خريف الثورات المضادة/ غازي دحمان
تجرجر ثورات الأنظمة العربية المضادة أقدامها صوب غدٍ لا يبدو أن الوصول إليه سيكون سهلاً عليها، تمرّر أيام حكمها بصعوبةٍ بالغة، وبأفعالٍ انتحاريةٍ يائسة، بعد أن صار الأفق مسدوداً، وقد انكشفت قدرات المنظومات التي أدارتها، وتبيّن بوضوح أنها عاجزة على السير بعد اليوم التالي، لافتراس أبناء مجتمعاتها باسم وأد الفتنة والمؤامرة.
تتكاثر المؤشرات على نهاية لعبة الثورات المضادة، فمن إعدامات مصر التي لم تكن سوى محاولة لترشيق العنف ضد المجتمع المصري، لإخفاء حجم التوتر الهائل الذي يجتاح المنظومة الحاكمة، وتحاول من خلاله صدم المجتمع وترويعه، أملاً منها في إبعاد شبح التمرّد والعصيان، من داخل المنظومة وخارجها. إلى سورية التي وصلت حالة التوتر فيها إلى حد محاولة ملاحقة الأجهزة الأمنية طوفان النقد عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الصادر عن البيئة الحاضنة للنظام.
وليس خافياً أن ردات الفعل العنيفة ناتجة بالدرجة الأولى عن عمق الأزمات التي تتخبط بها أنظمة الثورات المضادة، وعدم قدرتها على إيجاد مخارج آمنة من هذه الأزمات. وما يزيد من حجم أزماتها أن الخارج، الإقليمي والدولي، وصل إلى حالة من التعب، وخصوصا على المستوى المالي، ولم يعد راغباً ولا قادراً على الاستمرار بتحمّل مصاريف تسيير شؤون هذه الأنظمة، بعد أن تبين أنها لم تستطع، خلال سنوات الإغداق الماضية، تأمين بدائل ذاتية لتمويل نفسها، وإدارة عجلة الحياة في البلدان التي تحكمها.
وما زاد من إرباك الثورات المضادة وداعميها، تجدّد زخم الثورات في البيئة العربية، في
السودان والجزائر، وحالة الإضطراب في أكثر من دولة، ما يعني، بحسابات تلك الأنظمة وداعميها، أن خطر الثورات ما زال مقيما بقوة في العالم العربي، وأن استثمار توظيف قمع الثورات في سورية ومصر، على الرغم من تكاليفه الباهظة، كان بلا جدوى، ما دام هؤلاء لم يستطيعوا ترجمة ذلك القمع إلى واقع سياسي صلب ومستدام.
لكن من أين تأتي الاستدامة لأنظمة الثورات المضادة، وقد قامت جميعها على خليط غير متجانس من الفئات المستفيدة وصاحبة المصلحة، وقد ثبت أنه خليط متحرّك تتحكّم ببوصلته حسابات الأرباح والخسائر بدرجة كبيرة، إذ لم تكن للثورات المضادة حوامل اجتماعية مهمة، بعد أن عادت الطبقات الوسطى والفقيرة ونكّلت بها، واعتزلها كل مثقفٍ يحترم نفسه. ولم يكن للثورات المضادة من حوامل سوى إعلامٍ فقد مصداقيته نتيجة انحطاط أخلاقياته وتدهور مهنيته، وقوة باطشة تتكوّن من جيوشٍ لا عقيدة لديها وأجهزة أمنية متوحشة، وأنظمة عربية مرعوبة من الثورات.
ثم إن أنظمة الثورات المضادة افتقدت أي مشروع سياسي أو اقتصادي أو ثقافي، باستثناء مشروع بقائها في السلطة، واستمرار العمل بالآليات ذاتها التي تسببت بثورات الشعوب ضدها. وبالطبع، لم تستطع الثورات المضادة تطوير صيغ جديدة للحكم، تساعدها على عبور الأزمة، بالأصل هي استهلكت طاقتها بقمع الثورات، وإيجاد المبرّرات اللازمة لهذا الفعل. وإذا كانت ثورات الربيع العربي قد أخطأت باعتقادها أن لدى كل الشعب الوعي الكافي لإدارة الثورات وحمايتها، فإن الثورات المضادة أخطأت عندما استسهلت استغباء الشعوب، واعتقدت أن العنف والتضليل أدوات كافية لحكم هذه الشعوب، وأن الثورات لم تقم إلا نتيجة تساهل الأنظمة مع الشعوب، وارتخاء قبضتها الأمنية.
وكان أن أحالت الثورات المضادة ملفات الشعوب بكاملها إلى أجهزة الأمن ومكاتبها، لعلاج المجتمعات من دنس الثورة، وإعادة تأهيلها للخضوع مرة جديدة، والمعلوم أنه في مكاتب
أجهزة المخابرات العربية وأقبيتها، لا توجد مفاهيم من نوع، مطالب اجتماعية، وحقوق إنسانية، بل جواسيس ومؤامرات وخونة، وعلاج ذلك يتم عبر القتل تحت التعذيب وأحكام الإعدام العشوائية والاغتصاب للرجال والنساء، ذلك أن طريق الإخضاع والإذلال يبدأ من هنا.
اليوم، يصل هذا النهج إلى ذروته، وقد انكشف بالكامل أمام الشعوب العربية، لم يعد ثمّة شيء مخفي للتحسّب له، صحيح أنه نهجٌ مرعبٌ وعنيفٌ إلى حد الهمجية، لكن معرفة العملية وآليات تشغيلها وعناصر قوتها، أمورٌ مهمة في إنتاج المضاد لها، بدليل أن ثورتي السودان والجزائر تبدوان واعيتين تماماً الأخطاء القاتلة التي مرّرتها الثورات المضادة ضد شعوبها، وأيضاً بدليل أن هذه الشعوب عادت إلى الثورة، على الرغم من الكارثة التي رأتها بأم أعينها، ما يعني أن مفاعيل الصدمة التي أرادوها دائمة ومديدة، بدأت بالزوال تحت شمس إرادة الشعوب.
ثمّة من سيقول إن الأنظمة العربية حكمت عقودا طويلة، يمكن تأريخها منذ بداية تأسيس الدولة في العالم العربي، بالنهج والأدوات نفسها، فلماذا سنعتقد أنها سترحل الآن، وهي في أوج قوتها، فيما تبدو الشعوب في أضعف حالاتها؟ لا تلحظ هذه الحجّة حقيقة أن هذه الأنظمة استطاعت الاستمرار في الحكم، لأنها أسّست بنية سلطوية هائلة، وإعتمدت الدين والديماغوجيا والأيديولوجيا، لتثبيت دعائمها، وأوجدت نقابات واتحادات وروابط لافتراس المجال المدني، وكل هذه البنية تحطّمت بعد ثورات الشعوب، وفقدت تأثيراتها، كما أن القطوع الذي صنعته الثورة، يجعل من الصعب إعادة بناء هذه البنيوية السلطوية وهندستها لاختلاف المعطيات والبيئة، كما أن هذه الأدوات فقدت فعاليتها، حتى في البلدان التي لم تقع فيها ثورات الشعوب، ولم يبق لأنظمة الثورات المضادة وبقية الأنظمة سوى أجهزة الأمن ووسائل الإعلام، وهي بالتأكيد غير قادرة على إخراج هذه الأنظمة من أزماتها المستفحلة.
العربي الجديد