مقالات

المبدع المتأفف من الجوائز والساعي إليها!/ هوشنك أوسي


قبل عقدين أو ثلاثة، كان الكلام الأكثر تداولاً وتكراراً على ألسنة المبدعين والمبدعات، الذي تنقله وسائل الإعلام؛ هو التذمّر والامتعاض من عدم توظيف المال العربي في خدمة الإبداع والمبدعين، بدلاً من هدره في أمور تافهة، كشراء الأسلحة وافتعال الحروب وقمع الشعوب.

وكنّا نقرأ ونسمع كلاماً شديد النقد والنقمة على الأنظمة العربيّة، بخاصّة التي تمتلك وفرة ماليّة، وعلى رجال الأعمال والمؤسسات التجاريّة العربيّة الكبرى على أنها لا تولي أيّة أهميّة للإبداع والمبدعين، ولا تشجّع الحركة الإبداعيّة، عبر خلق فرص للكتابة، وإطلاق جوائز معنيّة بالرواية والقصّة والشعر والنقد…، وكل حقول الكتابة الإبداعيّة والبحثيّة والنقديّة. وإن هكذا خطوات من شأنها تحفيز النشاط والنتاج الابداعي وصقله، وفصل السمين عن الغثّ، بشكل عام، وتعزيز الثقة لدى المبدع/ة على أنهما قيمة فاعلة ومؤثّرة في مجتمعاتهم.

ولكن الآن، وبعد ظهور عدد مقبول من الجوائز الأدبيّة، وزيادة ملحوظة في حركة الكتابة والنشر، بخاصّة في جنس الرواية، انقلب

ذلك الكلام الذي كان يطالب بإطلاق جوائز أدبيّة، قبل عقدين أو ثلاثة، إلى كلامٍ ماقت ومتأفف، بل مشكك في الجوائز، وفي الدول والجهات التي تدعمها، وفي الأعمال الفائزة أو بالفائزين والفائزات بها، وفي لجان تحكيم هذه الجائزة أو تلك! واللافت أن قسماً لا بأس به من هؤلاء المشككين والناقمين والطاعنين، يشاركون، بشكل أو بآخر، في هذه الجوائز، سواء بشكل شخصي، أو يطلبون من ناشريهم المشاركة باسم دور النشر. وإذا فاز أحدهم بها، يصبح مادحاً للجائزة، أو أقلّه يقلعُ عن تشكيكه وطعونه! وإذا لم يفز، يستمرّ في تعففه وتأففه من الجوائز الأدبيّة وترفعه عنها!

لا خلاف على أن الأعمال الإبداعيّة لا تقتصر أو تنحصر في الأعمال التي تفوز بالجوائز الأدبيّة المعروفة (بوكر، كتارا، الطيب صالح، نجيب محفوظ، ساويرس، الشيخ زايد…)، ولكن أعتقد أنه لا خلاف أيضاً على الأعمال الفائزة بهذه الجوائز وأنها إبداعيّة ومميّزة وتستحق الكريم.

لا خلاف على أن المبدع، حين يكتب، ينبغي ألاّ تكون عيناه على الجوائز. كذلك يفترض ألاّ يكون هناك خلاف على إنصاف جائزة لمبدع/ة ونتائجهما الإبداعي. لا خلاف على أن الجوائز لا تجعل من أنصاف وأشباه المبدعين أو مدّعي الكتابة الإبداعيّة، مبدعين. ويفترض ألاّ يكون هناك خلاف على أن الجوائز الأدبيّة لا تفسد الحركة الإبداعيّة والقيمة الإبداعيّة، إذا ساهمت في وفرة وغزارة الكتابة.

