أساطير الشمال: لماذا يحلم الجميع بإسكندنافيا؟/ محمد سامي الكيال
اشتهرت الدول الإسكندنافية دوماً بوصفها موطناً للسرد الميثولوجي الجذاب، الذي استثمرته مؤسسات إنتاج الثقافة الشعبية في كثير من دول العالم، فبات الجميع مطلعين على أساطير الفايكنغ وآلهتم وجنتهم المتخيلة. إلا أن لـ«أساطير الشمال» انعكاسات أكثر أهمية على الثقافة السياسية في العالم، فالصراع حول تحليل التجرية السياسة والاجتماعية للدول الإسكندنافية، يشغل مكانة شديدة الأهمية في الجدل بين اليمين و«اليسار» على الصعيد العالمي، خاصة في الولايات المتحدة.
من أهم عوامل هذا الجدل الخرافات التي حيكت عن المفهوم الإسكندنافي لـ«الديمقراطية الاجتماعية»، وهو مفهوم قد يبدو غريباً في أمريكا والعالم العربي، ولكنه مألوف بشدة في دول مثل ألمانيا وفرنسا، التي عاشت بدورها نماذج شبيهة، وعرفت مشاكلها ومآلاتها. فما الذي يمكن للديمقراطية الاجتماعية أن تقوله في عصرنا؟ وهل يمكن أن تقدم برنامجاً سياسيًا واجتماعياً صالحاً للتطبيق؟
النرويج لم توجد يوماً
في مقالة شهيرة عن أزمة اللاجئين، يؤكد المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك، على أن سيل اللاجئين، القادم من الدول المنهارة، لا يبحث فقط عن الحد الأدنى من الأمان والرعاية، بل يرى أن من حقه الوصول إلى الدول التي تمثل حلمه في الرفاه، وعلى رأسها الدول الإسكندنافية، إلا أن اللاجئين سيدركون، عاجلاً أم آجلاً، أن أوروبا ليست الجنة، فالفقر وعدم المساواة والعبودية الجديدة تنخرها من الداخل، و«لا توجد نرويج حتى في النرويج».
دول الشمال تخلّت عن عناصر أساسية في ديمقراطتيها الاجتماعية، فالسويد مثلا رائدة عالمياً على مستوى خصخصة الصناديق التقاعدية والتأمين الصحي، وقد اكتشف آلاف من المهاجرين، بعد سنوات طويلة من العمل، أن كدّهم لن يضمن لهم معاشات تقاعدية تؤمن لهم الحياة الكريمة في شيخوختهم. التفاوت في توزيع الثروة يزداد في كل الدول الإسكندنافية، وحقوق العمل تآكلت بشدة مقارنة بالعقود السابقة. باختصار، هذه الدول تتبع سياسات نيوليبرالية، ليست بحدة ما هو سائد في بريطانيا وأمريكا مثلاً، ولكنها بالتأكيد ليست جنة «الاشتراكية»، كما يظن اليساريون الجدد. ربما كان هذا ما يعنيه جيجيك بحديثه عن إن النرويج لم تعد موجودة. ولكن هل كانت النرويج موجودة أصلاً في يوم من الأيام؟
انهيار الديمقراطية الاجتماعية لم يحدث فقط بسبب السياسات الطبقية للنيوليبراليين، فهذه السياسات لم تكن ستنجح لولا الأزمة العميقة التي شهدها نموذج دولة الرفاه في السبعينيات، وهي الأزمة التي تُعرف في التاريخ الاقتصادي باسم «أزمة الركود التضخمي»، التي أعقبت سنوات «الرفاه»، الناتج عن السياسات الكينزية لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. اتسمت هذه الفترة بالتفاوض الجماعي بين الحكومة والنقابات وأرباب العمل بوصفه أساساً للسياسات العامة، مع الالتزام برفع الأجور والتأمين الاجتماعي الشامل، الأمر الذي كان من المفترض أن يُنتج نمواً اقتصادياً مستداماً، لأن ارتفاع مستوى معيشة العاملين، وتحفيز الدولة للنمو، سيؤدي لتلافي مشكلة «انخفاض الطلب العام»، التي تؤدي عادة للركود الاقتصادي، بحسب الاقتصادي جون مينارد كينز.
