“المنشقون” بين مطرقة الأسد وسندان المعارضين/ سميرة المسالمة
يختلف السوريون حول كل العناوين اللازمة لصياغة رؤية واضحة لمستقبلهم، بدءاً من اسم الدولة التي تجمعهم، وانتهاء بمن هو مسموح له، وممنوع عنه، العيش فيها. ولكل من السوريين “سوريته” الخاصة به، وكأن “نظرية” المجتمع المتجانس التي طرحها بشار الأسد، في أغسطس/آب 2017، في إشارة منه إلى قبوله واكتفائه بسورية المختصرة على مناطق نفوذه، والتي يخضع سكانها (عددهم يساوي نصف سكان سورية ما قبل 2011) لقوانين النظام الأمني الاستبدادي الذي يحكمها، في تخلٍّ تام، وربما محاولة إسقاط الجنسية عن ما تبقى من سوريين، من نازحين ولاجئين ومبعدين، لنفاجأ اليوم بأصوات “معارضة” لا تختلف طروحاتها عن نظرية الأسد في المجتمع المتجانس، هي في حقيقتها مجموعاتٌ متجانسةٌ من السوريين، ترفض الآخر المختلف معها تحت عناوين قومية ومذهبية وحزبية وفكرية، فحيث عانى المشروع السوري البديل للنظام السوري الذي تمثله هياكل المعارضة (المجلس الوطني، الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، الهيئة العليا للمفاوضات بنسختيها 1 و2) من ضبابية الرؤية حتى غيابها أو الخلط بين مفهوم التغيير أو استلام السلطة بديلا وشريكا، والخضوع لإملاءات الدول المتصارعة على سورية، وبقي ذلك المشروع رهين مصالحها، غير قابل في أوقاتٍ كثيرة على الجمع بين ما يتطلبه كمشروع وطني (خارج سورية) من مصالح متبادلة مع الدول الراعية لقيادات المعارضة، والمصلحة الوطنية السورية التي تتطلب التداعي لصياغة بديلة لشكل (وآلية) الحكم لسورية الدولة ذات السيادة التي تمنح، وفق دستور ومنظومة قوانين كاملة، حقوقا مواطنية لكل السوريين، وتوفر بيئةً آمنة لهم، لمزاولة حقهم في الحياة والعمل والتعبير، وضمن تلك الأدوار الوظيفية المرتهنة، ظهر ما يمكن تسميتها المجموعات المتجانسة داخل أروقة ما سميت المعارضة، بأبعادها السياسية والعسكرية، وبكل تشعباتها ومنصّاتها وقومياتها وأيدولوجياتها.
وحيث تجنبت المعارضة السياسية مناقشة القضية الكردية، على سبيل المثال، بجدّية تمكنها من جعل حلها ضمن ما يسمى الحل السوري الشامل، لم تخف المعارضة نفسها تبنّيها المعلن أو الصامت، خطابات دينية إقصائية، وممارسات عملية فرضتها الفصائل المسلحة ذات الأيدولوجيات المتطرّفة في المناطق التي سميت “محرّرة”، إلى اختلاق جماعات كردية على الطرف المقابل “بدعم أميركي وهمي ووظيفي مؤقت” حلولا فئوية انفصالية، لا تشمل تطلعات عموم الأكراد السوريين، ولا تخدم بناء منظومة حكمٍ بديلةٍ لنظام الحكم الأمني الذي تسبب في اندلاع ثورة السوريين عام 2011، وقبلها احتجاجات الأكراد 2004.
وبينما كان الخلاف الحقيقي بين الثوار الذين هبّوا لإعلاء أصوات المطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، وكان معظمهم، في البدايات، ممن دفعوا الثمن من موظفي المؤسسات السورية (يصر بعضهم على تمليكها للنظام، بغرض إدانة كل موظفي الدولة وتجريمهم)، ومجموعة أمنية سواء كانت حاكمة، أو أدوات لها، وربما لا يتجاوز عددهم عشرات إلى بضع مئات، ظهرت أصواتٌ، وبعضها من المحسوبة على المثقفين، تنادي بتوسيع دائرة الخلاف والاختلاف، لزيادة حالة الشقاق السوري، وتمتين “اللاثقة”، فيخشى كلٌّ منا الآخر، على أساس أنه الجهاز الأمني البديل، وليس الآلية الديمقراطية البديلة، بما يخدم تطلعات النظام في محاسبة “المنشقين” الذين وقعوا اليوم، على الرغم من تضحياتهم بحياتهم ووظائفهم وأملاكهم، بين مطرقة النظام وسندان المعارضة الإقصائية الشبيهة به.
