النموذج الصيني و«المجتمع المفتوح»: ما الذي يخيف جورج سوروس؟/ محمد سامي الكيال
أثارت تصريحات الملياردير الأمريكي المجري جورج سوروس، في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، كثيراً من الجدل. فبعد تأكيده في السنوات الماضية على أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو التهديد الأول لـ«المجتمع المفتوح»، صارت الصين الآن، ورئيسها شي جين بينغ، الخطر الأكبر بالنسبة له. قد تبدو هذه التصريحات متوقعة في سياق الصراع التجاري والاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، إلا أن اهتمامات سوروس لا تقتصر على هذه الجوانب، ولديه هموم أخرى ذات طابع فكري أعمق، ما يجعل أقواله مؤشراً على وضع تاريخي جديد، يطرح فيه صعود النموذج الصيني أسئلة صعبة على جميع المستويات.
ليست الصين هي النظام الاستبدادي الوحيد في العالم، ولكنها، حسب سوروس، الديكتاتورية الأغنى والأكثر تطوراً وقدرة على استغلال التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الصناعي. نحن أمام نموذج ناجح اقتصادياً، يقوم على تحكم الدولة والحزب الواحد، والرقابة الشاملة، والهندسة الاجتماعية الفجة، وأنظمة تقييم المواطنين التي يزداد اعتمادها على الأتمتة، ما يضع الأسس العملية لمفهوم «المجتمع المفتوح» في الغرب أمام تحد صعب، وهو المفهوم الذي يراه سوروس كونياً، يمكن ويجب نشره في كل أنحاء العالم.
ماذا إذا اكتشفنا أن الحريات الفردية والاجتماعية، وتداول السلطة، وحرية الصحافة والتعبير، وغيرها من أساسيات الديمقراطيات الغربية، تنتمي إلى نظام أقل كفاءة وإنتاجية من الاستبدادية الصينية؟ وماذا لو أدى نجاح الصين إلى إضعاف جاذبية الديمقراطية الليبرالية، التي كانت نموذجاً لكثير من الثورات والتحركات الاجتماعية في جميع أنحاء العالم؟ ربما تتطلب الإجابة عن هذه الأسئلة الابتعاد قليلاً عن البديهيات التي يؤمن بها سوروس، وإيجاد منظور مختلف، يطرح تساؤلات عن النسخة التي نعاصرها من «المجتمع المفتوح».
الرأسمالية ضد الديمقراطية؟
يرى المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك أن الديمقراطية الليبرالية، لم تعد هي الأسلوب الأمثل لإدارة الرأسمالية، وأن النظام الصيني الشيوعي قدم، للمفارقة، أفضل المديرين للمشاريع الرأسمالية، وأشدهم قسوة واستغلالاً. كذلك الأمر في دول أخرى في جنوب شرق آسيا، التي ساعدها نمطها الآسيوي الاستبدادي على تجاوز كثير من آثار الأزمة المالية العالمية، وتحقيق النمو الاقتصادي، إلا أن جيجيك يبدو متناقضاً في تقييمه لهذه التطورات، فهو من جهة يدعو إلى الحفاظ على قيم الديمقراطية الغربية، باعتبارها أحد الردود الممكنة على الرأسمالية المعاصرة وميلها الاستبدادي، ومن جهة أخرى يشكك في أهلية البشر في إدارة شؤونهم السياسية والاجتماعية، لأنهم ببساطة قد «لا يعرفون ماذا يريدون».
لتوضيح ذلك يستشهد جيجيك برأسماليين مشهورين مثل هنري فورد، الذي قال، بعد تطويره أول خط لإنتاج السيارات، إن الناس لو تركوا لرغباتهم ما كانوا سيطلبون أكثر من خيول قوية لجر عرباتهم؛ وستيف جوبز، الذي يرى أنه ليس من مهمة الزبائن أن يعرفوا ما يريدون، بل يكتشفونه بعد تقديمه إليهم منتجاً جاهزاً في السوق. يخلص جيجك من هذا إلى أن القائد السياسي الحقيقي يجب أن يملك رؤية، ويتبعها باخلاص، وعند نجاحها سيتبناها البشر بوصفها رغبتهم الخاصة. وعلى هذا الأساس لا يرى في حراك «السترات الصفراء» في فرنسا، واحتجاج الناس على رفع أسعار الوقود، سوى نسخة جديدة من المطالبة «بأحصنة لجر العربات». الأجدى برأيه هو إعطاء البشر، من الأعلى على ما يبدو، وتطبيقاً لرؤى القادة والمنظرين الملهمين، إطاراً جديد يجعلهم يتجاوزون «خيولهم» العجوز، وحاجتها إلى العلف.