الكثير من الروايات والكتب التي فازت بجوائز أدبيّة، تمّ رفضها من قبل بعض دور النشر، نتيجة خضوع هذه الدار أو تلك لمزاج هذا الكاتب المشرف على لجنة القراءة، أو نتيجة الميل السياسي والأجنديّة السياسيّة لهذا الناشر أو ذاك. والكثير من الكتب، دون المستوى المؤهّل للنشر، يتم تمريرها، بسبب علاقة شخصيّة تربط الكاتب بلجنة القراءة، أو بالناشر، بشكل مباشر. والأمثلة على ذلك، أكثر من أن تحصى. وعليه، أتت الجوائز لتنصف هذه الإبداعات المظلومة، وهؤلاء المبدعين المظلومين، وتُبعد كل من يتمّ نشره من رداءة ورثاثة وادعاء الأدب. وإلاّ بماذا يمكن تفسير فوز 5 أعمال فقط، من أصل 500-600 عمل يشارك في جائزة كتارا؟ أو وصول 16 عمل للقائمة الطويلة للبوكر، من أصل 150 الى 200 عمل مشارك في الجائزة؟

من فوائد وإيجابيّات الجوائز الأدبيّة، أنها فتحت أبواباً أمام حركة النقد أيضاً، بأن تجاوزت التقييمات والتصنيفات التقليديّة لـ “ديناصورات” النقد في العالم العربي. كذلك فتحت هذه الجوائز الأبواب أمام مبدعين شباب، صاروا ينافسون، بل يتجاوزن “ديناصورات” الكتابة الإبداعيّة، في الشعر والنثر؛ قصّة ورواية.

أيضاً من فوائز وإيجابيّات الجوائز، تنشيط حركة القراءة أيضاً، ولو على نحو بطيء. ذلك أن دور النشر ما كانت تنشر بهذه الغزارة، إذا لم يكن هناك سوق نشط للكتاب. ونشاط سوق كتاب يعتمد على نشاط القارئ وإقباله على اقتناء الكتب، بخاصّة منها الإبداعيّة. وإذا كان نشر وتوزيع الكتب تجارة خاسرة في العالم العربي، لما رأينا ظهور دور نشر جديدة، كل شهر تقريباً! من دون أن نسهو عن أنه قبل عقدين أو أكثر، كان هناك تذمّر عام، من قبل دور النشر، ومن الكتّاب والنقّاد أيضاً، على وفورة كتب ودواوين الشعر، وقلّة الرواية والقصّة والنقد. ولكن الآن، هناك تذمّر من وفرة طباعة ونشر الرواية بالدرجة الأولى، والقصّة بالدرجة الثانية. وعلى أن الزمن، صار زمن الرواية، وولّى زمن الشعر.

كذلك من فوائد وإيجابيّات الجوائز الأدبيّة، أنها كشفت عن معادن الأدباء والمبدعين والمبدعات، بأنها زادت المتغطرس، غطرسةً وطاووسيّةً وخيلاءً. وجعلت المتواضع أكثر تواضعاً. معطوفاً عليه، هذه الجوائز كشفت عن ظاهرة فظيعة وغريبة لدى بعض الأدباء المشهورين المكرّسين والمكتفين والمقتدرين ماديّاً، والذين تطبع وتترجم أعمالهم من قبل دور النشر “على العمياني” كما يقال في العاميّة الدارجة، وذلك بأن كشفت نهم وهوس هؤلاء بالجوائز، وجشعهم وطمعهم بالمزيد والمزيد والمزيد…، لكأنّهم قومٌ لا يشبعون من الجوائز والأضواء. وذلك عبر مشاركتهم الدائمة والمزمنة في الجوائز، ومنافسة الكتّاب والمبدعين والمبدعات الجدد الذين يحاولون التماس طريقهم للشهرة والرواج والنشر والترجمة. هؤلاء الذين يمكن تسميتهم بـ “حيان سوق النشر والترجمة والنقد والجوائز”، فضحتهم قوائم ولوائح

المشاركين في الجوائز الأدبيّة. وأعتقد أنه -أدباً وأخلاقاً وإبداعاً- عليهم التوقّف عن المشاركة في الجوائز الأدبيّة، والطلب من ناشريهم، بعدم إرسال رواياتهم وكتبهم إلى هذه الجوائز، وإفساح المجال أمام الكتّاب والمبدعين الشباب، أو الذين لم تتح لهم فرصة الرواج والشهرة والتكريم.

