في محاصرة البلاهة (مختارات من عبد السلام بنعبد العالي)/ كمال عبد اللطيف
اختار الباحث المغربي عبدالسلام بنعبد العالي توظيف معارفه الفلسفية بطريقة مختلفة عن المألوف، حيث اتجه منذ أربعة عقود، إلى إنتاج مقالة فلسفية قصيرة، لا حدود معينة لموضوعاتها وأسئلتها، مقالة موجزة ومسبوكة بكثير من الإيجاز، مستعيناً في ذلك، بجوانب من الأرصدة النظرية لتاريخ الفلسفة ومكاسب ودروس الفلسفة المعاصرة على وجه الخصوص. حيث تحضر مفاهيم وطرق عمل كل من نيتشه وماركس ورولان بارت ثم فوكو ودولوز وبودريارد على سبيل المثال. وعندما نستثني أطروحته الجامعية الأولى عن الفلسفة السياسية عند الفارابي (1979)، وأطروحته الثانية عن أسس الفكر الفلسفي المعاصر (1991)، نجد أنه اختار الانخراط في عملية إنتاج مقالة فلسفية قصيرة، وأحياناً كتابة جملة من المقاطع والشذرات، يعتني فيها بمواجهة أسئلة اليومي في جريانه، أسئلة الواقع في تعدُّده وتناقضه، أسئلة الفكر في تعاليه ومفارقاته، وفي ارتباطه بالافتراضي والتاريخي والمتخيَّل، متوخِّياً من جهة، توسيع دوائر النظر الفلسفي، ومستهدفاً من جهة أخرى، تفكيك اليقينيات والمواقف القَبْلِية والأحكام العامة، السائدة في ثقافتنا ومجتمعنا..
لا نتردد في اعتبار أن هذا الخيار في الكتابة والتأليف والترجمة، يعكس جوانب من إيمان الباحث بالأدوار التي يمكن أن تترتب اليوم على الفعالية النظرية الفلسفية، عندما تُستعملُ وتُوظَّف لمحاصرة أنماط الفكر السائدة في ثقافتنا، وهي في أغلبها أنماط محافظة. ويمكننا أن نشير هنا، إلى أن عناية الباحث في أعماله الأخيرة بنقد البلاهة، تندرج ضمن الأفق الفكري الذي اختار، وهو أفق لا يهمه الركون إلى موقع محدَّد، ولا بناء موقف نظري بعينه، قدر ما يهمه خلخلة أسس ومقدمات كثير من أوجه اليقين في ثقافتنا..
يلتقط بنعبد العالي الظواهر والأسئلة، كما يلتقط الكلمات والمفاهيم بحس فلسفي وآليات في
النظر النقدي، ثم يعمل على شحنها بكثير من التكثيف والبلاغة المشدودة إلى إيحاءات الكلمات.. ينشرها في الإعلام، ثم يعيد نشرها في كتيبات صغيرة، تنتصر لكثير من القيم المؤسسة للفكر المعاصر، وتقيم حواراً مركباً مع مفاهيمه وتصوراته..
يقف بنعبد العالي في زاوية معينة، متأملاً وراصداً معطيات عديدة من المتداول في ثقافتنا ومجتمعنا، يلتقط موضوعاته ومفرداته من كل ما يجري أمامه في الواقع وفي العوالم الافتراضية، ثم يبدأ في النظر إليها من زوايا مختلفة، ليتوقف أمام نواتها المركزية أو أنويتها الأساس، وليتوقَّف ثانية، أمام هوامشها ومنسياتها، وأمام ما تسكت عنه أو يرد فيها مقنعاً، فيتأمل بعض جوانبها. ثم يستبدل موقعه، ليصوِّب النظر من جديد، نحو بعض أبعادها الأخرى، وفي غمرة انخراطه في النظر والفحص مسلحاً بآليات الدرس الفلسفي المعاصر، لا يتردد في العودة إلى الموضوعات نفسها، بحكم وعيه بحربائية الأفكار، حيث يحاول إبراز علاقة الأوهام بالتاريخ، كما يحاول توضيح أدوار التاريخ في تلوين مسارات الحياة، أدواره في التقدم والتراجع.. ليجد قارئ مقالاته وشذراته المتقاطعة في النهاية، أمام مجموعة من القضايا وقد تحولت وتداخلت، ثم تناثرت دون أن تندثر..
يكتفي في مقالاته بالتلميح والإشارة، يتموقع نظرياً في دائرة آليةٍ محدَّدةٍ في النظر، لأنه وبحكم خياراته الفلسفية، لا يريد موقعاً بعينه، فهو لا يحرر بياناً سياسياً، ولا يرسم موقفاً لا رجعة فيه، فهذه طرائق ترتبط بمجالات أخرى في النظر. إنه يهتم أساساً بخلخلة وتفكيك المواقف ومختلف اليقينيات. ولهذا لا يجد أي حرج أحياناً في الاقتراب المؤقت والعارض من مزايا العدمية ومآثرها، ولا يتردد أحياناً أخرى في الحنين إليها والتغني بمزاياها في الفكر وفي الحياة..
صدرت لبنعبد العالي أعمال كثيرة بعناوين تشير إلى جوانب من قناعاته الفلسفية، واستوعبت هذه الأعمال عشرات المقالات في نقد ظواهر ومواقف وخيارات، في الفلسفة والإيديولوجية والثقافة والمجتمع والتقنية، نذكر من بين هذه الأعمال، ثقافة الأذن والعين (1994)، بين بين (1996)، ميتولوجيا الواقع (2999)، بين الاتصال والانفصال (2002)، ضد الراهن (2005)، في الانفصال (2008)، الكتابة بيدين، (2009)، امتداح اللافلسفة (2010)، اﻟﭙﻭﭖ – فلسفة (2015)، جرح الكائن (2017)، وآخر أعماله المنشورة القراءة رافعة رأسها (2019).
محاصرة البلاهة
انتبه الزميل عبد الفتاح كليطو في المقدمة التي أَعَدَّ لكتاب اﻟﭙﻭﭖ – فلسفة لعبدالسلام بنعبد العالي (ص 10) إلى أن جهوده في الكتابة تروم رصد ومحاصرة البلاهة وكذا مقاومتها. وضمن السياق نفسه، نتصوَّر أنه اختار أن يخوض في مقالاته معارك عديدة مع نفسه، مع نمط تكوينه، ومع اللغة والأخلاق ومع المنطق السائد، مع الأحكام المسبقة ومع البداهات
والفكر الوثوثقي، اختار أشرس المعارك، اختار الشائع والمتداول من البلاهات والحماقات في مجتمعنا وثقافتنا.. وفي غمرة سجالاته مع ما ذكرنا، تأتي مقالته مُقْنِعَة لأنها تُجابه أسئلة
عويصة، وتختار أثناء عمليات المجابهة والنظر، مواقع ومواقف لا تُعَدُّ دائماً مُحَايِدَة، ولا تُعَدُّ في الوقت نفسه، غريبة عن المخاضات والتفاعلات، الجارية في محيطنا الثقافي والسياسي.
نذيِّل هذا التقديم بمنتخبات مُستلَّة من بعض أعماله، وقد قمنا بترقيم فقرات بعض النصوص الشذرية، لتسهيل عمليات الاقتراب منها والاستفادة من الروح التي تروم وضع اليد عليها.. نقدمها لنضع أمام القارئ مختارات من جهودٍ في النظر، وهي لا تُغني المُطَّلِع عليها من العودة إلى بعض أعمال صاحبها، قصد الوقوف المباشر والتام على كيفية من كيفيات التفكير في أسئلة الفكر العربي المعاصر.
مختارات من أعمال عبد السلام بنعبد العالي
1 – الواقع ممكنات…
تسود الخطاب العربي روح تشاؤمية لا ترى في المستقبل ما يمكن أن يكون بديلاً عن الحاضر. فما أكثر ما نسمع عن انسداد الآفاق، وانغلاق المستقبل واستحالة التغيير. صحيح أن عوامل موضوعية ليست بالقليلة تراكمت عبر السنين، جعلتنا نصل إلى هذا “الباب المسدود”. إلا أن من بينها عاملاً يبدو أننا لا نعطيه الأهمية التي يستحقها، وهو ربما الشرط الضروري لكل تغيير. ذلك العامل هو الإيمان بإمكانية التغيير ذاته، واعتناق فلسفة تنظر إلى الواقع على أنه ينطوي على قيمة.