رؤية جيجيك المتناقضة هذه قد تسبغ شرعية ما على النموذج الصيني، وعلى كل النماذج المتجاوزة للديمقراطية، فالبيروقراطيون و«الخبراء» ومديرو الرأسمالية الكبار وأعضاء الحزب الحاكم يعرفون دائماً أكثر منّا، ولديهم «آفاق» أوسع من محدوديتنا كمواطنين. وعلى الرغم من أن جيجيك يرى أن أبداع الآفاق والأطر الجديدة المتجاوزة للشعبوية هي من مهام القوى «التقدمية» فوق الوطنية المعادية للرأسمالية، فإن طرحه يقوم على الأسس نفسها التي ينبي عليها نمط التحكم الرأسمالي المعاصر: إطار عالمي لهيمنة تتجاوز الديمقراطية والسيادة الشعبية.
الديمقراطية بوصفها مشكلة
يعيدنا ما سبق إلى أطروحة «ما بعد الديمقراطية» لشانتال موف، التي تؤكد على أن تلازم كلٍّ من الرأسمالية والديمقراطية والليبرالية ليس أمراً حتمياً أو لازماً، بل هو مجرد إمكان تحقق في شرط تاريخي معين. العودة إلى التاريخ الغربي تؤكد أفكار موف، فرغم أن الرأسمالية أتاحت نشوء «الذات القانونية» على أساس الملكية الخاصة وحرية التبادل وبيع قوة العمل، إلا أن الرأسماليين لم يكونوا دوماً في صف الحريات الفردية والأنظمة الديمقراطية، وكثيراً ما تحالفوا مع أكثر القوى تقليدية ورجعية، خوفاً من الآثار صعبة الضبط للديمقراطية الشعبية. هكذا حُرمت فئات واسعة من الناس، مثل العمال والنساء وسكان المستعمرات، من حقوقها الديمقراطية الأساسية لفترات طويلة، بسبب ربط هذه الحقوق بقدر معين من الملكية، أو مستوى أدنى من التعليم، أو جنس وعرق معين.
تعميم الديمقراطية وربطها مع الليبرالية جاء في الكثير من الأحيان، خاصة في فترة ما بعد الثورة الفرنسية، بالتعارض مع الرأسمالية والطبقة البورجوازية، ونتيجة لنضال الطبقة العاملة وحركات التحرر الوطني في العالم الثالث، وما ارتبط بها من حركات اجتماعية وطلابية ونسوية ومضادة للعنصرية، منذ ثورة باريس ضد استبداد شارل العاشر عام 1830، التي لعب فيها العمال والطلاب دوراً أساسياً، وصولاً إلى ثورات الشباب في الستينيات من القرن الماضي، وما ساندها من إضرابات عمالية هي الأضخم في التاريخ. يبدو أن قدرة الرأسمالية على استيعاب المطالب الديمقراطية قد وصلت إلى حدها التاريخي، خاصة في مجتمعات «ما بعد صناعية» تحتقر الطبقات العاملة، وتعتبرها «حثالة بيضاء»، وتضع الليبرالية بمؤسساتها في تعارض مع الديمقراطية.
