الهوية سلاحاً للجريمة أو ما الذي يريده «الضحايا»؟/ محمد سامي الكيال
يثير نمط الإرهاب السائد حالياً كثيراً من ردود الفعل المثيرة للتأمل، فمع كل عملية يروح ضحيتها مدنيون، تظهر فوراً عشرات الأصوات التي تحاول تأصيل مظلمة القاتل أو المقتول تاريخياً: يحدث انفجار في بلجيكا، فنرى من ينشرون صور جثث ضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر. يسقط أطفال في عمل إرهابي في السويد، فنشهد من يذكّر بمذابح العثمانيين في البلقان وأوروبا الوسطى. يُقتل مصلون في نيوزيلندا أو كندا، فنرى مثقفين وإعلاميين يحاولون تأصيل الحدث في الهجوم الصليبي التاريخي على الإسلام. هذا التسابق على لعب دور الضحية لا يمكن رده فقط إلى التلذذ المعروف بشعور الاضطهاد، بل أصبح أساسياً في كثير من نواحي السياسة والمجتمع والتنظيم المؤسساتي في عصرنا.
ساد في ما مضى نموذج حقوقي لـ»الضحية»، يعرّفها بالفرد الذي تعرض بشكل مباشر للأذى، ويؤلمه عادةً تذكر ما لحق به من انتهاكات، فيسعى بالتالي لتجاوز ماضيه، ومواصلة حياته بشكل طبيعي قدر الإمكان. هذا النموذج يتراجع في أيامنا لمصلحة نموذج معاكس، وهو «الضحية» العصابية والمتذمرة والمتسلطة، بل حتى الإرهابية، التي تبنى روابط وهمية مع هوية ما، مضطهدة بجوهرها، ووجودها بأكمله متمحور حول مظلمتها التاريخية، فينبش من يدعون الانتماء إليها يومياتهم وماضيهم، بحثاً عن أدلة على معاناتهم الأزلية.
كلنا ضحايا
هذا النوع من صناعة الضحية ارتبط بسياسات «التمكين المؤسساتي»، المتلازمة مع خصخصة الحيز العام وتفتيته: المؤسسات السياسية والتعليمية والثقافية والإعلامية لم تعد مجالاً لتداول الأفكار، ولإدارة نقاش عام يجريه أفراد عاقلون ومتساوون، أو حتى مجالاً للصراع على الهيمنة السياسية، بين برامج وبدائل فعلية لأحزاب وقوى ذات أيديولوجيات متمايزة، بل أصبحت سوقاً للتنافس على المكاسب بين مختلف جماعات الهوية، التي تزايد على بعضها بعضا في عرض آلامها التاريخية. ولا تملك قولاً عمومياً تسعى لإيصاله للآخرين، بل لديها شيء (بالغ التفاهة على الأغلب) تقوله عن ذاتها. السؤال لا يدور هنا عن الطريقة التي يجب أن ندير به مجتمعنا، بل عن الامتيازات التي يجب أن ننالها تعويضاً لمعاناتنا، وشكل المحاصصة الهوياتية الضرورية لأجل التمكين القائم على التنوع والاختلاف. أما صياغة السياسات الاقتصادية والاجتماعية فتُترك للقوى فوق الوطنية، غير الملتزمة بأي شكل للسيادة الشعبية، مثل الشركات المتعددة الجنسية، والمنظمات الدولية والإقليمية غير المنتخبة. يصبح سهلاً في هذا الجو لأي فرد أن ينسب نفسه لمجموعة هوية مضطهدة، وما أكثرها في عصرنا. من الأمثلة الكوميدية على ذلك المرشحة الديمقراطية لمنصب الرئاسة الأمريكية اليزابيث وارن، التي تحاول نسب نفسها، وهي «المرأة البيضاء»، لقبائل السكان الأصليين في أمريكا.
هذا التراكب بين المستويين تحت الوطني (الهويات الثقافية والعرقية والجنسية) وفوق الوطني (المنظمات والشركات المتعددة الجنسية)، يؤدي لإلغاء السياسة والديمقراطية، بوصفهما منتجاً لحيز عام محدد ومحدود مكانياً، لا وجود لهما إلا من خلاله. هذا الحيز نشأ بداية على مستوى المدينة، كما في العصر الإغريقي، وتم تعميمه في العصر الحديث، بعد نضالات وثورات كثيرة، على مستوى الدولة الوطنية، التي قامت تاريخياً بعد انهيار الإمبراطوريات الكبرى، ذات الطموح العالمي والإقليمي. اليوم كما في الماضي، لا نجد في النموذج الإمبراطوري فوق الدولتي والمديني أي آلية للسيادة الشعبية، مع ملاحظة أن امبراطورية العولمة المعاصرة لا تستمد شرعيتها من الدين أو الحق الملكي، كما في امبراطوريات الماضي. إنها سيادة بلا شرعية، تؤثر على حياة البشر ومستقبلهم عن طريق مقولات غير ديمقراطية، مثل السوق والبيئة ومحاربة التطرف، وتوزع فتات المكاسب على الفئات ذات الامتياز، وفقاً لأسس هوياتية.
من الخطأ اعتبار الإرهاب اليميني، سواء كان إسلامياً أو أبيض، ردة فعل على هذه العالمية نحو مزيد من المحلية والانغلاق، بل العكس هو الصحيح، هؤلاء الإرهابيون يعون هويتهم ومظلمتهم ضمن سياق عالمي منفتح أيضاً، ويرون أنفسهم امتداداً لصراعات كونية امبراطورية. الإسلاميون لا يريدون الانغلاق على بلداتهم وقراهم، بل يريدون نصرة الإسلام في كل أرجاء العالم. والإرهابيون الغربيون لا يريدون استعادة الدولة الوطنية، بل يودون مواصلة مسيرة «الاسترداد» المسيحي في وجه التمدد الإسلامي. هكذا نرى استرالياً يعطي لنفسه الحق بقتل الناس في نيوزيلندا، كي يثأر لضحايا في السويد وفرنسا. إنها ممارسات معولمة بجوهرها، تحاول إسباغ الشرعية والمعنى المتعالي على المستوى فوق الوطني السائد، يقوم بها أفراد بنوا مظلمتهم التاريخية وفق الأسلوب الهوياتي الشائع، ولكنهم لم يقنعوا بـ»التمكين» المؤسساتي محدود الأفق، أو لم يجدوا لأنفسهم مكاناً فيه.
كلهم أعداؤنا
ينسب البعض تفتيت الحيز العام، ونزع السياسة والديمقراطية المذكور أعلاه، إلى الأيديولوجيا الليبرالية التي يرونها سائدة، وهذا قد يكون صحيحاً إذا فصلنا الليبرالية عن الديمقراطية، بعد أن كان تلازمهما أساساً للنزعة الجمهورية التي ربطت الحرية بالمساواة، وأضافت لهما أيضاً الإخاء أو التضامن. ليبرالية بدون ديمقراطية تجعل المجال العام عرضة لظاهرتين متداخلتين: الأولى هي نزع المساواة الشكلية بين البشر، بوصفهم «مواطني المدينة» المتساوين مبدئياً بانتمائهم إلى متحد سياسي واحد. فتغيب هذه المواطنة المجردة لصالح جعل كل فرد مميزاً بملكيته أو هويته أو دينه أو جنسه، وبالتالي تحويل الشخصي والحميمي والديني إلى مقولات عامة، وهذا يقودنا للظاهرة الثانية، وهي جعل هذه المقولات غير قابلة للنقاش والتداول والتفاوض، لأن ذلك سيشكل اعتداءً على الملكية أو الدين أو الخصائص الجنسية والعرقية، أي اعتداء على الفردانية بحد ذاتها.
في الوقت نفسه ستقمع ديمقراطية بدون ليبرالية الفرد لمصلحة الأغلبية، التي تستطيع بسيطرتها على الحيز العام، وامتلاكها للسيادة، أن تقرر ما هو مناسب وصحيح حتى على المستوى الشخصي، فيصبح الحيز الخاص مؤمماً وخاضعاً لرقابة الأغلبية، وتغدو المساواة رديفاً لانعدام الحرية.
التلازم بين الديمقراطية والليبرالية، الذي ضبط نظرياً العلاقة بين العام والخاص، هو نتيجة تاريخية لفكر التنوير، خاصة الراديكالي منه، والثورات التي قامت بها «الطبقة الثالثة»، ومن ثم الطبقة العاملة، ضد الامتيازات الارستقراطية والاكليروسية. اليوم تضمحل الديمقراطية، بل والليبرالية أيضاً. والغريب أن بناء الهوية على المستوى تحت الوطني، الذي يوصف عادة بالليبرالي، يتم بأسلوب شميتي (نسبة لكارل شميت، الفقيه القانوني الألماني الناقد لليبرالية، وعضو الحزب النازي لفترة)، فكل جماعة هوية تعرّف نفسها بالتضاد مع غيرها من الهويات، وعلى أساس إعادة بناء المظالم التاريخية للجماعة بوجه عدوها، ما يقمع الفردانية وخيارتها بالضرورة، إنه مبدأ «تمييز الصديق من العدو» الشهير، تعرّف بحسبه الهوية النسوية مثلاً على أساس التضاد مع الذكور، والمسيحية بالتضاد مع الإسلام، والسود بالتضاد مع البيض، الخ. انفصال الليبرالية عن الديمقراطية لن يؤدي، كما أثبت التاريخ مراراً، إلا للإرهاب والطغيان والفاشية والإبادة الجماعية، وخسارة الليبرالية والديمقراطية معاً.
القدس العربي