مفهوم الدولة الإسلامية، أزمة الأسس وحتمية الحداثة/ امحمد جبرون
امحمد جبرون و«مفهوم الدولة الإسلامية»: أزمة الأسس وحتميّة الحداثة/ أحمد جاسم الحسين
يعدّ الحديث عن الدولة الإسلامية في هذه المرحلة من أسئلة اللحظة الراهنة الصعبة، التي أخذت زخماً كبيراً بعد الثورات العربية، ذلك أن ميوعة المفهوم وتعدد تشابكاته ومداعبته لرغائب كثيرة؛ تجعل الكتابة فيه ذات أبعاد متضاربة المرامي.
يحاول هذا الكتاب، «مفهوم الدولة الإسلامية/ أزمة الأسس وحتمية الحداثة»، لمؤلفه امحمد جبرون، الحديث عن أسس ما يدعى بـ «الدولة الإسلامية» ليس انطلاقاً من تجارب معاصرة في دول أغلبية سكانها من المسلمين أو تعد نفسها منفذة لأسس الدولة الإسلامية، بل من خلال التأسيس الفكري لمفهوم الدولة الإسلامية تاريخياً، الذي بات يثير الريبة والتشكيك بعد تجربة «داعش» ومفاهيمها للدولة الإسلامية.
ويحاول الكتاب الانطلاق من الأسئلة الأولى ليجد لبحثه موطئ قدم منهجية وعلمية حيث يتساءل: ما هي المقومات الرئيسية للدولة الإسلامية؟ وما هي شروط ومصادر هذا الوصف؟ ليصل إلى السؤال المربك: ما هي حدود التقاطع بين الدولة الإسلامية والدولة الحديثة؟
يدرك الباحث مبكراً أن التوفيق بين رؤيتين لمفهوم الدولة، أمر فيه الكثير من الصعوبة، كما هو الحال عند وائل حلاق فيما سماه «الدولة المستحيلة»، لذلك يحسم خياراته مبكراً، واصفاً تلك الجهود بانحراف النظر، نظراً لـ»غلبة التصورات الصفاتية والشكلانية على مفهوم الدولة الإسلامية، ولا سيما لدى الإسلاميين، إذ ربطت الصفات بين إسلامية الدولة وتحقق مجموعة من الأوصاف، كالحاكمية وتطبيق الشريعة والشورى والإمامة، بينما ركزت الشكلانية على المظهر، واعتبرت أن الدولة الإسلامية هي تلك التي تحاكي الخلافة الراشدة شكلاً، وتتحلى بصفاتها».
يضع الكاتب جهده في إطار الجهد البحثي العربي الذي يروم حسم إشكالية الحداثة السياسية، في مواكبة جهد بناء الدولة المتعثرة، وتأسيس مشترك ثقافي بين الأطراف التي تتجاذب شرعية الحداثة السياسية في العالم العربي، وتحديداً بين من يدعوهم بـ»الإسلاميين والعلمانيين» مستنداً على ما مفاده أن سؤال «الإسلامية» ليس هو المشكلة الرئيسية بل المشكلة تكمن في محاولات الاجتهاد المعاصرة المتعثرة.
يستفيض الكاتب في البحث عن الأسس «الإلهية» للدولة، التي وردت في النصوص الدينية، ليستنتج أن المشكلة ليست فيها، بل في تطبيقها، وآليات الاجتهاد والتحديث، داعياً إلى المزج، دون تلفيق، بين المعطيات البشرية والإلهية، منبهاً إلى أن مفهوم الإسلام للدولة يركز على الأسس والاستراتيجيات، ويترك تفاصيل الحياة المتغيرة للناس في كل مرحلة من المراحل، ويسترسل الكاتب في تصوراته التي يبنيها على قراءات كثيرة في ما يدعى الكتب «الأمهات»، دون أن يجيب عن سؤال خطير: إذا كانت الأمور كما يصورها الكاتب فلماذا هذه التطبيقات المتعثرة؟ ومن يقنع تلك الجموع البشرية بتصوراته عن مفهوم الدولة الإسلامية الذي يفترضه؟ إلا إن كان ما يقدمه يدخل في إطار اجتهاد تحديد تصورات نظرية لدولة إسلامية «افتراضية» تنتظر أحداً ما، في عصر ما، أن يطبقها، أو أن الكاتب يريد الإشارة إلى أن تلك التطبيقات لمفهوم «الدولة الإسلامية» ليست الوجه الصحيح للتصور الإسلامي؟
يناقش المؤلف مقولاته التي يطرحها في المقدمة عبر أربعة فصول، حيث يتحدث في الفصل الأول عن الإسلام وأصول الحكم من خلال مناقشة الفكرة السياسية في القرآن، وكذلك في تجربة الرسول التاريخية، حيث يعرض عدداً من الأفهام للدولة، ومقاربات عدة تتناول الفهم الحرفي والفهم القرائي والفهم التفسيري، مشيراً إلى أن منهجيته في القراءة تعتمد على الفصل بين القرآن بوصفه نصاً مطلقاً فوق التاريخ، وفهم المسلمين له على مر العصور، معتمداً على تصور أن ذلك النص «خطاب ملائم وكفؤ ومعادل للإنسان في جميع الأزمنة والأمكنة»، لكنه يستدرك بالقول: إن أشكال الهتداء به تتغير تبعاً للزمان والمكان.
