سوريا “الواحدة”… عبر دولها وأطرافها وأقوامها وأحزابها وانتفاضاتها/ وضاح شرارة
ورثت الخريطة الجغرافية، في 1919، رسوم أو حدود الولايات العثمانية السابقة وقسماتها العامة. وتصدرت مدينتا دمشق وحلب البلاد السورية، واحتفظت بلاد العلويين (الجبل) وبلاد الدروز (حوران والجولان) بحدودهما القديمة (عطفاً على مقالتين في كتاب ماتيو راي: تاريخ سوريا في القرن التاسع – القرن الواحد والعشرين، المدن، في 20/12/2018 و6/1/2019). وحدت دولة دمشق جنوباً، حدود فلسطين الدولية الجديدة. وخسرت دولة حلب “داخليتها” الكيليكية الأناضولية وأريافها التركية. وحرمت الدولتان “ساحلية” تصلهما بالبحر وبما وراء البحر. وأقرت اتفاقات أنقرة، في 1921، تقسيم الأراضي بين الدولة التركية وبين الدولة المنتدبة والمحتلة. [وخطَّت سكة حديد بغداد (هامبورغ- بغداد) الحدود الدولية الناشئة، ولم يلجم الاتفاق غزوات العصابات، ومقرها عينتاب، إلى 1924، ولم يتفق الفرنسيون والترك على رسم الحدود الشرقية، بين الجزيرتين، قبل 1928. وأقامت الأسر الواحدة والمتصلة على جهتي الحدود، واستثمرت أراضيها وأرزاقها على النحو نفسه، ووسعها الانتقال من ناحية إلى ناحية من غير تسجيل ممتلكاتها أو نقلها. وبقيت الهجرات القبلية على حالها. إلا أن الحدود الجديدة قيدت التجارة، وحجزت العملتان الوطنيتان بين دوائر التبادل وخنقت حركة الترانزيت. وإلى الشرق، خرجت الموصل من نطاق السلطنة إلى النطاق البريطاني. ومع بناء محطات مراقبة، نشأت على طول السكة الحديد ونمت بلدات جرابلس وتل أبيض وكوباني (عين العرب وقبلها عرب بونار) وقامشلو، وتولت ضبط ارتحال البدو، وألجأت بعض الأرمن الهاربين من تركيا، ولجأ بعضهم الآخر إلى حلب ودمشق.
وخلّفت الحدود، إلى التقطيع العقاري والسكني وتقييد التجارة والبداوة ونشأة سبحة البلدات بمحاذاة السكة، “موت القطيع” وولادة تربية الماشية، وإحكام المدن وكبرائها القبضة على بلاد الجزيرة. وأخرج رسم الحدود الجنوبية، مع شرق الأردن، الزرقا من دائرة البلاد المتصلة سابقاً بها، لقاء مد الأراضي السورية إلى شاطئ بحيرة طبريا. وتركت الدولة المنتدبة ترسيم الخط الفاصل بين لبنان وسوريا، واكتفت بالإشارة إلى مروره في ذرى سلسلة الجبال الشرقية. وبلورت الرسوم أو الخطوط الإقليمية (“الأراضية”) قلباً أو محوراً مدينياً تغلب المنافسة على علاقات بؤره المتوترة، وتوحده توحيداً متقطعاً وظاهراً معارضة السيطرة الأجنبية. وعلى هذا، فالنسب الدرزي أو العلوي يقوم مقام قرينة على الميل إلى الفرنسيين، بينما تنهض النسبة السورية علامة على ميل توحيدي و”وطني”. ولم تسلم النخب وعصبياتها من صور الاستقطاب هذه. ويرى المؤرخ أن هذه الانقسامات هي رحم المنازعات الآتية.
