قلق فرنسي على أبواب عام جديد/ راتب شعبو
يثور الفرنسيون على واقعهم المعيش، وينزلون إلى الميدان بأبسط ما يمكن، بلا تسميات، بلا أفكار كبرى، بلا “نظرية ثورية”، بلا خطة عمل، وبلا أهداف نهائية، ولكنهم يواصلون الرفض. قسم كبير من أصحاب السترات الصفراء في فرنسا لا يحبون السياسة، ولا يشاركون في التصويت عادة، هذا يعني أن هذا الحراك عميق أو “غريزي”، وهذا أصل كل شيء. هذه الغريزة الثورية هي ما تخيف أرباب المؤسسات الفرنسية، بما في ذلك الأحزاب المعارضة، أي تخيف ما تسمى الطبقة السياسية التي يخشى كثيرون منها التوجه إلى مواقع تجمع “السترات الصفراء”. الحراك الأصفر يخرج على كامل التركيبة السياسية. “ليس يميناً ويساراً، بل فوق وتحت”، هكذا كتب متضامنون أميركيون مع الحركة الصفراء الفرنسية. هذه هي بالفعل الحقيقة التي تعرضها الثورة الصفراء. لا أحد يمثل الحركة الصفراء من الطبقة السياسية، لا أحد يمثلها أيضاً من صفوفها، يتكلم منها أفراد على التلفزيونات، يواجهون السياسيين والنواب بكلام جذريٍّ وموزون، وبمستوى عالٍ من الاطلاع، يحتلون الشاشات بسترات صفراء وأيد خشنة بحسب المهنة، ويملأون الشاشة بحسّهم الساخر، وتبرّمهم من الكلام السياسي “الكاذب”، ولكن الحركة لا تزال أكثر جذريةً من أن يمثلها أحد، أو أن تكون رهناً بكلام هذا أو ذاك منها.
“كتب متضامنون أميركيون مع الحركة الصفراء الفرنسية: “ليس يميناً ويساراً، بل فوق وتحت””
بعيداً عن عناصر انتهازية مارست العنف والسرقات، تحت الستار الأصفر، يوجد في الحركة الصفراء مركّب عنفي أيضاً، تنبغي قراءته على أنه مؤشر على عمق الرفض، ولا معنى لإدانة هذا العنف مع إغفال البيئة السياسية والاقتصادية التي أنتجته. لا قيمة للرموز التي تحرص عليها وتقدّسها “المؤسسات” وثقافة المؤسسات، في عين حركةٍ شعبيةٍ تتمرّد على واقعها. على العكس، يزداد الميل إلى تحطيم هذه الرموز أكثر، كلما كانت أكثر اعتباراً وتقديراً في نظر “المؤسسات”. هكذا نفهم تشويه قوس النصر، وتحطيم تمثال ماريان، ومحاولة الإساءة لضريح الجندي المجهول.. إلخ. ومن جهة ثانية، يبدو أن العنف وعرقلة حركة الاقتصاد من حركة شعبية بلا خلفياتٍ سياسيةٍ. ولا يمكن، بالتالي، تصور أنها تقوم على مطامح خاصة لشخصيات قيادية فيها، هو ما أربك الحكومة، ودفعها إلى التراجع، في حين لم تتراجع الحكومة، من قبل، أمام مظاهرات سياسية كبيرة بمئات الآلاف، ولا أمام احتجاجات قيام الليل (nuit debout)، أو حركة إضرابات السكك الحديدية التي أثرت على الاقتصاد أيضاً. آثرت الحكومة حينها أن تهمل هذه الاحتجاجات، وتتركها للزمن. أولاً لأن تلك الاحتجاجات لم تكن موجعةً بما يجبر الحكومة على الاستجابة، وثانياً لأنها كانت مؤطرة، أي معروفة الحدود، غير أن المنشأ الغامض للحركة الصفراء ونجاحها في اختبار الزمن، وميلها إلى التجذّر في المطالب، وفي المواجهة، ما يجعلها تحمل رائحة الثورات المخيفة العواقب، وضع الحكومة وكامل الطبقة السياسية في حالةٍ من القلق. في غضون شهر، يتخلّى ماكرون عن تعاليه، ليكتب على صفحة الحملة نفسها “معكم حق”، ويتلقى إجاباتٍ ساخرةً على تأخّره في إدراك الحق. حولت الحركة الصفراء الرئيس إيمانويل ماكرون من شبيه لنابليون بونابرت، على ما يصفه بعضهم، إلى شبيه لابن أخيه لويس بونابرت (انقلب على النظام الجمهوري في العام 1851).
يستعيد الإنسان مركزيته، حين يسأم الناس “التحت” (كلمة السأم تتردّد في كل حديث لأصحاب السترات الصفراء، وتتكرّر أكثر كلما كان المتحدث أقل “فصاحة”، أحد هؤلاء يختصر الأمر كله بالقول “ما يجمعنا هو السأم”) من الحال “الوطني” الدائم الذي يبقيهم تحت، ويطلب منهم، في الوقت نفسه، تقديس رموز هذا الحال. في “غريزة” المجتمع، يتفوّق الإنساني على الوطني، لا سيما حين يتحول الوطني إلى غلافٍ لستر سياساتٍ وواقع لا إنساني. لا ترى “السترات الصفراء” مشكلة في المهاجرين مثلاً كما يبدو لليمين الفرنسي. على العكس، تطالب بإعطاء العامل الأجنبي أجراً مساوياً لأجر العامل الفرنسي، وترى من الظلم أن يتقاضى رئيس الجمهورية راتب رئيس جمهورية مدى الحياة، وتطالب بخفض رواتب النواب والوزراء. ولذلك في الوقت الذي يبدو فيه هؤلاء فريسةً دسمةً تطمح كل الأحزاب إلى استقطابهم، وخطب ودهم، فإنهم لقمة يصعب ابتلاعها على أي حزب أو تنظيم. الحزب الشيوعي الفرنسي كما التجمع الوطني (الاسم الجديد للجبهة الوطنية) اليميني المتطرّف، يفتحان الباب أمام أصحاب السترات الصفراء لترشيح مندوبين عنهم في انتخابات البرلمان الأوروبي في شهر مايو/ أيار من العام 2019، من دون استجابة.
كانت عشية عيد الميلاد المرآة التي عكست البعد الإنساني الذي تخنقه سياسة السياسيين، سائقون يطلقون الأبواق عند مرورهم على المفارق تحية تضامن، ويقدّمون لأصحاب السترات الصفراء المرابضين هناك مواد الاحتفال بسهرة الميلاد، وهؤلاء يعبرون عن سعادتهم بهذا التضامن، (إحداهن تقول إنها لا تجد هذا الطعام في بيتها). المرابضون يعبرون عن فرحتهم بهذه “الأسرة الثانية” التي اكتشفوها، يقول أحدهم “في البداية، لم أكن أعرف أحداً. الآن أصبحنا أسرة واحدة، هذا هو الشيء الجيد الوحيد الذي نجح ماكرون في عمله”.
حتى اليوم، وعلى الرغم من كل ما حدث (تنازلات الرئيس التي يقال إنها سوف تكلف الحكومة أكثر من 10 مليارات يورو، أعمال العنف التي شابت بعض المظاهرات، شبح الإرهاب الذي أطل بالجريمة الإرهابية في ستراسبوغ .. إلخ)، لا تزال نسبة الفرنسيين المؤيدين للحركة الصفراء تصل إلى 70%. لذلك لا يعوّل على تراجع عدد المشاركين في المظاهرات (وهو تراجع مضطرد بدأ بحوالي 290 ألف متظاهر في السبت الأول 17 نوفمبر/ تشرين الأول، وانتهى بحوالي 36 ألفاً في السبت السادس 22 ديسمبر/ كانون الأول)، لتوقع قرب انتهاء الأزمة المجتمعية في فرنسا. وهي أزمة مجتمعية أكثر منها سياسية، لأن الحكومة لا تملك حلاً مرضياً تقدمه للمحتجين (الثوار)، وهذا من بواعث القلق أيضاً. ويبدو أن المحتجين، إذ يدركون المشكلة، فإنهم لا يدركون الحل تماماً، وهذا ما دفعهم إلى المطالبة باستقالة الرئيس، وهي مطالبةٌ تعني، في الواقع، ضعف توجه الحراك بقدر ما تعني جذريّته.
المطلب الذي استقرّ عليه الحراك، أو لنقل الجزء الأكثر جذريةً منه، بعد أن حصل انشقاقٌ بين معتدلين سموا أنفسهم “الأحرار”، وعزلتهم الحركة، وملتزمين يسمّون باسم موقعهم الرسمي على النت “فرنسا الغاضبة”، هو المطالبة باستفتاء على مبادرة المواطنين (RIC)، وهو يهدف إلى السماح للفرنسيين أن يكونوا قادرين على وضع القانون أو تعديله من دون المرور عبر البرلمان، من خلال استفتاء وطني، شرط أن يكون عدد المطالبين بهذا القانون، أو هذا التعديل، أعلى من حدّ أدنى محدد سلفاً. هكذا تتكثف مروحة المطالب الواسعة جداً، إلى مطلب جوهري، يمكن من خلاله تحقيق باقي المطالب، وهكذا تتراجع الديموقراطية التمثيلية لصالح ديموقراطية مباشرة، تسمح للناس بالتدخل المباشر في إدارة شؤونهم.
العربي الجديد