إلا أن هذه الاجراءات أدت فعلياً لوضع غير مسبوق، وهو تلازم حالتين من المفترض أنهما متعاكستان، حسب المعرفة الاقتصادية آنذاك، وهما التضخم والركود، فعلى الرغم من ارتفاع نسب التضخم، الذي يرافق عادة النمو الاقتصادي وتحسن الأجور، إلا أن الاقتصاد كان، للمفارقة، راكداً بشدة، والاستثمارات ضعيفة، ونسب البطالة في ازدياد. وبما أن الأسعار كانت في ارتفاع دائم، طالب العمال بأجور أعلى، ونفذوا إضرابات غير مسبوقة في عقد الستينيات، إلا أن زيادة الأجور، مع الركود القائم، كانت ستؤدي إلى انهيار كثير من المشاريع وهرب رأس المال للخارج.
بالنسبة للاقتصاديين النيوليبراليين، كان ذلك نتيجة لتدخل الدولة غير الطبيعي في الأسواق الحرة، عن طريق رفع الضرائب وطباعة العملة لتمويل الإنفاق الاجتماعي، فضلاً عن سلطة النقابات التي تحدّ بشدة من خيارات رؤوس الأموال، لذلك طُرحت الخصخصة والاعفاءات الضريبية والهجوم على حقوق العمل بوصفها الحل الوحيد، الأمر الذي أقنع كثيرين، بمن فيهم بعض السياسيين الاشتراكيين والمناضلين النقابيين. كانت أزمة الركود التضخمي اختباراً عملياً، بيّن مواطن الضعف في الأفكار الكينزية، وعموماً لم تكن إسكندنافيا، في سنوات الديمقراطية الاجتماعية، هي إسكندنافيا التي نظن أنها كانت موجودة. ولكن هل كانت النيوليبرالية هي الحل الوحيد حقاً؟
خطة رين- مايدنر
أزمات الرأسمالية سببها التوسع الرأسمالي نفسه، وليس التفاوت في توزيع الثروة أو ضعف الطلب، هذا ما أدركه، بعد تجارب عديدة، الاقتصادي الألماني الأصل، الهارب من الاضطهاد النازي لليهود، رودلف مايدنر، وشريكه السويدي غوستا رين. يُنسب لهذين الاقتصاديين عادة وضع أسس «النموذج السويدي» في الاقتصاد، من خلال عملهما خبيرين في الاتحاد النقابي السويدي منذ الخمسينيات، وابتكارهما لـ«سياسة سوق العمل النشيطة» و«الأجور التضامنية». لاحظ هذان الاقتصاديان أن العمال في الشركات والمصانع الرابحة ينالون دوماً أجوراً أعلى، في حين يقبل العمال في المؤسسات الخاسرة بأجور أقل، كي لا يفلس أرباب عملهم ويوقفوا استثماراتهم. وكأن الشركات الفاشلة تُكافئ بتقليل كتلة الأجور فيها، في حين تُعاقب الشركات الناجحة بزيادة الأجور.
