مقالات

معرض باريسي للمتخيل الفني المثالي لعالم ما وراء الستار الحديدي/ عمار المأمون

هيمنت “الواقعية الاشتراكيّة” على المنتجات الثقافيّة بعد الثورة البلشفيّة، ومنذ عام 1917، صُبغت مختلف عناصر الحياة بالأيديولوجيا، وأصبح الشكل الجماليّ خزانا للرسائل السياسيّة، ووسيلة ثورية خاضعة للرقابة المباشرة، في سبيل رسم صورة مثاليّة عن الدولة والمجتمع، ليتحرك النشاط الفنيّ والثقافيّ ضمن دوغما متماسكة جماليّاً ومحمية أمنياً للتلاعب بوعي الجماهير وتوجيهها نحو خدمة أهداف الثورة.

يقيم القصر الكبير في باريس معرضاً بعنوان “أحمر، الفن واليوتوبيا في العهد السوفييتي”، ونشاهد فيه أكثر من 400 عمل، أنتجت منذ عام 1917، الفترة التي أعيد فيها التأسيس لنظام عام جديد حتى 1953 العام الذي مات فيه ستالين، خلال هذه السنوات نتعرف بداية على فترة العشرينات التي شهدت الحركات والتيارات المستقبليّة والمجموعات الفنيّة المختلفة، بعدها نشهد كيف تلاشى هذا “الانفتاح” في الثلاثينات، وتحول الجماليّ إلى سياسي، وفرضت المعايير الواقعية الاشتراكية على كل ما هو علني وثقافي، لتكون المنتجات الفنيّة المختلفة على تماس مع الجموع وتعكس آمالها وتطلعاتها.

هاتان الفترتان شكلتا رؤيتين متناقضتين للعالم السوفييتيّ، ففي العشرينات، كان الفن على تماس مع الحياة، والأهم أنه كان يستهدف الفن البرجوازيّ “القديم” ويحتفي بالثورة ويكرّم إيقوناتها، كما نرى في أعمال بوريس كوروليف، الطليعي، الذي أنجز عام 1918، منحوتة لميخائيل باكونين، الفيلسوف والمنظر الشهير، المثير للاهتمام أن هذه المنحوتة واجهت الكثير من الانتقادات لاحقاً، كونها لا واقعية، وتتبنى التكعيبيّة التي مُنعت لاحقا في الاتحاد السوفييتي واتهم روّادها بالبرجوازية.

هذه العلاقة الحيويّة مع الجماهير فعّلت الكثير من فنون الشارع والحوار المباشر، إذ يصف مايكوفسكي فناني تلك الفترة بأنهم استخدموا الشوارع كريش للرسم والساحات كألوان، والأهم أن الهيمنة الأيديولوجيّة حينها لم تكن فعّالة بشكل كامل، ولم يُجبر الفنانون على اختيار شكل ونمط محددين، لكنهم انهمكوا في أشكال أخرى بعيدة عن الرسم التقليدي، وفضَلوا فنون التصميم والبوستر، لجعل “الفن” يعكس الحياة الجديدة ومقاييسها، كما في بوسترات غوستاف كلوتسيس، تلك التي تلتقط الحيويّة الثوريّة، والتي تدمج الحياة المثالية المُنتجة مع العمل الفنيّ، فإتقان مقاييس الأخير يجب أن يتطابق مع مهارات الجسد السوفييتي.

سنوات الرعب

تبدأ المرحلة الثانية من هذه اليوتوبيا الفنيّة في الثلاثينات، حينها أحكم ستالين قبضته على الحكم وضبط كافة جوانب الحياة، وتم تبنّي الواقعية الاشتراكية بقوة القانون، وحورب وهدد كل من يعمل خارجها، وأصبح الفن يسعى لتغيير العالم ورسم صورة مثاليّة له، الأهم أن “الواقعية الاشتراكية” لم تكن تصوّر الواقع، بل المتخيل عن هذا الواقع، لنقله للجماهير من أجل أن يعملوا في سبيل تحقيقه، وذلك عبر التركيز على الفرد السوفييتي، الجندي والرياضي، ذي الجسد المثالي، الماهر، القادر على الإنتاج كما في لوحات ألكسندر ساموخفالوف، الذي يصور حياة المواطن السوفييتي، المنتج في المصنع والعامل في الأرض والسعيد بالاحتفالات الوطنيّة، حيث الانضباط والإيقاع المتماسك كما آلة لا تتوقف ولا تخطئ.

هذه الصورة المثاليّة والتركيز على النشاط الجسديّ والحيويّة نراها مثلاً في لوحة لإلكسندر دينكا بعنوان “حريّة” حيث تركض النساء في الطبيعة، يتمرنن ويحافظن على لياقتهن ليكنّ أصحاء دوماً، في تخيّل مثاليّ للجسد الوطنيّ الخالي من الأمراض ذي اللياقة العاليّة، ذات الحيويّة والحركة المستمرة نتلمسها أيضاً في لوحات يوري بيمينوف، التي تصور موسكو، المدينة الجديدة والعاصمة التي يتوجه كل من فيها إلى عمله دون تأخير.

نشاهد في المعرض ملامح الخوف والرعب التي شهدها مواطنو الاتحاد السوفييتي، وقسوة الرقابة الشديدة التي فرضها ستالين، كما في لوحة لسالمون نيكرتين بعنوان “محكمة الشعب” والتي أنجزها في الثلاثينات، حيث انتشرت الاغتيالات السياسية والاعتقالات، وأصبح الجميع مُطيعا خائفاً من التعبير، وهذا ما نراه في اللوحة حيث الأوجه بلا ملامح، خائفة، تتأمل بصمت.

الرعب السابق يقابله احتفال برموز الاتحاد السوفييتي كمكسيم غوركي الذي تجسد أعماله الواقعية الاشتراكية إذ نراه في لوحة لفاسيلي إيفانوف على فراش الموت يجلس ستالين إلى جانبه مودعاً أيقونة السوفييت الثقافيّة، ويمتد هذا التمجيد إلى قادة الاتحاد السوفييتي، عبر إسباغ صفات أسطورية عليهم، إذ يحضر لينين وستالين في العديد من الأعمال الفنيّة كما في لوحات ألكسندر غوراسيموف، الذي يظهر فيها القائد أشبه بشخص عاديّ.

لكن بعد الإمعان في اللوحة، نراه بمقاييس مختلفة عما حوله، كما أنه يحدق دوماً بعيداً، نحو المستقبل، لنرى أنفسنا أمام صورة تقليدية للدكتاتور، هو والد الشعب لكنه في ذات الوقت الذي يبطش بمواطنيه، إذ يتحول القادة في هذه اللوحات إلى أيقونات لا حقيقية، ذات طاقة سحريّة من نوع ما، فالقائد رمز الحداثة والعصر الجديد ذاك الذي يبنيه المواطن السوفييتي الخائف الخاضع لسطوة الرعب.

كاتب سوري

العرب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى