تفاصيل السوريين في البرزخ/ سوسن جميل حسن
الحياة حق فطري لكل المخلوقات، وبالنسبة للإنسان فلا منة لأحد عليه فيها، لا سلطة سياسية ولا اجتماعية ولا دينية ولا غيرها. فالحق في الحياة هو حق غير قابل للمساومة يتمتع به كل إنسان على كوكب الأرض.
وإذا كان للطبيعة قوانينها ونواميسها، بأن يكون لكل مخلوق دورة حياة تخصه وبيئة وظروف مناسبة لهذه الدورة التي يتكاثر فيها أيضًا لأجل حفظ النوع، فإن الموت حق وحقيقة، الموت الذي يدشن لولادة أخرى في سلسلة الحياة المستمرة، فإن دورة حياة الإنسان لم تعد مرتبطة بالناموس الكوني ولا بقوانين الطبيعة النزيهة أو برامجها المتغيرة، بل صار له حياة إذا اكتسبها بشكل فطري فإنه ليس مخيرًا في طريقة عيشها واستثمارها، ولا حتى بطريقة موته الذي أصبح في حالات كثيرة لا يشكل حلقة من حلقات الحياة بتراتبيتها ونهايتها المفترضة. فنشوء المجتمعات وتطورها وتعقد الحياة وما وصلت إليه البشرية من تطور في مجالات العلوم والسيطرة على الطبيعة، والحروب التي وسمت البشرية كعلامة مميزة لها إذا ما استقرأنا التاريخ ووصلنا إلى نتيجة مفادها أن حالات السلم في تاريخ الجنس البشري خلال أكثر من ثلاثة آلاف عام مضوا كانت محدودة وقصيرة، حتى لتبدو كأنها عارضة أو طارئة عليه، كل هذا جعل من مفهوم الحياة أو الموت مفهومين نسبيين، وجعل من الموت تحديدًا ظاهرة يمكن أن تحدث خارج النطاق الطبيعي له كحالة فيزيولوجية، أو كنهاية لحالة فيزيولوجية طبيعية.
وفي المفهوم الديني فإن الموت حق، وسواء كانت المرجعية دينية أو علمية أو فلسفية فإن الموت الطبيعي مقبول بالرغم من أنه يشكل السؤال الوجودي الأكبر الشاغل للإنسان. لكن أن يكون الموت بطرق أخرى ملتوية ومواربة وخبيثة وماكرة، وتحدث كنتيجة للتدخل في الحياة ومحاصرتها وتقنينها فإنه يتحول إلى خطر أكبر على الفرد والمجتمعات والأمم، ويعيق تطورها وتقدمها.
في الطب هناك حالتان فقط للموت وهما الموت السريري والموت البيولوجي الذي يسمى أيضا موت الدماغ. وفي الموت السريري يمكن أن تستمر الحياة خاصة في ظل التطور الكبير في العلوم مجتمعة وفي العلوم الطبية بربط الجسم إلى الأجهزة التي تدعم وظائفه الحيوية، لكن ما قيمة الحياة في هذه الحالة؟ في الواقع لا يمكن تسميتها حياة، ولا هي بموت بالمعنى الجامد للموت، هل هي حياة مؤجلة؟ ومن يمكنه تحديد الأجل الذي ستعود بعده إلى إيقاعها السابق؟ ومن يمكنه التكهن بكينونة حياة من هذا النوع وما يمكن أن تقدم أو تعبر عن نفسها أو تثمر أو تزهر؟
من طبيعة الحياة الإنتاج والخلق، دورة الحياة تقوم على التكاثر في المجمل، فغايتها بقاء النوع واستمراره، وحياة معاقة لا يمكنها أن تثمر، هذا على الصعيد الفردي، أما على الصعيد المجتمعي فإن انعدام الحافز أو الطموح في ظل حياة قاسية فيها انتهاك لكرامة الإنسان ومقومات عيشه كلها يؤدي إلى حالة هي أشبه بالموت السريري، ما يميزها عنه هو عتبة الألم فقط، حياة فيها أسباب عديدة للألم وعتبات متنوعة في شدتها.
