سوينكا وغيتس: تواطؤ المتن والهوامش/ صبحي حديدي
حوار جدير بالقراءة، والتأمل المتعمق، نشرته مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» في عددها الحالي؛ دار بين اثنين من أبناء أفريقيا: الأوّل نيجيري، الروائي والمسرحي والشاعر وولي سوينكا، الحائز على نوبل الآداب للعام 1986؛ والثاني أفرو ــ أمريكي، هنري لويس غيتس أحد أبرز الأكاديميين في ميدان النقد الثقافي وعلاقات البيض والسود، ورئيس «مركز البحث الأفريقي والأفرو ــ أمريكي» في جامعة هارفارد العريقة. العنصرية كانت الموضوعة الكبرى التي هيمنت على الحوار، وتفرّعت عنها موضوعات مكمّلة تخصّ رئاستَي باراك أوباما ودونالد ترامب، وأحوال أفريقيا في الماضي والحاضر، وموقع الكاتب المعاصر إزاء قضايا عصره…
تجدر الإشارة، في البدء، إلى اختلافات متنوعة في بعض خيارات سوينكا وغيتس على صعيد المواقف السياسية العملية، والتنظيرات الأدبية والنقدية والجمالية، والتطبيقات الميدانية لعلاقة الكاتب بمشكلات العصر. كان سوينكا، على سبيل المثال، أحد أعضاء وفد «البرلمان العالمي للكتّاب» الذي زار رام الله في أواخر آذار (مارس) 2002 بدعوة من محمود درويش وفصلية «الكرمل»؛ صحبة خوسيه ساراماغو (البرتغال)، وخوان غويتيسولو (إسبانيا)، وبرايتن برايتنباخ (جنوب أفريقيا)، وفنسنزو كونسولو (إيطاليا)، وبي داو (الصين)، ورسل بانكس (الولايات المتحدة)، وكريستيان سالمون (فرنسا). غيتس، من جانبه، اعتاد اعتناق تأويلات ثقافوية، وعرقية في بعض الأحيان، لمظاهر العداء للسامية التي تنتشر في بعض التجمعات الأفرو ــ أمريكية؛ كما ناهض خيارات بعض الأكاديميين السود في إقرار دراسة مؤلفات مثل «تركة رجل الجليد» أو «بروتوكولات حكماء صهيون»، حتى من زاوية تاريخية ونصّية محضة. وهو، في هذه الإشكالية تحديداً، لا يعلن صيغة موقف تركيبي متوازن، كما يفعل زميله كورنل ويست مثلاً، بين رفض العداء للسامية ونقد السياسات الإسرائيلية وتأييد الحقوق الفلسطينية.
أيضاً، بصدد واحدة من المسائل الجمالية الكبرى التي اكتنفت دراسات «الكتابة السوداء»، أي مفهوم «الزَنْوَجة» كما صاغه الشاعر المارتينيكي إيميه سيزير؛ ساجل سوينكا ضدّ المصطلح، دون أن يقلل البتة من قيمة الكتابات التي اندرجت في إطاره. لقد اعتبر أنّ افتراض صفة الزنوجة في كلّ نصّ «أسود» أو «أفريقي» المنشأ، ينطوي على نزعة قَدَرية في إقامة مواجهة بين جمالية سوداء وأخرى بيضاء؛ وبالتالي ينطلق، ضمناً أو علانية، من جوهرانية عرقية لا تحتسب فوارق الجغرافيات والثقافات. غيتس من جانبه، وفي كتابه الشهير «الأدب الأسود والنظرية النقدية»، رأى أنّ مناهج دراسات الخطاب ما بعد الكولونيالي عرفت كيف توظّف المفهوم وتطوّره في حقول الأدب الأفرو ــ أمريكي، وموسيقى الجاز، والفنون التعبيرية والفولكلورية الأفريقية؛ إلى جانب نسف تصنيفات استعمارية مثل أدب الكومنولث، وموضوعة «الزنجي/الأسود» في النصوص الغربية.
وقد تكون هذه الاختلافات، وسواها، هي أوّل تمثيلات الطرافة، والأهمية أيضاً، في حوار لا يلوح أنه نهض أصلاً
على نيّة السجال أو إعلان التباين أو إبراز الفوارق؛ بل على طراز خفيّ من التواطؤ أيضاً! وهكذا، يستفسر غيتس من موقع السائل: كأنك تقول إنّ أمريكا في أفضل حالاتها انتخبت أوباما، ولكن ردة الفعل بعدئذ كانت انتخاب أمريكا (ترامب) في أسوأ حالاتها؟ فلا يتردد سوينكا في الموافقة، مضيفاً معرفته الشخصية بأنّ بعض الذين انتخبوا ترامب يتساءلون اليوم: ما الذي فعلناه بحقّ الجحيم؟ لهذا فهو يستذكر ردّة فعله هو، الغاضبة والجذرية، بعد انتخاب ترامب؛ والتي تمثلت في أنه أتلف البطاقة الخضراء التي تخوّله الإقامة الدائمة في أمريكا!
ورغم أنّ السائل، غيتس، ضليع في تاريخ أنظمة الرقّ والاستعباد، وله عشرات المؤلفات والأفلام التسجيلية حول الموضوع؛ فقد كان المجيب، الروائي والشاعر والمسرحي سوينكا، هو الذي اقتبس ثورة الزنج في العراق، باعتبارها واحدة من صفحات الشتات الأفريقي الذي يهتمّ به لأسباب عاطفية وليست تاريخية أو فكرية فقط؛ فأجبر تحرير المجلة على وضع هامش خاصّ تشرح فيه معنى المفردة. في المقابل كان غيتس هو الذي طلب تعليق سوينكا على حقيقة إحصائية ذات دلالة، مفادها أنّ أوّل اثنين بين عشرة مليارديرات في جنوب أفريقيا هما من السود، ومن السجناء السابقين خلال نظام الأبارتيد!
وتبقى حاشية أخيرة، أولى، حول حسّ المعارضة الدائم الذي يتمتع به سوينكا، على غرار المثقف العضوي دائم الانشقاق كما رسم ملامحه إدوارد سعيد؛ وذلك في شؤون نيجيريا الداخلية، على أصعدة سياسية واجتماعية واقتصادية، قبل الأصعدة الثقافية والفكرية. وآخر مواقفه أنه أعلن على الملأ، في اجتماع حاشد حول الحريات والتضامن مع الصحافي السعودي القتيل جمال خاشقجي، أنه لن يصوّت لأيّ من المرشحَيْن المتنافسين في انتخابات الرئاسة النيجيرية، محمد بخاري وعتيق أبوبكر.
وحاشية أخيرة، ثانية، مفادها أنّ نفوذ غيتس الأكاديمي والثقافي الرفيع لم يمنع تعرّضه لاضطهاد عنصري صريح، في تموز (يوليو) 2009، حين كان يزمع الدخول إلى بيته في كيمبرج، ماساشوستس، واستعصى عليه المفتاح فارتابت جارته بأنه لصّ، وأبلغت الشرطة. وسرعان ما تناقلت وكالات الأنباء والفضائيات ومواقع الإنترنت صورة البروفيسور الشهير أمام باب منزله، مقيّداً بالأصفاد وكأنه مجرم خطير يقع أخيراً في قبضة العدالة، بعد مطاردة محمومة!
تواطؤ في هوامش الواقع، إذن، وليس في متن الحوار وحده.
القدس العربي