تسييس الأرياف
وأدت هجمات العصابات على الحدود الشمالية إلى نشوء علاقات وروابط قوية بين ضباط عرب خدموا في الجيش العثماني وبين فلاحين ومزارعين حملوا السلاح في وجه الاحتلال الأجنبي وإدارته. وحضن التمازج هذا بذور “تسييس” لا يوضح المؤرخ السبل التي سلكها إلى الإيناع ربما في أعقاب 40 سنة، و”أثمر” تحدر شطر من ضباط حزب البعث الانقلابيين من “وجهاء المرتبة الثانية” الريفيين على ما سماهم حنا بطاطو. وأثارت بعثة كرِيْن (“كينغ- كراين”)، وهي استفتت اللبنانيين والسوريين رأيهم (رأي “ممثليهم”) في الدولة المنتدبة المرغوبة، تظاهرة كبيرة دعت “الزعماء” على شاكلة الدكتور عبدالرحمن شهبندر، إلى تنسيق مواقفهم وآرائهم. واضطرت الملاحقة الفرنسية هؤلاء إلى الهرب واللجوء إلى عمّان والقاهرة، في عهدة بريطانيا. فأعمل اللجوء في السياسة الداخلية أدواراً إقليمية وخارجية نجم عنها تعقيد المنازعات والخلافات والأحلاف.
وثار مزارعو حوران، في 1920، وحملوا السلاح جواباً عن غلاء الأسعار وعسر التموين. فأوفدت سلطة الانتداب عبدالرحمن اليوسف وعلاء الدين الدروبي، من كبار تجار دمشق ووجهائها، وسيطين ومفاوضين. فقتلهما المسلحون جزاء توليهما الوساطة وتمثيل المحتل، على تعليل المؤرخ. وهذا من ثمار “تسييس” الأرياف الذي مر الإلماح إليه، ومن نتائج دمج الآراء والمواقف السياسية، في الداخل، بالمواقف السياسية الخارجية، وكناية الواحدة عن الأخرى (على ما يوحي المؤلف). وافتتح توحيد دولتي حلب ودمشق (1924) عهداً جديداً كان يتوقع أن يثير في الدمشقيين حماسة تفوق تلك التي أظهروها. وتولت سلطة الانتداب، متأخرة، إدارة جبل الدروز مباشرة. وانتدبت النقيب كابيّيه، أحد ضباط المكاتب العربية، إلى ذلك.
فأعمل النقيب نهج المكاتب التقليدي: حمل المجتمعات المحلية على المساواة، والتنديد بالزعامات وتأليب “العامة” عليهم، والدعوة إلى إنشاء الأبنية التحتية، والرقابة على النخب “المتخلفة”. ورأت المجتمعات المحلية في النهج التحديثي هذا عدواناً عاماً عليها. ونهض انسحاب الزعيم الدرزي، سليم الأطرش، من الحياة العامة علامة على معارضة سلبية مضمرة وعنيدة. وأفضت مشادة بين ضابط فرنسي وبين حسين مرشد، في أثناء مناقشة تعيين حاكم درزي على الجبل يرئس المجلس الدرزي، إلى صفع الضابط الفرنسي، فملاحقة مرشد، فاعتقال المفاوضين الدروز وحصار القوات الفرنسية الجبل، فإعلان سلطان الأطرش، في 19 تموز (يوليو) 1925، “الثورة”.
وجاءت وقائع الثورة (العربية الكبرى، في إحدى تسمياتها، على مثال ثورة 1936 -1939 الفلسطينية لاحقاً) مركباً من التقاليد الحربية والمشاعر الشعبية والحداثة العسكرية. ووصل سلطان الأطرش محلية الثورة وملابساتها وأصحابها بغاية سياسية عامة هي تحرير سوريا من الاحتلال الفرنسي. واستمال في هذا السبيل آل البكري بدمشق. وأخفقت القوات الفرنسية في تثبيت مواقع تتولى القوات فيها تأطير دوائر متسعة، فتعرضت لهجمات مفاجئة كبدتها خسائر قاسية، وجللت الحركة وزعيمها بهالة مجيدة. واستقطبت مناصرة جماعات وقيادات أخرى. فهاجم فوزي القاوقجي، وهو ضابط عثماني سابق، على رأس مسلحين من الرديف، حماة في وسط البلاد. ورفدت جماعات من حزام دمشق الزراعي وشعاب الغوطة وحقولها الحركة. فلما تسللت إلى قلب المدينة، دمرت المدفعية الفرنسية ربع هذا القلب. وانقسمت قيادة الحركة بين الزعيم الدرزي، رافع لواء الاستقلال الناجز في الحال، وبين سياسيين لا يديرون الظهر للمفاوضة على إصلاحات متدرجة ومرحلية. وانتهت المعارك والمجاعة إلى خسارة “الثورة”، ولكنها أرست روابط البلاد الدرزية بسائر الأراضي السورية على أسس جديدة.
