين الأمريكيين من منطقتها ستكون له تداعيات خطيرة على الاستقرار العالمي، وأن ذلك سيؤدي إلى خلق فراغ سياسي وعسكري في المنطقة وترك شعوبها بين مخالب القوى والجهات المعادية». من ناحية ثانية، تأتي خسارة إسرائيل كنتيجة منطقية للربح الإيراني في المنطقة، فإسرائيل تعتبر هذا الوجود خطرا رئيسيا يهدد أمنها، رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو قال يوم الخميس الماضي: إن إسرائيل ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من البلاد. كما تشعر دولة الكيان بالقلق أيضا من أن خروج أكبر حليفة لها قد يقلص نفوذها الدبلوماسي في مواجهة روسيا أكبر داعم للحكومة السورية. ومع وجود ملايين الناس من الذين نزحوا وهاجروا، تحذر منظمات إغاثة دولية من أن الانسحاب الأمريكي المفاجئ ستكون له عواقب وخيمة على الصعيد الإنساني في مناطق عديدة من الشمال السوري. ويقول ديفيد ميليباند، رئيس «لجنة الإنقاذ الدولية»، تم اتخاذ قرارات سياسية وعسكرية طيلة هذا الصراع من دون أي اعتبار واضح للعواقب الإنسانية. ونتيجة لذلك فإن كل قرار قد يضيق الخناق على اللاجئين ويضعهم تحت خطر أكبر.
يبدو أن معسكر المنزعجين الإقليميين الثلاثة، تركيا وإسرائيل وكرد سوريا في حيرة من أمرهم. وليس وصف الخطوة من غالبية الصحف الصهيونية ونتنياهو، بأن قرار ترمب صدمة وصفعة، وأن التبجّح بأن اسرائيل ستعتمد على نفسها، ما هو إلا أحد تجلّيات هذا الارتباك، رغم عدم بروز تحرّك امريكي ميداني جدّي، يوحي بان إدارة ترامب قد حزمَت امرها نهائياً، في اتجاه الانكفاء والجلاء عن الاراضي السورية، فضلاً عما يستبطنه القرار التركي بـِ»تأجيل» الاجتياح لمناطق شرق الفرات السورية، بذريعة عدم التعرّض لنيران صديقة، ناهيك عن الاضطراب الذي يعيشه كرد سوريا وفقدانهم البوصلَة والإرادة في تحديد خطواتهم اللاحقة، خاصة في المسارعة لاغتنام الفُرصة المُتاحة (حتى الان) للعودة إلى حضن الوطن الأُم وتسوية أمورهم مع دمشق.
كاتب فلسطيني
القدس العربي
لوموند: طعنة ترامب في سوريا أجمل خبر لتنظيم “الدولة”
قالت صحيفة “لوموند” الفرنسية، في افتتاحية عددها الصادر الخميس، إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستدعائه ألفي جندي أمريكي من الميدان السوري، يكون قد نفذ أحد وعوده الانتخابية الرئيسية؛ ولكنه طعن في نفس الوقت حلفاء واشنطن في الحرب ضد تنظيم الدولة، في مقدمتهم القوات الكردية.
وأضافت “لوموند” أنّ المشكل يكمن في أن قرار دونالد ترامب يعد خطيراً للغاية في ظل الوضع الحالي للصراع. فعلى عكس مزاعم الرئيس الأمريكي؛ فإن تنظيم الدولة (داعش) لم يُهزم بعد. صحيحٌ أنه خسر خلال العاميْن الماضيَيْن المدن والأراضي التي كان يُسيطرُ عليها في العراق وسوريا، لكنّ زعيمَه أبوبكر البغدادي مازال على قيد الحياة، ومعه ما بين 20 إلى 30 ألف مقاتل، في المنطقة الحدودية العراقية-السورية.
المُشكل الآخر – وفق الصحيفة الفرنسية دائماً – هو أنّ قرار الرئيس الأمريكي يُرضي فقط، موسكو وطهران ودمشق من جهة، وأنقرة من جهة أخرى. بينما لم يلقى القرار ترحيبا من حلفاء واشنطن في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة (داعش)، بمن فيهم فرنسا و بريطانيا. لكنّ المعارضة الأكثر حيوية لهذا القرار، كانت في واشنطن، حيث استقال على الفور كل من وزيرالدفاع جيمس ماتيس و المبعوث الأمريكي للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة بريت ماكغورك. وحتى داخل معسكر “الصقور” المقربين من الرئيس، بما في ذلك مستشاره للأمن القومي جون بولتون، تبدو هناك حالة من التوتر.
وتابعت “لوموند” القول إنّ الأمر يبدو كما لو أن دونالد ترامب اتخذ قراره بشكل أحادي، بناء على مصالح موسكو وأنقرة ، ومن دون التفاوض على أي شيء بالمقابل. وبذلك – وفق الصحيفة – فإنّ
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هو الفائز الأكبر . أما نظيره التركي رجب طيب أردوغان، فإن ترامب جعل من بلاده الذّراع المسلح لواشنطن في الحرب ضد تنظيم الدولة في سوريا؛ وذلك مقابل حصول أنقرة على الضوء الأخضر “التّرامبي” لمحاربة الأكراد.
واعتبرت “لوموند” أن قرار دونالد ترامب سحب قوات بلاده من سوريا، هو “عارٌ وطعنةٌ” في الظهر للقوات الكردية التي كانت أفضل حليف للتحالف الدولي الذي تقوده واشنطن ضد تنظيم الدولة. بما في ذلك، حراستها حالياً لآلاف السجناء الذين يُرجّح أن يتفرقوا في أنحاء العالم، خاصة في أوروبا. وبالتالي، فإن أكراد سوريا يجدون أنفسهم الآن محصورين بين أنقرة ودمشق بعد أن تخلى عنهم الحليف الأمريكي.
كما رأت “لوموند” أنّ ترامب أوضح بقراره المنفرد الانسحاب من سوريا، أن كلمة الرئيس الأمريكي لا قيمة لها؛ بحيث يُمكنك المشاركة في حربٍ يصنفها العالم بأسره على أنها “عادلة”، وتفقد آلاف المقاتلين، ثم يتم التخلي عنك عبر “تغريدة” بسيطة على تويتر. فخيانة ترامب هذه؛ تُعد أجمل خبر يتلقّاه تنظيم الدولة منذ فترة طويلة؛ تختتم الصحيفة الفرنسية.
نيويورك تايمز: سوريا ما بعد أمريكا نسخة “مبلقنة” ودولة هشة تحت التنافس الروسي والإيراني/ إبراهيم درويش
تواجه سوريا مستقبلا هشا تسيطر عليه روسيا وإيران، هو عنوان تقرير أعدته فيفيان لي مراسلة صحيفة “نيويورك تايمز” وصورت فيه الوضع في سوريا من خلال تهديدات تركيا لسحق الأكراد في المناطق التي ستتركها القوات الأمريكية، والغارات الإسرائيلية المستمرة على الميليشيات الداعمة لإيران في سوريا، وتهديد النظام بالتحرك نحو آخر معقل للمعارضة في محافظة إدلب. وتقول إن سوريا التي تنسحب منها أمريكا دونالد ترامب هي نسخة “مبلقنة”(اي البلقان) لبلد غمرته حرب أهلية كارثية مدة ثمانية أعوام تقريبا.
وبعد انسحاب القوات الأمريكية ونهاية المعارضة المسلحة فنظام بشار الأسد وداعميه الروس والإيرانيون، سيجدون الفرصة لاستعراض عضلاتهم في سوريا. وأشارت لما كتبه ريتشارد هاس، الدبلوماسي المخضرم ورئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في تغريدة جاء فيها “مرحبا بك في الشرق الأوسط ما بعد-أمريكا”.
فبعد سنوات من الحرب الدموية التي بدأت بالربيع العربي والمطالبات السلمية بالإصلاح، فسوريا التي ستخرج من ركام الحرب الأهلية لن تكون سوى نسخة هشة ومشوهة عن تلك التي وجدت قبل الحرب: بشار الأسد يقود دولة قمعية ودمية في يد الإيرانيين والروس.
فهؤلاء هم حلفاء النظام منذ حافظ الأسد ولكن الدعم الذي قدموه لبشار وإنقاذه من الانهيار يعطيهم الفرصة لدمج أنفسهم في مستقبل البلاد. وأرسلت إيران الشيعية التي تتنافس مع السعودية على التأثير في المنطقة، عشرات الألاف من المقاتلين الشيعة والجماعات الوكيلة للقتال من أجل الأسد. وتقوم إيران ببناء المزارات الشيعية والميليشيات التي تأمل لاستخدامها كورقة ضغط ضد إسرائيل أما روسيا التي تمارس التأثير السياسي القوي في سوريا فتسيطر على السياسة الخارجية والجيش والخدمات الأمنية. وهو الثمن الذي حصلت عليه مقابل حمايتها للنظام الاستبدادي الوحشي.
وتقول إن كلا من روسيا وإيران قد تجدان البقاء في سوريا محبطا ومكلفا ،وغير شعبي من مواطني بلديهما إلا أنهما حصلتا على تميز من خروج الأمريكيين وهو النفوذ الإقليمي. وبحسب دانيال بينيم، الزميل في مركز التقدم الأمريكي فما حصل عليه الروس والإيرانيون هو “السيناريو الحلم” و “لديهم قصة يحكونها لكل لاعب على الأرض وهي أن لا فرق بين أعداء أمريكا وأصدقائها-وأن أمريكا ليست شريكا يعتمد عليه في الشرق الأوسط”.
وتشير لي إلى أثر خروج القوات الأمريكية من مناطق شمال-شرق سوريا. فهذه القوات كانت تعمل مع المقاتلين الأكراد وهو ما أغضب الجارة تركيا التي تنظر إليهم كجماعة إرهابية. والمهم هو أثر الانسحاب على القتال ضد تنظيم الدولة. وتقول أرقام وزارة الدفاع الأمريكية أن هناك حوالي 30.000 مقاتلا تابعا لتنظيم الدولة موزعين على مناطق سوريا. ويتوقع الخبراء معركة جديدة بين تركيا والأكراد أو معركة مع نظام الأسد أو حصول المواجهتين معا. وهناك إمكانية لتحالف بين نظام الأسد والأكراد. ولو لم يحصل فستؤدي المواجهات الجديدة إلى موجات لاجئين نحو العراق. ويعلق أرون ليند، من مؤسسة القرن ” هذه إمكانية قائمة وفوضى شاملة” خاصة عندما تختفي القوة التي تحافظ على الإستقرار. وعمن سيملأ الفراغ في المناطق التي سيخرج منها الأمريكيون؟
يرى معهد دراسات الحرب أن روسيا وإيران والميليشيات التي تدعمها إيران بمن فيها حزب الله في وضع جيد للسيطرة على المناطق التي ستخرج منها أمريكا التي تسيطر على 29 موقعا حسب معهد دراسات الحرب، وسبعة مواقع قرب الحدود. وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان يوم الأحد أن النظام السوري أرسل الافا من المقاتلين إلى آخر معاقل تنظيم الدولة في شمال-شرقي سوريا. كل هذا في وقت لم يبق من عناصر المعارضة لنظام الأسد إلا إدلب التي تحاول روسيا التفاوض مع تركيا بشأنها. ويقول المحللون إن إيران ستقوم في مرحلة ما بعد أمريكا بربط الميليشيات الشيعية بين العراق وسوريا وتقوية وجود عناصر حزب الله قرب مرتفعات الجولان التي ضمتها إسرائيل عام 1967. وأكدت إسرائيل أنها لن تتسامح مع أي وجود إيراني كما أظهرت الغارة الجوية على مخازن أسلحة في دمشق. ورغم تسامح الكرملين في الماضي مع غارات كهذه إلا أنها اتهمت يوم الأربعاء إسرائيل بما أسمته “الانتهاك الصارخ للسيادة السورية“.