وإذا كانت الثورة ليست “الطهور”، أي أنها ليست حكم البراءة من كل ما يشين، ما يعني ضرورة خضوع كل مرتكبٍ، سواء كان على ضفة النظام أو في مواجهتها، وسواء كان من موظفي الدولة أو رعاياها، للعدالة الانتقالية التي تسهم في استقرار المجتمع، وضمان استقرار الحل السياسي المنشود، إلا أن ذلك لا يجب أن يشمل فقط “المنشقين”، كما أن ليس لأحد تقييم وطنيتهم، والتطاول على كرامتهم، ما لم تتوفر الأدلة التي تدينهم، وتثبت مشاركتهم في القتل أو التحريض عليه، أو سرقة المال العام بكل توصيفاته، ومنه مال موازنات الكيانات المعارضة التي أنتجت “رجال أعمال الثورة” ليسوا من المنشقين على كل حال، من حساب المساعدات الدولية للسوريين.
في المحصلة، غياب رؤية وطنية جامعة لدى كيانات المعارضة منذ “اضطلاع الشخصيات المختارة دولياً لمهمة قيادة المعارضة”، وتجاهل أولويات العمل السياسي المعتمد على المرجعية الشعبية التي يمثلون تطلعاتها، وإعلان خطط عملهم ووسائلهم لتحقيق ذلك، لحصد الإجماع الشعبي عليها، كان أدى إلى انشغال عديد من سياسيين ومثقفين سوريين وناشطين ومنظرين (رغم قلّتهم) إلى اختراع مشاريع لرؤى سياسية لسورية المستقبل التي يتطلعون إليها، ويرفضون فيها الآخر المختلف عنهم، “المناطق المحرّرة مثالاً” وفي مقدمة المرفوضين “المنشقون” الذين رفضوا أن يكونوا أدوات حربٍ ضد السوريين المطالبين بالحرية.
ما يجعل من السهل على أي منشق أن يقارن نداءات بعض الناشطين والكتاب بإبعادهم من الحياة العامة، بل والتحريض عليهم بنداءات النظام، بل هي محاولة محاكاة “لسورية الأسد” المتجانسة، في وقتٍ نحن أحوج ما نكون فيه إلى لمّ شمل السوريين، وابتداع خطة عمل، لصياغة مستقبل سوري جامع، يتجاوب مع مصالح كل السوريين، بغضّ النظر عن خلفياتهم الأيدولوجية، ومواقفهم السياسية وانتماءاتهم الإثنية أو الطائفية أو المناطقية.
يعيدنا كل ما تقدم إلى التساؤلات الأساسية في قضيتنا السورية، بغض النظر عن الصراع القائم بين المكوّنات السورية من جهة، والناشطين الفيسبوكيين مع بعضهم بعضاً من جهة ثانية، والأطراف الدولية المتصارعة على النفوذ داخل سورية من جهة ثالثة وأساسية، هي: عن شكل سورية التي نذهب إليها؟ وكيف الطريق إلى خلاصٍ لا رجعة عنه، من نظام استبدادي إلى نظامٍ يضمن لكل السوريين حقوقاً متساوية في سورية ما بعد الحرب المسلحة الداخلية والخارجية، وما بعد حرب الفضاءات المفتوحة التي يشارك فيها الكل ضد الكل، ومن دون هدف يرتجى، أو فضيلة تعم أو أمل يسكن القلوب بسورية على مقاس الوطنية الجامعة، بعيدة عن التجانس “الإقصائي”، بشقيه في النظام والمعارضة، قريبةٍ من وحدة الشعب السوري التي تبدو كأنها أول المستهدفين في حرب السنوات الثماني.
العربي الجديد