وكمحاولة لفحص هذه المسألة، ربما وجب التمييز بين مواقف ثلاثة: إما أن ننفي من الواقع كل تجاوُز، ونعتبر أن “ليس في الإمكان أبدع مما كان”، وأن كل تجاوُز ممكن قد تحقق، وأن الواقع لا ينطوي على كل ما من شأنه أن يجعله غير ما هو عليه.
الموقف الثاني، يعترف بأن بإمكان الواقع أن يعلو نحو قيمة، غير أن هذه القيمة قد تحققت في عصر ذهبي وعانقت الواقع ذات يوم. وإذا ما أردنا أن نرتفع بهذا الواقع نحوها، فلن يكون ذلك إلا بالعودة إلى ذلك الماضي الذهبي واسترجاع اللحظة المثال. هذا هو الموقف الذي طبع، ويطبع، كل الاتجاهات الماضوية بجميع أشكالها.
أما الموقف الثالث، فيحدِّد الواقع أساساً كممكنات. الواقع هنا ليس “واقعاً”. إنه طاقة وقوة واندفاع أو، لنقل بتعبير لوكيي: “إنه دوماً ما ليس هو، وهو أبداً ليس ما هو عليه”، الواقع هنا توتر دائم بين محدودية وآفاق، بين مقامات وأحوال، بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، من هذه الرؤية لا يحدد الواقع تحديداً وضعياً، ولا يشكل البديل عنه إمكانيات محصورة معدودة، تحققت في الماضي أو هي تظل معلقة بالمستقبل، بل إنه يغدو هو ذاته ممكنات، والأهم من ذلك أنها ممكنات لا حصر لها.
بين بين (1996)، صفحة 76.
2 – في الأزمة
1 – الذين يدعون أن الأزمة هي دوماً حالة عبور وانتقال، وأنها حالة مَرَضِية، وأنها دوماً “أزمة عابرة”، قد يعترفون بأنها خلل واختلال، بل هزّة ورجّة، غير أنهم سرعان ما يجزمون بأنها تتدارك نفسها، فتستقر في توازن جديد تعود المنظومة بفضله إلى “صحتها”، فتواصل العمل بشكل طبيعي.
2 – الأزمات مقامات وليست مجرد أحوال.
3 – يقول ر. بارط: “منذ أن بدأت أمارس عملي الثقافي وأنا أسمع عن الأزمات: أزمة نشر، وأزمة نقد، وأزمة قراءة، وأزمة إبداع، أزمة رواية وأزمة شعر، وأزمة سينما..”، وعلى رغم ذلك، فهو يعترف بأن كل هذه الفنون والأجناس لم تعرف قطّ الازدهار الذي عرفته خلال حياته.
4 – ليست الأزمة مرادفة لمفهومات الانهيار والنهاية، وإنما هي تدخل ضمن نسيج الحركة التاريخية للمنظومة. على هذا النحو ينظر النظام الرأسمالي إلى نفسه، فلسفةً وإبداعاً واقتصاداً وسياسةً، على أنه لا ينمو إلا عبر أزمات.
5 – الأزمة لاصقة بكل نصّ بما هو كذلك. والتأزيم جوهر كل كتابة، بل جوهر كل إبداع.
القراءة رافعة رأسها (2019) صفحات: 55-57
3 – الديمقراطية المستحيلة
كتب جاك دريدا: “أن تكون ديمقراطياً هو أن تقرن دائماً أفعالك بالاعتراف بأنك في مجتمع غير ديمقراطي”. الديمقراطية إذاً وضع يائس. وهو لا يمكن إلا أن يُصَاحَبَ بشعور بالنقص وعدم الاكتمال، بل باستحالة التحقق. والمفارقة هنا هي أن هذه الاستحالة هي الغذاء الحقيقي للديمقراطية. فالديمقراطية لا تكون إلا عندما لا تكون. إنها من الأفعال المستحيلة، شأنها شأن العقلنة والنقد والتحديث والإبداع… كل هذه الأمور لا تعمل إلا في حالة من التأزم، إلا مع شعور بالأزمة، إنها بنات أزمات. الديمقراطية الحقيقية لا تنفصل عن أزمة الديمقراطية، والعقلانية لا تنفصل عن أزمة العقلانية، والإبداع مشدود إلى أزمة الإبداع.
