نهاية عهد لا يعرف كيف ينتهي/ برهان غليون
يتمتع بشار الأسد بموهبة فريدة، هي القدرة على اكتشاف الأسوأ من بين جميع الخيارات المطروحة، والأخذ به دائما ومن دون تردّد. وهو، لذلك، لا يُخرج نفسَه من ورطةٍ حتى يدخلها في ورطة أكبر. وهو يشبه في ذلك من يتخبّط في رمال متحرّكة. كلما “بلعط” أكثر زاد غرقه. هكذا بدأ مسيرته، أو سيرته “الظافرة” بزج مئات من المثقفين والنشطاء السلميين لربيع دمشق في سجونه سنوات طويلة، بدل أن يسمع منهم، ويتمعّن قليلا في كلماتهم ومطالبهم، ويطمئنهم ولو بوعودٍ كاذبة. ثم قرر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، رفيق الحريري، لخوفه من انقلابه عليه في لبنان، وهو الذي كان قد وضع نفسه في خدمة الدبلوماسية السورية، حتى اتهم بأنه كان يعمل بمثابة وزير الخارجية الفعلي للنظام الأسدي، بمقدار ما كان يدافع عن تثبيت حكم الأسد الصغير لدى الأوساط السياسية الدولية، الأميركية والأوروبية.
ودمر كل الجسور التي كانت تربط سورية بجيرانها، أو أشقائها العرب الذين وصفهم بأنصاف الرجال، معتدّا بقوته الجديدة التي استعارها من إطراء الإيرانيين ودعمهم حكمه، في الوقت الذي لم تكن طهران تخفي، بأي شكل، طمعها بضم سورية إلى الهلال الشيعي الذي كانت تعدّ له، وتتحدث عنه في صحافتها علناً، والتي تحاول اليوم تجسيده على الأرض السورية مادياً، وتنافس عليه حلفاءها من أطراف النظام نفسه، ومن خارجه، بعد أن تمكّنت من السيطرة على جزء كبير من القرار السياسي، ومواقع القوة والنفوذ السورية.
وعلى المنوال ذاته، أطاح الأسد صداقته مع تركيا التي سعت إلى التوسط بينه وأطراف المعارضة، لاحتواء الحركة الاحتجاجية، بداية انتفاضة 2011، بعد أن وهب أنقرة ثمن صداقتها المستحدثة قبل بضع سنوات التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة التي قضت عمليا على آخر آمال السوريين في بناء قاعدةٍ صناعيةٍ محلية، وعلى ما تبقى من الصناعة الخفيفة السورية. وتخلى عن سيادته على قراره كاملا، عندما سلم أمره للعسكرية الروسية، وفرّط بجزء مهم من تراب بلده، في الساحل السوري، حتى يضمن الحسم العسكري للصراع السياسي الداخلي، ويعلن نصره الحاسم والنهائي على شعبه، بدل أن يفتح الحوار معه، ويعيد النظر بسياساته الاقتصادية والاجتماعية الكارثية. ولم يتردّد في تدمير بلده، وتشريد الملايين من أبنائه، مستخدماً جميع أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل، والوقوف بصلفٍ لا يمكن وصفه في مواجهة المجتمع الدولي، الداعي إلى إيجاد تسوية سلمية للأزمة التي فتحتها الحرب على الانتفاضة، بمشاركته أو مشاركة رجاله، أملاً بأن يحفظ له الحل العسكري سلطاته وصلاحياته شبه الإلهية.
وقبل بأن يستنفد جميع موارد البلاد المادية والمعنوية، ويحطم قاعدة اقتصاده، ويقوّض علاقات سورية العربية والدولية، كي لا يضطر إلى التنازل، ولو ذرة واحدة، عن سيطرته العسكرية والأمنية، أو يتراجع عن حلم التمسّك بسلطةٍ مطلقة، أصبح ينظر إليها باعتبارها حقاً شخصياً مقدساً وخالصاً لا يمكن لأحد، لا من السوريين ولا من العرب ولا من الدول الأجنبية، إبداء رأيه فيها، أو في أسلوب استخدامه لها، ولا في الوسائل الوحشية التي طوّرها لترويع السوريين، وفرض إرادته عليهم، وتأكيد تصميمه على إذلالهم وإخضاعهم وتركيعهم من دون رحمة.
