همّ الكتابة وتحديد القضايا الكبرى/ سوسن جميل حسن
مواجهة هم الكتابة بالنسبة إلى الكاتب المعني بشؤون العامة وقضاياهم اختبار حقيقي، فيه كثير من التحدّي، خصوصاً عندما تكون المرحلة موّارةً بالأحداث الدراماتيكية المتفجرة باستمرار، كالمرحلة الراهنة التي تعصف ببلدان منطقتنا العربية وشعوبها، وسورية خصوصاً، حيث تحوّلت الحالة السورية إلى مشكلة عالمية وإقليمية فائقة التعقيد، ونال شعبها ما ناله من القتل والتشريد والتهجير والتجويع والإفقار وانعدام مقومات الحياة بحدّها الأدنى البشري، وصار السوري رهين الأقدار مكرهًا، فهو غير قادر على فهم حياته، حتى يكون مطالباً بفهم المستقبل القريب، عداك عن البعيد. سورية التي قيل عنها إنها “مفتاح الزمن القادم”، فبماذا يعني السوري المصاب بكل هذه الأقدار تعريفٌ كهذا عن وطنه، يحمل، في طياته، على الرغم من رطانته، المعاني المتداخلة التي في النهاية لن تكون إلا مزيدًا من الوبال عليه؟
في مواجهة هذا الهم، يسيطر على المثقف في كل مرة يباشر الكتابة فيها سؤالٌ مربك، يحشره في دوامة القلق والرهبة والإحباط أحيانًا، تشتدّ وطأة الإحباط على صدره أكثر، عندما ينتبه إلى حجم التضليل الممارس على الوعي العام، الذي يلعب بالعواطف والمشاعر متسللاً من أكثر الثغرات خطورةً لدى الفرد في محنةٍ من هذا النوع، ثغرة الروح المأزومة والحياة المهدّدة والنفس المنتهكة، فيرتجف ضمير المثقف وقلمه وصوته أمام هذا الضجيج الذي يطمس كل
الأصوات، سؤال عن مدى قدرته على لعب دوره بحكمةٍ ودرايةٍ ودقةٍ في توعية الناس، وأن يكون مؤثرًا في مشاعرهم وقادرًا على توجيهها بعقلانيةٍ في الوقت الذي يطمس العنف والتجييش بكل أصنافه والسلاح كل الأصوات. هل سيُسمع صوته؟ وهل هناك من يقرأ أصلاً في خضم الظروف الجحيمية التي تعيشها الشعوب والمجتمعات؟ أم إن الميديا، بأنواعها، صارت بالمطلق النافذة الفعالة للإطلال على المشهد والمنبر الوحيد الذي من خلاله تعلو الأصوات ويتلقفها الجمهور؟
هل يدخل المثقف دائرة المسؤولية تجاه قضايا الناس من خلال مفهوم الوطن؟ الوطن الذي لم يتفق العالم على تعريفه بالمطلق، فكيف بعالمنا نحن، الشعوب التي أنهكتها حقبها الاستعمارية والاستبدادية وحروبها الخارجية والداخلية والبينية؟ الوطن الذي يدّعي كل فريقٍ من الفرق الناجمة عن انقسام الشعب في هذه المرحلة التاريخية العصيبة امتلاكه والإخلاص له، وحق تخوين الآخرين بحقه؟
لا أحد يمتلك الحقيقة، هذا أمر أظنه صحيحاً، خصوصاً بعدما صارت السياسة ولعبها ومكائدها هي التي ترسم الأوطان ومصائر الشعوب، فمن يستطيع ادّعاء أنه يمتلك الحقيقة، ولديه القدرة على إقناع الآخرين بها؟ عندما يلتحق المثقف بالسياسي، يبتعد عن الحقيقة، ويساهم في استنساخ نسخ مزوّرة مضللة عنها، خصوصا إذا انزلق إلى دوامة الحدث، الحدث العابر الذي يتراكم، مع غيره من الأحداث العابرة، ليصنع واقعًا لا يمكن التنبؤ به إلا ممن يمسكون خيوط اللعب، ويوجهون الأحداث كما تقتضي مصالحهم وخططهم.