وتقول لي إن إيران وسعت من تأثيرها بين المقاتلين والمدنيين رغم وجودها وسط غالبية سنية. ففي بعض المناطق وزعت المال لتأمين السكن للناس الذين شردتهم الحرب، وأقامت مزارات للشيعة في مناطق أخرى. ومع أن النظام البعثي يقدم نفسه على أنه علماني إلا أن إيران منحت البلد ملمحا دينيا لم ير من قبل. فالاحتفال بعاشوراء كان شيئا نادرا خارج مناطق الشيعة إلا أن الاحتفالات اليوم واضحة. وأصبح الجنود في جيش النظام السوري متدينين بعدما انضموا الى الميليشيات التي تدعمها إيران. فيما انضم بعضهم إليها لأسباب غير دينية. فالمقاتلون فيها يحصلون على رواتب أفضل من رواتب الحكومة وعلى أيام عطل أكثر من الجيش. ولا يعني الانضمام للميليشيات التشيع ولكنه تحول جديد عن الأيام الماضية. ويرى علي رزق “لم يعد علمانيا خالصا” أي الجيش. هذا عن إيران فما هو موقع روسيا في سوريا وهل يرحب بها السوريون؟ تجيب الصحيفة أن روسيا وطدت علاقاتها مع قادة النظام السوريين وقوت علاقاتها مع تركيا وتفوقت على الولايات المتحدة في لعبة القوة بالشرق الأوسط. وكشفت روسيا عن دهاء وفهم للحساسيات السورية حيث استخدمت الشرطة المسلمة من الشيشان للتفاوض مع المقاتلين للخروج من المناطق والحفاظ عليها تحت سيطرة النظام. وفي زيارة لمنطقة كانت خاضعة للمقاتلين قرب دمشق، لاحظت الصحيفة كيف كان السكان يحيون الشرطة الروسية بالعربية. ورحب الكثير من السكان بالشرطة الروسية وفضلوها على قوات النظام أو الميليشيات الشيعية. وفرحوا عندما شاهدوا الشرطة في الربيع وهي تلقي القبض على جندي روسي متهم بالنهب. وفي حزيران (يونيو) اعتقلت ميليشيات شيعية رجلان مسلمان وقامت الشرطة الروسية بالضغط عليها للإفراج عنهما. وأقنع هذا الحادث المواطنين أن الروس لا يهتمون بإثارة الخلافات السنية-الشيعية. وقال أحمد البقعة، 55 عاما ولديه ثلاثة أبناء يقاتلون مع المعارضة أن إيران لديها مشروع طائفي أما الروس فلا يهتمون بدين أو عرق الناس. ومن هنا يتباين المشروع الروسي في سوريا عن ذلك الإيراني. فموسكو تريد حكومة مستقرة مستقلة ماديا عن روسيا أما إيران فراغبة بحكومة ضعيفة تابعة لها. ويقول جوست هيلترمان، إن كلا البلدين وضعت مستشارين أمنيين في داخل القوات الأمنية للنظام السوري وكلاهما يواجه تحديات في سوريا، ولا تستطيع أي منهما القيام بجهود الإعمار التي تحتاج إلى 200 مليار دولار.
وقال هيلترمان “يريد الروس مخرجا من سوريا والحفاظ على القاعدتين العسكريتين وحلفائهم في داخل القوات الأمنية والشركات الروسية للمساعدة في عمليات إعادة الإعمار” و “لا يريدون البقاء متورطين عسكريا”. وتواجه إيران العكس في داخل البلاد حيث الأوضاع الاقتصادية المتردية بسبب استمرار العقوبات الأمريكية. ويقول دانييل بلتيكا من “معهد أمريكان إنتربرايز” إن الإيرانيين مارسوا التأثير في سوريا بذكاء ولكنهم سيواجهون مصاعب بسبب القيود الاقتصادية التي تواجهها البلاد. وقد يجد البلدان صعوبة في تحقيق السلام والأسد في السلطة. ففي المناطق التي أكد فيها النظام سلطته اندلعت التظاهرات. ويقول ألكسندر بيك، المحاضر والباحث في جامعة جون هوبكنز “ستفرض فترة السلام تحديات أكبر من وقت الحرب”.
القدس العربي
الانسحاب الأمريكي من سوريا في عيون روسية
بعد إعلان ترامب المفاجئ عن خروج الجيش الأمريكي من سوريا، سمعت أصوات توجت تركيا وإيران بأنهما الرابحتان الأساسيتان من الخطوة. في أنقرة وفي طهران لم يكن هناك سبب يدعو بالأسف إلى مغادرة الجيش الأمريكي، ولكن المنتصر الأساس في جولة المواجهة التي تنتهي في سوريا هي على ما يبدو روسيا.
إن رهان بوتين في إدخال الجيش الروسي في المعمعان المتلظي للحرب الأهلية في سوريا والرهان بكل القوة على حفظ حكم الأسد، تبين صحيحاً. فانتصار الطاغية السوري على الثوار ما كان ليكون مزاحاً دون الروس، وحين تنتهي مرحلة القتال الأساسية، يمكن للكرملين ان يسجل إنجازاً عظيماً: فقد حقق لنفسه دولة مرعية في المكان الأهم في الشرق الأوسط. فالإدارة الأمريكية السابقة أجازت دخول الروس إلى الساحة، والآن، بعد انسحاب القوات الأمريكية من تلك الأجزاء في سوريا التي لم تكن حتى الآن في متناول يد موسكو، ستصبح روسيا القوة العظمى الحصرية في المجال السوري.
إن حقيقة أن الخروج الأمريكي يترك الأكراد في سوريا تحت رحمة الأتراك، تدفعهم إلى حضن روسيا. فمن الآن فصاعداً يمكن للروس أن يدخلوا إلى الفراغ الناشئ وأن يعرضوا الرعاية على الأتراك. ومقابل الحماية الروسية من التهديد التركي سيكون الأكراد مطالبين بالتخلي عن حلم السيادة والحكم الذاتي وأن يعيدوا المناطق التي تحت سيطرتهم إلى حضن الحكم المركزي في دمشق. وسيحاول الروس اتخاذ خطوة تغيير دستورية في سوريا بحيث يتحسن وضع الأكراد وباقي الجهات المستاءة من الأسد، ما سيعزز فقط مكانة روسيا كمقررة للمصائر في سوريا.
هذا لا يعني أن ليس لموسكو ما تخشاه، فإذا كانت النواة المتبقية مما بقي من داعش ستعيد تنظيم نفسها من جديد إلى قوة قتالية حقيقية، فسيتعين على الروس العودة مرة أخرى إلى ساحة القتال بشدة أكبر. سيكون في ذلك حرج كبير بعد أن كان بوتين نفسه أعلن مرتين على الأقل عن استكمال أهداف القتال هناك. فضلاً عن ذلك، يفهم الروس بأن المسؤولية عن سوريا تستوجب البحث عن مصادر تمويل لإعادة بناء الدولة المرعية وليس لديهم المقدرات المتوفرة لذلك.
مع كل المشاكل المحلية، ففي المواجهات الدولية بين واشنطن وموسكو، يرى الروس في خروج الأمريكيين من سوريا انتصاراً رمزياً هاما ًلهم. وشدد المحللون الروس على نحو خاص على تخلي ترامب عن دور الشرطي الأقليمي. وأملهم هو أن تكون هذه البداية فقط وأن يترك ترامب لرحمة موسكو مناطق أخرى، أولاً وقبل كل شيء في مجالات النفوذ التقليدية على مقربة من الحدود الروسية.
على خلفية التعاظم الروسي في حدودنا الشمالية، فإن شبكة العلاقات الحساسة التي بنيت بين إسرائيل وروسيا بقيادة رئيس الوزراء نتنياهو، تتلقى الأهمية. ويعرف نتنياهو كيف يتحدث مع الكرملين في الشكل الذي يحترمه الروس. فقوة إسرائيل واستعدادها لاستخدام هذه الخطوة أوضحت للجانب الروسي بأن التسوية في سوريا ليست ممكنة إلا إذا ضمنت المصلحة الأمنية للدولة. وخطوة ترامب لم تقلل من القدرات الإسرائيلية ولعلها عززت فقط مكانة إسرائيل في نظر موسكو.
أرئيل بولشتاين
إسرائيل اليوم ـ 26/12/2018
القدس العربي
عن الخيارات الكردية الضيّقة/ شورش درويش
أفضى قرار الولايات المتحدة القاضي بانسحاب قوّاتها العاملة عن الأراضي السوريّة، في مهلة أقصاها مئة يوم، إلى وضع الأكراد مرّة أخرى في عين العاصفة، فمن شأن هذا الانسحاب أن يعيد خلط الأوراق، وبالتالي دفع الأكراد نحو خيارات جديدة، ليست مريحة.
نشط مجلس سوريا الديمقراطية، أخيرا، في مسعاه الدبلوماسي، بحثا عن شركاء جدد، في وسعهم ملء الفراغ الكبير الذي سيخلّفه القرار، ليقع الاختيار على باريس التي استقبلت الرئيسين المشتركين للمجلس، رياض درار وإلهام أحمد، وإن كان إصرار فرنسا على البقاء على الأراضي السورية يوازيه إصرار بريطاني مقابل بالحماسة نفسها، إلّا أن الوقائع تشير إلى صعوبة بقاء قوّاتهما في ظل انسحاب أميركي لاحق. ولعل الكلام الفرنسي عن إمكانية توفير منطقة حظر جوّي يلفّ مناطق سيطرة قوّات سورية الديمقراطية (قسد) يجابه بصعوباتٍ كثيرة، وإذا كانت فرنسا قد نجحت، زمن الرئيس فرانسوا ميتران، في دفع مجلس الأمن إلى فرض حظر جوّي عُرف بمنطقة الراحة (comfort zone) من عام 1991 الذي أمّن لأكراد العراق ملاذاً آمنا، إلّا أن الوقائع مختلفة هذه المرّة، ولا داعي للإسهاب في شرح الصعوبات القانونية والواقعية التي تعترض تنفيذ قرار أممي كهذا. وعليه، فرنسا إنّما تحنّ إلى سياساتٍ لم تعد قابلة للتكرار وفق ما تتمناه.
يعي الأكراد حراجة الموقف الأوروبي (الفرنسي – البريطاني) المتخوّف من موجات هجرة واسعة، وإمكانية تجدّد تنظيم الدولة الإسلامية الذي يبدو، وإن كان في الهزيع الأخير، أنه يجاهد لأجل البقاء، والتقاط أنفاسه مجدّداً، بيد أن مخاوف الأفرقاء الأوروبيين لا يمكن تبديدها في ظل انكفاء الولايات المتحدة وخروجها المبرم من سورية. وبالتالي، لا يمكن للأكراد الوثوق بما تبقّى من قوّات التحالف، ولا التعويل على قدراتها في مواجهة روسيا وتركيا، القوتين اللتين تتحينان الفرصة للحلول محل الولايات المتحدة.
في إزاء المخاوف الكردية المتّصلة بإمكانية تنفيذ الحكومة التركية تهديداتها، وفي ظل انفصام عرى التحالف الغربي، تذهب الترجيحات إلى إمكانية إبرام اتفاق بين قوات سورية الديمقراطية (قسد) وروسيا، فمن شأن تحالف مفترض كهذا أن يسرّع بسط السيطرة الروسية على التراب السوري في منطقةٍ غنيةٍ بالموارد، وقطع الطريق على تدخل تركي مخيف للأكراد، ومؤثر على العملية السياسية برمتها، إذ لا يبدي الروس استعداداً لتكرار تجربة إدلب.
قد تتسارع الأحداث المحتمل أن تسفر عن اتفاق روسي كردي، من شأنه قطع الطريق على تركيا التي أعلن رئيسها أردوغان عن تريّث بلاده في ما خصّ تنفيذ عملية عسكرية داخل مناطق شرقي الفرات. ولعل مردّ التريث يمكن أن يفسر بثلاثة أسباب: الأوّل أن تركيا غير مستعدّة لاستفزاز الولايات المتحدة التي هي في طور الخروج، وأن تدخّلاً عسكرياً تركياً، في هذه الأثناء، قد يقوّي من مركز الفريق الأميركي الرافض للانسحاب بذرائع “الموقف الأخلاقي”، وأن شركاء الولايات المتحدة (الأكراد) سيُتركون لمصير مجهول. وبالتالي، من شأن التريّث التركي منح موقف الرئيس ترامب مزيدا من الرسوخ والقوّة، وعدم تحميله تبعات مباشرة عن الانسحاب. ويمكن ربط السبب الثاني برغبة حزب العدالة والتنمية (الحاكم) في أن تكون العملية العسكرية الحاسمة على مقربةٍ من الانتخابات المحلّية التركية في مارس/ آذار المقبل، ما من شأنه تقوية مركز الحزب دعائياً. وقد يكمن السبب الثالث للإرجاء التركي في حذر أنقرة من ردّ فعل روسي، يهدم ما تمّ بناؤه بين الدولتين طوال الفترة الماضية. وبالتالي، لا بد من الوصول إلى توافق جديد بشأن سياسة ملء الفراغ الأميركي، ويبدو هذا الأمر أهم الأسباب، وأكثرها تعقيداً.
وعليه، قد يكون للأجل الأميركي المحدّد للانسحاب، وفترة التريّث التركي، الأثر المهم على مستقبل المنطقة، إذ قد تكون هذه المدّة، على قصرها، كافية لحزب الاتحاد الديمقراطي للخوض في سياسات وتحالفات جديدة، تمكّنه من تدوير بعض الزوايا، كالتقرّب مع نظام دمشق، والأهم إبرام اتفاق مع موسكو التي يبدو أن الفراغ الأميركي سيصبّ في مصلحتها المباشرة.
في مطلق الأحوال، قد تفرض موسكو شروطاً قاسية على حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي)، من شأنها تقوية حضور النظام السوري، إلّا أن تحقّق سيناريو التقارب هذا قد يحصل بالنظر إلى المخاطر التي يعيها الحزب، والذي قد يُقدم على تنازلات محدودة، تجنّبه الخطر التركي. وعليه، إذا كان على “الاتحاد الديمقراطي” أن يمنح أحدهم نصراً، في هذه الظروف الحرجة، فليكن النصر حليف موسكو، بدل أن يؤول لأنقرة، هذا على الأقل ما يمكن أن يستشفّ من الخيارات الكردية الضيّقة.