الديمقراطية لا تعاني فقط في الصين، بل يبدو أنها باتت مشكلة حتى في أكثر الديمقراطيات الغربية عراقة، حيث تعمل الإدارات التكنوقراطية-البيروقراطية، والمنظمات والجمعيات ذات السمت الليبرالي، على تقييد حرية التعبير والنقاش الاجتماعي، ونبذ الخصوم السياسيين، الذين يعدّ وجودهم ضرورياً لأي نظام ديمقراطي، وفرض نوع من الإجماع «العقلاني» الفوقي، الذي يمنع وجود بدائل فعلية يختار بينها الناخبون، واستبدال الإطار الوطني، بمؤسساته المنتخبة، بأطر فوق قومية، تديرها مؤسسات وشركات عابرة للجنسية، لا تتبع في إدارتها مبدأ الانتخابات والسيادة الشعبية.
إذا كان منطق الإجماع والكفاءة التكنوقراطية والبيروقراطية هو ما يجب أن يسود، فمن الطبيعي أن يمتلك النموذج الصيني جاذبية خاصة، وأن يطرح نفسه بوصفه «المستقبل»، ما دام قادراً على توفير العمالة الرخيصة وضبطها، وإجبار الموظفين، تحت تهديد أسوأ العقوبات، على تحقيق الأهداف الإنتاجية المحددة لهم، وتحقيق أرقام النمو الاقتصادي المتوقعة، حتى لو كان ذلك على حساب قمع شامل للحقوق الديمقراطية. بالمقابل، تشهد بعض الحريات الليبرالية، مثل حقوق المثليين، وحرية تحديد الهوية الجنسية، ودعوات نسوية شبيهة بـ«metoo»، توسعاً في الصين، ولا يعيقها استبداد الحزب الواحد.
ربما كان على سوروس أن يسائل النموذج النيوليبرالي من «المجتمع المفتوح» الذي ساهم بتشييده، بدلاً من إلقاء المسؤولية على عاتق الصين وقادتها. لأن إفراغ الديمقراطية من مضمونها انطلاقاً من الغرب هو ما قد يمهد لدستوبيا الاستبداد على الطريقة الآسيوية.
أن تكون مواطناً
يمكننا أن نتخيل النتائج الكارثية على الصعيد العربي لتراجع النموذج الديمقراطي عالمياً، فبعد سلسلة من التحركات الديمقراطية التي انطلقت مع الربيع العربي، والتي مازلنا نرى ارتدادتها في بعض البلدان مثل السودان، أصبحت مفاهيم «الشعب» و«السيادة الشعبية» من لوازم السياسات الشعبوية التي يحاربها الليبراليون في الغرب، ويزدريها البيروقراطيون الصينيون. ماذا لو امتلك الطغاة العرب أيديولوجيا معادية للديمقراطية ذات شرعية غربية، وتكنولوجيا تحكم مستوردة من الصين؟
أنتج الربيع العربي، رغم كل انتقاد يمكن توجيهه اليه، بناءً جديداً للشعب، بوصفه السيد الذي تحق له إدارة شؤون مدينته ومدنيته، انطلاقاً من احتلال الساحات العامة. هذا البناء، الذي يذكرنا بالمفهوم الأثيني الأصيل للديمقراطية (نسبة لأثينا في عصر دولة المدينة)، هو ما تسميه شانتال موف «الديمقراطية الراديكالية»، القائمة على النزعة الجمهورية: أن تكون مواطناً، محور السيادة، وقادراً على إنتاج مشاريع سياسية متعددة أو الاختيار بينها، بدون خضوع لهيمنة جهة تدعى احتكار الحقيقة النهائية، سواء كانت كهنوتاً دينياً يدعي الإيمان، أو تكنوقراطياً يدعي العلمية، أو «صوابياً» يدعي الأخلاق.
التمسك بنزعة المواطنة الجمهورية، غير المتعارضة مع الحريات الليبرالية، التي ساهم في تصعيدها الربيع العربي، وما تلاه من احتجــــاجات شـــعبية على الصعيد العالمي، والعمل على إعادة إنتاجها بشروط جديدة، هو بتقديرنا الرد السياسي الممكن على الميل الاستبدادي المعادي للديمقراطية والسياسة الذي تعرفه الرأسمالية حالياً، بنسختيها الغربية والصينية، تحت مختلف الحجج الاقتصادية أو الهوياتية أو الأيديولوجية أو البيئوية.
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي