طيران فوق “نيل” من الثرثرة الأربعينية (الإيرانية)/ وضاح شرارة
الكذب أوضح كشفاً عن طوية الكاذب من الصدق (ألبير كامو).
احتفلت مرافق وأجهزة شبه رسمية ببلوغ ثورة الإيرانيين على محمد رضا ميرزا (بهلوي) أعوامها الأربعين. فأقام المرفق الصحافي والخطابي في بيروت، إحدى العواصم العربية الأربع التي تراها عاصمة السلطنة، طهران، كرسي ولايتها على المتوسط، مباراة في المدائح الثورية. فشباط الإيراني، على شاكلة أوكتوبر الروسي فالسوفياتي من بعد، يجدد، “لحظة غيّرت وجه التاريخ”، على قول “مفتتح” ملف صحيفة الأخبار (12/2/2019) الموسوم بـ”شعب إيران يكتب فاتحة الممكنات” (وهي ترجمة ركيكة لبعض شعارات أيار 1968 الفرنسي، ويحملها الملف على لغة نبوية مقلدة). والملف، أو المحور، صمم على نحو يدعو إلى التأويل، وإلى الرواح من ظاهر يخاطب العامة إلى باطن لا يبلغه إلا المجتهدون.
والمجتهدون طبقة أو “درجة” من الناس، ومن العلماء، على الخصوص، يمتازون بالحبرية، على قول ابن عباس وعلى خلاف وصف علي شريعتي النظام الديني المتحجر. ومن بلغ درجة الاجتهاد لا يجوز لمقلده أو مستفتيه الرد عليه أو مخالفته. وذلك لأن “الراد” على المجتهد “كالراد على الله”، على قول إجازة الاجتهاد التي حصلها السيد عبد الحسين شرف الدين في أوائل القرن العشرين، ونقل نصها الحرفي في مذكراته.
وتتصدر الملف العتيد “فاتحة” أرادها صاحبها- أحد موظفي الصحيفة، ومتولي إذاعة تعاليمها ولفظ أحكامها اليقينية في الشارد والوارد من المسائل، وخطيبها الغنائي والملحمي والكوميدي في أحيان كثيرة – “أُمَّ” القول وبيانه وخواتيمه. فقال وقال، على ما أفصل وسعي بعض التفصيل المقصِّر حتماً فيما يأتي. ولكنني لا أملك إلا تعجل الفرحة وزفاف العنوان المدوي والتاريخي، على المعنى الحرفي، إلى من لم يقلع بعد عن القراءة: (وجهك يا “غرب” مات!). ولعل كتابة “غرب” على نحو لم يكتب عليه في الأصل، على شاكلة “إسرائيل”، تصحيح لسذاجة غَبَرت وحسبت أن ثمة غرباً، وأن الغرب المزعوم و”المقبور” هذا لا يزال فيه بعض من رمق. وها إن المفتتح القول، في أعقاب أربعين عاماً، يكتب مطمئناً وثيقة عدم ما بقي يسمى غرباً إلى حين انتبه الشاعر، نقلاً عن أرض/شرق/ نبي، أن ما كان هذا اسمه الغرب، على ما يقول الشاعر اليوم في أحاديث تلفزيونية جرارة مع المفتتح الصعبي، بات في خبر كان، وحقت فيه المزدوجات الماحقة. وقد يخيل للقارئ الساذج أن الغرب عندما بلغه خبر موته قال في نفسه ما قاله الكاتب الاميركي مارك تويْن عندما بلغه نعيه (قرأ في صحيفة أنه مات): قد أكون مريضاً ولكن النعي مبالغ فيه قليلاً! وقضاء الشاعر، وأي شاعر هذا، لا راد له. الغرب مات، حقاً مات، وقتله شرق قام، حقاً قام. وعلى المقالات الاحتفالية أن تبني على القضاء بالموت والقيامة إلى أبد الآبدين.
وتستوي الفاتحة الصعبية فوق مقالين متناظرين معنى وطباعة (ديزاينياً!)، يرد واحدهما على الآخر من طرف خفي ربما، أراده على هذه الشاكلة ولي الملف وفقهه العميق. فإلى يمين الصفحتين، يؤصِّل جعفر البكلي (الكاتب) رأيَ (فتوى) خليفة المرشد الأول، وصاحب الثورة ومبتدئها ومفتتحها كذلك من غير تشبيه أو حلول، السيد علي الخامنئي في مفاوضة “أميركا” (!). والمفاوضة خُلْفٌ، والقول المستقيم: “الإصغاء لوساوسها”، في صيغة النهي الجازم. ويُرجع المؤصِّل المعاصر فتاوى “القيادة الإسلامية”، اليوم، في (1) تعجيل الخروج من الاتفاق النووي، و2) سد الأذنين (طريق الوسوسة الخبيثة) عن أحابيل صغار الشياطين الذين يتلهون بأمور سخيفة مثل الغذاء والدواء- ويتركون المسائل الجسيمة مثل قطع غيار المفاعلات وأجهزة التخصيب ونسبته ومواده ومطاياه الباليستية وأمدائها- يرجعها إلى أصولها الأولى. فما يقوله الإمام الخميني اليوم، ووراءه ما لا يحصى من الجنرالات والأميرالات (رتبة شمخاني) والعمداء، أن مفاوضة العدو مضيعة وقت مفتتِحه الولي الفقيه الأول. وما كان حقاً قبل أربعة عقود لا ريب في صدقه بعد خمسة عقود من اليوم، على شرح زكريا أبو سليسل (في مقاله في “النموذج الإسلامي”، ص 14 من الصحيفة).