العربي الجديد
ترامب الذي يستثمر الأعداء قبل الحلفاء/ منير الربيع
لا تختلف سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن سياسة سلفه باراك أوباما من الناحية الاستراتيجية. الفارق بين الرجلين، هو اللغة المستخدمة والمواقف السياسية التي تتخذ على القطعة. لا يجد ترامب ضيراً في تقديمه نموذجاً للرئيس الغريب الأطوار، صاحب العقل التجاري أو المقاول. ولذلك فإن كل المصطلحات السياسية التي يستخدمها، تتخذ طابع الفجاجة، وترتكز على منطق الثمن الواجب دفعه من قبل حلفاء واشنطن لقاء القرارات التي تتخذ وتصبّ في صالحهم. وعلى هذا الأساس اتخذ ترامب قرار الدخول إلى سوريا ونشر قوات أميركية في شرق البلاد وعلى الحدود السورية العراقية، بناء على ضغوط ومطالب خليجية.
اتخذ الانتشار الأميركي هناك شعار تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، والتمهيد لإخراج حلفاء إيران من الأراضي السورية، بالإضافة إلى منع طهران
من تأمين الخط الاستراتيجي البرّي الذي يربطها بالبحر الأبيض المتوسط، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان. لكن شيئاً من هذه الطروحات لم يتحقق، لا بل ازداد النفوذ الإيراني في سوريا بالارتكاز على التسيّد الروسي في الملف السوري سياسياً وعسكرياً. وكما كان قرار الدخول الأميركي يخدم وجهة النظر الخليجية في يوم من الأيام، وقد دفع ثمنه مئات المليارات. فإن قرار الانسحاب يخدم وجهتي النظر الروسية والتركية.
الانسحاب الأميركي سيعيد الحرارة للعلاقات بين واشنطن وأنقرة، وتكون تركيا قد حققت هدفاً استراتيجياً في ضرب الأكراد ومنعهم من إقامة كيان ذاتي في سوريا، وتكون قد حققت التسلّم الكامل للملف السوري. بينما الغموض يبقى يغلّف حقيقة الموقف الإيراني ووضع طهران في سوريا، التي بلا شك أصيبت بارتباك معين، حول تداعيات هذه الخطوة الأميركية وكيف ستنعكس عليها. لكن بلا شك أن طهران تمسك بالعديد من أوراق القوة بيدها، ومن غير المعروف إذا ما كانت ستضطر لاستخدامها. أولها سيطرتها الجغرافية على مناطق واسعة وأساسية في سوريا، وثانيها استمرار قواتها العسكرية وحلفائها بنشاطهم وانتشارهم على مساحات متعددة. وثالثها حاجة الروس إليها على الأرض وفي السيطرة الميدانية، وثالثها إنشاء العديد من التنظيمات المسلحّة السورية إلى جانب الاستحصال على الجنسية السورية لمقاتلين لبنانيين، أفغان، وإيرانيين، سيكونون أحصنتها في حال حصول أي تطور عسكري، أو في مرحلة الحلّ السياسي المقبل.
قد يكون الانسحاب الأميركي من سوريا، هادفاً إلى تحضير مشهد الأحداث لمرحلة جديدة. وهذا ما يراهن عليه خصوم طهران، إذ يعتبرون أن واشنطن تنسحب في سبيل نقل المواجهة إلى شكل جديد قد يتخذ طابعاً أكثر تصعيداً على الصعيد العسكري، ويربطون القرار بتشديد العقوبات الأميركية على إيران وبالضغوط التي تمارس على حزب الله في لبنان وتحديداً ملف الأنفاق.
منطق الأحداث يشير إلى أنه لا يمكن الرهان على الأميركيين، الذين تلتقي مصالحهم إلى حدّ بعيد مع المصالح الإيرانية، أو على الأقل يعتبرون
أن ما حققته إيران في سوريا، من تمزيق لجغرافيتها ودمغرافيتها، وتهجير الأكثرية منها، أمر يخدم مصالحهم الاستراتيجية إلى جانب الإسرائيليين، وبالتالي لن يكون هناك حاجة بالنسبة إليهم إلى ضرب إيران أو تحجيم دورها. بل هي ضرورة تبقى لابتزاز خصومها وحلفاء واشنطن، الذين سيبقون بحاجة إلى الحماية الأميركية والسلاح الأميركي من شراهة البعبع الإيراني.
واشنطن تبدو منكفئة في انسحابها من سوريا، لكن! في الجوهر هو وقوف المخرج خلف ستار المسرح، بما يتيح القدرة على إدارة المسرح بتحكم عبر خيوط، تحرك الممثلين كما يشتهي المخرج الجالس على مقعده بطمأنينة وثقة.
القرار الذي اتخذه دونالد ترامب، وقبله باراك أوباما في الانسحاب من المنطقة، يمثّل رأياً عميقاً في واشنطن، يعبّر عن تجلياته في عموم الشعب الأميركي الذي يتوق إلى اهتمام أميركا بأميركا وليس بالخارج. هذا من الناحية الشعبية، أما من الناحية السياسية، فإن الدولة العميقة في واشنطن، بمختلف انتماءاتها الديمقراطية أو الجمهورية، تقرأ في كتاب رؤية استراتيجية للمفكر الأميركي من أصل روسي زبيغنيو بريجينكسي، والتي تدعو واشنطن إلى التنسيق والتكامل مع روسيا، والانسحاب من الشرق الأوسط، وتوحيد الجهود الروسية الأميركية باتجاه المحيط الهادئ ومواجهة المدّ الصيني المتوسع.
على الأرجح أن يكون قرار الانسحاب الأميركي من شرق سوريا مبنيا على تفاهم بين واشنطن وموسكو، يرتكز على تسليم سوريا إلى روسيا، بالتكافل والتضامن مع الأتراك. وهذا واقع ستجيد طهران قراءته بشكل جيّد، وتحيك من تفاصيله الجديدة، خطّة جديدة للتكيف مع الواقع وتأمين استمراريتها في سوريا، خاصة أن الانسحاب الأميركي سيؤسس لإعادة تفعيل الدور لثلاثي آستانة، أي موسكو وأنقرة وطهران. وللحديث حول هذا الثلاثي صلة.
من سيدفع الثمن؟/ ميشيل كيلو
ليس أمرا عاديا أن تنسحب واشنطن من منطقة سورية استراتيجية المزايا، غطّتها في وقت قصير بقواعد عسكرية، ينافس بعضها قاعدة حميميم الروسية. وقد دفع الانسحاب مختلف الأطراف إلى إعادة النظر في حساباتها من الصراع على سورية وفيها، بينما هرع ترامب إلى العراق، ليجعل من لقائه جنودا أميركيين مناسبةً لامتصاص ارتدادات قراره بالانسحاب الذي أغضب جنرالاته وساسة حزبه الجمهوري، والحزب الديمقراطي المعارض، في توافقٍ ندر أن عرف تاريخ أميركا مثيلا له.
كان الرئيس التركي أردوغان أول من قام بوقفة مراجعة لخططه التي كان قد أعلنها، وحدّد فيها موعد دخول جيشه إلى شرق الفرات، متجاهلا تحذير واشنطن من وقوع صدامٍ بين جيشي البلدين الحليفين. قرّر أردوغان وقف عمليته العسكرية، والتفاوض مع موسكو، على الرغم من توصله إلى تفاهم مع واشنطن التي أعادت النظر في انسحابها، فلم يعد سريعا وفوريا، وسيتم تنسيقه مع الجيش التركي، لكن أردوغان بدا كأنه سيربط موقفه النهائي بالتفاهم مع بوتين، على الرغم من أنه ليس مؤكدا، وقد يعدّل خططه، لا سيما وأنه أخرج ورقة الأسد من جرابه، وأعلن وجوب إعادته إلى المنطقة، مع أن ذلك يرجح أن لا يكون ممكنا، وقد تؤثر سلبيا على علاقات البلدين، ليس فقط لأن ممثلي الكرد فيها يضعون شروطا سياسية لعودته، وطالما رفض ما يماثلها، ما أغلق ملف المصالحة معه، ومنع جيشه من احتلال المنطقة.
هل سيساعد الجيش الروسي الأسد على استرداد منطقةٍ اتخذت أنقره قرارا ملزما بطرد القوات الكردية منها، وبالتصدي للجيش الأسدي بالضرورة، في حال تحالف معها، أو أبقى بعضها في منطقةٍ تعتبر تركيا وجوده فيها تهديدا مباشرا لأمنها القومي؟ ماذا سيكون موقف روسيا عندئذ، هل ستقاتل إلى جانب الأسد فتخسر علاقاتها الفائقة الأهمية مع إسطنبول، أم تتخلى عنه فيهزم؟ وماذا يبقى لموسكو غير تفادي السقوط في هذه الهاوية، والذي يترك لها خيار البحث عن تسوية بين أردوغان والأسد، على حساب الكرد وحسابه، ليست أنقرة بحاجة إلى تقديم تنازلاتٍ لتحقيقها، بسبب موقفها الذي تعزّز كثيرا بقرار واشنطن تسليمها المنطقة جزءا بعد آخر، وتعهدها منع وقوع قتال ضد جيشها، الأمر الذي لا يبقي أي خيار لـ”وحدات حماية الشعب” غير قبول العودة من دون شروط إلى الأسد، أو بشروط قريبة من شروطه، لكن هذا احتمال ضعيف بدوره، بما أنه يورّط موسكو في مشكلاتٍ، هي في غنىً عنها، ليس فقط مع تركيا، وإنما أيضا مع أميركا.
لا تختلف حسابات إيران عن الحسابات الروسية، إلا إذا قرّرت خسارة علاقاتها مع تركيا التي تعتبر بين الأهم في علاقاتها الدولية، كي تساعد الكرد على خوض حرب عصاباتٍ ضد الوجود التركي شرقي الفرات، ليست مؤكدة النجاح.
ما العمل لمواجهة هذا الاحتجاز الشامل؟ هل يتراجع ترامب عن قراره، ويعزّز قواته شرق الفرات، بدل سحبها منه، في إطار شراكة مع الجيش التركي، وقبولٍ مشترك باستبدال حزب العمال الكردستاني بالمجلس الوطني الكردي الذي سيطمئن تركيا قبوله بحل للمسألة الكردية في الإطار السوري، وافتقاره إلى مليشيات؟ أم سيتم تفاهم روسي/ تركي/ إيراني حول وضع جديد للمنطقة، ستقبض واشنطن ثمن قبوله في العراق وسورية، لن تنجزه الدول الثلاث، من دون توجهاتٍ سياسيةٍ جديدة، تقر باستحالة إيجاد تسويةٍ تحفظ هيمنة حزب العمال الكردستاني على كرد سورية، ومساحات واسعة من أرضها، بعد أن سقط دوره في محاربة “داعش”، وتخلت واشنطن عنه، وصار الابتعاد عنه الخيار الأفضل للجميع.
هل يقرر الحزب مغادرة سورية، وترك كردها يحلون مشكلاتهم بالحوار مع داعمي حقوقهم باعتبارهم سوريين، فيقدّم خدمة تاريخية لهم؟
العربي الجديد
عن خيارات كرد سورية/ خورشيد دلي
أعاد قرار الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب قوات بلاده من شمال شرق سورية، الذاكرة الكردية إلى عام 1975، عندما رد وزير الخارجية الأميركي، هنري كيسنجر، على مناشدات الملا مصطفى البرزاني المتكررة بالتدخل لإنقاذ كرد العراق، عقب انتكاستهم الشهيرة، بعد أن تخلى عنهم شاه إيران عقب اتفاقية الجزائر، فردّ كيسنجر “إنهم كانوا يقومون بواجبهم، وعلى الكرد أن يميزوا بين النشاط الاستخباراتي والعمل التبشيري”. ولعل رد كرد سورية لم يختلف كثيراً عن رد كرد العراق وقتها، عندما اتهموا إدارة ترامب بخيانة الكرد وتطلعاتهم. نعم إنه التاريخ يتكرّر على شكل دورة الأقدار. تبدأ الدورة على شكل بدء الغرب مد يده للكرد تحت شعارات إنسانية وأخلاقية للكرد. ولكن سرعان ما يتخلى عنهم عند بلورة المصالح، وعلى مذبح العلاقات الدولية. والسؤال: هل ذاكرة الكرد مثقوبة إلى هذه الدرجة التي لا يستفيدون فيها من دروس التاريخ، أم أن لا خيارات لديهم، بعد أن تحولوا إلى أمة محاصرة على هامش أمم كبرى، تعيش على لعنة الجغرافيا التي قسمتها الاتفاقيات الدولية عقب الحرب العالمية الأولى؟
ربما، سيقول كردٌ كثيرون إن لم نقل معظمهم، إنه لم تكن لديهم خيارات سوى التحالف مع أميركا، لحماية أنفسهم من هجوم مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على كوباني (عين العرب)، وإن مصيرهم ربما كان سيكون مشابهاً لمصير الإيزيديين في سنجار – شنكال العراقية، لولا هذا التحالف، لكن أميركا كانت واضحةً عندما أعلنت مراراً أنها في عقد معهم للحرب على “داعش”، وليس في تحالف استراتيجي إلى الأبد، إذ قال ترامب مراراً إنه سيسحب قواته من هناك، فيما رأى هؤلاء الكرد أن أميركا في تحالفٍ معهم، في إطار صراعه مع المشاريع الروسية والإيرانية على الجغرافيا السورية والمنطقة، وإن ما يجعل من هذا التحالف مستمراً أنهم الحليف الوحيد على الأرض لواشنطن، لكن سفن ترامب جاءت عكس توقعاتهم، ليجدوا أنفسهم، في لحظة حسّاسة وتاريخية، أمام مصير صعب وخيارات أصعب، إذ تتحدّث أنقرة عن هجوم ضخم وشيك، للقضاء على معاقلهم، في ظل جزمها أن المشروع الكردي في شمال شرق سورية ليس سوى مشروع قنديل الذي يديره حزب العمال الكردستاني، المصنف في قائمة الإرهاب.
