سينما ضد السينما: مدخل إلى حركة «دوغما 95»/ محمد ياسر
في يناير 1954، نشر المخرج الفرنسي فرانسوا تروفو، أحد مؤسسي الموجة الفرنسية الجديدة، مقاله الملهم «نزعة حتمية للسينما الفرنسية» في العدد 31 من مجلة «كراسات السينما»، وفيه تحدّث عن الواقعية السيكولوجية للسينما. بعد نشر هذا المقال بنحو 41 عامًا، جلس أربعة مخرجين دنماركيين هم لارس فون تراير، وتوماس فينتربرغ، وسورين كراغ جاكوبسن، وكريستيان ليفرنغ، ليحاكوا مقال تروفو ويصنعوا موجة سينمائية خاصة بهم. وفي ثلاثين دقيقة كتبوا مانيفستو «دوغما 95»، وهي الحركة التي أعلنوا عنها في آذار 1995 في باريس في مؤتمر «السينما نحو قرنها الثاني»، الذي اجتمع فيه عالم السينما للاحتفال بالقرن الأول لها ومناقشة مستقبل القرن الثاني. في المؤتمر، وزّع تراير كتيبات صغيرة تحمل قواعد الدوغما 95 التي تُعلن الحرب على قواعد السينما وقتها.
من خلال تأسيس حركة تطهيرية، أراد تراير أن يغرس يديه في التربة ويمسك بجذور السينما ليخرج بفيلم أصيل مجرّد من كافة العناصر الصناعية. أراد للمتلقي الغرق في تجربة الفيلم، وأراد الثورة على صناعة السينما في هوليوود، وأن يُعلن وفاة المؤلفين في السينما الحديثة، وميلاد رؤية جديدة، خصوصًا بعد التدهور التدريجي للسينما الدنماركية من بعد حقبة كارل ثيودور دراير، مخرج الرائعة الصامتة «شغف جان دارك» عام 1928، ونسخة مصاص الدماء «فامباير» عام 1932.
«قَسَم العفة»
في وقت سريع، وعلى غير المتوقع، تخطى المانفستو حدود الدنمارك، وتردد صداه حول العالم، وكان على أي مخرج أن يقسم قسمًا، أطلق عليه مؤسسو الحركة اسم «قسم العفة»، ويحتوي القسم على عشر قواعد أساسية هي:
1- لا بد للتصوير أن يتم في موقعه، دون جلب أي معدات خارجية (إن كانت المعدات ضرورية للقصة، لا بد لموقع التصوير أن يحتوي عليها من الأساس).
2- لا يتم إنتاج الصوت بعد التصوير، أو العكس (حتى الموسيقى التصويرية تخرج أثناء التصوير).
3- يتم حمل الكاميرا بالأيدي، وكل حركة أو خطأ في الحركة أثناء التصوير بالأيدي مسموح به، لكن لا تُحمل الكاميرا على شيء ثابت أبدًا.
4- غير مسموح بمصادر إضاءة خارجية، ولا بد للفيلم أن يكون بالألوان.
5- يمنع استخدام أية ألعاب بصرية أو تغيير في فلاتر الصورة.
6- لا يحتوي الفيلم على أحداث سطحية، مثل القتل والأسلحة.
7- غير مسموح بالمباعدة الزمنية أو الجغرافية (يجب أن يحدث الفيلم هنا والآن).
8- غير مسموح بالأفلام الفئوية Genre movies.
9- يتم تصوير الفيلم على شريط تصوير 35 مم.
10- يجب ألا يذكر اسم المخرج في لوحة الأسماء.
علاوة على ذلك، ينص القسم على التالي: «أقسم أنا كمخرج، أنا أبتعد عن ذوقي الشخصي! أنا لم أعد فنانًا، أقسم أن امتنع عن صناعة ما يسمى بـ«العمل». هدفي الأسمى هو استخراج الحقيقة من شخصيات فيلمي ومشاهده. أقسم أن ألتزم بهذا بكل السبل المتاحة، وعلى حساب أي ذوق جيد وأي اعتبارات جمالية».
أفلام «هنا والآن»
كلمة (Dogme) الدنماركية مأخوذة من الأصل اللاتيني (Dogma)، والتي تعني اعتقادًا فلسفيًا أو دينيًا.
بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي، غزت العولمة العالم، وفيما يخص عالم السينما، ومع نمو التكنولوجيا واستخدام الكمبيوتر والإنترنت، اتجهت صناعة الأفلام إلى العصر الرقمي. وفي العام 1995 وصلت السينما إلى نقطة حرجة، حيث هدّدت تكنولوجيا الأفلام الرقمية، صناعة السينما، لأنها أسرع في الإنتاج والتوزيع وكذلك أقل في التكلفة.