كاتبة هذه السطور واحدة ممن يمارسون الكتابة، تصيبني حالات القلق والرهبة والإرباك في كل مرة أمسك القلم. أو بالأحرى أجلس أمام شاشة اللابتوب عازمةً على مباشرة الكتابة، فتتمنع علي الكلمات، في أحيان كثيرة. أهاب الموقف، أشعر بضآلة إمكاناتي، وضعف صوتي، وركاكة تعابيري وبلادتي، في معظم الأحيان، أمام محاولة الإمساك بخيط بسيط من خيوط الشبكة، فائقة التعقيد والعقد التي تلف عموم الناس بحبائلها. تزداد وطأة هذه الحالة، ويزداد ارتباكي أكثر، كلما اقتربتُ من الواقع، وصرت قريبةً من نبض الناس، من نبض حياتهم بإيقاعها الجنائزي. لا أغالي إذا وصفت إيقاع الحياة في سورية بالجنائزي، فالحياة فيها محاطةٌ بالموت بدائرة مغلقة، الموت الموصوف والمبهم، الغامض والمعلن، الفاجر والأكثر فجورًا، الموت الأخطر الذي يتسلّل من مسام جلودهم في غفلةٍ منهم، تراه في تفاصيلهم الصغيرة فائقة الخطر، مثل الفيروسات.
موت ينسلّ إلى أعماقهم كما الهواء المسموم ولا حيلة لهم أمامه، لا حيلة لهم إلا أن يستنشقوه موتًا مذلاً مهينًا جبارًا، تراه في طوابير الانتظار على أسطوانات الغاز، في طوابير الاصطفاف على الخبز، في الوجوه الشاحبة والأجساد البردانة، في عيون الأطفال الموشكة على أن تكون مطفأة، عيون أطفال بلا حلم ولا شبع ولا نضارة. موتٌ يتربع على عرش العناوين اليومية التي يحكون عنها، مثلما لو أنها تحصل في مكان آخر، بل في كوكبٍ آخر، تراهم وتسمعهم يسردون القصص عمّا يلاقونه من أصناف القهر والإذلال والجبروت الماسك أعناقهم، يشيرون إلى الفساد المتغوّل أكثر، إلى الترهيب الفتاك، إلى القهر واستلاب الإرادة واسوداد الأفق
” والاستسلام للواقع، بما أنه أمر واقع، يسردون القصص والحكايات عن واقعهم، وينزلقون معه إلى النهاية، مثلما لو أنهم يتمنّون أن يحصلوا على موتهم الخاص، موتهم الموهوم بأنه قرارهم في مواجهة حياة ليست كالحياة في بلاد ليست كالبلاد.
هؤلاء الناس الذين يستحقون الكتابة عنهم ولهم، فهل تكفي الكتابة عن آلامهم ومعاناتهم الحياتية، حتى يكون القلم أنصفهم بما يرضي ضمير صاحبه؟ أم إن القضايا الكبيرة هي الجديرة بالكتابة؟ فما هي هذه القضايا الكبيرة؟ كيف يكون للناس قضاياهم الكبرى، وهم لا يحصلون على أسطوانة الغاز، أو على رغيف الخبز أو على علاج أطفالهم وتعليمهم والحلم بمستقبلهم؟ كيف لهم أن يرهنوا ما تبقى من ضمير معذّب وروح مجروحة لقضايا كبيرة، وهم يموتون في المخيمات من البرد والجوع، وينسحبون بشكل صاعق، مكرهين من قلب الراهن إلى هامش التاريخ، لا أفق أمامهم، أطفالهم يكبرون غريبين عن العصر؟ جرحنا المفتوح وكارثتنا الكبرى هؤلاء الأطفال في كل بقعةٍ من سورية وخارجها، أملنا المطعون في روحه ووعيه.
بينما كنت أسير في أحد شوارع اللاذقية منشغلة البال في هذه التفاصيل، مرّت بمحاذاتي أم وطفلتها ذات السنوات الخمس خارجتين من مدخل إحدى دور الحضانة، قالت الطفلة لأمها: “كل هالأشجار لروسيا”، صحّحت لها الأم “لسورية مو لروسيا”، أصرّت الطفلة على عبارتها، هي فقط بالنسبة إليها قضية ترتيب حروف لكائنٍ يتعلم المفردات، وربما بإحساسها الفطري، وغرقها في مستنقع الحياة اليومية المسكونة بتفاصيل الواقع السوري، وارتهانها بعيدًا عن طفولتها، لما تدلقه الشاشات أمام الوجوه، بعيدًا عن طفولتها فهمت الحقيقة التي يخاف الكبار من الاعتراف بها، حقيقة الكلمات وفخاخ التسميات، من يستطيع إقناعها بأن سورية غير روسيا والقرائن الحاضرة في وعيها تكذب الخبر؟
أمام أسئلتي، ينفر في وجهي السؤال الأهم: لا بد أن هناك قضية كبيرة، فهذه المأساة البشرية المتفاقمة باضطراد رهيب، لا بدّ أن تكون وحدها القضية الأكبر، وهذه المأساة خلفها من يسعى إلى ديمومتها، وأن المشكلة الكبرى ليست أن الشعب السوري فرق ومذاهب وشيع وجماعات وطوائف وقوميات متناحرة، بل هي طغيان واستكبار واستبداد وتعمية، تعمية العقول والضمائر.
العربي الجديد