ما يحصل للشعب السوري على مدى سنوات الحرب الجبارة متحالفة مع عوامل بيئية ومناخية تزداد جبروتًا عامًا بعد عام، يدفعه إلى حياة أشبه بالموت السريري، حياة تعيش فيها العضوية بالحد الأدنى الذي يؤمن فيها دفق الدم في عروقها بقاء أجهزة الحياة تعمل في حدها الأدنى، فكيف بكائن بشري يسمى إنسانًا؟ لقد يبست عروق الإنسان السوري، وتحوّل إلى كائن يستثمر حياته في الانتظار، انتظار رغيف الخبز، انتظار أسطوانة الغاز، انتظار غالون صغير من المازوت بعد أن صارت كلها حلمًا لكنه مجسد ولا يمكن الوصول إليه. لم يعد في تفكير الفرد السوري مساحة يسخرها للإبداع، ليس في صدره متسع لروح ضاقت بها الأمكنة والأماني، صار بينه وبين الكرامة شرخ كبير، كرامته في ميزان الضروريات، ضروريات النسغ الذي يبقي عروقه الجافة تنبض على حدود الموت المتربص به.
مفارقات تطعن في الصميم تلك التي تحتل اليوميات السورية في الداخل، طوابير البؤساء تمتد وتتلوى وتتطاول ويطول بها الوقت بانتظار أسطوانة غاز، طوابير على الأفران، طوابير على محطات الوقود، وهناك دائمًا من يطعن المشاعر وينتهك الكرامات ويمعن في الإذلال، هناك من يسطو على الحصص بقوة السلطة أو التشبيح. أطفال يرتجفون من البرد وأمهات تصطك أسنانهن من القهر والبرد معًا، آباء يحملون أثقالاً من الهموم والمذلة من أجل تدبير ما يعين أطفالهم على البقاء أحياء. حليب الأطفال مفقود، وأطفال يموتون من البرد والجوع وسوء التغذية، شعب يعيش في القرن الواحد والعشرين بلا كهرباء، والماء في شتاء انهمرت فيه السماء سيولاً جرفت معها خيمًا وبيوتًا وأشجارًا وحيوات، يُقطع لساعات وربما لأيام في بعض المناطق.
وفي الضفة الأخرى لتلك المشاهد الممعنة في القهر والإذلال تنمو طبقة من محدثي النعمة، ممن امتصوا دماء الأبرياء ونهبوهم وتاجروا بأزماتهم المعيشية، يبنون عالمًا من الفجور الرخيص أمام أعين المنكوبين الجائعين المنكفئين إلى حياة أكثر ما تشبه حياة تلك العضويات البدائية التي تتبوغ في وجه الظروف القاسية القاهرة مكتفية من الحياة بما يحافظ عليها في انتظار أن تنحسر هذه الظروف فتعود للإنتاش والحياة الطبيعية من جديد. لكنها كائنات بدائية وليست بشرًا.
يعيش السوري في هذا البرزخ الغاشم بين الحياة والموت، فلا يموت ولا يحيا، تنحدر طاقاته الإبداعية التي تميزه عن باقي المخلوقات إلى الحضيض، فكيف لأمة أن تنهض بأفراد يعيشون في هذا البرزخ؟ وضمير العالم غافل عن هذا الشعب مثلما كان غافلاً على مدى السنوات الماضية عن قتله المباشر بكل وسائل القتل التي اخترعتها البشرية وأبدعت في ميدان الشر؟
هذا هو حق الحياة لدى السوري، الحق المنتهك بمكر وفجور في الوقت ذاته، وهذا هو مصير الشعب السوري الذي ادعى كثير من الأنظمة صداقته في لحظة ما، فإذا بهم أصدقاء مصالحهم وتحالفاتهم ونزعاتهم وأطماعهم على حساب من ادعوا صداقته. وإذا بهم ينقلبون عليه مرة أخرى ويعيدون ترتيب أولوياتهم المستقبلية ضاربين عرض الحائط بكل خطاباتهم السابقة، مثلما لو أن الشعوب تمتلك ذاكرة أسماك، أو أنها تمتلك ذاكرة مثقوبة. الشعوب التي لا تموت، لا تموت ذاكرتها، فكيف بذاكرة صنعتها الآلام والنزيف والقتل والتنكيل والتهجير والتشريد والإذلال والتجويع؟ إنها ستكون ذاكرة حارقة.
تلفزيون سوريا