قد يرى هؤلاء الكرد أنهم كسبوا كثيراً من تحالفهم مع الإدارة الأميركية، إذ إنهم بنوا إدارة ذاتية، وجيشاً شبه نظامي، وحصلوا على أسلحةٍ كثيرة، وقوة لا يستهان بها على الأرض، قد تعينهم على تحقيق مكاسب في التسوية السياسية المنتظرة للأزمة السورية، بعد أن كانوا منسيين قبل هذه الأزمة، فيما يرى آخرون أنهم قد يخسرون كل ما سبق في ظل الأجندة الإقليمية والدولية التي هي ضد تطلعاتهم القومية. ويرى هؤلاء أيضاً أن القرار الأميركي لم يترك لهم خياراً، سوى العودة إلى حضن النظام السوري، ومن دون أي مطالب قومية، وأن العملية التركية المنتظرة كفيلةٌ بجعل هذا الأمر استحقاقاً في المرحلة المقبلة. وهو ما يوجّه الأنظار مجدّدا إلى الجانب الأميركي، في الضغط على تركيا لمنع القيام بأي عمليةٍ عسكريةٍ، تقضّ مضاجعهم من جهة. ومن جهة ثانية، في بذل مزيد من الجهود، لوضعهم على خريطة التسوية السياسية. مع التأكيد على أن ملامح المرحلة الجديدة من استراتيجية ترامب غير واضحة تجاه الأزمة السورية، إلا أن المعطيات تفيد بأنه بات يتبع استراتيجيةً تقوم على وضع تركيا في مواجهة المشروع الإيراني في سورية، انطلاقاً من أنه، من دون استقطاب الحليف الاستراتيجي التركي الذي ذهب بعيداً نحو روسيا وإيران، لا يمكن الحد من النفوذين، الروسي والإيراني، في المنطقة.
ولعله في هذا السياق ينبغي النظر إلى صفقة بيع باتريوت إلى تركيا، وحل مشكلة تسليمها طائرات إف 35. وهو ما يعني جعل تركيا اللاعب الأكثر قوةً ونفوذاً في الشمال السوري، لمواجهة المشاريع الإقليمية الأخرى. ولكن، كيف سيترجم ذلك على الساحة الكردية؟ هل بعملية عسكرية تضع المناطق الواقعة تحت سيطرة الإدارة الكردية تحت نفوذ تركيا بشكل مباشر؟ الثابت أن المطلوب تركياً هو القضاء على رأس حزب العمال الكردستاني الذي يدير الإدارة الذاتية من جبال قنديل، والسؤال هنا، هل يستطع كرد سورية الانفصال فعلاً عن قنديل، بعد كل هذه السنوات من الارتباط العضوي؟ ربما بات التحدي الذي يجعل من خيارهم السياسي مقبولاً، وإلا فإن كل الخيارات الأخرى قد تجعل منهم ضحيةً على مذبح قرار ترامب والأجندة الإقليمية تجاههم، لا سيما أن الرهان على دور فرنسي محتمل يحل مكان الدور الأميركي لا يبدو خياراً مجدياً.
العربي الجديد
سوريا: العرب يحضَرون السوق/ محمد قواص
غاب رد الفعل العربي في التعليق على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب القوات الأميركية من سوريا. ففيما عدا نظام دمشق المعني مباشرة بالقرار الأميركي، فإن العواصم العربية ومنابرها تعاملت مع الخبر بصفته حدثا أجنبيا يتم تداوله من خلال مصادره الأميركية، أو بصفته تفصيلا أميركيا يجري بين أهل الحكم في واشنطن.
على أن العواصم العربية المعنية بالشأن السوري مضطرة لأن تباشر عملية كبرى لإعادة تموضع يسببه حرد ترامب وعزوفه عن مواصلة اللعب مع اللاعبين فوق الأراضي السورية. استنتجت تلك العواصم أن الأمر جدي في واشنطن، يأخذ شكلا نهائيا على ما كشفت استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس والمبعوث الدولي للتحالف الدولي بريت ماكغورك.
واستنتجت العواصم أن قرار ترامب الذي جاء أثناء اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان يصبّ في بعده الآني، وربما الاستراتيجي الطويل الأمد، لصالح الأجندة التركية في سوريا، وربما أيضا في المنطقة برمتها.
والحال أن أنقرة نفسها أربكتها هدية ترامب المفاجئة. تدرك تركيا أن هرولتها لتعبئة الفراغ الأميركي في شمال سوريا تعد استفزازا للحلفاء قبل الخصوم. أعلنت المنابر التركية عن تأجيل العملية العسكرية صوب منبج وشرق الفرات، فيما تركت أنقرة لوسائل إعلامها نقل صور قوافل آلياتها وتجهيزاتها العسكرية الثقيلة تتدفق نحو الحدود مع سوريا. وفيما تسعى تركيا لضبط اندفاعاتها العسكرية وترشيق حركتها الدبلوماسية، قد يظهر لاحقا أن العرب يتحركون لتسريع تحركهم نحو سوريا في مسعى لضبط الاختراق التركي المترجل على عجل داخل هذا البلد.
أعلنت جامعة الدول العربية في بيان، الاثنين، أن موقفها تجاه تعليق عضوية سوريا لم يتغير لعدم وجود “توافق عربي”. إلا أنه لا يمكن هنا إلا استحضار الزيارة المفاجئة التي قام بها الرئيس السوداني عمر البشير إلى دمشق بصفتها تمثل أعراضا أولى لعودة النظام السوري إلى حضن النظام السياسي العربي. ضمن هذا السياق أيضا بالإمكان إدراج الزيارة التي قام بها رئيس مكتب الأمن الوطني في سوريا اللواء علي المملوك إلى القاهرة. هي ليست زيارته الأولى إلى مصر كما ليس لقاءه الأول مع مسؤولين عرب في هذه العاصمة أو تلك، لكن للتوقيت هذه المرة دلالات جديدة لا يمكن إهمالها، ولا يمكن إلا تأمله بصفته ناظما للتحولات المقبلة.
يعتبر العرب، حتى إشعار آخر، أن مسألة النفوذ الإيراني في سوريا وبلدان عربية أخرى، باتت مسألة دولية تقودها الولايات المتحدة منذ قرار ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي. اختلف الأوروبيون مع الأميركيين حول مسألة التمسك بالاتفاق، واتفقوا، مع ذلك، على ضرورة وضع حد للنفوذ الذي تمارسه طهران داخل دول المنطقة. في هذا يلتقي موقف واشنطن، حتى الآن، مع موقف الأوروبيين، في أن أي عملية تمويل لإعادة الإعمار كما إعادة اللاجئين في سوريا لا يمكن أن تجري إلا بعد التثبت من عملية سياسية تشرف عليها الأمم المتحدة تؤسس لتسوية سياسية حقيقية تنهي المأساة في هذا البلد. وفي ثنايا هذه التسوية مصير الأسد وطبيعة بقائه. وفي ثنايا الثنايا مستقبل الدور الإيراني في سوريا.
على هذا يأتي الموقف الإسرائيلي ليكون مكملا طبيعيا لمزاج دولي ناجز في هذا الإطار. تتولى النيران الإسرائيلية ضرب تحركات إيران وميليشياتها في سوريا كلما رأت تل أبيب فيها خطرا على أمنها الاستراتيجي. تحظى العمليات الإسرائيلية منذ سنوات بدعم أميركي كامل، وبتفهم أوروبي واضح، وبرعاية روسية، ارتبكت، لكنها، لم تتزحزح في المبدأ، وإن كان اعتراها ما يشبه سوء الفهم والتقدير الذي تتم مداراته بالتعاون والتنسيق.
وفق ذلك، سيتحرك العرب محاولين تعبئة فراغ دولي في مسألة التصدي لتركيا، مقابل ما تقوم وستقوم به عواصم العالم ضد التواجد الإيراني في سوريا. ولا يمكن هنا إلا ملاحظة استفادة النظام السوري من القرار الذي اتخذه ترامب لإعادة تعويم دمشق بصفتها الطرف المناط به الدفاع عن “السيادة” في مواجهة أطماع تركيا ودور نظام أردوغان المقبل في تحديد مسار ومصير سوريا المقبلين. ووفق ذلك التحول سيصبح أسهل على دمشق العودة لتطبيع علاقاتها مع عواصم عربية عدة، وسيصبح أسهل على بلدان عربية، لا سيما تلك التي تجاهر في انتقاد تركيا وسياستها العربية، العودة إلى دمشق والنفخ من شأن نظامها.
بيد أن المناورة العربية تبقى تجريبية تأخذ أشكالا خلفية خجولة. فالعرب، كما روسيا كما إيران كما تركيا نفسها، مازالوا يحاولون قراءة الموقف الأميركي الضبابي من شأن سوريا وشؤون المنطقة. يكشف التخبط داخل الإدارة الأميركية نفسها، عن نمط حكم لا يمكن الركون إليه لبناء سياسة خارجية أميركية متماسكة، ليس في قضايا المنطقة، بل في ملفات عالمية أخرى.
يتأمل العرب الخلاف الذي تعملق بين الولايات المتحدة وتركيا، منذ عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وذوبانه بين ليلة وضحاها. انقلب الأمر إلى درجة إغراء واشنطن لأنقرة بالإفراج عن عقود منظومة باتريوت ومقاتلات أف-35. في ذلك ما يشي بأن هناك استفاقة، ربما متأخرة وربما ساذجة، هدفها “استعادة” تركيا داخل كنف الحلف الأطلسي وسحبها من اندفاعتها باتجاه حضن فلاديمير بوتين الروسي.
ربما من المبكر الحكم على هدية ترامب لتركيا في شمال سوريا. من الصعب أن ينتهي المراقب إلى استنتاج حول ما هو ترامبي في قرارات واشنطن، وما هو أميركي حقيقي، يمثل الدولة العميقة في الولايات المتحدة. غير أن قرار ترامب يمثل” الأمر الواقع”، فيما تحرك تركيا العسكري في شمال سوريا يمثل أيضا “الأمر الواقع”. وعلى هذا يجد العرب أنفسهم مضطرين للرد بـ“أمر واقع” بديل.
لم توفر موسكو جهدا في دعوة العرب إلى تطبيع علاقاتهم مع سوريا. لم يخف ذلك على مدى السنوات الأخيرة وزير الخارجية سيرجي لافروف، الذي جدد المطالبة بعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية. ولا يخفي نقل الرئيس البشير لزيارة دمشق بطائرة روسية ورشة موسكو في هذا الصدد. ستكون للتطبيع العربي مع نظام دمشق روحية تأخذ بعين الاعتبار خيارات روسيا في سوريا. ابتعد العرب عن التدخل بالشأن السوري منذ أن بات للولايات المتحدة وجود علني رسمي داخل سوريا. انسحب العرب تاركين لعملية أستانة وحدها احتكار الترتيبات العسكرية والسياسية لتحديد راهن سوريا ومستقبلها. لم ينسحبوا أمام إيران وتركيا، بل أمام ما ترسمه روسيا من داخل أستانة وخارجها.
قد يفهم أن الانسحاب الأميركي من سوريا يصب في مجمله لصالح تركيا، لكن العقل الاستراتيجي لا يمكن أن يفهم الأمر إلا بصفته إقرارا بالنفوذ الروسي في سوريا وربما في المنطقة بمجملها. تنسحب واشنطن من سوريا وتستعد لفعل ذلك من أفغانستان على نحو يغير الخرائط الكبرى لصالح روسيا. تركيا، التي سرّها أن رئيسها هو أول من أبلغه ترامب بقراره الانسحاب من سوريا، مضطرة لأن تقر بأنه ستكون لروسيا اليد العليا والطولى والطليقة في إدارة الشأن السوري. العرب من جهتهم لا يريدون أن يروا إلا هذا الجانب، ويسعون هذه الأيام إلى الجهر بالانخراط داخل خرائط روسيا السورية، حتى لو اضطرهم ذلك إلى العبور نحو سوريا، كما البشير، بقطار موسكو نحو دمشق.