بالعودة إلى ظاهرة ادعاء التعفف والتأفف من الجوائز الأدبيّة المنتشرة بين بعض المبدعين والمبدعات العرب، مما نقرؤه في المقالات المنشورة هنا وهناك، كذلك تعبّر هذه الظاهرة عن نفسها على مواقع التواصل الاجتماعي (الفيسبوك)، ورغم مشاركة بعضهم في هذه الجوائز، وعدم فوزهم بها، نجد أن أحد طعونهم فيها هي أنها “بدويّة” خليجيّة المنشأ، ومن أموال “البترو-دولار”! لكأنّ البترو-دولار نقيصة وسبّة ينبغي البراءة منها! والسؤال هنا: إذا اعتمدت هذه الجوائز على أموال “البطاطا-دولار” مثلاً، فهل هذا يعني أنها تكتسب الشرعنة والنزاهة والعدالة والبراءة والمصداقيّة؟!

طعنٌ آخر يضاف إلى سابقه؛ الـ”بترو-دولار”، مما يروّجه ويسوقه المتأففون المتعففون؛ أن الأنظمة التي تدعم هذه الجوائز، تدعم الحركات الإرهابيّة الجهاديّة الإسلاميّة (قطر، الامارات) مثلاً. والحال هذه، هل هناك نظام رسمي عربي، من المحيط إلى الخليج، يمكن تبرئته من ظلم وقمع واستبداد شعبه؟! يتناسى أصحاب هذه الطعون أن المنتوج الإبداعي الفائز بهذه الجائزة أو تلك، يخضع لفرز وتقييم لجان تحكيم، مشهود لهم بالنزاهة! ثم أين يذهب المبدع بكتابه، وسط هذه الأجواء الثقافية – السياسيّة المسمومة التي يعيشها العالم العربي! هل تستردّ حركة الإبداع في العالم العربي عافيتها وسلامتها وصحتها ونزاهتها وبراءتها ونشاطها وحيويّتها، في حال قاطع كل المبدعين والمبدعات جوائز ال ـ”البترو-دولار” الأدبيّة؟!

ينزلق بعض الفائزين والفائزات بجائزة البوكر أو كتارا، جهراً أو سرّاً، للدفاع عن السياسة القطريّة أو الإماراتيّة، ويصطف في خندق هذا الطرف ضدّ الطرف الآخر. هذا وارد. ولكن هذه الآفة أو الخصلة المشينة، لا علاقة لها بالجائزة، بل بمستوى التهافت والدونيّة والتبعيّة وسلوك الإمّعة الموجود في التكوين النفسي لهذا الكاتب/ة أو ذاك.

المؤسف في الأمر، أن بعض المتأففين والمتعففين من الجوائز الأدبيّة، ممن ينطبق عليهم المثل المصري الدارج: “أسمع كلامك، أصدق. أشوف أمورك، أستعجب!؟” يصل بهم حال الشطط في النقمة وذمّ الجوائز الأدبيّة، إلى التهجم والطعن؛ جهراً أو سرّاً وتوريّة، في زملائهم الفائزين بها!

المبدعون والمبدعات، بشر، يخطئون ويصيبون. وما من أحد منهم يرفض التكريم والاحتفاء والرواج والشهرة الذي تقدّمه له الجوائز الأدبيّة. وأعتقد أنه ما آمن أحدكم بالإبداع، حتّى يحبّ لزميله، ما يحبُ لنفسه. ولعل أبزر ما يفسد الإبداع والمبدعين هو هذا التعالي المزعوم عن الجوائز الأدبيّة والتأفف منها، والتعفف عنها. وأخشى مما أخشاه؛ أن هذا التواضع المزعوم يلقي بصاحبه أو صحابته إلى درك الادّعاء، والوضاعة أيضاً، أثناء طعنهم في زملائهم الفائزين والفائزات بالجوائز الأدبيّة.

تلفزيون سوريا

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى