ابتسامة الأعمى/ عيسى مخلوف
رأيته أوّل مرّة منذ زمن بعيد. كان يؤدّي الدور الأساسي في فيلم “رجل وامرأة” الذي يحكي قصّة حبّ، وقد شاهدتُ هذا الفيلم بعد سنوات من إنجازه. كان يومها في السادسة والثلاثين من العمر، جميل الطلّة عذب المظهر. ورأيته أمس، على خشبة أحد المسارح الباريسيّة، وهو في الثامنة والثمانين، وقد أصابه السرطان والعمى . كان محاطًا بمجموعة من عازفي الموسيقى ويتلو قصائد لعدد من الشعراء، منهم جاك بريفير وليوبولد سيدار سنغور وغيّوم أبولينير. إنّه الممثّل الفرنسي جان لوي ترينتينيان.
تنفتح الستارة على عتمة نتبيّن فيها صوته فقط: “قلبي ينبض. صوتُ أمّي يناديني”. هذه الكلمات كانت بمثابة النوتة الأولى التي رسمت لنا الإيقاع العامّ. ثمّ انطلقت الكمنجات في اللحظة التي أضيئت فيها الخشبة. بدأت خفيضة كأنّها تحفر طريقًا في الصمت، وشيئًأ فشيئًأ أخذت تتوهّج، تارة وحدها، وتارة أخرى، في تداخلها مع كلمات الشعراء. في هذا اللقاء الآسر بين الكلمات والموسيقى، لم يكن ترينتينيان يتلو القصائد فقط، بل كان يفصح أيضًا عن لواعج قلبه ويقترب من الأماكن الأكثر غَورًا في النفس، حيث ترتفع عاليًا مرايا الحبّ والموت.
إنّها لحظة شعريّة بامتياز، ككلّ إبداع ينبش في الداخل. ولقد أيقظت فينا الشعور بأنّ الحياة اليوميّة ناقصة من دونها، وبأننا نعيش، أكثر فأكثر، في النقصان. وكنّا، قبل دخولنا المسرح، ننعي الشعر، ونتحدّث، كما صرنا نفعل دائمًا، عن موته وغيابه. صرنا، لفرط إحساسنا بهذا الشعور اليوميّ، ومع ازدياد وطأة سيادة المال ومنطق الاستهلاك، كأنّنا نريد، نحن أيضًا، أن نتخلّص من هذا الميت الذي لا يموت. غير أنّ الشعر، في نهاية المطاف، وقبل أن يكون كلمات وأسطرًا، هو رؤية للكائن والكون، ورفض للسائد، ونظرة إلى الحياة والعالم مفتوحة على التساؤلات والدهشة، ومسكونة بالاتساع الذي لا يُحَدّ. إنّه أيضًا سعي إلى المعنى الإنساني العميق. ولا يطالعنا ذلك في القصيدة وحدها فحسب، بل في النتاجات الإبداعيّة كلّها، كما يطالعنا في انبلاج فجر وتَفجُّر ينبوع، وفي البرق مخترقًا الظلام. هذه البداهة صحّاها فينا الممثّل الفرنسي وهو يردّد القصائد التي أحبّها وحفظها غيبًا. وجعلنا نتنبّه إلى أنّ الشعر الذي نعيناه لا يزال يتنفّس فينا، وأنّ المستعجلين القضاء عليه لا يدرون ماذا يفعلون.
القصيدة الأخيرة التي تلاها ترينتينيان، بأدائه الباهر، أهداها إلى ابنته ماري التي قتلها حبيبها الموسيقي والمغنّي برتران كانْتا. وراء هذه الفاجعة تختبئ فاجعة أخرى تتمثّل في محاولة الانتحار التي قامت بها والدته وكان لا يزال في الثامنة من عمره. أما الابنة ماري فلقد صُفعت على وجهها حتّى الموت وهي في الحادية والأربعين. قالت التقارير الطبية حينذاك إنّ خاتم الذهب، في إصبع المغنّي برتران كانْتا، ضاعف من حدّة الضربات التي انهمرت بشراسة على وجهها. قصيدة الوداع تحمل توقيع غاستون ميرون، وجاء فيها: “لم يعد لي وجه للحبّ، لم يعد لي وجه لشيء… لا أنتظر حتّى الغد, أنتظركِ. لا أنتظر نهاية العالم، أنتظركِ، وقد تخلّصتُ من الهالة الزائفة لحياتي”.
أسمعه وأخاله يقول عكس الكلمات التي يتلفّظ بها. أتخيّله يردّد: مهلًا أيّها الموت. ألا تسمع كلمات الشعر ولحن الكمنجات؟ ألا تنتظر أن تنتهي الوصلة الموسيقيّة التي تداوي القلوب؟ وأنتَ، ألا تصاب مثلنا بالوحدة والضجر؟ مرّة واحدة على الأقلّ، لحظة واحدة؟ لماذا الحواسّ الخمس إذًا، وأنتَ تفتقد إليها؟ لماذا هذه الأحاسيس كلّها وهذا الشغف؟ والانتظار؟ والنّجمة التي ينزّ نورها في الظلام؟ لماذا؟ لماذا أيّها الموت؟ أعرف أنّه آن الأوان، لكن تمهّل. تمهّل بعدُ قليلًا، فالعازفون يعزفون والموسيقى لم تنتهِ بعد…
القصائد التي تلاها جان لوي ترينتينيان بكيانه وليس بصوته فحسب، تلك القصائد المصحوبة بإيقاعات موسيقيّة تقول المقلب الآخر للكلمات، جاءت لتبلسم الجروح وتفتح أبواب الليل على الأحلام المضيئة. ولقد تسرّب سحرها إلينا بالفعل كإكسير غامض جعلنا، في لحظة واحدة محدّدة، أكثر رأفة بأنفسنا وبمن حولنا، وجعلنا ندرك فجأة أن آلام الآخرين آلامنا وفرحهم فرحنا. في لحظة محدّدة، أصبحت كلمات القصائد كلماتنا كطيور فريد الدين العطّار التي تسافر، في رحلة طويلة، بحثًا عن طائر السيمورغ، وتكتشف أنّه موجود في كلّ واحد منها. هذا كلّه، بينما مطر باريس الخفيف، في الخارج، لا يزال يربّت على أكتاف الماضين في سبيلهم.
أثناء تلاوة النصوص الشعريّة، ابتسم جان لوي ترينتينيان مرّات عدّة وزاد حوله كثافة اللغز. وحدها ابتسامته كانت مُضاءة في الصالة. وحدها المصباح الوحيد، كأنّها وصيّة أخيرة. من ورائها، ظهرَ ما لم يكن في الحسبان، وصار للمهزوم قوّة المنتصر، وللمنكسر المتألّم رغبة متجدّدة في الحياة، ولليائس القريب من الموت وهج النار المشتعلة. في تلك اللحظة، صارت ابتسامة الأعمى هي التي ترانا.
ضفة ثالثة