مسألة نتفليكس/ أمير العمري
كنا نحارب ضد الشبكات التي تبث الأفلام (والمسلسلات التلفزيونية) عبر الإنترنت مثل “نتفليكس” و”أمازون” وغيرهما، ونعتبرها اعتداء على “روح السينما”، وكنا نقاطع الأفلام التي تنتجها نتفليكس ونعتبرها أقل شأنا من الأفلام السينمائية المصورة على شرائط السليولويد من مقاس 35.. وربما يكون هذا صحيحا إلى حد ما، ولكن هل هناك أحد لا يزال يصور الأفلام بكاميرات مقاس 35 مم؟ وكم تبلغ نسبتهم قياسا بمن يستخدمون الكاميرات الرقمية العالية الدقة التي أصبحت صورها تضاهي نقاء ووضوح صور الكاميرا السينمائية؟
مهرجان كان قرر في العام الماضي عدم قبول أفلام نتفليكس، والسبب ليس تقنيا، بل نتيجة اعتراض أصحاب شبكات دور العرض الفرنسية الذين يريدون أن تقبل نتفليكس عرض أفلامها في دور العرض الفرنسية قبل عرضها عبر شبكة للمشتركين، ولكن المشكلة أن عدد دور العرض السينمائي تتضاءل في العالم كله بدرجة ملحوظة، والمخرج ستيفن سبيلبرغ يسعى من أجل دفع الأكاديمية الأميركية إلى وقف مشاركة أفلام نتفليكس في مسابقة الأوسكار بدعوى أنها أفلام تلفزيونية.
لم ترضخ مهرجانات مثل فينيسيا وبرلين، لضغوط أصحاب دور العرض الذين يخشون من المنافسة، خاصة بعد أن بلغ عدد المشتركين الذين يحصلون على خدمة نتفليكس عبر العالم، 150 مليون مشترك.
وعرض مهرجان فينيسيا فيلم “روما” الذي حصل على “الأسد الذهبي” أرفع جوائز هذا المهرجان العريق ثم مضى ليحصل على العشرات من الجوائز الأخرى، كما نالت أفلام أخرى من إنتاج نتفليكس العشرات من الجوائز في مهرجانات أخرى.
صحيح أن مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي تختلف عن المشاهدة المنزلية ويبقى الذهاب إلى دور العرض أساس فكرة “السينما”، ولكن المنافسة مع شبكات البث الرقمي لا بد وأن تدفع أيضا المنتجين إلى المزيد من الابتكارات
لم تعد نتفليكس مؤسسة تستهلك الأفلام والمسلسلات التي يصنعها الآخرون، بل أصبحت طرفا أساسيا في إنتاجها، وأتاحت بالتالي الفرصة أمام العشرات من المخرجين في العالم لصنع أفلامهم التي عجزوا عن تمويلها من قبل منتجي السينما، فقد أنتجت نتفليكس “روما” للمكسيكي ألفونسو كوارون، و”الأيرلندي” لمارتن سكورسيزي، و”أنشودة بستر سكراغز” للأخوين كوين، وموّلت استكمال فيلم أورسون ويلز “الجانب الآخر من الريح” الذي ظل خمسين عاما مهملا، وفيلم أنجلينا جولي “أولا اقتلوا أبي”، وفيلم “أرواحنا في الليل” الذي قام ببطولته جين فوندا وروبرت ريدفورد، و”22 يوليو” لبول غرينغراس.. وغير ذلك.
أتاحت الشبكة أيضا الفرصة لمخرجين من بلدان خارج أوروبا مثل البرازيل وتايلاند وأوروغواي وكوريا ومالاوي وجنوب أفريقيا وغيرها، صنع أفلامهم، كما أعلنت أيضا أنها بصدد الانتهاء من إنتاج مسلسل عربي بعنوان “جن” صوّر في الأردن بممثلين من المنطقة.
وصلت الشبكة إلى عشرات الملايين من المشاهدين وكسّرت الحدود والقيود، فأفلامها التي تعرض للمشتركين، تعبر الحدود وتخترق الرقابة وتساهم بالتالي في كسر التابوهات والمحرمات.
هذا الزخم الذي خلقته نتفليكس دفع إلى ظهور شبكة جديدة تكونت عبر المشاركة بين تلفزيون “بي بي سي” وتلفزيون “آي تي في”، باسم “بريتبوكس” ستعمل بنظام البث بالاشتراكات الشهرية أيضا داخل بريطانيا وتسعى إلى جذب الملايين من المشاهدين البريطانيين، وقد اكتسبت بالفعل في أميركا الشمالية، حيث تعمل هناك منذ فترة، نصف مليون مشترك، أما شبكة “أم بي سي” السعودية فأعلنت البدء في تقديم خدمة مماثلة في العالم العربي تنافس نتفليكس.
لا أحد يمكنه وقف التقدم التكنولوجي وما يسفر عنه، فقد انتهى دور حداد القرية بعد دخول الكهرباء، تلك هي طبيعة الأمور، فأنت لا يمكنك التذرع بأن الفيلم السينمائي مهدد بعد أن أصبحت دور العرض في العالم تتقلص وتنتهي مع اتجاه الجمهور منذ عقود طويلة، إلى التلفزيون.
صحيح أن مشاهدة الأفلام في دور العرض السينمائي تختلف عن المشاهدة المنزلية ويبقى الذهاب إلى دور العرض أساس فكرة “السينما”، ولكن المنافسة مع شبكات البث الرقمي لا بد وأن تدفع أيضا المنتجين إلى المزيد من الابتكارات وتقديم أعمال يمكنها أن تجتذب الجمهور خارج المنازل إلى دور العرض، كما لا بد أن تقتنع شركات هوليوود بخفض أسعار منتجاتها الموازية مثل الأسطوانات المدمجة وأقراص البلو راي، وكلّه سيصب في النهاية لصالح الجمهور.
كاتب وناقد سينمائي مصري
العرب