نهج المساومة البريطاني
وأدركت السلطة الفرنسية، في ضوء الثورة “العربية”، أن تكلفة الاستعمار المباشر، على مثال القرن التاسع عشر، باهظة، وتفوق موارد الدولة على حالها في أواخر العقد الثالث. فاحتذت على النهج البريطاني في العراق، وسعت في عقد معاهدة تولي قوةً محلية ووسطية، على غرار فيصل، على رأس الإدارة. ولاقى النهج هذا، وهو كان نواة مطلب محلي سوري، إنشاء هاشم الأتاسي وجميل مردم بك الكتلة الوطنية (أواخر 1927). وجدد اقتراحُ المندوب الفرنسي، هنري بونسو، انتخاب جمعية تأسيسية مناقشة السوريين دور فيصل في سوريا. ودعا فريق تصدره الشهبندر إلى توحيد البلدين تحت التاج الفيصلي. وتحفظ فريق آخر، معظمه من المقيمين في سوريا وذوي الميل إلى عبدالعزيز (بن عبدالرحمن) آل سعود. فانقسمت الطبقة السياسية على نفسها انقساماً “جغرافياً -سياسياً”، تعقب باتريك سيل مراحله “الانقلابية” التي أفضت الى الوحدة المصرية – السورية في 1958. وفاز “المعتدلون” في انتخابات 1928 “العثمانية” (على درجتين) وتصدرت الكتلة الوطنية الفائزين. وأقر المجلس دستوراً مجلسياً، على مثال الجمهورية الثالثة الفرنسية. وأثارت مادتان- الأولى تقر باستقلال لبنان الذي يقارنه معظم النواب بالبلاد الدرزية والبلاد العلوية ويساوونه بهما، وتوجب الثانية الانتداب الفرنسي صيغة ثابتة- الاحتجاج. فحل المفوض الجمعية ودعا إلى انتخابات جديدة تخللها عنف كثير. وفاز فيها الجناح الكتلوي المعتدل وراء جميل مردم بك. ولكن المندوب لم يعترف بالفائزين، واختلت الصيغة “البريطانية”، ومعها الحياة السياسية السورية. فأخرج النقض الانتدابي (على سياسة المفاوضة البرلمانية) هذه السياسة عن محورها المعتدل. وأدخلها في دوامة منازعات واصطفافات أو تكتلات متصلة أعجزتها عن استنباط حلول من داخل.
أطوارٌ اجتماعية
وفي الأثناء، وصلت شبكة المواصلات أطراف البلاد، حلب ودرعا ودير الزور، بخطوط نقل ثابتة ودورية. وأضعفت الحواجز التي احتمت بها الخصوصيات المحلية، ورعت الزواج في الأسر الواحدة والمنكفئة. فلم يبق في وسع المحافظات والمناطق تجاهل بعضها بعضاً من غير أن يحول تعارفها واتصالها دون نزولها على مراتب. وقرَّب تسجيل أراضي العشائر باسم شيوخها أحوال هؤلاء من أحوال أصحاب الأملاك المقيمين في المدن. وبلغت مياه الشفة وشبكة الكهرباء أحياء المدن الجديدة والحديثة البناء، في دمشق وحلب واللاذقية وديرالزور. وفاض البناء المديني على الأرياف القريبة، وقضم الحدائق النهرية والواحات. ولم يتأخر أهل المكانات الأثرياء عن اقتباس طرائق معيشة الأوروبيين، والإقامة بجوار إحيائهم. فوصل أبورمانة، بدمشق، جسر الأبيض، حيث نزل الموظفون الفرنسيون، بالمرجة، حيث شيد الأعيان والأثرياء دوراً مطلع القرن. وحصلت شركات حصرية، وظف فيها الفرنسيون رؤوس أموالهم، من طريق المناقصات والولاء والمصاهرة، على حقوق الاستثمار في المصالح العامة. وشق صناعيون سوريون، على غرار لطفي الحفار وفارس الخوري، طريق الاستثمار الوطني، وجمعوا رأس المال الذي تحتاجه شبكة المياه بين نبع فيجة وبين أحياء دمشق. وحذا حذوهم خالد العظم ومحمد أمين سيِّد على سبيل المثل.
