لا هوشي مينه للسوريين/ سلام الكواكبي
في بداية الحراك السوري، تكاتفت الألسن والأقلام الثورية لإدانة من لم يتخّذ موقفاً مؤازراً للمطالب الشعبية في الحرية والكرامة والعدالة. وخرجت تصنيفات “أدبية”، كتوصيف فئة أو أفراد بالضبابية أو أنهم أصحاب موقف انهزامي يتميّز بأنانية لأننا “كنا عايشين” رغم القمع والخوف والفساد. أما من ساهم مادياً ومعنوياً في آلة القمع والزجر بداية، والقتل والتدمير لاحقاً، فقد تم تصنيفه ـ عن حق ـ وفق مسميّات متفاوتة العنف والتجريم من موالي إلى شبّيح وصولاً إلى قاتلٍ موصوف.
وبما أن الحالة السورية تتميّز بانعدام إمكانية إيجاد جهتين متواجهتين، متخاصمتين، فهناك عديد منها، فقد منحت بعض الرؤوس الحامية من هذه الجهات المختلفة نفسها صلاحية التصنيف النوعي والكمي، وتوزيع شهادات الضمير والأخلاق والوطنية، إن تركنا جانباً البعد الإيماني المُضاف. وذلك، كما جرت عليه العادة في ظل قمع النظام القائم الممنهج الذي ما فتئ يُصنّف الرعايا حسب أهوائه وملاءة جيوبه من أموالهم واستغلاله لحيواتهم.
من جهتها، قامت الأطراف الأخرى والتي آزرت الخوف أو هادنته، أو التي حالفت الاستبداد لقناعة “أيديولوجية” مشوّهة أو لمصالح مُدرّة
للمنافع وللمناصب، بممارسة تصنيفات من نوع آخر خطابها أكثر عنفية وإقصائية عموماً، ويتراوح بين الغباء السياسي مروراً بالعمالة للمخططات الخارجية والخيانة للوطن، وصولاً إلى الإرهاب المموّل من جهات معادية تتنوّع حسب المواسم.
ثماني سنوات عزّزت من الانشقاق والتفسّخ المجتمعي. وقد ترسّخت الكراهية في أعماق النفوس وصار من شبه المستحيل إعادة اللحمة المجتمعية ـ إن كانت موجودة أصلاً ـ التي لطالما تغنّى بها عن سذاجة أو عن نفاق كبارنا ومؤسسين دولتنا الوطنية الفاشلة ومن انقلب عليهم ممن سرقوا نجوم الليل ليضعوها على أكتافهم صباحاً، كما يقول صاحبي اليمني، وينتهكون حقوق الشعب المغلوب على أمره داخلياً وخارجياً.
تسرّع الطرفان في إقصاء الآخر، وانعدمت سبل التواصل والحوار ولو في حدوده الدنيا بينهما، عن رغبة راسخة في الممارسات من مؤسسة حاكمة تكره بنيوياً وتاريخياً أن يتعاضد المجتمع بتنويعاته وتلويناته حول مسألة مهما سخفت أو مهما عظمت. وعند الحديث عن هذا التسرّع المؤدي إلى القطيعة، فهو بالتأكيد لا يشمل القتلة المأجورين أو المعتمدين أو من في حكمهم، بل هو يُشير إلى أفراد المجتمع المختلفين في الموقف وفي التعبير. ومع أن وسائل التواصل الاجتماعي شكّلت مرتعاً خصباً ومفتوحاً لبذيء الكلام تناقلهما الطرفان، إلا أن هذا النوع من الحوار غير الأخلاقي والمعتمد على العنف اللفظي والمليء بالأبعاد الجنسوية والجنسية الغالية على جميع الأطراف، لم يُساعد إلا في تعزيز الكراهية وتراكم الأحقاد. والعودة للحياة المشتركة في حدودها الدنيا اللازمة لإعادة بناء البشر على هامش الشح المُبشر به في إعادة بناء الحجر، فهي تتطلّب جهود جبّارة محلية ودولية في سبيل إطلاق عملية إعادة تأهيل أخلاقية لا يمكن للقاهر الذي “انتصر” في معركته ضد شعبه أن يسعى إليها لأن أساس بقائه منذ الأزل يعتمد على إدامة وإدارة الكراهية والخوف والشك بين أبناء الوطن.
بين الضبابي والموالي والشبيح والقاتل من جهة والمعارض الإرهابي العميل الخائن من جهة أخرى، ما صنع الحداد والأسد. بالمقابل، فقد التزم السوريون بمسارات مشابهة حيث أنهم أبدعوا في استنساخ فئة برزت على مدى سنوات المقتلة، وهي فئة تغيير المواقع والانتماءات والمواقف والخنادق دون أي شعور بالحاجة إلى تقديم تبرير ولو صوري لانقلابهم المفاجئ. وإن كان انشقاق الكثير من أعضاء السلطة قد أُرفِقَ بتصريحات موضّحة تراوحت بين الاقتضاب والتوسّع، إلا أن بعضها
كان وقتياً ظنّاً من أصحابها بدوران العجلة وتغيير صفحة كتاب الحكم، ولإيجاد موطئ قدمٍ في حكمٍ جديدٍ قادم. وبعضها الآخر، شعر عن حق بضميره الذي كان مُغيّباً ورفض الانصياع لآلة القتل والتدمير واختار ما اعتبره رجوعاً عن الخطأ. ومع تطوّر المقتلة بمراحلها المختلفة، ومع انحسار الأمل بإحداث تغيير سياسي حقيقي في ظل نمو الطحالب الراديكالية المُشوّهة لجسم المطالب الشعبية المشروعة، وفي ظل التدخّل الأجنبي العسكري الروسي الحاسم تعزيزاً للتدخل الإيراني القائم على أسس متشابكة يتقدمها الديني، في ظل ما سبق كله، وما غاب عن الذكر، فقد بدأ الانشقاق عكسياً وقلب السترة محموداً ونقل البندقية من كتف إلى كتف مُحقّقاً، وبدأ العشرات، بل المئات ممن لاذوا بالثورة بالانقلاب عليها دون أي وازع أخلاقي أو حتى تكتيكي.
في بداية الثورة التونسية، سجل أحد الفنانين التونسيين شريط فيديو يُهاجم فيه الرئيس ابن علي وعائلته وزبانيته داعياً إياه للرحيل بكل وضوح وحدة. مضت السنون، لتنشر الصحف منذ أيام صوراً لهذا الفنان “البطل” في حفلة عقد قرانه مع … ابنة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
كم ستشهد الساحة السورية من مسرحيات ووقائع مشابهة في المستقبل القريب؟ لن أستغرب إن كان العدد كبيراً للغاية، وخصوصاً أن من أهم أسباب الهزيمة هو الاعتماد على من في أخلاقهم خلل في مواقع مفصلية. أشد ما افتقد له السوريون هو هوشي مينه.
تلفزيون سوريا