أحد الأمثلة الشامية يقول “اللي يحضر السوق بتسوّق”. العرب يأتون هذا السوق متأخرين، يأتونه بعد أن هجره ترامب، يأتونه من مداخل ضعيفة ومن أبواب لا تفتح إلا بتوقيت التجار الكبار.
صحافي وكاتب سياسي لبناني
العرب
منبج: مركز الصراع في الشمال السوري/ سلام السعدي
تتواصل الحشود العسكرية من قبل كل من الجيش التركي وقوات النظام السوري بالقرب من مناطق شمال سوريا الخاضعة لسيطرة أميركية- كردية مشتركة وخصوصا بعد إعلان الولايات المتحدة عن قرار سحب قواتها من سوريا.
ولا يخفي كلا الطرفين التركي والسوري عزمهما على التدخل العسكري لانتزاع السيطرة على تلك المناطق عندما تحين الفرصة المناسبة. ويبدو للطرفين أن الفرصة قد باتت أخيرا سانحة مع احتمال غياب الراعي الأميركي للقوات الكردية، وهو ما يحولها بصورة دراماتيكية من الحلقة الأقوى في شمال سوريا إلى الحلقة الأضعف.
وتبدو مدينة منبج كمرشح أول لبداية مسلسل النزاع التركي- السوري حول مناطق شمال البلاد. بالنسبة للنظام السوري، لا أهمية خاصة للمدينة بل تتأتى أهميتها بالنسبة لدمشق من الرغبة الكبيرة التي تتملك العدو اللدود، أنقرة، في السيطرة عليها. بالنسبة للأخيرة، تعتبر السيطرة على مدنية منبج هدفا استراتيجيا لإفشال المشروع السياسي الكردي في شمال البلاد وتوسيع النفوذ التركي طويل الأمد في تلك المناطق.
لكن الجهود التركية منيت بالفشل على مدى العامين الماضيين، إذ تساند القوات الأميركية المقاتلين الأكراد الذين يسيطرون على المدينة ذات الغالبية العربية منذ العام 2016، عندما تمكنوا بدعم واشنطن من هزيمة تنظيم داعش فيها.
منذ ذلك الوقت، وطدت القوات الكردية، التي تعتبر امتدادا لحزب العمال الكردستاني الناشط في تركيا، وجودها في المدينة المركزية في الشمال السوري، وهو ما أثار استياء أنقرة التي باتت سياستها الرئيسية في سوريا هي إنهاء وجود تلك القوات.
تجاهلت الولايات المتحدة غضب أنقرة وتهديداتها المتواصلة بأنها لن تقف مكتوفة الأيدي طيلة عامين. وخلال ذلك الوقت اتجهت تركيا للتعاون مع روسيا، القوة العظمى الأخرى في سوريا، لكي توطد وجودها في شمال البلاد، وهو ما اضطرها إلى إنهاء خلافها مع موسكو حول الملف السوري. ولكن إنهاء ذلك الخلاف والحصول على الدعم الروسي تطلبا تقديم تنازلات كبرى من قبل أنقرة تمثلت بالتنازل عن دور مهيمن لها في سوريا وحصر طموحها في محاصرة وإنهاء المشروع الكردي المدعوم أميركيا.
هكذا دعمت روسيا تركيا خلال شنها لعملتين عسكريتين منذ العام 2016. استهدفت الأولى تنظيم داعش وتمكنت من السيطرة على مناطق التنظيم غرب نهر الفرات. ثم ما لبثت أن وسّعت مراميها لتضع المعركة في سياق الحرب على الإرهاب، قاصدة عدوها التاريخي اللدود، حزب العمال الكردستاني، الذي تخوض معه منذ العام 1984 جولات متقطعة من العنف، فضلا عن الامتداد السياسي- العسكري لهذا الحزب في سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي.
في مطلع العام الجاري، شنّت أنقرة العملية العسكرية الثانية واستهدفت مدينة عفرين ذات الغالبية الكردية، وذلك لإنهاء أي إمكانية لتشكيل كيان كردي مستقل ومترابط وزيادة الضغوط على واشنطن من أجل أخذ مخاوفها بعين الاعتبار. وبالفعل بدأت واشنطن بفتح قنوات التواصل مع أنقرة منذ ذلك الوقت حيث بات من الخطير تواجد لاعبين بمشاريع سياسية- عسكرية متناقضة في تلك البقعة الضيقة من البلاد.
انطلقت المفاوضات بين أميركا وتركيا مطلع العام الجاري وتركزت حول مدينة منبج السورية التي كانت القوات الكردية قد سيطرت عليها في نهاية العام 2015 بعد هزيمة تنظيم داعش بدعم أميركي. وعلى الرغم من إعلان الاتفاق بين الجانبين صيف العام الجاري حول انسحاب القوات الكردية من مدينة منبج، لم يجر تنفيذ هذا الاتفاق وهو ما أثار غضب أنقرة وأضعف ثقتها بالولايات المتحدة ودفعها إلى الإعلان مجددا قبل نحو أسبوعين عن قرب بداية عمل عسكري منفرد يستهدف مدينة منبج في ما بدا أنه محاولة لرفع مستوى الضغوط على واشنطن.
ورغم التحذيرات الأميركية لتركيا من استهداف القوات التي تدعمها وإقامتها لمواقع مراقبة على الجانب السوري من الحدود من أجل رصد التحركات التركية، جاء قرار ترامب بعد أيام فقط بالانسحاب من سوريا ليعزز من الموقف التركي ويظهر عدم الجدية الأميركية في الدفاع عما بدا طيلة الأعوام الماضية حليفا استراتيجيا في سوريا.
ولكن، رغم الليونة الأميركية حيال سيطرة أنقرة على مدنية منبج، لا تبدي الولايات المتحدة ذات الليونة بما يتعلق ببقية مناطق شمال سوريا. وتضاف روسيا كعقبة جديدة أمام أنقرة، إذ لا بد للأخيرة أن تحصل على موافقة موسكو قبل شن أي هجوم عسكري على مدنية منبج أو غيرها من مدن الشمال السوري. موسكو بدورها لا تزال ملتزمة بتحالفها الرئيسي مع النظام السوري وإيران اللذين يعارضان أي توسع تركي بل ويعملان بجدية تامة على انتزاع جميع المناطق التي تخضع للسيطرة التركية في الوقت الحالي. بهذا السياق يمكن فهم التصريحات الروسية الأخيرة التي دعت الولايات المتحدة إلى تسليم جميع المناطق التي تنسحب منها للنظام السوري.
الحقيقة أن كلا الطرفين، التركي من جهة والسوري- الإيراني من جهة أخرى، جادان في السيطرة على المناطق الخاضعة حاليا للنفوذ الأميركي- الكردي، وهو ما ينذر ببداية تنافس عسكري جديد، للطرف الثاني أفضلية واضحة فيه، في حال التزم الرئيس الأميركي بقراره بالانسحاب.
كاتب فلسطيني سوري
العرب
حضور تركي في قرار ترامب بالانسحاب من سوريا/ ماجد عزام
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأربعاء 19 كانون أول وعلى نحو مفاجىء قراره بسحب القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات فى سوريا. القرار الذي بدا جدياً، وتم الشروع فيه على الفور عبر سحب موظفي الخارجية العاملين مع بي كاكا السوري في المنطقة. يفترض أن يجري تنفيذه خلال 60 إلى 100 يوم ليشمل كافة الجنود الأمريكيين البالغ عددهم ألفي جندي.
جاء القرار مفاجئاً وحتى غامضاً ضبابياً غير مفهوم، خاصة أن ترامب نفسه أعلن أكثر من مرة عن نيته الانسحاب قبل أن يتم التراجع تحت ضغط المؤسسة، من أجل إنهاء مهمة هزيمة ودحر داعش نهائياً، ومن ثم ربط الأمر كما أعلن مستشار الأمن القومي جون بولتون بانسحاب إيران وميليشياتها والتوصل إلى تسوية سياسية نهائية كما اعلن المبعوث الأمريكي لسوريا جيمس جيفرى.
بدا لافتاً كذلك ربط القرار الأمريكي مباشرة بتركيا، حيث قال البيت الأبيض إنه تم اتخاذه بعد مكالمة ترامب مع الرئيس أردوغان الجمعة 14 كانون أول، والتي تمحورت حول التطورات في سوريا، وفيها أكد أردوغان عزمه وإصراره على تنفيذ العملية العسكرية شرق الفرات لإبعاد الإرهابيين، وإزالة خطرهم عن الحدود التركية والقضاء نهائياً على فكرة تأسيس جيش حدودي واقامة كيان انفصالي فى المنطقة.
في السياق الأمريكي التركي بدا لافتاً جداً الإعلان عن قرار الانسحاب في نفس اليوم الذي تم فيه الكشف عن موافقة وزارة الخارجية الأمريكية على بيع تركيا منظومة باتريوت المضادة للصواريخ بعد تأخير دام لسنوات، ما دعا أنقرة للاتجاه أولاً للصين، قبل أن يجرى الاتفاق النهائي مع روسياعلى شراء منظومتها أس أس 400 المماثلة للباتريوت.
القرار الأمريكي يمكن فهم تحليله عبر وضعه في سياقاته الثلاث التاريخي المتعلق بخلفيات وأهداف التدخل شرق الفرات والسياسي المتمثل بطريقة تعاطي إدارة ترامب مع الأمر وفهمها أو نظرتها للتطورات في سوريا والمنطقة، وأخيراً علاقة التقارب -التباعد والتجاذب التي طبعت العلاقات التركية الأمريكية في السنوات الأخيرة، علماً أن المعطى التركي كان عاملاً أساسياً في قرار الانسحاب الأخير.
في السياق التاريخي تصرفت إدارة أوباما بلا مبالاة وبرود مع الثورة السورية وعندما انخرطت أكثر، فعلت ذلك على قاعدة التفاهم مع إيران وإبقاء رجلهم-بشار- في سوريا، كما قال أوباما شخصياً في سجاله مع وزير دفاعه الغاضب والمستقيل تشاك هاغل-تشرين ثان نوفمبر 2014- حول خلفيات وافاق التقارب مع إيران، وعندما حصل التدخل العسكري الأمريكي بعد تضخيم داعش المتعمد من قبل إيران ورجالها – وأدواتها في العراق والشام، بما في ذلك الأسد نفسه وتسهيل إقامة دولة التنظيم في الموصل بأوامر مباشرة من رئيس حكومة المنطقة الخضراء نوري المالكي لصرف الأنظار عن الثورة السورية – والانتفاضة الشعبية العراقية المشابهة – وإضعافها، وصولاً إلى معادلة الأسد أو داعش، وجرى تأسيس التحالف الدولي ضد داعش في سوريا والعراق، تم الاعتماد على أدوات إيران لمحاربة التنظيم فى العراق ، بينما جرى تضخيم وتسمين بي كاكا السوري – كأداة رخيصة مماثلة – كونه وافق وحده على قتال داعش دون النظام ودون النقاش حول الأهداف السياسية للتدخل الأمريكي بشكل عام بينما تم الطلب من الجيش الحر توقيع تعهد بعدم قتال الأسد، وإنما داعش فقط من أجل الحصول على السلاح والتدريب والتغطية السياسية اللازمة، المقاربة الأمريكية العمياء عرّاها عضو الكونغرس ليندسي غراهام في نقاش شهير بالكونغرس مع أحد جنرالات أوباما، وصولاً إلى الاستنتاج أن التدخل الأمريكي في سوريا – يقوي عملياً الأسد وإيران وروسيا تحت ستار قتال داعش.
أما ترامب فقد وصل البيت الأبيض بشعار أمريكا اولاً ناقماً ورافضاً لكل إرث أوباما معادياً لإيران، ولكنه متودد لروسيا وغير مبالٍ بالنظام وبقائه، وكان أول ما فعله وقف دعم الثوار السوريين على محدوديته، ثم دعا مباشرة إلى الانسحاب من سوريا، مدعياً أن مهمة داعش قد أنجزت مع طرد التنظيم من عاصمتيه في الموصل والرقة، إلا أنه اصطدم بالمؤسسة الأمريكية في وزارتي الدفاع الخارجية ووكالات الاستخبارات – حتى الكونغرس – التي اعتقدت أن المهمة لم تنته، وأن الخروج سيمثل انتصاراً مجانياً للنظام وإيران ورورسيا، ويقلص النفوذ أو القدرة الأمريكية على المساهمة بالحل السياسي، وبعدما بدا أنه اقتنع، عاد لطرح قصة الانسحاب كوسيلة للابتزاز والحصول على مساهمات خليجية لتمويل الجهد العسكري الأمريكي، وأمام رفض الدول الخليجية للانسحاب، دعاهم ترامب مباشرة إلى إرسال مقاتلين أو الدفع، وهو ما حصل فعلاً تحت ستار إعادة إعمار ما دمرته داعش، علماً أن أمريكا لا تحتاج قوات برية كون بي كاكا المستلب للانفصال والكيان الشوفيني والمهووس بالعداء لتركيا، كان مستعداً دائماً لتوفير القوة البشرية اللازمة، وبات الاحتلال الأمريكي رخيصاً غير مكلف لا بشرياً، ولا حتى مادياً، مع سيطرته على ثروات سوريا الطبيعية في المنطقة الجنوبية من شرق الفرات.
المعطيات السابقة كلها حضرت في سياسة علاقة التقارب- التباعد والتجاذب الأمريكي التركي لأن أنقرة استعدت دوماً لاستخدام جيشها الجرار-حسب تعبير أوباما- فى قتال داعش، لكن وفق أسس وشروط سياسية واضحة أهمها عدم تقوية الأسد، أو غض النظر عن جرائمه، وعدم الاستعانة بالإرهابين فى المعركة ضد تنظيم ارهابي آخر، معركة لا تتضمن تدمير الحواضر والمدن وفرض وقائع جيوسياسية و إحداث تغيير ديموغرافى طائفي أو قومي أو تقديم سوريا التي تملك فيها مصالح حيوية هدية لإيران، أو حتى لروسيا، أي أنها لم تكن مستعدة أبدا للقتال ضمن الاستراتيجية والمصالح الأمريكية كما فعلت طهران وأدواتها، إنما ضمن تصور قائم على المصالح المشتركة، بما في ذلك السعي لتسوية سياسية عادلة في سوريا تضمن وحدة وسلامة أراضيها وفق القرارات الدولية ذات الصلة وتحديداً إعلان جنيف.
دليل آخر على المعطى السابق نجده فى تفاصيل المكالمة الثانية بين ترامب وأردوغان-الأحد 23 كانون أول- والتى سأل ترامب فيها عن استعداد تركيا لقتال داعش وإنجاز المهمة أو ما تبقى منها، فأجابه أردوغان إن تركيا مستعدة وكانت كذلك طوال الوقت، وفق الأسس الراسخة السالفة الذكر، مع عدم تجاهل الثقل السياسي والعسكري لواشنطن فى المنطقة، وطلب دعم لوجستي منها لإنجاح المهمة وضمان عدم عرقلتها أو وضع العصي فى دواليبها.
إذن أمام إصرار أنقرة على تنفيذ عملية عسكرية شرق الفرات، واستعدادها لتولى مهمة قتال تنظيم داعش أوما تبقى منه، وعطفاً على السياقات والمعطيات السابقة اتخذ ترامب قرار الانسحاب المفاجىء وفقاً لقناعاته أو لحفظ ماء الوجه، أو حتى لتسهيل العملية، من أجل استمالة تركيا وإبعادها عن روسيا – وإيران –وربما تنفيذ الانسحاب السريع لتعقيد موقف أنقرة وتحويل العلاقة التفاهمية إلى تصادمية مع موسكو – طهران – أو السعى لتسهيل العملية التركية على الحدود فقط وبعمق معقول ومفهوم ضمنياً، والعودة جزئياً عن الانسحاب بعد ذلك، والاكتفاء بوجود ما في المناطق الجنوبية من منطقة شرق الفرات الأغنى والأكثر أهمية اقتصادياً واستراتيجياً لواشنطن.
عموماً وفى كل الاحوال، فإن قرار الانسحاب يطرح أسئلة أكثر مما يقدم إجابات، ولكن بالإمكان التأكيد على أن العملية العسكرية التركية باتت حتمية ومسألة وقت فقط، وسيتم تحرير المنطقة الحدودية الممتدة من نهر الفرات غرباً حتى حدود العراق شرقاً، بعمق يمتد حتى 40 أو 50 كم على الأقل، ما يجعل تنظيم بى كا كا بالتأكيد الخاسر الأكبر من القرار الأمريكي، مع احتمال معقول بعودة ما لتنظيم داعش فى المناطق الحدودية بين سوريا والعراق-ليس تركيا-، ودخول روسيا وإيران فى معركة استنزاف طويلة ومرهقة معه، وبدء مرحلة من عدم اليقين، قد تمتد لشهور إلى حين اتضاح معالم المشهد الجديد، كما حسم واشنطن لخياراتها السياسية، تجاه ذلك المشهد والقضية السورية بشكل عام
تلفزيون سوريا
عام التحرّر من الوهم الأميركي/ برهان غليون
يطرح إعلان الرئيس دونالد ترامب عن سحب القوات الأميركية من سورية مسائل عديدة على جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية، بمقدار ما تمثله الولايات المتحدة من وزن في جميع الساحات، وما يفرضه انسحابها من أي واحدةٍ منها على الأطراف من حتمية إعادة النظر في حساباتها، وربما في مشاريعها الكبرى أيضا، كما هو الحال اليوم بالنسبة لمليشيا حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) ومنظماته التابعة، من إدارة محلية، وقوات حماية الشعب، وقوات سورية الديمقراطية، وغيرها. وقد تباينت الآراء في أهداف هذا الإعلان وعواقبه أيضا، وفي المقام الأول داخل الإدارة الأميركية نفسها، فاضطر أكثر من مسؤول أميركي لتقديم استقالته. أما على الصعيد الدولي، فقد انتقد الفرنسيون صراحة، باسم الاتحاد الأوروبي، هذه الخطوة التي أبرزت، في ما وراء طابعها الإقليمي، مدى استهتار صاحب القرار في القوة الأعظم في العالم بحلفائه، إلى درجةٍ لم يشعر فيها بالحاجة، ولا بالواجب، لإعلامهم، فما بالك بمشورتهم والتنسيق المسبق معهم. وعلى المستوى الإقليمي، شعرت حكومات عديدة بالإحباط ذاته. وليس مؤكّدا أن تركيا التي وجدت نفسها مدفوعةً بواشنطن إلى التقدم إلى واجهة الصراعات الإقليمية تشعر بالثقة اليوم أكثر مما لو ضمنت وجود القوة الأميركية التي، وإن اختلفت معها في التكتيكات السياسية، تبقى قاعدة ارتكاز أساسية لسياستها الإقليمية.
على الرغم من كل المخاطر التي يمكن أن تنجم عن هذه الخطوة، وأهمها، كما ذكرت التحليلات السياسية، احتمال عودة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى لعب دور أكبر في سورية والمنطقة، وتنامي حظوظ طهران في تأمين طريقٍ سالك حتى المتوسط، من دون مصاعب تذكر، كما كانت تحلم دائما، وربما شعور نظام الإبادة الجماعية في سورية بأملٍ أكبر في استعادة جزءٍ جديد من الجغرافيا السورية تحت سيطرته، في الجزيرة السورية، إلا أنني أرى في هذا الانسحاب عنصرا تحرّريا، لما يمثله من خطوةٍ على طريق الخلاص من الوهم الكبير الذي تمثله القوة الأميركية العالمية، والرهان المدمر وغير الموثوق، الذي وضعته قوى اجتماعية وقومية كثيرة، وحكومات إقليمية وعالمية أيضا، على هذه القوة لتحقيق أهدافها، أو ما تعتقد أنه مصالحها الأساسية أو المستقبلية.
(1)
ولو رجعنا إلى نتائج التدخلات العسكرية الأميركية في العقود الثلاثة الأخيرة في المنطقة وجوارها، لرأينا أنها انتهت جميعا بكوارث نموذجية. هذه كانت الحال بالنسبة للتدخل الواسع النطاق في أفغانستان، والذي انتهى بتدمير الدولة والمجتمع الأفغانيين، وظهور حركة طالبان وتجذّرها، وقبل ذلك ولادة منظمة القاعدة على أيدي المجاهدين العرب الذين تُركوا لمصيرهم بين أيدي نظم فاسدة، ولا وطنية، تلقفتهم، واستخدمتهم لتبرير الاحتفاظ بسياسة القبضة الحديدية، وحرمان الشعوب من حقوقها الأساسية في أي نوعٍ من المشاركة السياسية، وقيادتها كما تكرش قطعان الماشية، بالضرب وتسليط كلابها عليها.
وهذه كانت أيضا حال سياسة محاصرة إيران الخمينية واحتوائها، التي جاءت على حساب دول المنطقة واستقرارها عموما، والتي انتهت بتحويل إيران إلى قوة توسع وتمدد وانتقام من جميع دول المنطقة المحيطة بها، وتهديد لأمنها وسلامتها. وهي كذلك حال مشروع إدارة الرئيس الأسبق، جورج بوش الابن، لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الموسع، والذي أدى إلى غزو العراق وتدمير الدولة العراقية وزرع عوامل الحرب الأهلية في مجتمعه، وتقديمه لقمةً سائغةً لولاية الفقيه الإيراني.
وليست الحال أفضل من ذلك في استفراد الولايات المتحدة بالملف الفلسطيني الإسرائيلي الذي لم يساعد على التقدم خطوة واحدة في التوصل إلى تسويةٍ سياسيةٍ على أساس حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، كما كان قد بشّر به الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، عام 2011، ولكنه شجع تل أبيب على الاستمرار في سياسة التوسع الاستيطاني اليهودي الذي حبس الفلسطينيين ومشروعهم الوطني في سجن كبير اسمه غزة وحكومتها الذاتية، كما تقضي به صفقة القرن المشؤومة، وتكريس القدس عاصمة “أبدية” لإسرائيل.
وفي الحالة السورية، كان للأوهام التي غذّتها سياسات واشنطن دور كبير في دفع لاعبين كثر، إن لم يكن كل اللاعبين، إلى الخطأ في حساباتهم، وفي إيصال الأوضاع إلى درجةٍ من التداخل والاختلاط، أدخلت الصراع في تشابكاتٍ وعقدٍ لا يزال من الصعب تفكيكها والخروج منها. وها هي تترك “الملف السوري” الآن، بعد أن قوّضت جميع فرص التوصل إلى حل، وحولت الدولة إلى قلعةٍ تحاصر فيها، بدعم من طهران وروسيا، سلطة عاصية وطبقة/ عصابة، وشتتت المجتمع بين مناطق تسيطر عليها مليشيات أجنبية أو مدعومة من الخارج، ودفعت أبناءه إلى النزوح والبحث عن الأمن والخبز في قارات العالم الخمس.
أول الأوهام التي غذّتها الولايات المتحدة كان وهم الوقوف مع الانتفاضة الشعبية، ومعارضة بقاء رأس النظام، إن لم يكن النظام ذاته، عندما طالب الرئيس الأميركي بشار الأسد بالتنحّي. وهذا ما أعطى جمهور الانتفاضة الثقة بأن المجتمع الدولي ينظر ويشاهد ويقف إلى جانبه، ومن الممكن أن يتدخل في الوقت الذي يبالغ فيه الأسد بالإفراط في العنف، فهانت التضحيات عنده، وصارت المسألة بالنسبة له مسألة تحمّل وصبر وتصميم، حتى رمى نفسه قاتلا أو مقتولا في المعركة الدامية. لكن شيئا لم يحصل، والتصريحات الفارغة من المعنى والالتزام أعطت لنظام الأسد وحلفائه، في طهران وموسكو، الذريعة المُثلى لتشويه صورة كفاح السوريين التحرّري والبطولي، وخلطها بما أطلقت عليه المؤامرة الغربية والكونية، ثم المؤامرة الإرهابية، كما سهلت عليه شق صفوف الشارع السوري والعربي معا.
والوهم الثاني استراتيجي، فقد اعتقدت حكومات مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدمتها قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، أن الانتفاضة السورية تقدّم لها فرصة تاريخية لوضع حد للتمدّد الإيراني في شمال الجزيرة من العراق إلى لبنان، وأن الولايات المتحدة هي حليفها الطبيعي والقوي لقلب الطاولة على طهران في سورية، واستعادة هذا البلد العربي من أيدي أسرة الأسد الحليفة لطهران. وهذا ما دفع هذه الدول إلى تسليم أمرها في دعم الانتفاضة السورية للأميركيين الذين استخدموا أموالها الوفيرة من أجل الحيلولة دون انتصار المعارضة، وفي سبيل البحث عن تسوية سياسية ليس للأسد أي مصلحة فيها، فتحكّموا بدرجة دعم الفصائل المعارضة ونوعه، وبالتالي بمصير الانتفاضة، إلى أن قطعوا في الوقت المناسب المعونات الضرورية عنها.
والوهم الثالث هو الوهم الكردي بدولة قومية، أو شبه دولة على حدود سورية الشمالية وتركيا الجنوبية. كان هم الكرد، في البداية، استخدام الظرف الصعب للمعارضة من أجل انتزاع اعترافها بالحقوق القومية الجماعية للكرد في سورية المقبلة. وكانوا في غالبيتهم مع الثورة، وشاركت شبيبتهم في مسيراتها السلمية، بالدرجة ذاتها. وكان من شأن التفاهم الكردي السوري أن يوحد السوريين ضد النظام، ويزيد من فرص الضغط الشعبي عليه، إلى أن توصل حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) إلى تفاهم مع الطرف الأميركي، وبدا التعاون “الاستراتيجي” واضحا بينهما، فانقلبت القاعدة الشعبية الكردية على قيادة المجلس الوطني الكردي الذي كان يمثلها في صفوف المعارضة، والتحقت بمشروع الاتحاد الديمقراطي الذي بدا وكأنه أصبح الحامل القوي لخيار الدولة الكردية الكبرى التي تبدأ بتحرير الشمال السوري حتى المتوسط.
(2)
تضخم الحلم مع تنامي الدعم العسكري في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وتمكين قوات سورية الديمقراطية من السيطرة على مناطق واسعة، تشكل ثلث مساحة سورية، وهي المناطق التي تحتوي على الثروة الاستراتيجية الرئيسية للبلاد، وتقطنها أغلبية عربية. وما كان لهذا الوهم الذي غذته واشنطن، عن وعي أم لا، عند القيادات الكردية، أن لا يثير شكوك الأتراك والعرب السوريين أيضا، ويزيد من عزلة الكرد الذين وقعوا، في الحقيقة، ضحية تضخم أوهام قيادة الاتحاد الديمقراطي ومستشاريه من غير السوريين.
صحيحٌ أن الانسحاب الأميركي يوجه طعنة عميقة لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي حلم بدولة خاصة به في شمال سورية وشرقها، بقناع الدفاع عن الحقوق الكردية. ولكن لا ينبغي أن يعني ذلك القضاء على الحقوق الكردية، وليس من مصلحة السوريين التخلي عن الكرد، أو القبول بتهميشهم من جديد، ولن يكون ذلك ممكنا بعد اليوم. إنما لا شك في أن الاتحاد الديمقراطي حمّل الكرد السوريين، وهم أقلية صغيرة في سورية، وبين الكرد في باقي دول الإقليم، أكثر مما يمكن أن يحملوه، عندما فرض عليهم، متسلحا بوهم الدعم الاستراتيجي الأميركي، مواجهة تركيا وايران والدولة السورية، التي أراد أن ينتزع منها أهم منطقة استراتيجية، وأن يبني على حسابها دولة خاصة به، وبسلطة استبدادية لا تختلف عن سلطة الأسد. وما كان يمكن للسيطرة على أراضٍ واسعة، لا وجود للكرد في معظمها، ووضع اليد على مواردها الاستراتيجية، أن تفسره هذه الدول، بل جمهور الكرد ذاته، إلا تمهيدا لإقامة دولة مستقلة.
خروج الأميركيين اليوم يحرّر السوريين والخليجيين والكرد من الأوهام التي أنتجها وهم الرهان على وجود الأميركيين وعدم وجودهم في الوقت نفسه، أي أنانيتهم واستخدامهم الآخرين أدواتٍ لخدمة أهدافهم، والتخلي عنهم عندما تتحقّق هذه الأهداف أو لا تتحقق، لمصيرهم. فمن المفيد للسوريين أن يعرفوا أن أميركا ليست إلى جانبهم، ولن تتدخل لصالحهم، وعليهم أن يتعلموا أن يقلعوا شوكهم بأيديهم، وأن يستمروا في بناء قوتهم الذاتية، والضغط على جلاديهم، سدنة نظام القتل والوحشية، بجميع الوسائل للتخلص منهم. وبالمثل، سوف يُصاب الخليجيون دائما بالخيبة، إذا راهنوا على حماية الولايات المتحدة لهم. إنهم يبتزّون أموالهم، لكن عندما تأتي ساعة تسديد الحساب، ليس هناك ما يمنعهم من القول: لن نضحّي بشبابنا من أجلكم. ومن المفيد لكرد سورية الذين شكلوا دائما جزءا من نسيجها الاجتماعي، ونخبها السياسية والثقافية والعسكرية والتقنية، وساهموا في بنائها دولةً ومجتمعا، منذ تـأسيسها، أن يتخلصوا من وهم الدولة، أو شبه الدولة التي كادت تحولهم غرباء في مجتمعهم وبلدهم، وأن يشاركوا على قدم المساواة مع بقية السوريين في تحقيق مشروع سورية الديمقراطية، المقبلة حتما، والحاملة أحلام جميع السوريين.
ما سقط في إعلان الانسحاب الأميركي من شرق الفرات ثلاثة أوهام كبيرة، عاش عليها المشرق، وخربت حياته السياسية والإقليمية: وهم دعم واشنطن للديمقراطية العربية، ووهم الحماية الأميركية للخليج وثروته النفطية، وأمن باقي الدول العربية، ووهم تبنّي واشنطن، بسبب ديمقراطية حكمها، قضايا الأقليات القومية والدينية. وأعتقد أن خسارتنا جميعا، عربا وكردا وتركا وإيرانيين، رهاننا على الولايات المتحدة لتحقيق آمالنا، يشكل لحظة محرّرة ومخلصة، ينبغي تلقفها، لا من أجل إدانة الولايات المتحدة، والكشف عن عوراتها. هذا لا يهمنا، وإنما من أجل إعادة بناء حساباتنا على أسسٍ واقعية وحقيقية، ومد كل واحد منا “بساطَه على طول قدميه”. وتعلمنا، جميعا، مبدأ احترام حقوق الآخرين، والتفاهم معهم على كل ما يضمن تطبيقها، ويضاعف منها، ويعزّز وجودها. هذه هي الحقائق الوحيدة التي تخرجنا مما نحن فيه، عربا وعجما وتركا وكردا أجمعين. هكذا يتحول الانسحاب الأميركي من لحظة مليئة بالمخاطر إلى فرصة للتحرّر من الأوهام، مع العلم والأخذ بالاعتبار أن التحرّر من وهم الدعم الأميركي لا يعني للأسف التحرّر من أميركا. سوف تبقى أميركا أكبر مولد للوهم في العالم، لأنها لا تزال القوة الأكبر فيه، والأقدر على صنع السحر وتعليمه. إنما قوة أميركا لأميركا، وشقاؤها وخسارتها دائما من جيبنا وحسابنا. وعلينا وحدنا تقع مسؤولية التوقف عن الوقوع في حبائلها، وشراء الأوهام التي تصدرها للإيقاع بنا، والمتاجرة بأرواحنا.
العربي الجديد
هل ننتظر ساعة الصفر التركية؟/ نزار السهلي
لا ينكر أحد، أن تركيا قد تبوأت مركزها في الشمال السوري عن “استحقاق ” لعدة أسباب، منها ما هو متعلق بالجغرافيا السياسية التي أتاحت للأتراك لعب دور مهم ومركزي في القضية السورية ومنها ماهو متعلق بالمصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، عدا عن استضافة ملايين السوريين داخل مخيمات على الحدود التركية وداخلها، الإطلالة على المشهد السوري من العين التركية فرض هذه الاستحقاقات، التي ارتبطت مع شعارات بقيت تصدح من حنجرة الرئيس أردوغان في البداية عن حماة، حتى وصلت وحشية النظام وعصاباته إلى حمص ثم حلب والغوطتين، وها هي تقف اليوم على مشارف إدلب وريفها تحضيراً لمعركة مؤجلة إلى حين إنضاج ظروف تسمح بها.
أول هذه الظروف، ما رشح عن تفاهم تركي أمريكي يتيح للأولى خوض غمار معركة بعد الإعلان الرسمي الأمريكي عن سحب القوات الأمريكية من الشمال، وترك الأمر للأتراك بإكمال مهمة القضاء على تنظيم داعش الارهابي، وسحق المتمردين الأكراد حسب التعريف التركي للتفاهم، من ثم التريث عن البدء في المعركة ليتاح للمحتل الأمريكي المغادرة وترتيب أوراقه بالاتفاق مع قوى الاحتلال المختلفة.
لهذا كان أمرا طبيعيا، والمؤثرات والتطورات الفاعلة جرت على هذا النحو لمصالح تركيا، خصوصا ونحن نشهد إسدال ستارة على مطلب السوريين في معركتهم مع النظام، وغير بعيد عن المصالح المزدحمة لقوى الاحتلال على الأرض يبقى النموذج التركي الأهم في التناول لارتباطه مع شعارات “أيقظت” عند بعض السوريين آمالاً في ما مضى من عمر الثورة.
لم يكف السوريين الاستماع لمرافعات العدالة والإنسانية وذرف الدموع، فقد كان سهلاً على السياسة التركية استحضار كل القيم الخيرة والمبادئ الإنسانية ضد نوايا وخطط نظام الأسد، لكن اليوم تعيد اسطوانة الطلب بجاهزية آلاف السوريين للتوجه نحو شرق الفرات والمحمولة على نفس الشعارات تعيد السؤال عن معنى إخفاء الخصم الحقيقي للسوريين، وإبعاد شبحه من أقرب نقطة مراقبة تركية في الشمال في إدلب ومنبج وعفرين وغيرها، تعلم أنقرة وحليفها الأمريكي في شرق الفرات أن التسخين شمالاً من جهة النظام وموسكو منبعه تفاهمات الأطراف نفسها أي تركيا وموسكو وواشنطن.
والسؤال المطروح من أين يأتي “الحق” بطلب إعداد آلاف السوريين عسكرياً لمعركة لا تخدم الهدف الأساس؟ إنه نفس الحق الذي أباح قبل أسابيع قليلة، لمقاتلات عراقية بتنفيذ “ضربات جوية” جديدة في منطقة سوسة القريبة من مدينة البوكمال الحدودية، وقد أعلنت القوات العراقية مراراً تنفيذ هجمات مماثلة داخل الأراضي السوري، فضلاً عن إشراك ميليشيا الحشد الشعبي ولواء أبي الفضل العباس مع عدة تشكيلات عراقية مدعومة إيرانياً بالمعارك، سواء على الحدود أو في العمق السوري لإسناد النظام، وهو الذي يبيح لقوى الاحتلال المختلفة بتنفيذ عملياتها داخل العمق السوري بعد أن حولها الأسد وعصاباته لملطشة لن يتوقف تلقيها لضربات وإهانات بفضل طغيانه.
كان من السهل على الأتراك، أو أية جهة تلعب لعبة “الدعم والتمويل” ، أن تترجم مصالحها بما يخدم مصالح السوريين، واحترام تطلعاتهم وتضحياتهم، لكننا لم نجد من السهولة ذاتها في صياغة حق النفير لا لمقارعة النظام، أو التصدي لعصاباته في كل المدن التي خُذل بها السوري، حتى داخل إدلب وريفها والتجهيز لمعركة يحشد لها النظام عصاباته من كل الميليشيا المستوردة وهو يعتمد أساسا على هذه الإنجازات من التشتت التي سوقتها المعارضة السورية عن نفسها بكثير من السلبية والأسى.
ولنفي صفة السلب عن بدايات تبعثر الأهداف في أجندة الفصائل المعارضة، نعثر على رقعة أخلاقية وإنسانية، ستبقى ناصعة في جوهر ما ناضل وضحى لأجله السوريون، إن شرق الفرات من غرب سوريا وجنوبها حتى شمالها وشرقها، كل ما أصابها ويصيبها من هوان بفعل الطاغية في دمشق، الأمريكان والروس والإيرانيون مع الإسرائيليين، وكل المجتمع الدولي يعلم هذا، لكنهم اختاروا توظيف نزع حق السوريين بالحرية من قيد الطاغية، وافتعال معارك لا تؤدي لرحليه، وهذا الأمر مفترض أن يُقنع أكثر الناس تشككاً بأنه لا أمل في انتصار السوريين، وأن عليهم التعايش مع قاتلهم.
من الصعب التكهن بوجهة سير المعارك المقبلة في شرق الفرات، من دير الزور والرقة، إلى عفرين ومنبج وفي إدلب وريفها، ومن تجربة السوريين المثقلة بأعوام من دم ودموع وآلام وهم يمضون في تطبيق أحلامهم، يتضح أن كل المعارك الجانبية كانت تهدف في محاولاتها إلى إنقاذ الأسد وتوطيد وحشيته على سوريا وشعبها، من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، كل هذه المعارك استكمال لإعادة لململة النظام المبعثر والمخردق باحتلالات واعتداءات لن تنتهي في منظور سوريا القريب، طالما بقي الأسد زعيما لعصابته، وبقي بعض الواهمين مرتبطين مع أجندات غير معنية بحرية وكرامة السوريين، فهل بتنا ننتظر ساعة صفر تركية نعرف جميعا إنها لن تحقن الدم في بوصلة مغايرة لوجهة الطاغية في دمشق.
تلفزيون سوريا
قرار ترامب الانسحاب من سورية.. مبرّراته وسياقاته وتداعياته
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
أمر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، ببدء تنفيذ انسحاب “كامل” و”سريع” للقوات الأميركية من سورية. وقد نجم عن هذا القرار الذي جاء عبر تغريدة في “تويتر” صدمة كبيرة في واشنطن، وبين حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا أنه ترافق مع إعلان مسؤولين في البيت الأبيض نية الرئيس خفض القوات الأميركية العاملة في أفغانستان إلى النصف. ويخشى قادة سياسيون وعسكريون في واشنطن أن يترك قرار الانسحاب من سورية فراغًا يملؤه خصوم الولايات المتحدة، وتحديدًا روسيا وإيران، كما أن خروجًا أميركيًا مبكرًا قد يعيد بعث الحياة في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وتَمثّل أوّل تداعيات قرار ترامب الذي جاء توقيته، كما يبدو، لأغراض داخلية متعلقة بشعبيته، من دون تنسيق مع مستشاريه للأمن القومي، في استقالة وزير الدفاع، جيمس ماتيس، والمبعوث الأميركي الخاص للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، الجنرال بريت ماكجورك، احتجاجًا على القرار. وقد عارض القرار أيضًا وزير الخارجية، مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، لكن محاولاتهم لثني ترامب عنه لم تُجد نفعًا.
مبرّرات ترامب
بحسب الرئيس ترامب، لم يعد ثمّة مبرر لبقاء الولايات المتحدة في سورية، بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، ولا ينبغي لأميركا أن تكون “شرطي الشرق الأوسط”، تقدم التضحيات من أجل حماية الآخرين. وهي مقولاتٌ تلقى صدىً في الشارع الأميركي، حيث الأولوية للاقتصاد، وحيث تلقى شعارات مثل “أميركا أولًا” أو “على من يريد الحماية أن يدفع” بعض الرواج.
ورفض ترامب الانتقادات الموجهة لقراره، لناحية إيجاد فراغ في سورية، تستفيد منه روسيا وإيران و”داعش”، معتبرًا أن روسيا وإيران وآخرين “ليسوا سعداء بمغادرة الولايات المتحدة لأنهم سيضطرون إلى محاربة داعش (بأنفسهم)”. كما أشار، في معرض تبريره القرار، إلى أنه اتفق مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن تتولى تركيا القضاء على بقايا تنظيم داعش، بينما تتولى السعودية تمويل إعادة إعمار سورية، وستقوم بذلك بدلًا من الولايات المتحدة. وقال: “وافقت السعودية على تقديم التمويل اللازم لإعادة إعمار سورية بالنيابة عن الولايات المتحدة”. وأضاف: “من الجيد أن تساعد دول فاحشة الثراء جيرانها، بدلًا من أن تقوم بذلك دولة عظمى على بعد خمسة آلاف ميل”، في إشارة إلى الولايات المتحدة، مختتمًا بالقول “شكرًا للسعودية”.
ويتسق إعلان ترامب عن الدورين المحتملين لتركيا والسعودية في سورية مع قناعته التي طالما عبّر عنها، وتتمثل في أن حلفاء الولايات المتحدة الذين يعتمدون على مظلتها الحمائية مطالبون بأن يدفعوا مقابل تلك الحماية، أو أن يقتسموا التكلفة مع الولايات المتحدة، أو أن يتحملوها وحدهم.
سياق القرار
يتخذ رفض ترامب فكرة أن تتولى الولايات المتحدة مسؤولية حماية الآخرين، أو خدمة مصالحهم من دون مقابل، بحسب رأيه، شكل عقيدةٍ إستراتيجية جديدة، لكنه في الحقيقة سلوكٌ سياسي ناجم عن أسباب داخلية وحسابات انتخابية، حتى لو كان مفعوله يشبه مفعول عقيدة إستراتيجية جديدة. ومعلوم أن سحب القوات الأميركية من سورية كان أحد الوعود الانتخابية التي سبق أن تعهّد بها ترامب مرشحًا. وهناك محاولاتٌ واضحة أيضًا من ترامب، لشد عصب قاعدة دعمه اليمينية في مواجهة المشكلات القانونية والسياسية المتصاعدة تجاهه، والمتصلة بتحقيقات المحقق الخاص، روبرت مولر، بشأن تواطؤ مزعوم بين حملته الانتخابية وروسيا في انتخابات عام 2016. ويمثل شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري واحدًا من أسوأ الشهور في رئاسة ترامب، خصوصًا مع اقتراب التحقيقات منه شخصيًا، ومن عائلته وأعماله، فضلًا عن استمرار النزيف في إدارته، متمثلًا في موجات الإقالات والاستقالات. وشهد تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 فوزًا كاسحًا للحزب الديمقراطي في مجلس النواب ضمن انتخابات التجديد
النصفي. وهو ما يعني تعطيل أجندته الداخلية، فضلًا عن إجراء تحقيقاتٍ واسعةٍ ومكثفةٍ حوله شخصيًا، وحول محيطه وإدارته. ونظرًا إلى أن سلطة الرئيس في حقل السياسة الخارجية أوسع منها في السياسة الداخلية، فربما اختار ترامب أن يستثمر فيها مبكرًا قبل أن تتولى الأغلبية الديمقراطية رئاسة مجلس النواب مطلع العام الجديد 2019.
ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن قرار ترامب جاء في سياق اتصال هاتفي أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2018، رتّب له بومبيو، بعد تهديد أنقرة بتنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ تستهدف المقاتلين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة في شمال شرق سورية. وقد ساهم ماتيس وبومبيو وآخرون في إعداد ملاحظاتٍ لترامب يسترشد بها خلال الاتصال الهاتفي، لكي يقف في وجه العملية العسكرية التي تهدّد تركيا بشنّها شرق الفرات. إلا أن ترامب قبل شكوى أردوغان من أن الولايات المتحدة تقوّض الأمن التركي، بدعمها الأكراد، وردّ على ذلك بتأكيده أن أميركا لا تريد البقاء في سورية، واتخذ بناءً عليه قراره بالانسحاب، متجاهلًا ملاحظات مستشاريه.
وبحسب مسؤول أميركي، فإن ترامب، بعد أن تلقى تأكيداتٍ من أردوغان بأن بلاده ستتولى مهمة محاربة “داعش”، خاطبه قائلًا: “هي (سورية) لك إذًا، لقد انتهينا”. وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه ترامب قراره الانسحاب من سورية، أعلنت الخارجية الأميركية موافقتها على بيع نظام باتريوت الصاروخي الأميركي لأنقرة بقيمة 3.5 مليارات دولار، من دون أن تربط ذلك بوقف صفقة شراء تركيا منظومة الصواريخ الروسية “أس – 400″، كما كانت تشترط سابقًا. وبعد يومين من إعلان ترامب قرار الانسحاب، أعلن أردوغان أن تركيا ستتولى المعركة ضد تنظيم داعش في سورية، مع سحب الولايات المتحدة قواتها، مؤكدًا أنها ستستهدف، أيضًا، وحدات حماية الشعب الكردية التي تدعمها واشنطن. وقد بدأت تركيا ترسل تعزيزات عسكرية إلى حدودها مع سورية في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2018، على نحوٍ فُهم منه أنه تنفيذ للاتفاق بين الطرفين.
ردات الفعل
أثار قرار ترامب الانسحاب من سورية قلقًا وردّات فعل مستغربة داخل الولايات المتحدة وخارجها. وكان لافتًا الإدانات الصادرة عن قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس إلى جانب الديمقراطيين. أما خارجيًا، فأثار قرار ترامب الذي لم يسبقه تنسيقٌ مع الحلفاء الإقليميين والدوليين (ما عدا تركيا) المخاوف من أن الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تنهج نهجًا
“رسالة استقالة ماتيس تعد توبيخًا نادرًا من وزيرٍ كبير في الإدارة الأميركية لرئيسه”
انعزاليًا. وبناءً عليه، لم تعد قوةً يمكن الركون إليها والاعتماد عليها، خصوصًا مع تزايد السياسات التوسعية الروسية والصينية، وهو ما جدّد الأصوات المطالبة أوروبيًا، مثلًا، بضرورة بناء قدراتٍ دفاعيةٍ ذاتية. وقد فصلت رسالة الاستقالة التي بعث بها ماتيس تداعيات قرار الانسحاب على صدقية الولايات المتحدة، وعلى الأمن والاستقرار الدوليَين. وعُدّت هذه الرسالة توبيخًا نادرًا من وزيرٍ كبير في الإدارة الأميركية لرئيسه. ويتلخص أهم المخاوف من قرار الانسحاب في ما يلي:
• سيعزز الانسحاب الأميركي نفوذ روسيا وإيران في سورية. ومع المكاسب التي حققها النظام السوري في الأشهر الأخيرة على الأرض، بدعم منهما، فإن انسحابًا أميركيًا الآن يعني فقدان الولايات المتحدة مكانها على طاولة التسويات السياسية القادمة، وسيخلّ بالتوازنات القائمة على الأرض.
• سيمكّن قرار الانسحاب إيران من تعزيز نفوذها وتوسيعه في المنطقة، على الرغم من أن إدارة ترامب جعلت من احتواء إيران أولويةً قصوى لإستراتيجيتها في المنطقة، ومنها سورية. وسبق لبولتون أن قال، في أيلول/ سبتمبر 2018، إن الولايات المتحدة لن تنسحب من سورية، إلا إذا انسحبت القوات الإيرانية والمليشيات المرتبطة بها. ولعل هذا أحد أهم أسباب معارضة بولتون وبومبيو قرار ترامب، وكلاهما من صقور الإدارة، عندما يتعلق الأمر بإيران. وقد أعلن مسؤول في البيت الأبيض أنّ واشنطن ستستمر في استخدام عناصر القوة الأخرى مع إيران، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والضغط الدبلوماسي، غير أن من المشكوك فيه أن تنجح تلك العناصر وحدها في تحجيم نفوذ إيران المتنامي في المنطقة.
• يخشى المقاتلون الأكراد، وأنصارهم في واشنطن، مثل ماكجورك، أنّ انسحابًا أميركيًا سيعني سحقهم من جانب تركيا. وبحسب مسؤولٍ في إدارة ترامب، فإن ماكجورك حاول إقناع كبار المسؤولين في إدارة ترامب بالسماح للمقاتلين الأكراد بالتواصل مع نظام الأسد، في محاولة للتوصل إلى اتفاق يحميهم من عملية عسكرية تركية، إلا أن جهوده، على ما يبدو، لم تحقق نجاحًا يُذكر، وهو ما دعاه إلى تقديم موعد تقاعده إلى آخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري. وقد اعتبر الأكراد قرار ترامب “طعنة في الظهر”.
• لحقت بتنظيم داعش هزائم كبيرة، وتمت استعادة معظم الأراضي السورية التي كان يسيطر عليها، بحيث إنه لم يعد يسيطر إلا على 1% من مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها
“داعش يسيطر على 1% فقط من مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقًا، إلا أن التنظيم لم ينته كليًا في سورية، أو حتى العراق”
سابقًا، إلا أن هذا لا يعني أن التنظيم انتهى كليًا في سورية، أو حتى العراق. وبحسب تقديرات التحالف، فإنه لا يزال هناك نحو ألفي مقاتل من “داعش” في بلدة هجين السورية، في محافظة دير الزور، ويمكن أن يصل الرقم إلى ثمانية آلاف مقاتل، إذا تم احتساب المقاتلين المختبئين في الصحارى الواقعة جنوب نهر الفرات. بل إن تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع الأميركية يقدّر عدد مقاتلي التنظيم في سورية والعراق بنحو ثلاثين ألف مقاتل. وبحسب تقديرات الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، فإن الولايات المتحدة في حاجة إلى تدريب قوات محلية يراوح عددها بين خمسة وثلاثين ألف وأربعين ألف، في شمال شرق سورية، للحفاظ على الأمن على المدى الطويل ولمنع “داعش” من استعادة ما خسره من أراضٍ. ولم يتم تدريب إلا نحو 20% فقط من هذا العدد. وهو ما حدا بعدد كبير من العسكريين والسياسيين إلى التحذير من تداعيات قرار ترامب.
خلاصة
اتُّخذ قرار الانسحاب من سورية، وأصبح نهائيًا الآن، إلا أن هذا لا يعني أنه سينفَّذ على الفور؛ فتحقيق ذلك سيتطلب أسابيع، إن لم يكن شهورًا. وربما تلجأ المؤسسة العسكرية إلى إبطاء وتيرة الانسحاب قدر الإمكان، وهي لن تعدم الحجج والمسوغات لذلك، على الرغم من إصرار الرئيس على إتمامه في وقتٍ سريع نسبيًا. وتدرس وزارة الدفاع الآن خياراتٍ بديلةً لوجودها المباشر على الأرض السورية؛ فإضافة إلى الضربات الجوية التي ستستمر، فإن ثمّة حديثًا عن تشكيل فرق كوماندوز، تتمركز على الجانب الآخر من الحدود، تقوم بعمليات خاصة، كلما اقتضى الأمر، وهو ما أشار إليه ترامب خلال زيارته السرية الخاطفة للعراق. ويوجد في العراق نحو خمسة آلاف جندي أميركي، غير أن هذا كله لن يكون قادرًا على تعويض الغياب الأميركي الفعلي عن الأرض، خصوصا إذا احتدم التنافس بين القوى الساعية إلى ملء الفراغ.
باختصار، يُعدّ قرار ترامب في سورية تعبيرًا آخر عن الفوضى التي تثيرها إستراتيجيته للأمن القومي المنطلقة من شعار حملته الانتخابية “أميركا أولًا”؛ إذ أثبت قراره في سورية، والآخر المنتظر في أفغانستان، حجم الهوة بين فهم ترامب الشخصي لهذه الإستراتيجية وفهم “المؤسسة” لها. ويمكن القول إن ترامب يبدو كمن لم يقرأ إستراتيجية إدارته ذاتها للأمن القومي، إذ يبقى اهتمامه منصبًّا على الحفاظ على قاعدة دعمه الشعبية التي تزداد أهميتها بالنسبة إليه كلما زادت المشكلات والتحديات القانونية والسياسية التي تواجهه.