وأما ما كتبه كمال خلف الطويل في “إيران والعرب: ما هكذا تورد الإبل!”، هو المقال الثاني الذي يربض فوقه المفتتِح، فيخالف ديوان المدائح مخالفةً يختل معها التأويل ويميد على أركانه. فالكاتب يكذّب دعاوى الديوان من أيسر الطرق وأقربها، وهي ما حل بالعراق المسكين جراء “إلهام” الأولياء الفقهاء في قم (وحذف المفتتح المدينة من شاهده الشعري النبوي) أنصارَهم ومواليهم العراقيين سياساتهم المميتة، التي تميت “الغرب” مرات كثيرة فلا يعي أكثر بينما “شعبنا يعي أكثر وأكثر”، على ما هو معروف ومشهود كل يوم.
ويحصي الكاتب وجوه الإعجاز الثوري “الإسلامي” في العراقيين: “الفلتان الثوري”، إدامة الحرب، الوقوع في” كمين” اقتتال مستنزف، عقد أول صفقات السلاح “الأمريكو-اسرائيلية”، “انفلات” كتائب من المعارضة الشيعية المسلحة اللاجئة إلى إيران مقودةً من مفارز من الحرس الثوري الإيراني… تدميراً وإحراقاً…”، امتطاء “زمر من موالي (إيران) العراقيين… الدبابات الاميركية في بغداد تحت يافطة من تسلط الخصم واستبداده خصم إيران الألد فيها”، الشراكة في “كونديمنيوم وظيفي مع الشيطان الأكبر في العراق كما سالفاً في أفغانستان”، “إرساء دولة المكونات الملعونة في العراق”، “استثارة الفالق الذهبي وتعميقه”، تذويب عروبة العراق نصاً وواقعاً… و(تفكيك) بنيته فدرلةً وأقلمةً”، إشغال “حلفاء” طهران “بالتسبيح بحمد(ها) صباح مساء وكأن تلك حصة مقررة على من يقرون النهج…”. وفي ختام هذا الإحصاء الذي ينفرد، تقريباً، بتعقب فصول الانجاز الأول، و”يملأ” العقود الأربعة التالية (على) خروج الإيرانيين على شاهانية سلطانهم بحوادث ووقائع تزن ثقلها موتاً ودماً ودماراً وازدراءً وخداعاً، ينسب الكاتب ما يراه المفتتح “قفزات هائلة” و”انتزاع دور… في حركة التاريخ” إلخ، ينسبه إلى “فصول المراهقة واليفع وأول الشباب”.
ويترجح الرأي في مقال كمال خلف الطويل، أي في نشره، بين 3 مسوغات: فإما أن صاحب الملف لم يقرأه، (وهذا بعيد)، وإما أنه شاء إقامة الحجة على ليبرالية تفحم القارئ العدو ولا تؤذي الصديق، وإما (وهذا تعليل تجنب الإذية) حمل النقد على رأي صادر عن راديكالية تفوق الراديكالية الحرسية إذا جاز مثل هذا. فالطويل يحصر مطاعنه في العراق. ويمدح فعال أصحاب السياسات الحرسية والإيرانية في لبنان وسوريا وفي إيران طبعاً، أو يلتمس لها الأعذار “الجيوبوليتيكية”. وهي تشبه المثال العراقي شبه “القذة بالقذة”، على ما جاء في الأثر. ولكن الكاتب ينطق عن هوى وطني ويغفل عن أوطان غيره، على المثال الإيراني الذي يطعن عليه.
وترجع المقالات الأخرى إلى السير على المنهاج الافتتاحي. فيُسرّ أحد وجوه “جمهورية الفاكهاني” (1970-1982) الفكرية والثقافية، الاستشرافية، منير شفيق، بتأملاته الناضجة في فرادة السياسة الثورية الخمينية. وركن هذه الفرادة، على ما أسلف جعفر البكلي القول، رفض مفاوضة القوى السياسية والاجتماعية المتحفظة، والإصرار على سحق “عدو” الداخل الكثير وحمله على عدو الخارج الواحد، وحمل الخارج كلاً وجميعاً على العدوان. وهذا منطق الحروب الأهلية عامة، والحزبية على الخصوص. ويمدح الفاكهاني المستشرف في مثاله التشبيه على القوى الوسطية، واستدراجها من طريق مهدي بازركان وأبو الحسن بني صدر إلى تأييد نهجه الصارم والقاطع تلافياً لعزلته. وهو صارم، أي سيف قاطع ودامٍ في الإيرانيين، وفي الشعب الإيراني. وصرامته ناجمة عن ضعف ثقته في الإيرانيين، وخشيته من ميلهم إلى المهادنة، وطلبهم الأمان والسلامة وإقرارهم بكثرة جماعاتهم على ما قال شريعتمداري وقتل دون قوله. وينقل البكلي عن الخميني قوله: “يجب أن لا نرضى بالحلول الوسط. إن الغليان الثوري قد وصل إلى ذروته. وهذا أكبر ضمان للنصر. وإذا شرعت الآن في الكلام عن الالتزام بالحلول الوسط فستفقد جيش المؤمنين… وستتلاشى حماسة شعبك و… يعود الناس إلى منازلهم”. ومعنى هذا أن على الناس إنجاز ثورتهم وهم غافلون عما يفعلون.
