الخوف/ بشير البكر
يعرّف الشاعر الألماني ريلكه الخوف بالقول “إنني قد لا أكون قادراً على قول أي شيء، لأن كل شيء يجل عن الوصف”.
هل كان ريلكه يتحدّث عن أحوالنا وأيامنا هذه، ورآها بعين المستشرف؟ هذا سؤالٌ يطرح نفسه على نحو تلقائي، حين نقف اليوم أمام هذه الرؤية، على الرغم من أن الكاتب رحل قبل قرن تقريبا. لم يكن الشاعر الألماني يتحدّث من موقع الكاتب المترف، بل من مكان الكاتب الذي عاصر وعاش مآسي العالم بسبب الحرب الكونية الأولى، ودور بلاده في الشقاء الذي سبّبته تلك الحرب للبشرية من كوارث، وما خلّفته من جراحٍ عميقةٍ في نفوس الناس على امتداد القارة الأوروبية على وجه الخصوص، فهي فقدت قرابة 16 مليون قتيل و12 مليون مصاب، وتدمرت عدة مدن وجرى تهجير شعوب.
يتجاوز خوف اليوم خوف الزمن الماضي في الشكل والمضمون، فالحرب ازدادت شراسةً في وقتنا. منذ اجتياح بغداد وحتى اليوم اختلف طعم الخوف ولونه وأدواته. ولعبت الصورة دورا هاما في تجسيم الحالة، ونقلها في تفاصيل تبعث الرعب في نفوس أولئك الذين يشاهدونها عن مسافاتٍ بعيدة. الفيديوهات التي بثها “داعش” يسجل فيها عمليات الذبح لم تخلق ردود فعل نفسية رهيبة فقط، بل ولّدت صدمةً كبيرةً ذهبت نحو تغيير مواقف وقناعات، وخلقت رأيا عاما دوليا جديدا يتسم بالسلبية تجاه قضايا العرب والمسلمين.
الخوف هو أن يصمت المرء نهائياً، ولا يتحدّث أو يفتح فمه لكيلا يقول شيئاً. النتيجة واحدة في الحالين. هناك من يسكت أمام ما نعيشه من أهوال، وهناك من يتحدّث كي لا يقول شيئا، أو يقدّم فكرة مفيدة ويعبر عن موقف يساعد الضحايا. وقد يسقط المرء رغما عنه في إحدى الخانتين، ولكن الخوف أن يمر بجانب الدم، ولا يتحرّك فيه شيء، أو أن يشمت، ضمنيا أو علانية، بالناس الذين لم يجدوا مفرا ووقعوا فريسة القتل، كما يحصل في مصر وسورية، حيث تبارك نخب محسوبةً على اليسار والتيارات القومية عمليات القتل التي يرتكبها النظامان ضد مدنيين أبرياء. يجب أن تخاف إذا أحسست أنك بدأت تقترب من صف القاتل، لمجرّد أن القتيل لم يتمكّن من الدفاع عن نفسه، وسقط في المواجهة. وهنا لن تفيدك كل القصائد التي كتبتها عن الخوف في الأيام الخوالي، حين كنت معتكفا على نفسك، ولن ينفعك الله الذي بقيت تصرخ باسمه لكي يشفيك من ورطة خيانة الذات والتاريخ الشخصي.
لا أدري من أطلق على سورية جمهورية الخوف، ولكنه وصفٌ عبقريٌّ استطاع أن يلخص حال هذا البلد الذي كان يخاف فيه الإنسان من ظله وخياله (بيت المرايا)، ولا يأنس بمساررة حتى أقرب البشر إليه. كان المواطن السوري يخاف أن يصل جهاز الأمن إلى أحلامه، فقرّر أن يهرّبها ويقاوم بالحيلة، على حد ما جاء في كتاب جيمس سكوت المترجم بالعربية تحت هذا العنوان، وساد في أوساط المثقفين مصطلح ثقافة الخوف التي كانت تعني عكس ثقافة الأمل والذعر من كل تفكير سياسي أو معارض، والعيش حياة الأشباح، ولكن تبيّن في عام 2011 أن السوري كان يقرأ في كتابٍ آخر، وحين حانت اللحظة انفجر الحلم المطمور، وكأن أول إنجاز حققته الثورة هو كسر حاجز الخوف، وهذا هو المكسب الوحيد الذي لم يفقده السوريون، على الرغم من كل ما حل بهم طوال ثماني سنوات، وبقي يشكل الأمل الوحيد ورأس المال الرمزي لأولئك الذين تهجروا من ديارهم تحت ضغط القتل والخوف.
ما هو أخطر من الخوف هو أن يتعايش المرء مع الخوف، ولا يبحث عن طريقٍ إلى الحرية مهما كان الثمن.
العربي الجديد