في ذلك الوقت، انطلقت أفلام هوليوود بميزانيات ضخمة، تجعل من الصعب على أي فيلم خارج هوليوود أن ينافس، لكن تراير وفينتربرغ أرادا إثبات أن الميزانيات لا تحدد جودة السينما، وأنه عن طريق رفض المؤثرات البصرية وتكاليف الإنتاج باهظة الثمن، يمكن تطهير صناعة السينما. يمكن القول إن مانيفستو دوغما 95 كان ضد الولايات المتحدة وضد هوليوود، وضد البيروقراطية في صناعة السينما. ذلك كان اعتقادهم الفلسفي الذي أعلنوا عنه في عام 1995، وبذلك كان المصطلح دوغما 95.
نرى من خلال القواعد أن نقطة الدوغما الحرجة كانت التوكيد على فكرتي الحقيقة والأصالة. يخرج الفيلم كهيكل هندسي شديد الواقعية، فلا يخدع المتلقي بل يورّطه في طيّات التجارب الشخصيات. وبالرغم من أن القواعد تدعو للتحرر من قيود السينما المعتادة، لكن المشاهد يُكبل أمام أفلام الدوغما: أنت هنا والآن، لا تستطيع الطيران، أنت داخل الحدث وجزء منه.
نرى أيضًا، أن أسلوب التصوير يميل إلى صدمة المشاهد، ليحصد الفيلم أعنف انفعالاته. عندما يرى المرء اهتزاز حركة الكاميرا في الفيلم، أو ينتبه لعدم وجود مؤثرات صناعية، وأن كل ممثل متآلف مع العالم الطبيعي من حوله، ومتجانس مع الشخصية التي يقدمها، وأن كل ما يحدث حقيقي مجرد من كل ما هو غير إنساني عدا الكاميرا التي تُحدّث المشاهد، يُدرك صدق التجربة، ويتفاعل وعيه معها باعتباره مُدخلًا واقعيًا غير مزيف، وهذا هو المقصود.
لو أردنا استعمال مثال تاريخي، فربما يكون من المناسب أن نعود إلى حكاية كهف أفلاطون، وفي الحكاية تكون مجموعة من الناس مقيدين بسلاسل منذ صغرهم وخلفهم ممر، وخلف الممر نيران. وفي كل يوم يمر الناس والحيوانات على الممر، فيرى السجناء ظلالًا مشوشة لهم على الحائط، ذلك كل ما يعرفونه عن العالم؛ الظلال وأصوات دبيب الأرجل على الأرض خلفهم، تلك هي الحقيقة بالنسبة لهم. وفي أحد الأيام يخرج أحدهم للعالم الخارجي، ويعود ليحكي لأصدقائه السجناء عن عالم غير عالمهم. يرى السجناء ظله على الحائط مثل ما يحدث كل يوم، ولا يفهمون ما يقول، بالنسبة إليهم عالمهم هو الحقيقة.
يمكننا أن نتخيل أهل الكهف كمشاهدي أفلام، مع فارق أن مشاهدي الأفلام ذهبوا للمشاهدة بإرادتهم. هم يذهبون إلى السينما لمشاهدة أفلامٍ جيدة كانت أم سيئة لكنها تلتزم بقواعد السينما والتصوير. لكن بعد عام 1995، كانت الدوغما هي الشخص الهارب من الكهف، وبفضلها يرى الناس عالمًا غير الذي اعتادوا عليه، فالكاميرا تهتز، والتصوير يبدو حقيقيًا بطريقة لم يعتدها الوعي في أثناء تلقيه لفيلم، وليست هناك مؤثرات بصرية. أمّا المشاعر التي يستقبلونها من الفيلم مثل الخوف، الحزن، القلق، فتكون مركّزة وكثيفة على غير العادة.
في حواره مع مجلة إندي واير، سُئل توماس فينتربرغ: «عندما جلستم لكتابة القواعد العشرة لقسم العفة، كيف قررتم ذلك؟ وكيف كانت النقاشات حولها؟ وهل كان هناك قواعد لم تُضمن إلى القسم؟». فأجاب ضاحكًا: «لقد كان الأمر أتفه من ذلك بكثير، جلست أنا وتراير، واستغرقنا نصف ساعة من المرح والضحكات في كتابة القواعد، سألنا أنفسنا ماذا نفعل عادة عندما نقوم بصناعة فيلم؟ وأيًا كانت الإجابة، كنا نمنعها. كان الأمر بهذه السهولة».
قد يكون الفيلم الأقوى تأثيرًا بين أفلام الدوغما هو فيلم «Dancer In The Dark» للمخرج لارس فون تراير، 2000. وقد يتركك الفيلم ممزقًا وحائرًا في نقطة محايدة بين كرهه وحبه. تلعب دور البطولة في الفيلم المغنية الآيسلندية بيورك. ويحمل الفيلم الخلطة السحرية لتراير: الشعور بالقرف والغثيان والسعادة والحزن والتعاطف الشديد مع الشخصيات، إذ يجمع بين عفوية الكاميرا والميلودراما المفجعة.