بهذا المعنى فلا تعني الأزمة توقفاً ولا نُدرة، وإنما حركة وغلياناً و”ازدهاراً”. الأزمة هي تلك الحال التي تتأجج فيها روح التغيير، ويحتد فيها الجدال، ويترعرع فيها النقد، و”تبنى” فيها الديمقراطية، ويزدهر فيها الإبداع الحقيقي.
يؤكد التاريخ صحة هذا الاقتران، فكل الفترات التي عرفت محاولات لإرساء الديمقراطية في مختلف صورها كانت فترات أزمات، وكل مساعي التحرر والانعتاق صوحبت بفترات توتر وصراع وتأزم. وليس مرد ذلك فحسب، المقاومات “الخارجية” التي تعترض الدمقرطة والتحرر والتحديث والانعتاق، وإنما مرجعه أيضاً وربما أساساً “طبيعة” الديمقراطية والتحرر والعقلانية والتحديث، فهذه الأمور تنطوي على عوائقها الذاتية، ليس بمعنى أنها تعوق ذاتها وتعترض سبيل نفسها، وإنما بمعنى أنها تنظر إلى نفسها كمقاومات، وتعتبر أن وجودها نَفْيٌ وسلبٌ أكثر منه إثباتاً وإيجاباً. إنها تحس بالعوز كلما ازدادت غنى، وبالظمأ كلما ازدادت ارتواء، وبالنقصان كلما ازدادت اكتمالاً، إنها لا تتحقق إلا عندما يتعذر تحققها، ولا تكون بالفعل إلا عندما لا تكون.
منطق الخلل (2007)، ص 60.
4 – في الحداثة
1 – أن تكون “إنسانَ الحداثة”، ليس هو أن تتعرف على سير التاريخ وتقف عند حركته الدؤوبة، وإنما أن تتخذ موقفاً منها. ليس أن “تقف على”، وإنما أن “تقف من”.
2 – من المفكرين من يجعل الحداثة مقابِلة للتحديث مقابَلةَ السكون للحركة، والسانكروني للدياكروني، ومنهم من يجعلها، تقابله كما يقابل المثالُ النموذجيُّ المتحقِّقَ الفعليَّ، مع ما يشوب المتحققَ من نقص وعدم اكتمال، ومنهم أخيراً، من يجعلها تقابله تقابلَ المرمى والغاية مع
سيرورة التحوُّل، أو تقابلَ المجرَّد مع العيني، ومنهم من يقيمها على النحو الذي تمت به في إطار “سوسيولوجية التنمية”، التي ازدهرت في العالم الأنجلوساكسوني الذي نحَت مفهوم التحديث خلال خمسينيات القرن العشرين، حيث فُهم التحديث على أنه الحداثة مجردة من خلفياتها الفكرية، معزولة عن روحها الفلسفية.
3 – إذا أخذنا هذه الروح بعين الاعتبار، تغدو الحداثة علاقة متوترة مع الراهن، ونمطاً من التفكير والإحساس، وطريقة في التفكير والسلوك ينبغي الاضطلاع بها. إنها استراتيجية مناضلة تقوم أمام استراتيجية مضادة تبديها قوة التقليد، من حيث إن التقليد مقاومات مستمرة، وتكيُّف ماكر يتلبس ألف قناع لامتصاص الحديث وإفراغه من محتواه، تشبثاً بما هو كائن، ومقاومة لكل انفصال.
4 – لا تقابل الحداثة ما قبلها ولا ما بعدها وإنما تقابل ما ليس إياها، أي تقابل التقليد.