ويتوقف عند دولة الرسول التي كانت ـ كما يرى ـ تقوم على ثلاثة أسس هي: العدل والبيعة والمعروف، الذي يحدده بالقول: «لفظ المعروف مقارنة بغيره من الألفاظ منفتح دلالياً على معاني الدين والدنيا، فالمعروف ليس دينياً دائماً وحصرياً، بل يتسع كذلك لمعاني الدنيا ومعروفها مثل الخير الاقتصادي والاجتماعي». ليختم هذا الفصل بالحديث عن كون الدولة في المجال الإسلامي مقتضى تاريخي لا مقتضى ديني، وأنها هي من تحتاج إلى الدين وليس العكس.
ولا يتسع المجال في سياق هذه المقاربة لمناقشة المؤلف في الإشارة إلى تجربة الدول الأوربية وكون الدين حاجة فائضة عن متطلبات الدولة، بل يعد أمراً شخصياً، وتشير الإحصائيات إلى أن نحو نصف سكان كثير من هذه الدول «لا دينيين».
يخصص المؤلف الفصل الثاني للحديث عن دولة الراشدين وأرخنة الأصول، ليناقش تفاصيل تلك الجولة وشجونها تحت عناوين عدة، راصداً آليات الانتقال من سلطة القرآن إلى سلطة السلطان، وكيفية تكريس سلطة الأمة من خلال البيعة، ويتحدث عن مفهوم العدالة وكيف تعايش التاريخ مع الشريعة، ويرى أن الحرص على «المعروف» قد شهد قوة في الأصل وضعفاً في الإنجاز، مستعرضاً دور القبيلة في بعض الأحداث مثلما حدث في «حروب الردة»، مرجعاً تلك المشاكل إلى سببين رئيسيين. الأول: مقاومة الثقافة السياسية القبلية وإصرارها على العودة بعد أن غيبّتها النبوة، والثاني: الغياب شبه الكلي للسلطة القهرية على مستوى بنية الدولة وعمرانها السياسي، حيث اكتفى الخلفاء بالسلطة الأخلاقية في تدبير الشأن الداخلي. ويصف تلك المرحلة بأنها مرحلة تنزيل تاريخي للإسلام بعد أن كان نزيلاً دينياً في عهد الرسول، ويرى أن «كل بعد قاموا به عن ظاهر الشريعة وسنة الرسول كان من جهة أخرى تماهياً مع روح الإسلام ومقاصد شريعته».
وفي الفصل الثالث من هذا الكتاب يقف المؤلف على ما يدعوه بـ «دولة العصبية: الإسلام السياسي التاريخي» حيث يرصد الأسس الفكرية لمفهوم الدولة في المرحلتين العباسية والأموية والأندلسية، مشيراً إلى أنها تمثل رحلة بحث المجتمعات السياسية الإسلامية عن النموذج الملائم القادر على مواجهة التحديات، وتحمل الضغوط السياسية المختلفة من خلال إقرار نموذج دولة «العصبية»، الذي أحلّ، بعد مخاض عسير مغمس بالدم، شرعية العصبية بدلاً من شرعية الأمة، متحدثاً عن الظروف التاريخية والاجتماعية المواكبة لهذا الحدث العميق.
