تحت مجهر الخوف/ فاطمة العيساوي
قُدّم الحكم القاسي على الصحافي المغربي توفيق بوعشرين، بالسجن 12 عاماً مع النفاذ، بتهم التحرّش والاغتصاب والاتجار بالبشر، كأنه واحدٌ من فصول حركة “مي تو” (أنا أيضاً) النسوية التي نادت بمحاسبة مرتكبي أشكال التحرّش في مجال العمل. صورة علاقات الجنس المزعومة في مكان العمل مقزّزة بالضرورة، إلا أن التفصيل المهم في القضية أن الصحافي معارض، وقد يكون الصوت الأبرز في الصمت المسيطر على النقاش العام في بلاده. تفصيل آخر لا يقل أهميةً، هو أن الصحافيات المدّعيات تلاحقهن أسئلة عن ظروف الادعاء، دفعت غالبيتهن العظمى إلى الاختباء في الصمت، وبعضهن إلى ترك المهنة. هل كان الصحافي هذا “الوحش البشري” في بيئةٍ من النعاج المستسلمات لجبروته؟ الجواب أننا لا نعرف، ولن نعرف، إذا ما غابت شروط المحاكمة العادلة، أو بعبارات أدق، إذا كانت الإجراءات مشكوكاً بها، ويصعب تصنيفها في خانة العدالة.
اعتبرت اللجنة الأممية التابعة لمجلس حقوق الإنسان، المكلفة النظر في التوقيف الاعتباطي، اعتقال بوعشرين في قضية التحرّش المزعوم بزميلات في مكان العمل توقيفاً اعتباطياً، وطالبت المغرب بالإفراج عنه وتعويضه. وقالت اللجنة إن الحكم ضده لم يستند إلى أدلة، وإن الشهود تعرّضوا للضغط. وكانت التهم وجهت للصحافي استناداً إلى أشرطة فيديو، صودرت من مكتبه، تظهر علاقاتٍ جنسيةً في المكتب، إلا أن دفاعه قال إن الأشرطة مفبركة، وإنها تظهر، في كل الأحوال، علاقاتٍ توافقية لا اغتصاباً. هل تقدّمت زميلات الصحافي بالشكاوى ضده من تلقاء أنفسهن، ومن دون أي ضغوط، وفي التوقيت ذاته؟ لا يمكن الجزم سلباً أو إيجاباً. ما كشفته الوقائع حتى الآن، أن أربع صحافيات قدّمهن الاتهام ضحايا نفين أي علاقة لهن بالموضوع، وحكم على صحافية أخرى بالسجن ستة أشهر، بعدما اتهمت الشرطة بتزييف شهادتها في القضية.
لا يمكن توصيف وقوع علاقات جنسية في مكان العمل إلا بأنها ظاهرة غير مهنية، ولو كانت العلاقات توافقية، إلا أن المحاكمة، كما يتضح من التفاصيل المتاحة، تدور في ظروف غير عادية. الأخطر أنها أعادت هاجس استعمال الحياة الخاصة مادةً للتشهير في المجال العام. هل الخطأ المزعوم في المجال الخاص حصل أم لا مسألة غير ذات أهمية. سقط الخط الفاصل بين الحياتين، الخاصة والعامة، وبات العام في الخاص والخاص في العام. الأخ الأكبر في كل مكان، وقد يلاحقك في كل تفاصيل حياتك العامة، وقبلها الخاصة. الفضيحة مادّة نائمة في الأدراج، في انتظار الوقت المناسب لإخراجها. الفضيحة مرعبة، وأثرها يفوق كل الاتهامات الأخرى، ذات الطابع المهني أو الأمني، إذ إنها تسلب المعارض مشروعية الحق في الرأي الآخر.
نشر الحكم المشدّد أجواءً من الخوف في أوساط الصحافيين، الذين لا يزالون يصنفون أنفسهم “ناقدين”. يُخفي هؤلاء خوفهم بالعتب على الصحافي “المتهور”: عندما تُعارض نظاماً قوياً لا بد أن تكون فوق الشبهات، أي مثالي السيرة، كما يكرّر هؤلاء، وكأنهم لا يأخذون على الصحافي ارتكابه المزعوم للتحرّش، بل يطلبون منه أن يكون أكثر حرصاً. ثم هل على الصحافي أن يكون مثالاً لحسن الأخلاق؟ يتساءل هؤلاء في خوفهم المقيم من تحوّل حياتهم الخاصة مادةً جديدة للتشهير. الناشطون والصحافيون الملاحقون لا يُحاسبون على آرائهم، أو على ممارساتهم المهنية، بل على شوائب أخلاقية مزعومة، تجعل منهم كائنات خارجة عن مجتمعاتها، معزولة، ومسلوبة القدرة على التأثير. لا تُقال الأمور علناً، بل تُفهم بالإشارة. عليك أن تفهم لغة الإشارة، وتتصرف وفقها، وإلا تكُن قد أسأت تقدير المزاج العام، وعليك إذن أن تدفع الثمن.
أدت محاكمة بوعشرين، مذنباً أو بريئاً، المطلوب منها، إلى نشر أجواء من الرعب بين الصحافيين والناشطين. ماذا يعني أن تدخل السجن، وماذا يعني أن تدخل في قضية أخلاقية تضعك في مصاف المجرمين، وليس بناءً على ممارساتك المهنية؟ يروي لي ناشطٌ شابّ أنه يخاف عقوبة السجن، التي غالباً ما تُفرض بمقتضى قانون الجنايات، أو قانون مكافحة الإرهاب، ويقول إنه يحاول أن يتخيّل ما سوف تكون عليه حياته خلف القضبان، كي يعتادها في حال أصبحت واقعاً، إلا أن الرعب الحقيقي هو في تخيّل السيناريوهات المبتكرة والعديدة التي قد تقود إلى إمكانية واقع كهذا، والضرر الاجتماعي القاسي المترتّب عنها.
أدانت منظمة العفو الدولية الحكم ضد توفيق بوعشرين، معتبرة أن الصحافي “يدفع ثمناً غالياً مقابل حقه للتعبير السلمي عن الآراء الناقدة”. الحياة الخاصة تحت الرقابة. احذر التهوّر أو حتى شبهته. لربما ثمن التعبير الناقد السجن الأوسع خارج القضبان في رحاب الخوف.
العربي الجديد