خطاب البشير بعيون سورية/ بكر صدقي
دفعني الفضول إلى متابعة خطاب الرئيس السوداني عمر حسن البشير، وقد سبقته تسريبات عن قرارات مهمة سيعلن عنها، في ظل الأزمة السياسية الحادة التي يمر بها نظامه.
الحق أنني فوجئت برصانة الدكتاتور الملاحق من قبل الأنتربول، المحكوم أمام محكمة الجنايات الدولية بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، والأسلوب العقلاني في خطابه، على رغم أن جوهر القرارات التي أعلن عنها فيه هو تمسكه بالسلطة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية التي تطالب بتنحيه.
وهو يتحدث، بوجهه المتجهم ونبرته التراجيدية، لم أتمالك نفسي من مقارنته مع خطابات السفاح بشار الأسد ومقابلاته الإعلامية. فكانت المقارنة لصالح البشير بلا منافسة. وعلى سبيل المثال، ضحك الأسد ببلاهة 29 مرة في خطابه الأول بعد انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا، في الوقت الذي كان قتلى المظاهرات السلمية في درعا ومدن أخرى قد بلغت العشرات خلال أسبوعين. مقابل ترحم عمر حسن البشير على من قتلوا في المظاهرات السلمية في السودان، وبلغ عددهم 51 وفقاً لأرقام المعارضة، خلال ثلاثة أشهر، واعتبرهم خسارة وطنية.
ووصف البشير مطالب المتظاهرين بالمشروعة، وأن الدستور والقانون يكفلان الحق في التظاهر السلمي تعبيراً عن المطالب الشعبية، في حين وصف الأسد المتظاهرين بأنهم مندسون وعملاء وجراثيم وأدوات مؤامرة عالمية تستهدف نظامه. أما البشير فقد تحدث عن أزمة وطنية، ولم يشر من قريب أو بعيد لأي تلاعب خارجي أو “مؤامرات” دولية. وتكلم بلغة المسؤولية الوطنية فدعا الموالاة والمعارضة وحاملي السلاح إلى الحوار والمفاوضات، مقابل عدم اعتراف الأسد بشيء اسمه معارضة. فإذا ذكرها وصفها بالإرهاب أو العمالة أو كليهما معاً.
لا تعني هذه المقارنات تبرئة البشير أو استحسان قراراته، فهي في جوهرها قرارات حاكم دكتاتور متمسك بالسلطة، كأي حاكم عربي آخر شهدت بلاده ثورة شعبية تطالبه بالتنحي. ولكن هناك فارق مؤكد مع أمثال الأسد أو القذافي، مثلاً، اللذين واجها شعبيهما باحتقار شديد ولم يعترفا مجرد اعتراف بوجود أزمة وطنية يتطلب تجاوزها حداً أدنى من الشعور بالمسؤولية الوطنية. فكان شعار الأول الذي كتبه شبيحته على الجدران “الأسد أو لا أحد” و”الأسد أو نحرق البلد”، في حين فوجئ الثاني بوجود شعب في بلده، بعد أكثر من أربعة عقود على حكمه، فقال عبارته الشهيرة “من أنتم؟”.
وعلى أي حال، لم يكن أحد يتوقع من دكتاتور كالبشير أن يعلن، في خطابه المنتظر، عن تنحيه استجابة لمطالب الشعب. فهو، في أحسن الافتراضات، سيبحث لنفسه عن هامش مناورة وشراء للوقت، على أمل أن تخبو موجة الاحتجاجات الشعبية ويتجاوز النظام أزمته بأقل ما يمكن من الخسائر. لقد أصبح هذا هو “القانون” في علم الاجتماع السياسي العربي، وليس استجابة الحاكم لمطالب شعبه.
هذا ما فعله البشير بالضبط. لقد مارس السياسة بدلاً من الحرب المفتوحة على الشعب. مد جزرة صغيرة تمثلت في تأجيل التصويت على التعديلات الدستورية التي ستمنحه الحق في عدد غير محدود من الدورات الانتخابية لينال الحكم الأبدي الذي يصبو إليه. لم يلغ الأمر بصورة نهائية، بل أجلها وحسب على أمل أن يستميل قسماً من المعارضة، ليعزل القسم الآخر ذي المطالب الأكثر راديكالية، في حين يمنحه قانون الطوارئ الذي فرضه على البلاد، لمدة عام، الأداة اللازمة لكسر إرادة المحتجين، فيكون بذلك قد مهد الأرضية المناسبة لإعادة طرح التعديلات المشؤومة في ظرف أكثر راحة لنظامه.
هل الفوارق الشكلية أو الخطابية بين البشير ونظيره السوري تخلو من أي أهمية، ما دام الجوهر واحداً هو الرغبة في تأبيد السلطة؟ برأيي أن الفارق مهم، ومهم جداً بين حاكم يحتقر شعبه بصورة علنية، ويستبيحه بوحشية لا يقيدها شيء، وآخر يخاطب شعبه باحترام، ويعلن تمسكه بأولوية المصلحة الوطنية على تمسكه بالحكم. الأول يلغي السياسة ويعلن الحرب، فلا يوفر سلاحاً في جَعْبته إلا ويستخدمه لقتل أكبر عدد ممكن من الشعب الذي يرى فيه عدواً تنبغي إبادته، ويستقدم جيوشاً وميليشيات أجنبية للدفاع عن سلطته ضد الشعب. في حين يمارس الثاني السياسة، ويترك الباب مفتوحاً لحلول وسط قد يخرج منها الطرفان رابحين، وإن كان ربحاً دون السقف المأمول.
ترى هل كان من شأن خطاب مختلف لبشار الأسد، في بداية الثورة، أن يؤدي إلى نتائج مختلفة؟ يرى كثيرون أن هذا النظام غير قابل للإصلاح، ولو أنه قدم أي تنازل في بداية أزمته، لكان ذلك أدى إلى انهياره. لا أحد يملك الإجابة على افتراضات نظرية من هذا النوع، فقد حدث ما حدث ولا يمكن تغيير التاريخ المتحقق. لكني أفترض لو أن بشار ألقى خطاباً يشبه خطاب البشير، بدلاً من خطابه في 30 آذار 2011، ولو أنه التزم بروحية هذا الخطاب الافتراضي، لكان النظام قد أصبح قابلاً للإصلاح، بخلاف الجزم المعاكس السائد. ربما كان من شأن تحقق هذه الافتراضات أن يغير من مجرى التاريخ في سوريا.
تلفزيون سوريا