سيرة الحب الخفية/ عدي الزعبي
قد يصيب الحب المرء في الزمن الغلط: في الهزيمة، في الفقر، في المنفى، في غياب الأمل. على المرء أن يكون أحمق تماماً كي يترك نفسه تنساق إلى إمكانية فرح كهذا. الحب، كالأخلاق الحميدة والزهد، بحاجة إلى حد أدنى من ضرورات الحياة والاستقرار النفسي. في غيابهما، سينمو مشوهاً متوحشاً غاضباً، ويأكل أصحابه في معارك نفسية، يزيدها الحب ضراوةً!
لسبب غامض، يكاد يكون ميتافيزيقياً، يحب الناس الحب، ويتكلمون عنه باستمرار: يكتبون فيه الشعر، ويؤلفون الملاحم والروايات والمسرحيات والأفلام والأغاني، ويتذمرون باستمرار من غيابه، أو من صعوبته إن وُجد. ولكنهم، على العموم، يحيون حياتهم بدونه، إذ لا يقع في الحب إلا قلة قليلة من بني البشر؛ بل ربما حياة البشر الطبيعية هي تلك التي يحكمها انتظار الحب، لا الحب نفسه: طائفة العشاق، كطائفة الفيثاغوريين، أبوابها مشرعة لكل الناس، من كل الأعمار والأعراق والثقافات؛ ولكنها تبقى صغيرة العدد محدودة الانتشار، ولا يفهم أسرارها وترهاتها وطقوسها وحكمتها ورموزها إلا أعضاؤها المُباركون. يُستثنى من جنة الحب أغلب (أو جميع) المتزوجين، والمشردون، والمعتقلون والمفقودون وأحبابهم وعوائلهم، والأبيقوريون، والمتشددون الدينيون، والأطفال، والبوذيون والمتصوفة الجادون وكل من يشاركهم الرغبة في قتل الرغبات الجسدية، والعاهرات والقوادون (هذه حالة خاصة: يقعون في الحب ولكن لا يحبهم أحد)، والمجاريح من خيانات لا تُغتفر، وقليلو الحظ، والمتنبي والمعري ومن يقلّدهم، والمولعون بالحيوانات، وفئران الكتب، وسكان جمهورية أفلاطون الفاضلة وبقية اليوتوبيات التي تسعى إلى تنظيم حياة الناس الجنسية، والمكتئبون وأصحاب الأفكار الانتحارية، والموتى، والمؤمنون بأنانية الطبيعة البشرية وأتباع مذهب القوة النيتشوية وأشباههم، والتائهون في مخيمات اللجوء، والمشاهير، والجوعى، والأولياء والقديسون، والأنبياء.
على الرغم من ذلك، يحلم الناس بالحب باستمرار. يتحمّل الشعراء جزءاً كبيراً من مسؤولية الحلم. كان محمود درويش، على سبيل المثال، يهجس بما أسماه “أول الحب”. شاعر القضية اكتشف الحياة متأخراً، ليقدّم قرآناً للعشاق: “سرير الغريبة”، وليتجسّد نبياً لأمة لم يقدّم لها شعراؤها الكثير من الحب. في كل جملة يشعر المرء بأن الرجل موحى له، كأنه شعر بالزمن الذي مضى بدون حب، بالشعر الذي نثره فينا بدون مشاعر، بالمهمة التاريخية التي تقع عليه، هو تحديداً، كي يكتب الحب. في هذا الديوان، نجح درويش نجاحاً لا سابق له، ولا لاحق. ولكن الشاعر/النبي، لأنه شاعر/نبي، لم يطوّر حساً واقعياً بما وراء الفكرة الساذجة الكاملة المثالية المُرهِقة المُرهَفة المُلهمة عن الحب، كمعظم الحالمين والشعراء والميتافيزيقيين.
عملياً، يبدأ الحب بعد أوله؛ البدايات الحالمة الصارخة لا تؤثر في حقيقته التي تقبع فقط وراء الحلم: لا يعرف المرء حِبه إلا بعد الهدوء، بعد سكون عواصف الجسد، بعد الامتلاك والتملك، بعد الملل، والصراعات اليومية الصغيرة، وإشكاليات تسوّق حاجيات البيت، والمعاملات المالية، وتفهّم حماقات أهل المحبوب وأصدقائه، وكبح الغضب وتفجره، والحيرة بشكليها: الفكرية العميقة في التساؤل الأخرق الصادق “هل هذا هو الحب، حقاً؟” والنفسية المباشرة المحمومة في الرغبة الخجولة المُخجلة بالبوح “بدي أحكيلك ع يلي في قلبي وعزة نفسي مانعاني”، والخيانات التي تتدرج من الصغيرة جداً كتصويب ما تقول على مائدة العشاء مع الأصدقاء إلى الارتماء في أحضان عشاق آخرين، وانتهاءً بالمعضلة الأكبر في عالم العشاق: إنجاب ذرية صالحة في عالم فاجر لا يريد أحدنا لطفل أن يعيش في وساخته.
يحتاج الحب إلى الإيمان الأعمى، كالدين تماماً. يؤمن الناس بالحب، ويعرفون غريزياً استحالته. يعيش الحب بينهم كمثال يطمحون إليه. ليس مهماً أن تكون في الحب: المهم أن تطمئن إلى أن أحدهم قد أحب قبلك في يوم من الأيام، إلى أنك أنت نفسك قد تقع في الحب يوماً ما. تصعب الحياة بدون هذا الإيمان، تقبح وتتضاءل. نعرف أن الحب المثالي، كالحياة الفاضلة، أسطورة؛ ولكننا نتمسك بها. ربما، علينا أن نطعّم الأسطورة بالقليل من الواقعية. هذا سيجعل الحب في متناول فئة أكبر من البشر، وسيجعل صدماته، التي لا مفر منه، أسهل على التلقي.
الحب غريزة، كالعطش والأمل. لا يقرر المرء أن يحب، بل يقع فيه بدون اختيار: الحب هو الذي يختار العشاق، في ترتيب خاص، عبثي تماماً لا يُشرح ولا يُفهم. برتراند راسل، مؤسس المنطق الحديث، يزكّي الاستسلام للغريزة وأسرارها في بدايات الحب والصداقة. سر الحب كالأسرار الكنسية والأورفية، لا طائل من الغوص فيه؛ ويُعاش بشكل عياني مباشر، بدون نظريات وقياسات. قد نكتب عنه، ونتغنى به، ولكنه يبقى تجربة حسية جداً، تجربة تختلف كل مرة، بل التجربة الواحدة تتغير وتتعدل باستمرار؛ وأحياناً، تموت فجأة، كشخص في كامل صحته وعنفوانه، يقتله موت لا نعرف من أين يجيء.
شخصيات دوستويفسكي، على الرغم من سوداويتها، تقع في الحب. آنا كارنينا عشقت أيضاً. الحب واقعي جداً هنا، بالاتجاهين المتناقضين تقريباً في ذروتي الأدب الواقعي الروسي. وفي كلا الحالتين، يقع الحب على رأس المرء كمصيبة، أو كورقة يانصيب رابحة. نرى هذا الحس الواقعي في بعض أفلام محمد خان، في “الحريف” و”أحلام هند وكاميليا” على سبيل المثال. تتداخل الواقعية هنا مع الرومانسية: نرى الحب المثالي في بيئته الواقعية، في حقيقته، في سيرته الخفية، التي لا يكشفها إلا من يعرف واقع الحب.
قد يصيب الحب المرء في الزمن الغلط: في الهزيمة، في الفقر، في المنفى، في غياب الأمل. على المرء أن يكون أحمق تماماً كي يترك نفسه تنساق إلى إمكانية فرح كهذا. الحب، كالأخلاق الحميدة والزهد، بحاجة إلى حد أدنى من ضرورات الحياة والاستقرار النفسي. في غيابهما، سينمو مشوهاً متوحشاً غاضباً، ويأكل أصحابه في معارك نفسية، يزيدها الحب ضراوةً!
ولكن، يرى البعض أن الحب يستحق شرف المحاولة، مهما كانت الظروف: كمن يشعل ثورة، برومانسية. المستقبل في علم الغيب، واليوم لي. يدخل الناس في الحب، وفي الثورة، بدون أي ضمانات عما سيأتي. يفتحون قلوبهم للمجهول، ويأملون في عالم أفضل. لا خبراتهم، ولا خبرات الآخرين، تساعدهم على فهم ما هم مقبلون عليه، أو على توقعه، أو على التصرف فيه. كل تجربة هي التجربة الأولى، ونعتقد، صادقين ونحن ثملون بها، أنها الأخيرة.
لسبب غامض، يكاد يكون ميتافيزيقياً، يحب الناس الحب، ويتكلمون عنه باستمرار.
رمان