5 – لا تُقَطَّعُ الحداثة إلى ما قبل وما بعد، لأنها هي نفسها حركة قطْع وانفصال، وهي ليست حقبة تبدأ عند نقطة وتنتهي عند أخرى، لأنها بداية متجددة، ونشأة مستأنفة، وانفصال لا متناه.
6 – الحداثة هجرة متواصلة وانفصال موصول، وكل “ما بعد” ليس إلا “حداثة الحداثة”.
7 – الحداثة حركة تاريخية غير راضية عن نفسها، غير راضية عن مؤسّساتها السياسية، ومنجزاتها التقنية وغزواتها الفلكية، واكتساحاتها المعرفية. إنها لا ترتاح للمفهوم الذي أرسته عن الفرد، ولا للمعنى الذي أعطته للحرية، ولا للدلالة التي رسّختها عن العقل، ولا للكيفية التي بنت عليها الديمقراطية، ولا للشكل الذي أرست عليه الحقوق. فهي حركة لا تركن إلى سكون، ولا تخلد إلى راحة ولا تقتنع، إنها ما بعدية على الدوام.
8 – ما يميِّز الحداثة في مختلف أبعادها هو التنكُّر للذات، هذا “العقوق”، وهذا السَّعْي نحو التضادّ، والميل إلى عدم الرضى والانفصال اللامتناهي.
9 – لا عجب أن تُوحّد الحداثةُ بين الفكر والنقد، فتجعل من التوجُّس والارتياب بنية معرفة، ومن الجرح إحدى سمات الوجود.
جرح الكائن، 2017، صفحات 63-66.
5 – هُويات هاربة
1 – الحديث عن الهوية حديث عن المحدِّدات والمميزات والخصائص، حديث عن الروابط والعلائق، عما يوحِّد ويجمع، لكنه كذلك حديث عما يفرق ويفصل ويميز، إنه إذاً مَوْقَعة ورسم على خارطة جغرافية وسياسية، لكنها أيضاً وربما أولاً، خارطة ثقافية، بما تفترضه الخارطة من خطوط مرجعية، ومن معالم دلالتها تُرسم الحدود وتُقاس المسافات.
2 – ما يميز عالم اليوم، أي العالم وقد اكتسحته التقنية، هو غياب الاختلاف وسيادة التنميط والأحادية. إنه الانتشار الموحَّد لنماذج التنمية والمخطّطات وتطوُّر الزمنية، كل شيء لم يعد يخص منطقة من مناطق العالم دون أخرى. إنه العالم المعولم.
3 – الكونية لا هوية لها، بل إنها هي التي تحدد اليوم كل هوية.
4 – الانفتاح والانفصال واللاتناهي، مفاهيم تُبعد الهوية عن كل تخشُّب واستقرار وثبات، بل وتنفي عنها الانغلاق والتوحُّد فترمي بها في تعدد لا متناه.
5 – ليس السلب هو الذي يجيء من خارج، ليتعارض مع الذات. وإنما ذاك الذي ينخرها من “الداخل”. إنه داخل مجروح. السلب هو الحركة اللامتناهية التي تُبعد الذات عن نفسها. فالمساواة أ=أ، كما يقول فوكو، تنطوي على حركة داخلية لا متناهية تُبعد كل طرف من طرفيها عن ذاته وتقرب بينهما بفعل ذلك التباعد نفسه، يتعلق الأمر بِبُعد إيجابي بين المتخالفين: إنه “البعد الذي ينقل أحدهما نحو الآخر من حيث هما مختلفان”.
القراءة رافعة رأسها (2019) صفحات 15-17
6 – الفكر وأشكال المقاومة
ليست مهمة الفكر هنا خدمة إيديولوجية بعينها، ولا تكريس قيم معينة، ولا الدخول في صراع مع قوى “خارجية” وإنما تحرير قوى الحياة، والسماح لحياة قوية بالتفتح. لا تنصّب المقاومة
هنا من نفسها، قوة تدخل في علائق “خارجية” مع قوى مضادة. إنها لا “تقف” يساراً ضد كل يمين، لا “تقف” في جانب الخير فتعلنها حرباً على “قِوَى الشر”، وإنما تتشابك في علاقة مع ذاتها.
