فرانكوبان وطرق الحرير الحديدية الإسمنتية الجديدة/ وسام سعادة
عندما وصل أوّل قطار قادم مباشرة من الصين إلى مدينة بندر انزلي الجيلانية على بحر قزوين، استعاد نائب الرئيس الإيراني اسحق جهانغيري محورية بلاده في تاريخ طريق الحرير التي وصلت تجارياً وثقافياً أقاليم قارة آسيا ببعضها البعض منذ العصر القديم، في وقت تلعب فيه الصين اليوم الدور الريادي المركزي في بعث طريق المواصلات القاريّ، بالإستعادة المجازية لمسمّى «طريق الحرير»، بل وترجيح كفّة النقل البرّي على النقل البحريّ على الصعيد العالميّ. في كتابه الصادر نهاية هذا العام، «طرق الحرير الجديدة»، يلتقط المؤرخ البريطاني الشيّق بيتر فرانكوبان هذه المفارقة الإيرانية، كما يلتقط شبيهات لها في تركمنستان وأوزبكستان: بلدان تصقل هوياتها الثقافية، وتشخيصاتها لأدوارها الإقتصادية أكثر فأكثر، برمزية «طريق الحرير»، في حين تبقى الريادة للتوسّع الاقتصادي الصينيّ.
«طريق الحرير» مصطلح استحدثه في القرن التاسع عشر، البارون فون ريشتهوفن، الرحالة والجغرافي الألماني، ولم تطلقه أيّ من الحضارات الآسيوية على طريق المواصلات التي كانت تقطع السهوب والممرات الجبلية والوديان، وشكّلت الركن الأساسيّ من التجارة البرّية في التاريخ العالمي على مدى القرون. والكتاب الحالي لفرانكوبان يأتي كتتمة لكتابه الموسوعيّ السابق «طرق الحرير. تاريخ جديد للعالم» الصادر قبل خمس سنوات، والذي أعاد فيه مغزى «حريرية» الطريق إلى كون الحرير استخدم مطوّلاً كـ»عملة» في الصين، إلى جانب القطع النقدية والحبوب، وكسلعة كانت تطلّبها قبل كل شيء مجتمعات الرحّل في السهوب والصحاري من الصينيين، في مقابل احتياج الصينيين للأحصنة قبل كل شيء آخر من هؤلاء الرّحل الذي كان الشغل الشاغل قبل كل شيء ردعهم حيناً، وتأليف قلوبهم حيناً آخر، لتأمين السلام الداخلي للإمبراطورية من توغلاتهم وغزواتهم، بما كان يؤدي أكثر فأكثر إلى دفعهم بإتجاه الإقليم الأوسع للحضارة الفارسية.
وإذا كانت «طرق الحرير» المجازية قد تعاقبت في كتاب فرانكوبان السابق، من حيث طرق المعتقدات الدينية وتجارات العبيد والفرو والذهب والفضة والقمح وانتقال الأوبئة والصراع على الهيمنة العالمية، فإنّ «طريق الحرير» المجازية لقرننا، تُظهر قبل أي شيء آخر رَجعة مشاريع انشاء سكك الحديد للقطارات السريعة إلى صدارة التحوّلات الإقتصادية والحضاريّة في عالم اليوم، إنّها طرق تزايد الطلب على الحديد والمعادن والإسمنت.
تسريع الشحن، وربط الشحن البحريّ بالشحن البرّي، هو ما يرسخّه بشكل أساسي الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني، من مدينة قشغر في تركستان الشرقية (سينكيانغ) الصينية إلى ميناء جوادر الباكستاني البلوشي (العُماني حتى 1958)، لكن أيضاً مجموعة من المشاريع الصينية في آسيا الوسطى، والجنوبية الشرقية، التي تثير أكثر فأكثر حفيظة الهند. كما يتجّلى هذا المدى الصيني في بلدان افريقيا عديدة، وبخاصة في كينيا التي تبني شركة صينية فيها سكة حديد جديدة، في أكبر عملية تحديث للبنية التحتية منذ انتهاء الإستعمار البريطاني.
لهذه الورشة الطرقية الصينية ـ الآسيوية الشاملة تداعيات غير منظورة بعد. بلد مثل النيبال سينتقل في غضون العشرية القادمة من حالة طرق ضيقة ووعرة وسيئة التجهيز، إلى أنفاق تمرّ من تحت الجبال لتصل كتمندو بالتيبت الصينية. في بلدان أخرى، الدور الصيني استثار مباشرة الشعور بعودة إستعمارية، كما في موجة الإحتجاج في سريلانكا في أعقاب تأجير الحكومة ميناء هامبانتوتا للصينيين لمدة 99 عاماً.