السياسة التي طبقاها قامت على فرض معدل وسطي للأجور للأعمال المتساوية، سواء كانت الشركة رابحة أو خاسرة، فإذا لم تستطع الشركات الخاسرة دفع معدل الأجور هذا فلا داعي لإنقاذها، أما عمالها السابقون فيمكن استيعابهم في برامج إعادة التأهيل، تمهيداً لإيجاد عمل جديد لهم في الشركات الرابحة، التي ينال عمالها أجوراً أقل نسبياً مما يمكن أن يحصلوا عليه نظراً لنجاح شركاتهم. ويذهب الفرق لتمويل فترات بطالة العمال الأضعف. هكذا يموّل العمال بعضهم بعضا بشكل تضامني، للحفاظ على نسبة أجر كريم للجميع، تحت ظل شبكة اجتماعية شديدة المتانة ترعاها الدولة. في حين ستحقق الشركات الناجحة مزيداً من الأرباح والتوسع والازدهار، لأنها تدفع أقل من الأجر المتوقع لعمالها، أي أنها تزيد استغلال قسم من العمال لمصلحة العمال جميعهم. هذا الحل لمشكلة الركود التضخمي، ساد تدريجياً في السويد ابتداءً من الخمسينيات، واستطاع تطوير منظورات الكينزية بشكل كبير، إلا أنه أدى لمشاكل جديدة، منها احتجاجات العمال أنفسهم، الذين أحسوا بالظلم بسبب الانخفاض المصطنع لأجورهم، الذي لا يذهب بأغلبه لدعم بقية العمال، بل لمصلحة المستثمرين والمساهمين في الشركات. في مواجهة هذا الخلل طرح رين ومايدنر خطة جديدة في السبعينيات، تجاوزت الكينزية نحو الماركسية، وهي إجبار الشركات على تحويل نسبة 20٪ بشكل مبدئي من أسهمها لمصلحة العمال، توضع في الصناديق النقابية، ويتم استثمارها في الشركات الرابحة نفسها، أي اقترحا نقلاً تدريجياً للملكية ووسائل الإنتاج لحساب العمال.
اليسار الكينزي الجديد
كان التوسع الرأسمالي المتأزم دوماً يتطلب مزيداً من استغلال العمال، عن طريق تخفيض الأجور والخصخصة، وهذا هو جوهر أزمة السبعينيات، وأساس الحل النيوليبرالي المقترح لها. أما خطة رين- مايدنر فقدمت بديلاً كفر صراحةً بالملكية الخاصة، لحساب توسع من طراز آخر، يؤمّن الازدهار بفضل مبدأ الأجور التضامنية، وملكية العمال لوسائل إنتاجهم، وعدم مكافأة الرأسماليين الفاشلين بدعمهم مادياً (كما فعلت الحكومات الغربية في ما بعد، من خلال «حزم الإنقاذ» المقدمة للبنوك الكبرى، بعد الأزمة المالية عام 2008). إلا أن التطورات العالمية آنذاك كانت لمصلحة النيوليبرالية ومشروعها السياسي، الأمر الذي مكّن الرأسماليين من الانتصار بالمعركة الطبقية في السويد، فلم تُنفذ توصيات رين ومايدنر، الأمر الذي حرمنا من معرفة مدى إمكانية نجاح الخطة الأذكى تاريخياً لتجاوز الرأسمالية. اليوم يبدو أن اليسار الغربي قد عاد خطوات إلى الوراء، فهو غارق في الخطط الكينزية التقليدية التي تعود للثلاثينيات، أي تحفيز النمو عن طريق رفع الأجور والإنفاق العام، فضلاً عن رفع الضرائب، وإدارة الدولة لمشاريع عبثية لتأمين فرص العمل، بالإضافة لأوهام ثقافية عن «إسكندنافيا»، ناتجة عن الجهل أساساً. ربما كان أساس المشكلة يكمن في خط فكري لنقد الرأسمالية، يبدأ من السياسي الاشتراكي الألماني إدوارد بيرنشتاين، الذي انتقد نظرية ماركس للقيمة لأنها «تجريدية»، لحساب ملاحظات «تجريبية» سطحية عن التفاوت في توزيع الثروة؛ وصولاً للكاتب الأكثر مبيعاً، المفضل لدى «اليساريين» المعاصرين، توماس بيكيتي، الذي يعيد تعريف أزمة الرأسمالية بوصفها أزمة «اختلال توزيع». ليست المشكلة في توزيع ثروة «ظالم»، بل في استغلال العمل الحي الذي يؤدي إلى تراكم رأسمال ثابت، تقلّ فرص نموه وازدهاره دوماً، مادام غير قادر على استغلال مزيد من العمل الحي.
على كل حال تبقى «أساطير الشمال» قادرة على منح الإلهام، حتى لو نسيها الشماليون أنفسهم، ربما لا تكون استعادة خطة رين- مايدنر ممكنة في الظرف الحالي، لكنها تساعدنا على فهم عالمنا المعاصر، بما يتجاوز الابتذال الثقافي والسياسي لـ«اليسار الجديد».
٭ كاتب من سوريا
القدس العربي