عَرين الأسود: الصهيونية واليسار من حنة أرندت إلى نعوم تشومسكي
عام 1981، افترَق فريد هاليداي عن زملائه، أعضاء هيئة تحرير “مجلة اليسار الجديد” New Left Review، عبرَ مقالةٍ عنوانها “الواقعيّة الثوريّة والكفاح لأجل فلسطين”. وبصفته باحثاً في شؤون العالمَين العربي والإسلامي، أوضَح هاليداي أنه سيستمر في دعم الدولة الفلسطينية وحق اللاجئين في العودة، وظل مقتنعاً بأن السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين كانت “عنيدة ومغرورة ومهووسة وعنصرية وانتحارية في مآلاتها”.
وبصرف النظر عن ذلك، انتقد هاليداي في مقالته “الواقعيّة الثوريّة”، ومقالاتٍ لاحقة، موقفَ اليسار تجاه سيادة إسرائيل والتقسيم وحلّ الدولتين. وشنّ هجومَه على “التأييد الأعمى” للمجموعات المسلحة والإرهابيين و”الاستخفاف المستمر” بحقوق الآخرين الإنسانية. وأشار إلى أنّ الواقعية غابَت “غياباً واضحاً” عن مناقشات اليسار حول إسرائيل، ودعا إلى سياسة دولية أكثر نضجاً.
كتبت سوزي لينفيلد قائلة: “إن هاليدي كان يسير بذلك نحو عرين الأسُود”. وتشرح لينفيلد -أستاذة الصحافة في جامعة نيويورك- في كتابها الجديد المثير والدسِم، تحوُّلَ المثقفين اليساريين اليهود في الولايات المتحدة وأوروبا الغربيّة عن “الدعم الثابت لإسرائيل، وإن لم يكن دعماً مجمعاً عليه” إلى “الرفض الغاضِب”. وتقِرُّ بأن احتلال إسرائيل الأراضي التي استحوذَت عليها في حربَي 1967 و1973 كان عاملاً رئيسياً في هذا التحوّل. والعامل الأهم من وجهة نظرها هو تعريف اليسار للشعوب المُستعمَرة في العالم الثالث بأنها “الموضوع الرئيسيّ في الكفاح من أجل العدالة الاجتماعيّة”، بينما يمثّل الصهاينة الإمبرياليّة المستبدّة. وعلى غِرار هاليداي، ترى لينفيد -التي تصف نفسها بأنها “صهيونيّة يساريّة” روَّعتها “انتهاكاتُ إسرائيل الرهيبة لحقوق الإنسان”- أن اليسار “كان أسوأ مَن دعم الأوهام الفلسطينية”.
يحوي كتاب “عرين الأسود” فصولاً عن 8 مفكّرين بارزين. تبدأ لينفيلد بحنة أرندت، التي تحوَّلت من داعية إلى القومية اليهودية في أربعينات القرن العشرين وداعمة للكيبوتسات (المزارع الجماعية اليهودية) وللجامعة العبرية في القدس، إلى خصم عنيد للتقسيم والسيادة الإسرائيليّة. فقد تبيَّن أنَّ أحكام أرندت في تلك الفترة “كانت خاطئة على مستوى جذري وعميق وتنمّ عن تناقض محيِّر”. وبسبب إغفالِها الحقائق السياسية “إغفالاً صادماً”، ومن وَحي قناعتها بأنّ المسارَ المؤدِّي من السيادة إلى القومية إلى الفاشية كان حتميّاً، “أسقطت أرندت مجازاتها” على الصهيونية. فقد دعمَت أيَّ كيان إلا الدولة اليهودية، أو تحدثت عن دولتين منفصلتين واحدة للعرب وأخرى لليهود؛ حتى لو كان هذا الكيان فيدرالية يهودية عربية تحت رعاية الكومنولث البريطاني (رابطة الشعوب البريطانية)، أو الولايات المتحدة. لم تتطرق مطلقاً إلى كيفية تأسيس مثل هذا الكيان سياسةً خارجيّة أو مؤسساتٍ تعليميّةً وقانونيّةً وسياسيّة، أو كيفيّة محافظة بريطانيا أو الولايات المتحدة على السلامَ بين العرب واليهود. أصبحت المرأة التي أدانت السلبيّة اليهوديّة وأكّدت أنّ نفورَ اليهود من التنظيم العسكريّ كان كارثياً، تعارِضُ الآن الاستقلالَ القوميَّ لليهود وتعدُّه انتحاراً.
توقّفَت أرندت عن الكتابة عن الصهيونية بعد عام 1950، لكن لينفيد تشير إلى أنها جدَّدت مناوشاتِها مع السياسات اليهوديّة بكتابها “أيخمان في القدس” الصادر عام 1963، وهو كتاب مبدع امتلأ بحنق أرندت تجاه إسرائيل والإسرائيليّين. تختم لينفيلد الفصلَ قائلةً إنّ أرندت طوالَ مسيرتها المهنيّة لم تقدِّم الكثيرَ حولَ كيفيّة حلّ الصراع بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين. وأضافت أنّ نقدَ أرندت للآخرين حين قالت “الناس يتجاهلون الواقع لمصلحة أفكارهم اللامعة” ربما يصلح لتقييمها هي نفسها.