ويعلل بعضهم إنشاء الجهاز الحزبي “العسكري”، القيادي والمنفصل عن الحركة الشعبية “العفوية” والثائرة، بضرورة تلافي استسلام الجمهور إلى التعب والحلول الوسطية واستعجال وقف الصراع. ولا يخرج خميني في هذا عن “طليعية” لينينية – ستالينية شاعت في كل البلدان التي لم ينشأ فيها مجتمع متماسك في مقدوره مقارعة الدولة، وتقييدها بحقوق القوى الاجتماعية والسياسية. ويذهب ألان باديو، وهو أحد “أصنام” كتبة الصحيفة المتدربين، إلى أن الحزب اللينيني رد على هزائم الحركة العمالية الاوروبية في 1848 وفي 1870 -1871 (عامية باريس)، ووظيفته الأولى هي تفادي المجازر التي أعقبت الانتفاضات العمالية والحؤول دونها. ولولا المآسي التي تتستر عليها الحجة لدعت إلى الضحك: فالمجزرة التي تفادى الحزب اللينيني – الستاليني مبادرة النظام القيصري إلى ارتكابها في حقه وحق العمال الروس أقدم الحزب نفسه على ارتكابها أضعافاً مضاعفة في حق العمال والفلاحين والجنود والمثقفين وعامة الناس والحزبيين الروس.
وعلى هذا، تقود القيادة “شعبها” إلى النصر، وإلى تقطيع عرى اجتماعه، وتأليب شطر منه على شطر آخر والنفخ في حربهما المقيمة، وتسليط جهاز محترف ومغلق، إكليركي (حبري) على الجمهور الغالب، و(إلى) إبطال الجهاز عللَ المناقشة والمعارضة بالقوة والقتل والحروب الخارجية. ففن السياسة يقتصر على الاستيلاء على السلطة في “لحظة” مؤاتية تدين بها الثورة لنظام الحكم المتعسف والمسرف والغافل فوق ما تدين بها لموارد بناء حياة حرة. وفي سبيل تعظيم النقمة و”الغليان” لا بأس بتعظيم القتل وإعماله في الإيرانيين. ومقتلة صالة السينما في عبادان (19/8/1978)، وهي أودت بـ420 قتيلاً حرقاً، لا يزال ينسبها برنار هوركاد (ص15) زوراً وكذباً متعمداً إلى السافاك (ما لم تكن الصحيفة عمدت إلى تزوير الترجمة!)، على رغم إفشاء عميل ثوري سابق ضلوع جهاز الثورة في افتعال الحريق الفظيع. وكررت القيادة نفسها، طوال ستة أعوام (1982-1988)، تعويلها على “عشق الشهادة” وطلب الموت في سبيل النصر على “شاه العراق”. وحسبت أن الانتصار في حرب خارجية يشبه الانتصار في حرب أهلية، وينبغي أن يؤدي إلى اجتثاث العدو.
ويقف مديح الأربعين عاماً عند انتفاض الإيرانيين على نظام الشاه وسياسته، وينسبه إلى إلهام الرجل وانقياد الجمهور وتسليمه. وهذا دأب معظم المقالات. ويُغفل المديحُ تكلفة هذه السياسة الباهظة، ووطأتها على حياة الإيرانيين إلى اليوم. فالجمود أو التحجير على “لحظة” الثورة يقطعها من زمن وفائها بوعودها وانجاز ما وعدت قيادتها به ويعفيها من الوعود والانجاز. وهو دعوة إلى الإقامة على مبايعة القيادة، وعلى جزائها “معروفها” الثابت ودينها في أعناق الرعية انقياداً إليها لا يحول ولا ينصرم. والإقامة على العداء “المطلق” من المنوال نفسه. وينسى خطيب النظام الحرسي في لبنان، حين ينظم خطبته العصماء في أرقام النظام وأطنانه ومراتبه (على سنّة سوفياتية مجيدة)، بعض الظلال: هجرة 25 في المئة من حملة الإجازات، بطالة نحو ثلث الشباب، 5 إلى 7 ملايين مدمن مخدرات، نسبة انتحار قياسية، اتساع الهوة بين مداخيل الطبقات الاجتماعية وعوائدها، تبلور “طبقة” متسلطة تراكم الريوع وتجبيها من الوساطات والمناصب والمضاربات والانتهاكات والاحتكارات. وهذا كله وغيره يهون في ميزان الإنتاج الصاروخي و”الإسلامي” المرعب (الصديقَ قبل العدو).
المدن