النهضة وسؤال الهوية/ خضر الآغا
اعتبر الفكر العربي وفكر المنطقة أن السؤال الذي أطلقه شكيب أرسلان (1869-1946): “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟” هو سؤال النهضة. إذ أنه جاء في غمار تفكير ومناقشات وآراء كيبرة ومتنوعة حول أسباب التقدم الكبير للغرب الأوروبي آنذاك والتأخر الكبير الذي أصاب المسلمين في ذلك التاريخ، وكان ذلك الاجتهاد الفكري والمعرفي قد بدأ منذ أن زار رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) فرنسا (1926) كرئيس لأول بعثة تعليمية أرسلها محمد علي إلى فرنسا لدراسة اللغات والعلوم الحديثة. كان ذلك ضمن اهتمام محمد علي وطموحه في تحقيق نهضة كبرى لمصر مع ما يستوجبه ذلك من الاطلاع على ثقافة وعلوم وحضارة الغرب والاستفادة منها.
عاد الطهطاوي إلى مصر (1932) وكان مفتونًا بفرنسا، فقد قرأ فلاسفتها المعروفين آنذاك: مونتسكيو، جان جاك روسو، فولتير… واطلع على قانونها الناظم لحياة الناس. ووضع آراءه حول ذلك أمام الرأي العام المصري والعربي وكانت الفكرة المركزية في أطروحاته تتمحور حول “السر”، وفق تعبيره، الذي جعل أوروبا تتقدم وضرورة اكتشافه. وما اختياره كتاب مونسكيو “تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم” ليترجمه إلا دليل، حسب ألبرت حوراني، على انشغاله بمسألة عظمة الدول وانحطاطها. فالخلفية الراسخة لتفكير الطهطاوي، ومفكري النهضة من بعده، هي عظمة الدولة التي بناها المسلمون إبان صعودهم حتى الأندلس ثم انحطاطها.
تابع هذا التفكير بكل صلابة خير الدين التونسي (1820-1889) ورأى أن سبب انحطاط الحضارة الإسلامية هو نظام الحكم المطلق الذي انتهجته الدول الإسلامية منذ القرون الوسطى، معتبرًا أن هذا النوع من الحكم غريب عن الإسلام ، وأن الأخذ بأسباب العمران والمعارف الأوروبية هو الطريق الذي يجب انتهاجه حتى يتمكن المسلمون من النهوض، ورأى أيضًا أن ذلك الطريق لا يمكن مواصلة السير فيه إلا بإرساء الحرية والعدالة وهما ميزتان متواجدتان بالشريعة الإسلامية. الطهطاوي اعتبر أنه يجب الأخذ من الغرب بما لا يخالف الشريعة، فيما اعتبر التونسي، وفق تفسير ألبرت حوراني، أنه عن طريق الأخذ منهم سيقتنع المسلمون أن ذلك لا يتعارض مع الشريعة الحقة.
إن البحث الذي قام به جمال الدين الأفغاني (1839- 1897) عن الإسلام في حقيقته وليس فيما هو منسوب إليه قاده إلى المطالبة بحركة إصلاح ديني على طريقة مارتن لوثر كينغ، فهو يعتبر أن ما جعل أوروبا تتقدم هو “الحركة الدينية، لأننا -والكلام للأفغاني- إذا نظرنا في سبب انقلاب أوروبا من حالة الخشونة إلى المدنية نراه في الحركة الدينية وذلك منذ عصر لوثيروس (لوثر) رئيس الطائفة البروتستانتية”… ويتابع: “خلاصة الأمر أن تمدن أوروبا ينسب إلى تلك الحركة”. ويرى أن “حركتنا الدينية هي اهتمامنا بقلع كل ما رسخ في عقول الخواص والعوام من فهم بعض العقائد الدينية والنصوص الشرعية على غير وجهها الحقيقي”.
واعتبر تلميذه محمد عبده (1849-1905) المعروف إسلاميًّا وعربيًّا بأنه من أكثر العقول العقول الدينية تنورًا في العصر الحديث أن سبب تقدم أوروبا هو في أخذها من الدين الإسلامي ما ساعدها على التطور والتقدم، فهو يرى أنه: “لم يقف الإسلام عثرة في سبيل المدنية (…) وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله (…) وهذا الجمود سيزول”، وعلى هذا الأساس اعتبره بعضهم أنه باعث الدولة المدنية. وهو الذي يرى أن لا سلطة دينية للحاكم ليحكم على الناس وعقائدهم بالصلاح أو الفساد، وإنما سلطة الحاكم مدنية. ودعا إلى عدم جواز تولي رجال الدين الحكم والاشتغال في السياسة، فذلك يفسد الدين. وضمن هذه الاعتبارات قال عندما زار فرنسا: “رأيت إسلامًا ولم أر مسلمين، بينما في ديار الإسلام رأيت مسلمين ولم أر إسلامًا”، فهو يرى أن القيم التي كانت سائدة آنذاك في أوروبا والتي هي قيم النهضة والعمران والتسامح والمحبة والعمل… هي أصلًا القيم ذاتها التي دعا إليها الإسلام، وهي متوفرة هناك وليست متوفرة في بلاد المسلمين.
يمكن القول، على نحو ما، إن مجادلات محمد عبدة في الدولة المدنية، ونزع السلطة الدينية عن الحاكم، وعدم (السماح) لرجال الدين لا في استلام الحكم ولا في العمل السياسي… فتحت الباب أمام فكر النهضة ليأخذ في اعتباره الواقع الاجتماعي والسياسي وعلاقة ذلك بالنهوض بالأمة. حيث عرفنا أن فكر النهضة منذ الطهطاوي كان مشغولًا بالفكر فقط، وكان يعتبر أن تغير الفكر يؤدي إلى تغير حال الدولة مباشرة وحال الأمة أيضًا. نتج ذلك بطبيعة الحال عن إعجابهم البالغ بالنقلة الأوروبية من عصر الظلمات والانحطاط إلى عصر التنوير والنهوض مجددًا، معتبرين أن الفكر هو الذي تسبب بذلك فقط، حيث قرؤوا مونتسكيو وفولتير وسواهما من فلاسفة التنوير الأوروبي ومدى استفادة القانون الوضعي من أفكار التنوير. حتى أن الطهطاوي يقول في المادة الأولى من الدستور الفرنسي التي تقول بالمساواة بين الفرنسيين جميعا: “فانظر إلى المادة الأولى فإن لها تسلطًا عظيمًا على إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه كالعظيم، نظرًا إلى إجراء الأحكام، ولقد كانت القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة الواضحة إلى وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحاضرة وما يسمونه الحرية، ويرغبون فيه، وهو مايطلق عليه عندنا العدل والإنصاف، وذلك لأن الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان بل القوانين هي المحكمة والمعتبرة”. بدا الأمر بالنسبة للطهطاوي “غريبًا عجيبًا”، إذ لا يوجد في بلاد المسلمين هكذا نوع من القوانين التي تنصف الناس، بينما هي موجودة في الشريعة الحقة: العدل والإنصاف… الدستور الفرنسي مستند بقوة على مبادئ التنوير التي قدمها الفلاسفة، وهذا ما أدى إلى اعتبار الفكر هو الذي يغير بالنسبة للنهضويين منذ الطهطاوي. إلا أن محمد عبده نظر إلى الدولة وإلى الواقع مقترحًا حلوله الإصلاحية.
أثارت الفكرة تلميذه محمد رشيد رضا (1864-1935) ونظر إلى أثر الاستبداد في تراجع الأمة وعدم نهوضها مجددًا، فاعتبر أن عدم تفعيل حكم: “الشورى الإسلامي” الذي هو عينه الديمقراطية في الغرب ناتج عن انحياز علماء الدين إلى الحكومات الاستبدادية، إذ يقول: “أسبق الناس إلى الدعوة إلى إقامة هذا الحكم هم علماء الدين في الآستانة ومصر ومراكش، وهم الذين لايزال أكثرهم يؤيد حكومة الأفراد الاستبدادية ويعد من أكبر أعوانها”، ويعتبر هذا الرأي متقدمًا كثيرًا فهو يرى أمرين خطيرين: الأول، هو أن انعدام الديمقراطية “الشورى” يمنع الأمة من النهوض، الثاني، هو أن انحياز رجال الدين إلى الاستبداد يؤدي إلى إطالة الاستبداد من جانب، ومن جانب آخر يشيع لدى الناس أن المستبد على حق بدلالة وقوف العلماء إلى جانبه.