ويركن مؤلف الكتاب إلى أن ذلك التحول أبعدَ من كونه انحطاطاً أخلاقياً أو مؤامرة سياسية من طرف ضد طرف آخر، بل هو مقتضى تاريخي، شكل أفضل الحلول لمعضلة الدولة الإسلامية آنئذ. ويشير إلى أن دولة «الأمة» ذات قوة شرعية وأن أبرز ما واجه تحققها التاريخي هو خلو التجربة الإنسانية آنئذ من آليات سياسية تتيح للأمة التعبير عن إرادتها وممارسة سيادتها. أما دولة «العصبية» فنخرها تغولها في جسد الدولة، مما أدى إلى تلاشي شرعيتها وتآكل عصبيتها، ليتاح من جديد لعصبيات أخرى بالظهور وتجديد الدولة.
وفي ما يشبه محاولة تحديد الأسس النظرية التي يريد المؤلف الجهر بها، وتأكيدها، وتثبيت خصوصيتها يخصص الفصل الرابع للحديث عن الدولة الإسلامية/ أزمة الأسس وحتمية الحداثة، مستعيداً عنوان كتابه في هذا الفصل، كأن المؤلف كتب هذا الفصل أولاً في إطار بحث ما، حيث يحاول تحديد أسس هذه الدولة ومناقشتها، وكأن الفصول السابقة أقرب إلى الإطار التاريخي البحثي، في محاولة لشرح الأبعاد التاريخية لتصوراته والسياقات الناظمة لها مع أنه يتهجم في غير موضع على القراءة السياقية.
يناقش المؤلف في هذا الفصل عدداً من القضايا أبرزها: أسباب انتهاء مرحلة دولة العصبية، وآثار ذلك على أصول بنيان الدولة، إذ يرى أن ما أصابها يدل على اضطراب تاريخي، ناشئ من أسباب موضوعية، غير أن مساعي معالجته خرجت به عن المعنى التاريخي وجعلت منه أخلاقياً مما أوجد صراعاً بين مشروع الإصلاح ومبدأ الدولة. ويفصل الكاتب في تجربة الدولة المغربية مثالاً على بعض الأفكار التي يذهب إليها، راصداً التحول من العصبية إلى الجيش النظامي والإصلاح المالي والجبائي والتحول القانوني من الأمة والعصبية إلى الحالة الدستورية.
يتوقف المؤلف عند القراءة الكلاسيكية للدولة الإسلامية منذ الرسول إلى مراحل الاستعمار، وتكريس شرعية التغلب كما ترى تلك القراءة، ويرى أنها قراءة اختزالية ولا تاريخية للمنجز السياسي الإسلامي. ويقترح بديلاً عن هذه القراءة، التي تنحو بالفكر منحى اليأس والتشدد كما يرى، القراءة التاريخية التي يقدمها في هذا الكتاب، إذ إن الدولة الإسلامية كيان حي ومستمر في التاريخ الإسلامي، تكيّف مع متطلبات المراحل المختلفة، حفاظاً على المصالح الحيوية للدولة.
ويبني على ما سبق نتيجة مثيرة للجدل تتمثل في قوله: إن إسلامية الدولة ليست إشكالية مزمنة (وفقاً للقراءة الكلاسيكية) بل مشكلة حديثة ناشئة عن الأعطاب التي أحدثها الاستعمار في حركة الإصلاح، وأن مفهوم الدولة الإسلامية ليست مشروعاً إحيائياً أو استعادة لنموذج ماضوي بل «مشروع تخليقي للدولة».
ويرى الكاتب ختاماً في (يقين لا يغيب عن ثنايا كثيرة من هذا الكتاب، الذي تكثر فيه الأفكار المكررة كذلك) أن تلاشي كل من التيار الإسلامي والعلماني في الوطن العربي مسألة حتمية، وأن الحل يكمن في إعادة تعريف ذواتهم وصوغ رسالاتهم، بما يتفق مع المرحلة التاريخية الجديدة المتمثلة في مرحلة الثورات العربية وما بعدها.
امحمد جبرون: «مفهوم الدولة الإسلامية/ أزمة الأسس وحتمية الحداثة». المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت والدوحة 2015.
392 صفحة.
لتحميل الكتاب
امحمد جبرون: «مفهوم الدولة الإسلامية/ أزمة الأسس وحتمية الحداثة»
أحمد جاسم الحسين
صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت
كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية