أبطال الوهم ومأساة السوريين/ بسام يوسف
كلما أضيف وجع جديد إلى أوجاع السوريين المحاصرين في الداخل السوري، أو المتوزعين في منافي العالم، عادت المعزوفة إياها إلى الواجهة. معزوفة حفظها السوريون، وملّوا من سماعها.
في كل مفاصل هذه المأساة السورية، وفي كل إضافة جديدة لها، يعتلي عازفو هذه الأسطوانة المشروخة حلبة المسرح؛ ليعيدوا أداء أدوارهم المبتذلة: يقفون متقابلين، ثم يبدأ فصل الاتهام والتشاتم، ترافقه في خلفية المشهد أصوات أنين السوريين، وصور قهرهم.
منذ أن تفاقمت أزمة الوقود في سوريا، طفا على السطح نموذجان من سوريين: نموذج يتشفى بمعاناة السوريين، ونموذج يعلن عن بطولاته الزائفة في التمسك بالوطن، ويتباهى بصموده الأسطوري في وجه المؤامرة الكونية. وعلى الرغم من المعارك الدائرة بينهما فإنهما يشتركان في جوهر واحد، هو: تحميل كل طرف الطرف الآخر مسؤولية الحال التي وصلت إليها سوريا.
بعض جهابذة الثقافة اليسارية يصفون المعارضة بالجثة المتعفنة التي كلما دفنها صمودهم، عادت؛ لتطل برأسها مرة أخرى. لكنهم -مع ذلك- يستبسلون في مواصلة معاركهم لدفنها مرة أخرى. وهم على ذرا معاركهم “الدونكيشوتية” المملة تلك، يعيدون تذكير السوريين بتعريف الوطن، وكيف تتم حمايته، وكيف يصان عزيزاً، عندما يتآمر عليه الآخرون.
لكن السؤال الذي لا يكف بداهة عن الحضور، عند أحاديثهم عن معاركهم وبطولاتهم، هو:
بوجه من يقف هؤلاء “الأبطال” الذين يتشدقون الآن بأنهم حماة الوطن؟! وأي مؤامرة تلك التي تسعى
إلى سلب السوريين وطنهم، وهم وحدهم، مشغل البطولات، من يتصدى لها؟! وهل هم فعلاً من يحمي وطناً وشعباً بالمرجلات الكلامية!! وأين يمكننا مصادفة بعضاً من انتصارات الهباء هذه، بينما كل شيء يمضي بسرعة إلى أسوأ ما في هذه الكارثة؟!.
بعيداً من بطولات هباب الوهم، وبعيداً ممن يتشفى بمعاناة السوريين: ثمة ألم سوري يتفاقم كل يوم، وثمة حقائق تغيّب، وثمة مجرمون يواصلون ضخ الوجع في تفاصيل هذا الليل السوري الطويل.
ليست المؤامرة الكونية المزعومة هي التي أوصلت سوريا إلى هذه الحال، وليس السوريون الذين ثاروا من أجل حريتهم وكرامتهم هم السبب، وليس الصامتون، أو السوريون الذين يعيشون في مناطق سيطرة هذا النمط من السلطة، هم من أوصلوا سوريا إلى هذه الحال.
إن من أوصل سوريا إلى ماهي فيه، هو: السلطة التي يعرفها الجميع، السلطة التي لم تر يوماً في سوريا وطناً، ولم تر يوماً في السوريين مواطنين، السلطة التي تقيس الدم السوري، وتقيس الوطن السوري، وتقيس الألم السوري، في ميزان واحد وحيد، هو: ميزان مصالحها وتراكم ثرواتها. وإن أي ابتعاد عن رؤية هذه الحقيقة، هو فعل غير بريء، ولا يمكن أن يكون اعتباطياً؛ لأنه تعمية متعمدة عن حقيقة وجوهر ما يحدث في سوريا.
منذ سنوات، يتم تغييب حقائق أساسية، تلك الحقائق التي لا ينشغل بها أبطال معارك الوهم؛ فيتجاهلون طرحها، رغم أنهم يعرفونها جيداً، ولكنها تفضحهم، وتفضح شراكتهم في ديمومة هذا الوجع السوري.
من يدفع ثمن كل هذه المصائب التي تتناسل كل يوم في سوريا؟ هذا هو السؤال المهم، ولكن الأهم منه، هو: من يستثمر في هذه المصائب التي تتناسل، ومن يراكم ثرواته منها؟
إن السوريين يعرفون جيداً أن نسبة قليلة منهم لا ينقصها أي شيء، ولم تعرف أياً من الأزمات التي تفتك بالسوريين الآخرين. ويعرف السوريون بدقة كبيرة أن هذه النسبة قد تضاعفت، وأن ثروات حراسها وسادتها قد تضاعفت، وأن ما من أزمة ستنتهي، وأن بعكس كل هذا الهراء لن تكون أزمة الوقود هي آخر الأزمات، وأن القادم سيكون أشد مرارة، ولن تقف معاناة السوريين في الداخل عند حدودها؛ لأن هذا الاقتصاد المنهار، الذي يحتضر، والذي تشرف على نهبه عصابات تتقاسم ما تبقى من دولة فاشلة، لابد أن يفاقم الأمر أكثر فأكثر، ولابد أن تتعدد أوجه هذه المعاناة؛ لتطول أوجه الحياة الأخرى كلها.
ولابد هنا من التذكير ببعض الحقائق:
وفق أرقام الموازنة السورية لعام 2016 فإن الحكومة السورية خصصت 973،25 مليار ليرة سورية للدعم الاجتماعي، وإذا اعتمدنا سعر صرف الليرة السورية في تلك الفترة وهو 550 ليرة لكل دولار، فإن حجم الدعم سيكون 1،76 مليار دولار.
في نفس الفترة أوضح مصدر حكومي سوري، رفض الإفصاح عن نفسه، للمنتدى الاقتصادي السوري أن حجم التحويلات المالية التي حولها المغتربون السوريون إلى الداخل السوري، قد بلغت خمس مليارات ونصف المليار من الدولارات، بينما أشارت التقديرات الرسمية إلى مليار ونصف المليار فقط، وباعتماد أقل التقديرات – وهي غير صحيحة أبداً- فإن السوريين في الخارج قدموا ما يشكل 87% من حجم الدعم الاجتماعي الذي تقدمه الحكومة السورية.
بالتأكيد، إن المليار ونصف المليار من الدولارات، وبافتراض أنها حقيقية، فإنها عادة ما تشير إلى التحويلات التي تتم وفق الطرق المعروفة والتي يمكن رصدها، لكن ماذا عن المبالغ التي تحول بطريقة مخفية وغير مرئية، والتي يستعملها السوريون بكثرة، سنجد أن المبلغ سيتضاعف على أقل تقدير.
باختصار، وبحساب بسيط سنرى أن العصابة التي تحكم سوريا لا تقدم أي مساعدة للسوريين، وعلى العكس من ذلك فإنها تنهب قسماً كبيراً من المساعدات التي تقدم لهم، سواء من سوريين، أم من جهات داعمة دولية. وللتذكير فقط: إن اجتماع الدول التي تقدم المساعدات للسوريين، قد أقرت في آذار من هذه السنة، في اجتماع بروكسل، تقديم ما يقارب 7 مليارات دولار.
ليست الكارثة السورية التي يعيشها السوريون في الداخل اليوم إلا نتيجة حتمية لسياسة الفساد والنهب التي
دمرت سوريا طوال عقود، وأما تحميلها على المؤامرة والمعارضة فما هو إلا تضليل وتبرئة للمجرمين الحقيقيين، الذين فتكوا بكل مقومات سوريا ونهبوها، وقادوها قاصدين إلى هذه الكارثة، وليس السوريون الذين يعانون في الداخل الآن إلا ضحايا، مثلهم مثل من خرجوا من سوريا، للمجرمين الحقيقيين الذين مايزالون يمارسون دجلهم وكذبهم.
يا أيها الصامدون في وجه المؤامرة الكونية على سوريا، ويا أيها الذين تصرخون بحبكم لوطنكم، وتتشدقون ببطولاتكم، انتبهوا -إن كنتم صادقين- إلى أن المجرمين لصق أهدابكم وبين أيديكم، وسكوتكم عنهم هو أحد أمرين:
إما أنكم شركاؤهم، وإما أنكم كاذبون.
ويا أيها الشامتون بمعاناة السوريين المريرة في الداخل، انتبهوا إلى أن من يجوع ويبرد ويمرض ويموت، هم: أهلنا، وأن سوريا لن تكون إلا بنا وبهم معاً.
تلفزيون سوريا