مفهوم رجال الدين وعلماء الدين آنذاك قرين مفهوم المثقف في وقتنا الحالي، في ذلك الزمن كان رجل الدين هو “المثقف” ولم يكن ثمة (علوم) أخرى على مستوى الفكر السياسي والاجتماعي. كان رضا ومجايلوه ينشرون آراءهم في مجلة “المنار” التي يمكن اعتبارها مجلة “تفاعلية”، فقد كان يتلقى الرسائل والاستفسارات ويقوم بالرد عليها أو يكلف آخرين بالرد والإجابة. في غمار تلك المناقشات و(التناقضات أيضًا) وجّه له أحد القراء، هو الشيخ محمد بسيوني عمران، سؤالًا عن أسباب تخلف المسلمين وتقدم أوروبا وأمريكا واليابان، وفيما إذا كان من الممكن أن ينهض المسلمون مرة أخرى، طالبًا منه أن يحيل السؤال إلى “أمير البيان” شكيب أرسلان (1869-1946)، ليجيب عنه بوصفه “من أكبر كتاب المسلمين المدافعين عن الإسلام”. وبمقالة طويلة ومفصلة عنونها أرسلان: “لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، أجاب عن ذلك السؤال وفق ما يرى من أسباب الانحطاط والصعود. وقد نشرها في المنار، ثم أعاد محمد رشيد رضا نشرها في كتاب عام 1930.
من خلال تلك المناقشات التي أجراها مفكرو النهضة يبزغ المحرك الأساس لفكرهم وهو البحث عن الأسباب التي أدت إلى انحطاط المسلمين ونهوض الأوروبيين، في مسعى لمحاولة الوقوف على الأسباب الحقيقية، من وجهة نظرهم، التي تؤدي إلى النهوض من جديد. اختلفت الآراء واختلفت أسباب الانحطاط والنهوض في طروحاتهم، لكنهم لم يختلفوا على الوضعية المركزية للدين الإسلامي “الحق”، وليس دين “الخرافات” و”الجهل”… إذ أن المعارف في تلك الفترة كانت محدودة، وكانت “المعرفة الإسلامية” هي “العلم” الأكثر قبولًا لدى الناس والمجتمعات، وهو الأداة “المعرفية” المتاحة آنذاك.
في إحدى محاضرات مالك بن نبي عام 1970، اعتبر أن أحدًا لم يجب عن هذا السؤال. بالفعل، لم يجب أحد عن هذا السؤال حتى تاريخنا هذا. وهذا بحد ذاته سقطة معرفية وفكرية وسياسية كبيرة من مفكرين تجاهلوا السؤال الأكثر أهمية، والذي استغرق حوالي 200 سنة لصياغته، فيما انشغل المفكرون والكتاب بمناقشة آراء الكاتب دون أن يقدموا رؤية مخالفة، أو موافقة. وهذا ما حدث مع جميع مفكري النهضة، تمت مناقشة آراءهم دون الأخذ بعين الاعتبار الظرف المكاني المحدد والظرف الزماني المحدد لانطلاق مشروعهم.
سؤال النهضة أساسًا هو سؤال الهوية. الجانب الإصلاحي فيه، هو ذاته الجانب التنويري، وما التركيز على الإسلام والدين “الحق”، كمرجعية غير مشكوك فيها، إلا محاولة لطرح سؤال الهوية على الرغم من ظهور “الهوية الإسلامية” بمظهر الأمر المحسوم. لكن النقاشات الواسعة التي جرت تؤكد أنها ليست كذلك، وأنه على المسلمين أن يعرّفوا أنفسهم أمام انحطاط حضارتهم من جهة، وأمام نهوض الحضارة الأوربية والأمريكية واليابانية… من جهة أخرى.
لكن الذي حدث أن دخلت أفكار الحداثة إلى العالم العربي/ الإسلامي وتبرأت من مفهوم الهوية. واعتبرت الهوية لا تتحقق، وأنها مستقبلية ودائمة التغير، وقدمت نفسها بوصفها سؤال المعنى، لقد انقضت الحداثة على النهضة وسفّهتها ومنعت الإجابة عن السؤال المركزي: لماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟ ولهذا بحث آخر.
الترا صوت