وها هو يجد نفسه اليوم وجهاً لوجه أمام حصيلة أفعاله: لا دولة ولا مجتمع منظم ولا إدارة مدنية ولا اقتصاد ولا موارد وإمكانات، وأهم من ذلك كله، من دون قوة عسكرية وأمنية مستقلة خاصة به “يسحق” بها “أعداءه”، كما كان يحلم ويفكر دائما، حتى يحولهم إلى هباءٍ لا يستحقون اعترافه بوجودهم. ومع عجز حماته الإيرانيين عن إسعافه، بعد العقوبات القاسية التي فُرضت عليهم، وإنزال العقوبات بحرسهم الثوري الذي وضعته واشنطن على رأس قائمة الإرهاب، وبعد رفض الروس إنقاذه بسبب تطرّف مواقفه، ها هو يقود سورية نحو الانهيار الاقتصادي والسياسي المحتوم، ويترك شعبا من ربع مليون نسمة في حالةٍ من التفكك والفوضى والانحلال. هل سيقبل الأسد ما كان قد رفضه منذ ورث الحكم عن والده، وتحوّل إلى أداة في يد الأجهزة الأمنية الحاكمة فعليا، ويتجاوز حقده على السوريين، وإرادة الانتقام منهم حتى النفس الأخير، أم سيتمسك بحصارهم، بمساعدة حلفائه، حتى وهو في حالة حصارٍ لا فكاك منه؟
أمام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة التي تعصف بسورية، بسبب الحصار والعقوبات الدولية، يقبع الأسد في قصره من دون حركة، ويشير على أدواته باستعادة خطاب “المؤامرة الكونية”، وخيانة الحلفاء والأصدقاء، وتنظيم حفلات الرقص والغناء على طوابير وقود السيارات التي أصبحت رمزا لتهاوي نظام سياسي واجتماعي وفكري كامل.
لن يستوعب بشار الأسد ما حصل له بسهولة، فما كادت تمر أسابيع قليلة على احتفائه وأنصاره بالنصر المؤزر، وسحق الأعداء من السوريين والعرب الضالعين في التآمر معهم، حتى هدّدت
وسائل إعلامه الدول العربية التي أرادت أن تصدّق كذبة الانتصار ذاتها على الإرهاب، وتعيد فتح سفاراتها وتطبيع علاقاتها مع النظام، بأن على قادتها أن يصطفوا في الطابور، لتقديم اعتذارهم لسورية الأسد، وهو وحده الذي يقرّر ما إذا كان سيعفو عنهم، أم يستمر في القطيعة معهم معاقبة لهم. وفي روايةٍ أخرى من روايات النصر، لم يتردد بعض مسؤولي النظام الكبار، وقد أخذتهم الحال بعد إعلان الولايات المتحدة هزيمة “داعش”، والقضاء على “دولة الإرهاب”، في المطالبة بمحاكمة واشنطن والعواصم الأوروبية جميعا بتهمة دعم الإرهاب.
أمام المآزق والورطات والمطبات التي صنعها بنفسه، بسبب خوفه على سلطةٍ يدرك تماما أنه مغتصبها وسارقها، وهي أكبر بكثير من قدرة استيعابه، لم يكن الأسد يعرف وسيلةً أخرى، لمواجهة الاستحقاقات المأساوية لخياراته سوى الهرب، كالفأر الملاحق، من نفقٍ إلى نفقٍ لعله ينجح في تجنب مصيره المحتوم. وليس من المؤكد أن أزمة نظامه الراهنة التي تضعه على حافة الانهيار سوف تدفعه إلى التفكير في مغادرة المسرح الذي غالبا ما لعب عليه كطفلٍ شرّير، يبحث عن تدويخ أقرانه، مما يبحث وزير خارجيته عن “إغراقهم بالتفاصيل”، ولم يستوعب يوما واحدا معنى الحكم السياسي، وحمل المسؤولية وقيادة شعب نحو غايات إنسانية وإيجابية. السؤال: هل يسمح الروس الذين يستخدمونه مطية لتحقيق أهدافهم، وتقع عليهم المسؤولية الأولى في منع كارثة جديدة في سورية، أن يقوّض أحلامهم، ويتسبب في خسارتهم رهانهم السوري والشرق أوسطي؟
في بداية الاحتجاجات الشعبية، لم يكن كبار مسؤولي النظام يتوقفون عن ترديد كلمة “خلصت”، بمعنى انتهت المسألة، أو سوف تنتهي خلال أيام أو أسابيع. وربما جاء اليوم دور المعارضة لتردّد العبارة ذاتها: خلصت مع نظامٍ لم يعد له من مقومات النظم السياسية أثر يُذكر. ولكن بعكس النظم العربية الأخرى التي وجدت داخل مؤسساتها وصفوف مسؤوليها من يمدّ، ولو إصبعا، إلى الجمهور الثائر، لا يوجد في نظام الأسد من يجرؤ على غير تخوين المعارضين واتهام الشعب والتشكيك بوطنيته، بينما يُحيل الجبن وانعدام الإرادة والقرار مصير النظام بأكمله إلى الأقدار.
العربي الجديد