عن أشباحِ الطاغيّة التي في رأسي/ عمار المأمون
أظنّ، -وهذا كلام تقليديّ- أنه لا يكفي الخروج من جغرافيات سيادة الطاغية ليتلاشى أثره، الهيمنة الرمزيّة التي كان يمارسها على “الوعي” محفورةٌ عميقاً داخل اللحم، وتبدو “طبيعية” في الكثير من الأحيان، كأن نلفظ اسمه بصوت منخفض دون أن ندرك ذلك.
أعتقد أن صورة العالم في رأسي وكيفية “عمله” ما زالت متأثرة بالطاغيّة، الذي فرض تمارين أكروباتيّة ووهمية ضد “العدو”، وعلّمـ(نا) طاعته في مختلف السياقات، وحتى الآن، بعد أربع سنوات في باريس، وتلاشي أي قيد على ما أكتبه أو ما أفعله، ما زال الطاغية شبحاً يُلاحق بعض الأحكام التي أطلقها على “العالم”، ويهدد الأفكار التي أعمل ضمنها وأحاول الكتابة عنها.
انتبهت أوّل مرة إلى هذا الشبح حين أعدت قراءة ما كتبته قبل عام، ولاحظت كيفية تفسيري بعض الظواهر الثقافيّة التي أكتب عنها، هي تنبع من مكان واحد، وكأن التكوينات الرمزيّة التي أتنقل بينها، لديها ذات المنشأ، وكأن “العالم” عارضٌ على عطب جوهريّ ما يتم تجاهله دوماً، وإن لم يكن هناك عيبٌ رئيسيّ، فهناك فايروس متحوّل/طاغيّة، تختلف أعراضه بحسب من يعديه، هذه الأعراض تتجلى في هذا العالم بأشكال مختلفة، ولا بدّ دوماً من الإشارة لها.
الأمر نفسه حصل حين فكرت بالحضور الكلي والدائم للطاغيّة سواء كان ذلك رمزياً أو مادياً، برأيي، سوريا، ودمشق خصوصاً التي عشت فيها، بدأت تتحول منذ غادرتها إلى تكوين مفاهيمي ومتخيّل في الكثير من الأحيان، وما لاحظته أنّي أرى كل ما فيها نتاج الطاعة والانصياع، وهذا مرتبط بمفهوم في رأسي عن هيمنة الطاغيّة، وتدخله العمدي والقصديّ في كلّ تفاصيل الحياة، سواء كان الأمر يتعلق بعمود إنارة مكسور، أو مجرزة في مدينة ما.
هذه الإحالة للقدرة الكليّة للطاغيّة أثرت بإدراكي للمدينة، بوصفها شديدة التجانس، ومصممة ضد سكانها، فتكوينها (في رأسي) حوّل كل ما فيها إلى فعل مدروس ونابع عن الانصياع لإرادة الطاغيّة “الفعّالة” دوماً.
الأمر عينه واجهته مع المعاملات الرسميّة في فرنسا، هناك نوع من البارانويا لديّ أن كل القرارات بيد جهة واحدة، تعلم كل شيء عني، وتسجّل كل ما أقوم به، وكأن هناك اهتماماً شخصياً بروتين حياتي اليوميّ، وأي “خطأ” مُسجّل يمكن العودة له لاحقاً، بالطبع هناك حقيقة في ذلك، وخصوصاً في ظل الـ”chilling effect”” الذي سببه تقنيات المراقبة الحديثة، التي تعوّق الاختفاء، لا فقط الرقمي بل الماديّ، لكن هناك المتخيّل الذي أمتلكه عن الحضور المهيمن لأجهزة الطاغيّة، بل حتى أني طورت نظريّة تقول إن هناك علاقات مخابراتيّة بين جميع أجهزة الأمن في سوريا ومصلحة الضرائب والتأمين الصحي والشؤون الداخليّة في فرنسا، فكل ما اختبرته في سوريا من تفاصيل يوميّة يؤخذ بعين الاعتبار هنا، وهذا ما جعل نظرتي للقانون لا إنسانيّة، كنت أظن، أنه موجه ضدّي، لا تسامح فيه، مصوغ بطريقة لغويّة وماديّة للوقوف بوجهي والرمي بي في الشارع.
الأثر في العالم الذي كنا كلنا محرومين منه في سوريا، يتضح في حياتي اليوميّة هنا، هناك لا جديّة في التعامل مع الآخرين، وعود فارغة في الكثير من الأحيان، اختلق مواعيد وهمية تتلاشى بمجرد انتهاء حديثي مع الآخر، فكما الطاغيّة الذي لا يفي بوعوده، يبدو أن هناك نزعة لعدم الإيفاء في الوعود يتحرك ضمن عقلي، وخصوصاً تلك الوعود المفترض أن تتحقق على المدى الطويل، كل ما ليس له تأثير آني وفوري أتعامل معه بلا جديّة، إذ تُشابه الكثير من “وعودي” خطاباً في مجلس الشعب، يتلاشى أثره على العالم الماديّ حين الانتهاء من نطقه، وكأن هناك “واحداً” قادراً على ترك أثر، وتغيير العالم، قادراً حتى على مصادرة سلطتيّ على نفسي في أي لحظة.
الكثير من علاقاتي مع الآخرين مهددة بالاختفاء والتلاشي، ولو كان هذا غير واضح أو غير مصرّح به، فأنا أدافع دوماً عن حقي بأن أختفي، أن “أٌفقدَ” دون أن يكون لي أثر، كحكاية عابرة.
لا أدري إن كان للطاغية أثر واضح في ذلك، لكن طبقات الأداء والتمثيل في الحياة اليوميّة التي تمرّنت عليها في سوريا ما زال بعضها فعّالاً، وكأن “حقيقة ” أناي غير موجودة، وكل ما هو “مرئي” الآن مُهدد بالتلاشي دون أي سبب، كاغتيال أو اعتقال عشوائي.
الفساد العميق في سوريا والمتسلل لحياتنا اليوميّة من الصعب ممارسته في فرنسا، على الأقل ليس على المستوى الذي أتعامل فيه مع السلطة ومع الآخرين، لكن هناك نوعاً من عدم الثقة، وخصوصاً في مجال العمل، هناك شبح يتحرك في رأسي يتهم الجميع بالتقصير وعدم القدرة على إنجاز ما هو منوط بهم، فلابدّ أن هناك فاسداً بينهم، ولابدّ أن هناك من لا يتقن وظيفته، وهذا ينعكس على عدم قدرتي على العمل مع فريق، بل اختياري لأعمال أقوم أنا فيها بـ”كل” المهمات، وما إن أنتهي منها، حتى أفقد سلطتي عليها، هذه اللا ثقة تنعكس في “مُنتجي/ نصوصي” نفسها المهددة بالتلاشيّ، والتي أحياناً لا تكتمل -من وجهة نظري على الأقل-، وهذا ما يمكن ملاحظته في بعض الجمل التي لا أنهيها، وتنقطع فجأة.
هناك ملاحظة أخرى، اللغة المشفرة المستخدمة في سوريا، تلك الناتجة عن الطاعة والخوف، تجعل كل ما يقال أمامي ذا معنيْن، كل شيء لا يعني فقط ما يعنيه، والأهم، أن لدي إيماناً بأن هناك سوء فهم لغوي دائم بيني وبين من يسمعني أو يقرأني، هناك التباس ما، وحاجة لإعادة الشرح وتوضيح ما هو “ينطق/يكتب” حتى لو كان شديد الوضوح، سوء الفهم هذا أظن أن سببه التربية القديمة، تلك التي نتعلم فيها كيف نجعل كلامنا حمّال أوجه، هذا الكلام، صوت فقط، إن كتب اكتشفنا كمية التشفير والشطب فيه، وكأن هناك لغة خفيّة، مختلفة عن تلك “الظاهرة” المنمّقة التي لا تثير المشاكل، ولا بد من إدراك تلك الكتل اللغويّة الخفيّة لشرح كيف يُفسّر العالم ويُدرك.
لكن، ربما، علّمنـ(نا)ـي الطاغيّة، أن ألومه على كلّ شيء، وأن أجلد ذاتيّ، وأكتب خطباً عدميّة عن أثره العميق، هو نزع إنسانيتي عنّي، وكأني مُنتج، مضبوط، مصنّع مسبقاً، منعنيّ من تقدير أثريّ لا فقط على العالم -إن وجد- بل على ذاتي أيضاً، لكن كذلك، وعلى سبيل المزاح، يمكن أن تكون الوعود التي أخلفها وكل هذا “المحنّ العدميّ”، نابع من سينيكيّة عميقة، لا تأخذ حتى أثر الطاغية على محمل الجدّ، بل تراه مجرد فكرة صالحة للكتابة، لعبةٌ أدّعي إجادة قواعدها لأحصّن ما سأكتب أو ما كتبت مسبقاً.
رصيف 22