يجمع الكتاب بين التقاط منحيين في سلوكيات البلدان الآسيوية في الفترة الحالية. أوّلهما، أنّ إشكالية التحديث والتصنيع صارت مرتبطة بالنسبة إلى هذه البلدان أكثر فأكثر بالتوسّع الاقتصادي الصيني، وهذا مرتبط بتضاعف حاجة الصين لمصادر الطاقة، وتضاعف طلب الطبقة الوسطى الصينية للأغذية، وبالذات للحوم، وزيادة الطلب الصيني على الحديد والإسمنت والمعادن، في مقابل حاجة البلدان الأخرى إلى تحسين بنى تحتية لا تزال في حالة يرثى لها. أما المنحى الثاني، فهو تواصل، بل زيادة طلب البلدان الآسيوية للأسلحة، وهنا يبقى المصدران الأساسيان للصناعة الحربية الولايات المتحدة وروسيا، وتجد واشنطن نفسها أكثر فأكثر أمام مأزق، لكونها قد أفتت بعدم جواز تصدير السلاح الأمريكي إلى بلدان تتبضّع من الأسلحة الروسية، في وقت لا تتردّد البلدان الشرق أوسطية والآسيوية في التقرّب من الروس، عند أوّل توتر ينتاب علاقاتها مع واشنطن، وبالذات عند تضييق استيراد الأسلحة الأمريكية إليها.
الثورة الصناعية الصينية ـ الآسيوية الحالية، المقترنة بعودة محورية سكك الحديد والشحن البرّي، ما زالت تتعايش إذا مع ثنائية قطبية أمريكية ـ روسية، بالنسبة للبلدان الآسيوية، عندما يتعلّق الأمر باستيراد الأسلحة. هذا ما يمكن استخلاصه من المواد والشروح التي يقدّمها لنا فرانكوبان.
يمتاز كتابه أيضاً بعدم إهمال ما تغلّفه رمزية «طريق الحرير» والمشاريع التحديثية «السككية» الحالية من تناقضات بين البلدان. فالخشية الروسية من التوسّع الصيني بإتجاه سيبيريا، اقتصاديا وسكانياً، تترافق مع استمرار حالة الحذر الدفاعي الروسي في المناطق الحدودية مع الصين، كما أنّ الحساسية بين روسيا وكازاخستان تميل إلى الوضوح أكثر فأكثر، ومعظم الجمهوريات السوفياتية السابقة في آسيا الوسطى باتت تحترف اليوم إدارة شبكة علاقات معقّدة مع أمريكا وروسيا والصين في وقت واحد. ومع أن فرانكوبان يظهر كيف أن إيران تنفق على تدخلها لصالح النظام السوري عشرات المليارات التي كان من الأولى توظيفها في مشاريع تحديث البنى التحتية، إلا أنّه يدرج الجمهورية الإسلامية في عداد البلدان التي باتت تدرك مثل روسيا والصين وتركيا، أن العالم يتغيّر، أي وفقاً لمنطق الكتاب، هو عالم يميل أكثر فأكثر إلى إحياء محوريّة البرّ على البحر، في مقابل بلدان آسيوية أخرى لم تتكيّف بعد مع هذه النظرة.
لا يصادر بيتر فرانكوبان على الأيام الآتية، وإن كان يتوقف لهنيهة أمام نقطة عالية الأهمية، تتعلّق بمدى فائدة تقريب المسافات، من خلال هذا الإنكباب الصيني على بناء سكك القطارات السريعة، بالنسبة إلى عدد من السلع قد لا تكون بحاجة فعلياً إلى هذا التسريع الزمني، أو قد يكون هذا التسريع مكلفا أكثر من ربحيته المنتظرة. هكذا إستفهام ليس بتفصيل، لأنه يتّصل بأساس إمكانية الموافقة بين رأسمالية الدولة، المنتعشة بأشكال آسيوية مختلفة في عالم اليوم، وبين «قانون الربح». فإذا كانت أزمات فائض الإنتاج مشكلة «رأسماليات السوق» الأساسية، يبقى التناقض بين قانون الربح (ومعه ثلاثية الأرباح، والأسعار، والأجور) وبين رأسمالية الدولة، مشكلة ليس من الميّسر على «رأسمالية الدولة» تجاوزها.
كاتب لبناني
القدس العربي