اللغة العربية تدخل العصر/ أمجد ناصر
يمرّ اليوم العالمي للغة العربية، غالباً، ببعض الذكر وقليل من الاهتمام في بلاد “الضاد”. لدى العرب قضايا “أخطر” و”أهم” من التوقف أمام اللغة التي يتكلمونها. بما أنها “مجرد كلام”، فهم يتكلمون في “الفاضي والمليان”. قد لا تكون هناك أمة لا تتوقف عن الكلام مثلنا، وهذا ليس لغةً، إنه أقرب إلى اللغو منه إلى أي شيء آخر. وهم بذلك، أقصد العرب، لصيقون بمادة “اللغة” في اللسان. يعرف الباحثون في هذا الأمر أن لا وجود، في أدبيات العربية كلها، بما فيها القرآن، لكلمة “اللغة”. ولا يقودنا جذرها: لغا، إليها قط. فهذا اصطلاحٌ تبنته العربية لاحقا.
يقال إن كلمة “لغة” مأخوذة من اللفظة اليونانية “لوغوس” التي قد تعني الكلمة أو العقل (الكليّ)، لكن جذر “اللغة” موجود، عربياً، “لغا” الذي قد يعني الهذر، وما لا طائل من ورائه، أو نباح الكلاب، أو لغط القطا أو الحيدة عن صحيح الرأي! الأفضل، إذن، الأخذ باللفظة المشتبه بنسبتها إلى اليونان (لوغوس)، وحملها على معنى “الكلمة”، فذلك أكرم لـ “اللغة” من أن تكون بمعنى اللغو، وما لا يعول عليه من الكلام.. أو نباح الكلاب!
مثيرٌ للتأمل والتساؤل أن مادة “لغا” لا تؤدي، في أي اشتقاقٍ لها، وفي أي تركيب لغوي تدخل عليه، المعنى الذي نقصده اليوم: اللغة. وبهذا المعنى، أكد الباحث المصري الراحل، حسن ظاظا، في كتابه “اللسان والإنسان: مدخل إلى معرفة اللغة” عدم وجود شاهد واحد، في الأدبيات العربية القديمة، على استعمال أسلافنا كلمة “اللغة” بهذا المعنى الاصطلاحي الذي هي عليه اليوم، ليقرّر بعد ذلك أن أصل كلمة “لغة” يوناني من “لوغوس” التي تعني الكلمة أو الكلام، أو العقل. أما الكلمة التي استخدمها العرب للدلالة على معنى “اللغة” الذي نعنيه اليوم فهي: اللسان، واللغة، كما يعرف المختصون، شيء آخر غير اللسان، فهذا الأخير كل واللغة جزء. ليست هناك إشارة واحدة في القرآن إلى اللغة العربية تخصيصاً، وإنما إلى اللسان العربي، ففي سورة الشعراء، يرد أن القرآن نزل بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وبصرف النظر عن أصل كلمة “لغة” الاصطلاحية، فقد استقرت عندنا على نحو ما شرحه ابن خلدون “اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلِّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعلٌ لسانيٌّ ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بد أن يصير ملَكة متقررة في العضو الفاعل لها”.
منذ وقت طويل، لم تتلق لغة “الضاد” اهتماماً جدياً كما نالته هذا العام مع إطلاق المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات “معجم الدوحة التاريخي للغة العربية”. و”ينفرد المعجم التاريخي برصد ألفاظ اللغة العربية منذ بدايات استعمالها في النقوش والنصوص، وما طرأ عليها من تغيرات في مبانيها ومعانيها داخل سياقاتها النصية، متتبعا الخط الزمني لهذا التطور، وبالنظر لتاريخ اللغة العربية الطويل وضخامة حجم نصوصها يجري إنجاز المعجم على مراحل. وستعرض مواد المرحلة الأولى الممتدة من أقدم نص عربي موثق إلى نصوص العام 200 للهجرة، والمتضمنة زهاء 100 ألف مدخل معجمي عبر بوابة إلكترونية متطورة تقدم أنواعا عدة من الخدمات اللغوية والمعجمية والإحصائية غير المسبوقة”.
بدأت كلامي بالتساؤل عن معنى كلمة “لغة”، وما إذا كانت عربية، وهل استخدمناها، من قبل، بالمعنى الذي تشير إليه اليوم أم لم نفعل، فلو كان لدينا مثل هذا المعجم ما حِرنا في أمر كلمةٍ لا وجود لشعب أو أمة من دونها، ولما حِرنا في ردّها إلى جذر أو سياق ودلالة، وليس من قبيل المبالغة في شيء القول إن اللغة العربية ستكون في وضع مختلف عما تعرف اليوم من فوضى وتشتت وانعدام منهجية.
هذا المعجم سيدخل العربية، لأول مرة، في العصر وآلياته، ونمط تفكيره وعمله.
العربي الجديد