وأبقت أحياء المدن القديمة على نفوذ العائلات الكبيرة، وعلى رأس الواحدة منها “زعيمها”. ويرأس الزعيم على قول المؤرخ، شبكة موالين يقايض ولاءهم بعطايا متفرقة. وفي مستطاع هؤلاء “القبضايات” حمل الأهالي على الاقتراع لقاء موارد أو في مقابل ترخيص بمزاولة مهن تترجح بين القانون وبين الخروج عنه. ووفدت الى المدن أسر حرصت على التستر على حداثة أصولها، وانخرطت في أواصر وصلت بينها وبين أصحاب الدور الكبيرة. وجمعت الطرفين هوية الحي (الحارة) ومُضمرُها الطائفي والقبلي في أحيان كثيرة. ووضع أهل المدن يدهم على المشاعات. وعمد بعضهم إلى إيجار الأراضي نظير نصف المحصول في بعض الأحيان، وبعض آخر إلى الدَّين بفائدة قد تتجاوز 12 في المئة متوسطاً. ولما كان القانون يحظر ترك الارض في حال المديونية، نشأت بين الدائن والمدين علاقة تبعية قاهرة. وانقسم ملاكو الارض فئتين: فئة صغار الملاك وفئة أصحاب عشرات الدونمات المتوسطين. ويشهد صغار وجهاء القرى على الفرق بين الفئتين. وأدت السياسة الصحية (التلقيح، إنشاء المستوصفات، تأمين المواصلات) إلى تقلص نسبة الوفيات، وإلى تعاظم نسبة الولادات. وتضافرُ الأمرين نجمت عنه زيادة عدد السكان على نحو حاد، وفاقم التسابق الصامت على الأرض.
وحين انفجرت أزمة 1929 العالمية اختلت الموازنات الاقتصادية الهشة. فانخفضت قيمة العملة في 1931، وتقلص حجم المبادلات التجارية والانتاج الزراعي، على رغم غلبة المقايضة والاكتفاء الذاتي على الاقتصاد السوري. وأصابت البطالة 15 إلى 20 في المئة من القوة العاملة، وكان كساد الموسم الزراعي في 1932 سبباً في تردي المعيشة. وفي 1932 جرت الانتخابات النيابية التي أعقبت حل المجلس السابق وفرض الدستور عنوة. فأظهرت قوة التيار الاستقلالي مرة أخرى. وفي السنة نفسها جمعت الكتلة الوطنية مؤتمراً عريضاً بحمص طالب بالاستقلال. فرد المفوض بتعليق الدستور والمؤسسات، وحسم النزاع من طريق قوة الامر الواقع. ورد السوريون على رد المفوض الفرنسي بإعلان إضراب عام كان 20 كانون الثاني (ديسمبر) 1936 فاتحته. وانتشر الإضراب في أنحاء المدن، وأججه غلق السلطة مقر الكتلة الوطنية في حي القنوات بدمشق. ورفدته التظاهرات والاعتصامات.
وطوت “الحركة الاجتماعية”، على قول المؤرخ في وصف فصول الحركة ووجوهها، عصر الانتفاضات المسلحة، ومزجت بند الاستقلال التام بمطاليب اجتماعية ومهنية واقتصادية غذت الإضراب. وعاقبت بين الدعوة الى التجمع في المساجد، والاعتصام في الساحات القريبة، وبين التفرق والتظاهر في الزواريب الضيقة والأزقة. وغالباً ما خرج المتظاهرون من دار أحد وجهاء الحي. وسعى وجهاء العائلات في تصدر التظاهرات. واختلطت كثرة المتظاهرين بقلة من المتظاهرات. ورفعت اللافتات، ووزعت منشورات وصحف على المتظاهرين. فاستقبل المسرح المديني حركات المعارضة الساعية في الاستيلاء على السلطة. وانتدُب جميل مردم بك إلى مفاوضة حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية، وكان نصير مفاوضة متدرجة على خلاف شكري القوتلي المتشدد. وعقد الوفدان اتفاقاً على وجه السرعة، نهض على عضوية سوريا المستقلة عصبة الأمم، وعلى ضم دولة الدروز ودولة العلويين الى سوريا الواحدة.
المُركّب البلدي الوطني القومي الإقليمي
وانقسمت نخب الجماعتين، الدرزية والعلوية، بين مرحب بالاندماج في دولة مركزية وبين مطالب باستقلال ذاتي. وبعض هؤلاء تمنى اضطلاع الدولة المنتدبة بحماية الاستقلال الذاتي. وماشى الانقسام، في كتلة العلويين على الأخص، العصبيات العشائرية. فإذا مال الناطقون باسم عشيرة الكلدية إلى الاستقلال الذاتي، مال رؤساء عشيرة الكلبية الى الاندماج السوري. وغذى الانقسامات البلدية اضطراب السياسة الفرنسية وتردد إدارييها أنفسهم بين نهجين أو نازعين مختلفين. وحملت أزمة العلاقات الدولية، عشية الحرب الثانية، السلطة المنتدبة، والمتخبطة، إلى استرضاء تركيا والنزول لها، عن لواء اسكندرون، وذلك غداة انتخابات “صُنعت” من فوق، على ملاحظة المؤرخ. وبلغ اللاجئون من اللواء دمشق. وحال تفرق سكان الجزيرة أقواماً وألسنة وعشائر دون إنشائها حكماً ذاتياً، على رغم تحريض ضباط الاستخبارات الفرنسيين السكان العرب والكرد على الامر. وأضعفت الرغبةَ المفترضة في الحكم الذاتي ديناميةُ العمران المديني، وتغليبها التقريب بين السكان من طريق انخراطهم في التداول الاقتصادي وشبكاته على طول الحدود السورية – التركية. وأسهم في إضعاف التيار “الذاتي” المحلي تصدر النخب الحلبية المجتمع الديري (دير الزور). وصرف النازع القومي الكردَ، واستغراقهم فيه، عن الاضطلاع بدور “الشعب السياسي”، الجدير بقيادة حركة استقلالية.
وأظهرت النزاعات السياسية عشية الحرب، وعودة المنفيين من أنصار الاستقلال التام والمباشر، وزعامة شكري القوتلي هذا الجناح، إلى وفاة عبد الرحمن شهبندر فجأة في 1940- رجحان كفة المتشددين. وفي عقد الثلاثينات، ولدت أحزاب من نمط جديد على مثال الأحزاب الأوروبية، خلطت أفكارها التطلعات المحلية (بعضها “أقلوية”) بإيديولوجيات غربية ومواقع إقليمية (مشرقية). وعلى هذا أدى الأرمن دوراً بارزاً في ولادة “الأحزاب” الشيوعية في لبنان وفلسطين وسوريا. وميز أنطون سعادة، المهاجر إلى أميركا الجنوبية، بلاد الشام و”حضارتها” من عالم العروبة، وأرسى وحدتها على “خليط مشرقي من الإتنيات والملل”. وحارب العلماء (المعممون) التشريعات “المبتدعة”، وأوكلوا إلى جمعيتهم (1938) مهمة خوض الإسلام في الحياة السياسية، وتوليه حماية الأمة وأصالتها من عدوان الامبريالية وفسادها. وتداول المتعلمون في المقاهي والأندية آراء ميشيل عفلق وصلاح البيطار في انبعاث عروبة متجددة تدعو إلى حرية “الشعب العربي” ووحدته. واشتركت هذه التيارات والحركات في إنشاء منظمات شبيبة في صفوفها على صورة منظمات عسكرية (وألوان قمصان). وعاصر هذا التشكيل انفجار حرب على أرض فلسطين طرفاها المهاجرون اليهود والأهالي “العرب”.
وخرج السوريون من الحرب الى الاستقلال من طريق نزاعات بين الحليفين، فرنسا وبريطانيا. وانقسموا وفدين إلى الامم المتحدة، على رأس الأول جميل مردم وفارس الخوري على رأس الثاني. وحين حاولت السلطة المنتدبة عرقلة استلام الجيش الوطني الثكنات وتعجيل الجلاء، انفجر قتال دامٍ بين الجيشين حال الانذار البريطاني بينه وبين الانتشار، وحمل القوات الفرنسية على القبول بالجلاء، بعد قصف دمشق مرة أخرى في ربع قرن.
المدن