مثال نموذجي آخر بين أفلام الدوغما هو فيلم «Festen» لتوماس فينتربرغ، 1998. هنا يقدم فينتربرغ دراما عائلية من الطراز الرفيع، حيث لا يوجد عنف أو لحظات توتر، ولا مشاهد جنسية أو جدالات عائلية. في الحقيقة، يمكن مشاهدة الفيلم مع عائلتك، ربما يجعل كل فرد يرى تأثير تصرفاته على العائلة، أو يجعل أحدهم يتسامح مع الضغط العائلي عليه. لكن بالطبع، يمتص الفيلم من المشاهدين أكبر قدر ممكن من الحزن والغضب والخوف، بل ويكون المشاهد مشاركًا للشخصيات في حياتها.
في يونيو 2002، كان عدد أفلام الدوغما 31 فيلمًا، حينها أعلن مؤسسو الدوغما على الموقع الرسمي للحركة، تخليهم عنها تحت عنوان «العودة إلى الأناركية البدائية»، حيث كان من ضمن قواعد «مانيفستو العفة» ألا تنتمي الأفلام إلى أية فئة، لكن بعد انتشار الموجة وتأثر صناعة السينما بها، أصبحت الموجة نفسها فئة، وأصبحت الأفلام تدرج تحتها، بذلك أصبحت الموجة نفسها تنافي قواعدها، وذلك كان السبب الذي أعلنه لارس فون تراير عندما قرر وقف نشاط الموجة.
امتدادات الحركة
وصل تأثير الدوغما لأماكن مختلفة من العالم. في قائمة الأفلام التي تنتمي إلى فئة دوغما 95 والتي اشترطت القائمة أن تكون قد أنتجت بين العامين 1995 و2005، نجد الفيلم الكوري «Interview» الذي أنتج عام 2000. ولكن روح الموجة موجودة في أفلام كورية أخرى مثل «The Charming Girl» و«Secret Sunshine».
وتأثرًا بدوغما 95، خرجت الحركة الأدبية الإنجليزية «التطهيريون الجدد» على يد نيكولاس بلينكو ومات ثورن. وفي عام 2002، ظهرت في الولايات المتحدة موجة صغيرة من السينما المستقلة متأثرة بدوغما 95 تسمى «مامبلكور» تعتمد على التمثيل التلقائي والحوارات الارتجالية، وتنتج بميزانيات صغيرة. كما تتسم الحركة بتفوق الحوار على القصة والتركيز على العلاقات الإنسانية للأشخاص بين 20 و30 سنة. تأثر بالحركة مخرجون مثل أندرو بوجالسكي، وجريتا جيروج، وآرون كاتز، وجاي دوبلاس، ومارك دوبلاس، لكن في كثير من الحالات، رفض المخرجون اعتماد المصطلح، رغم اتباعهم لسمات الحركة.
أمّا جمهور السينما، فقد تعامل في البدء مع دوغما 95 على أنها عالم غريب، لكن مع الوقت وبعد عدة مقابلات مع مؤسسي الحركة وإيضاح المغزى من وراء تلك الثورة، بدأت أفلام الموجة تحظى بقبول أوسع، حتى أن فيلم «Dancer in the dark» فاز بجائزة الجمهور في مهرجان الفيلم الأوروبي عام 2000، وأفضل فيلم أوروبي في مهرجان غويا. كما حظيت أفلام الدوغما بترحيب كثير من النقاد، فنجح فيلم «Breaking the waves» في حصد جائزة النقاد في مهرجان الفيلم الأوروبي عام 1996. وفي مهرجان كان 1998، ترشح فيلم «Celebration» لتوماس فينتربرغ لجائزة الحكام والسعفة الذهبية، وفاز بجائزة الحكام.
ما زالت الأفلام المتأثرة بدوغما 95 تخرج حتى اليوم. ففيلم «The House That Jack Built» لتراير، 2018، لا ينتمي زمنيًا لأفلام الدوغما، إلّا أن روح الموجة تهيم في مشاهده. إذ يرسم تراير شخصية متكاملة للسايكوباث، ويبين لنا مسار تطور الشخصية منذ طفولته، منذ كان يستمتع بتعذيب الحيوانات الضعيفة، وكيف أصبح مع الوقت مهووسًا بذاته وبذكائه، يتفاخر بذائقته الفنية النخبوية وصورته عن العالم، ويحتقر النساء. قاتل متسلسل ليست لديه أسباب لقتل ضحاياه سوى المتعة.
لكن هذا الفيلم وغيره من الأفلام المتأثرة بالموجة لا تنتمي لها بشكل رسمي، حتى وإن كانت مخرجوها من مؤسسي دوغما 95. فبمجرّد إعلانهم إنهاء الحركة، أعلن المؤسسون بذلك هجرها، ولم يصرّح أيٌ منهم عن انتماء أيٍ من أفلامه بعد 2002 لتلك الموجة. هم أسسوها وهم قتلوها.
موقع حبر