لا يقلّ نقدُ لينفيلد نعوم تشومسكي ضراوةً. فهي تؤكِّد أنَّ الانفصالَ عن الواقع يصل أبعد مدىً له عند تشومسكي. توضح لينفيلد أنّه لا أساس لادّعاء تشومسكي بأن منظمة التحرير الفلسطينية أو العراق أو سوريا أو ليبيا أو إيران، قد تبنت قرار الأمم المتحدة لعام 1976، الذي يقرّ بحقّ إسرائيل في الوجود ويتبنّى حل الدولتين، ولم تتزحزح عن هذا الموقف في العقود الماضية. سوء تأويل تشومسكي القرار وصل حداً مذهلاً، على حد تعبير الكاتبة. وتضيف أنّ اعتباره أن كل الرؤساء الأميركييين والقادة الإسرائيليين والمنظمات الصهيونية يرفضون حلَّ الدولتين، هو منطق لا أساسَ له من الصحة. وتشير لينفيلد إلى أن تشومسكي يتجاهل مساوِئ الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الفلسطينيّون.
الوصولَ إلى حلٍّ مُرضٍ للصراع الإسرائيلي – الفلسطينيّ يتطلّب منّا رفضَ الأحلامِ الوهميّة
واليقين الزائف وتزييف التاريخ والدوغمائيّة
يقدم كتاب “عرين الأسُود” للقرّاء أسباباً تدفع للاعتقاد بأن تشومسكي لا يعرف ما يتحدّث عنه. فبعد إصراره على أنّ هجمات “حماس” على المدنيين هي مجرد قصص خيالية يقدِّمها المدافعون عن إسرائيل، عاد فدافَعَ عن حقّ إسرائيل في الردّ على الهجمات الإجراميّة، قبل أن يُعلِن أن لا حَقَّ لإسرائيل في استخدام القوّة للدفاع عن نفسها. ثم أضاف تشبيهاً قال فيه “إن ألمانيا النازية لم يكن لديها الحق لاستخدام القوّة للدفاع عن نفسها ضد إرهاب المقاوِمين”. استخدَم تشومسكي حجّةً مشابهة تجدها لينفيلد عصيّةً حتى على التفكيك، من أجل أن يُثبِت أنْ لا حقَّ “للولاياتِ المتّحدة في الوجود”. فهو يُصرّ على أنَّ هذا الحق المزعوم “لم يُمنَح لأيّ دولةٍ أخرى في النظام الدوليّ”. ويرى تشومسكي أنّنا يجب ألا نتوقّع من المكسيك أن تقبل “بشرعيّة استحواذ الولايات المتحدة على الأراضي التي حصلت عليها نتيجة حرب 1846”. مجدَّداً، ترى لينفيلد أنّنا نزحف نحو ما يسميه آرثر كوستلر “كوكو لاند الغائمة”.
وفي فصولها عن كوستلر وإسحاق دويتشر وماكسيم رودينسون وألبرت ميمي وهاليداي وإيسدور فيتنشتاين ستون، تسلّط لينفيلد الضوءَ على الطرائق التي أصبحت بها إسرائيل “ذات فائدة كارثيّة” للمثقّفين اليساريّين اليهود. فقد مكّنت الدولة اليهودية -كما تشير لينفيلد- اليسارَ (مع إبداء ميمي وهاليدي تحفّظات عميقة) من توجيه نقدٍ لاذعٍ للقوميّة ولو على مقياس دولة صغيرة كإسرائيل، والتقرّب في الوقت ذاته مِن الخطابات القوميّة الحادّة لأنظمة العالم الثالث، والإشادة بأنظمتها القمعيّة العنصريّة (ومن بينها شمال فيتنام وموزمبيق والصين والجزائر) باعتبارها ملاذاتٍ للحرية والعدل. وتساعدنا هذه الأيديولوجيا كذلك على فهم العداء الذي يُبدِيه رودنسون للصهيونيّة، وهو الذي أُبيد والداه في معسكر أوشفيتز. كتَبَ رودنسون قائلاً: “لقد أصبح مفهوم الشعب اليهوديّ عتيقاً اليوم”. وقال إنّ “سَيرَ اليهوديّة على طريق الفناء” أمرٌ يبعث الارتياح.
لا تعلم لينفيلد إنْ كانت إسرائيل ستستعيد ديموقراطيّتها بالكامل أم لا. لكنّها على يقين من أنّ حصولَ ذلك، والوصولَ إلى حلٍّ مُرضٍ للصراع الإسرائيلي – الفلسطينيّ يتطلّب منّا رفضَ الأحلامِ الوهميّة واليقين الزائف وتزييف التاريخ والدوغمائيّة (التعصب والتزمت في الرأي). فالسلامُ العادل يُملي على الأطراف العيشَ بمسؤوليّة وأخلاقيّة. وفي النهاية ترى لينفيلد أن “نقيضَ الواقعيّة ليست المبادئ، بل الاعتلال الفكريّ. فرفض الواقعيّة يحوِّلك أنت وأبناءَك إلى عبيدٍ للماضي وغرباء عن المستقبل”.
هذا المقال مترجم عن موقع Forward.com ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي
درج