وهنا يأخذ الفكر معناه الاشتقاقي كانعكاس ومراجعة للذات، وتغدو نقط ارتكاز المقاومة “باطنية”، فلا يعود الفكر “تعبيراً” عن قيم خارجة عنه، ولا التزاماً بإيديولوجية، ولا تطبيقاً لنظرية، ولا نضالاً في خدمة مؤسسة.
لا ثابت هنا ينجو من المقاومة، ولا قيمة خارج حلبة صراع القوى. كل ما هناك أشكال منفردة لقمع قوى الحياة ومحاصرتها وتضييق الخناق عليها، فأشكال ملائمة للمقاومة وتحرير قوى الحياة.
لا غرابة إذن أن تكون أشكال المقاومة، واستراتيجياتها لا متناهية ولا محدودة، إذ لا يتعلق الأمر مطلقاً بانتصار الحقيقة على الخطأ، أو قوى الحق على “قوى الشر”، ما دام الإطلاق دوماً مجرد إقصاء لبعد “الممكن”، أي قمعاً لقوى الحياة، وما دامت المقاومات بالضبط، هي إتاحة الفرصة وفسح المجال لذلك الممكن كي يضفي النسبية على الإطلاق، والتغير على الثبات والشك على اليقين.
لعقلانية ساخرة (2004) ص 9-10
7 – أطروحة حول المثقف
1 – إذا كان المثقف لم يسهم في الانتفاضات، فإن الانتفاضات قد نالت منه، ولم تتركه على حاله. فهي قد بدّلت صورته عند الغير، وزعزعت صورته عن نفسه.
2 – لم يكن شعار “إرحل” موجهاً لسلطة أو حزب أو جماعة حاكمة فحسب، وإنما كان موجهاً أساساً لعلائق اجتماعية وعوائد أخلاقية وأساليب فكرية وقِيم ثقافية. إنه وُجِّه لمفهوماتنا عن الإنسان والمجتمع والفكر والتاريخ. فالأمر لا يتعلق أساساً باستبدال أنظمة، وإنما بتغيير ذهنيات.
3 – صمت المثقف: كثر الحديث بعد “الربيع” عن عزلة المثقف وصمته، ولم يُنظر لذلك الصمت إلا كموقف سلبي. الصمت يكون في بعض الأحيان إيجاباً وفعالية. قد يكون الصمت توقفاً عن الكلام، إلا أنه يغدو في أحيان أخرى مقاومة وإضراباً عن الكلام.
4 – لا تتحدد المقاومة بلونها و”مضمونها” بقدر ما تتعين بما تقوم به، فهي لا يمكن أن تُعَرِّف إلا إجرائياً واستراتيجياً، وهي مثل دروب هايدغر، تتعين بالمسار الذي تخطُّه أثناء السير. إنها لا تنخرط في مواقف ومذاهب وتيارات، وإنما تشكل شبكات.
5 – لا يتبقَّى للمثقف إلا الانخراط في شبكات مقاومة تسعى جهدها إلى بلورة أسئلة وإحداث شروخ في عالم ينحو نحو التنميط والتخشُّب وتكريس البلاهة la bêtise.
6 – ليست البلاهة مجرد الحماقات les bêtises، وليست هي البلادة أو الجهل، وإنما اللاّفكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة.
7 – المقاومة لا “تقف” يساراً فتعلنها حرباً ضد كل يمين، وهي لا تتموضع جهة الحقيقة فتعلنها حرباً على الخطأ، ولا جهة الحق فتعلنها حرباً على الباطل، ولا جهة الخير فتعلنها حرباً على الشر.
8 – لا يلحقنا التخشُّب والتبلُّد فحسب من ترسُّخ مقولاتنا في الماضي، ولا من ترديد مقولات “استوردناها”، وإنما أيضاً، وربما أساساً، مما نتشرَّبه لحظياً من أشكال اللاّفكر التي تتغذى عليها، ومما لا ينفك “مجتمع الفرجة” يرسِّخه فينا.
اﻠﭙﻭپ فلسفة (2015) ص67-69.
ضفة ثالثة